الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤

ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٢٩ : ٥٢).

(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)(١١٦) :

هذه قضاء من القضاء على (أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) أنهم على شتات أهواءهم ضالون ومضلون ، فإنهم (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) وبالنتيجة (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) تخمينا دون علم ويقين ، فهم ـ إذا ـ يكذبون ، مهما اتفق منهم صدق فيما يظنون ، فإن اتباع الظن كذب في الإتباع مهما اتفق صدقه ، كما اتباع العلم صدق فيه مهما أخطأ.

فالفتيا الصادرة عن إتباع الظن لا تتّبع مهما كانت شهيرة أو مجمعا عليها ، ثم الصادرة عن إتباع العلم تتبع مهما كانت وحدة شاذة عن الجمع فإنها غير وهيدة.

وكيف يتّبع رسول الهدى الحاصل على علم الوحي أكثر من في الأرض فيما يظنون؟ وسبيل الله هي سبيل العلم أو أثارة من علم! سبيل عاصمة معصومة إلّا لغير المعصوم ، ولكنه تقل أخطاءه حين يستند إلى الكتاب المعصوم والنبي المعصوم.

ذلك فقد «ذم الله الكثرة» (١) اللهم إلّا كثرة متّبعة للعلم ، فليست الكثرة بما هي كثرة أصلا يتّبع ، إنما هو الحق في قلة أو كثرة.

وترى كيف يحذّر الرسول (ص) عن أن يطيع أكثر من في الأرض وهو

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٦١ في اصول الكافي بعض أصحابنا رفعه عن هشام بن الحكم قال : قال لي ابو الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام يا هشام ثم ذكر الله الكثرة فقال : وان تطع اكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله.

٢٤١

كيانه بقاله وحاله (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ)؟ علّه قطعا لآمال الأكثرية الضالة إعلاما وإعلانا صارخا في هذه الإذاعة القرآنية ، أم إنه من باب «إياك أعني واسمعي يا جارة» أو أن الخطاب يعم كافة المكلفين دون اختصاص بالرسول (ص) كلا على قدره وقدره.

ولأن النهي معلّل ب (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) ، فليس التنديد بالأكثر إلّا لأن الأكثر من الأكثر عليلون بهذه العلة ، فلو أن الأكثرية تتبع العلم فلا ضير في اتباعها لمن ليس على علم وليس ليحصل عليه بجهوده ، فاتباع العلم ضابطة عامة في حقلي الاجتهاد والتقليد ، كما أن اتباع الظن هابطة عامة في الحقلين جميعا ، اللهم إلّا ظنا يؤمر باتباعه بدليل قاطع كالأصول الأحكامية الموضوعة في موارد الشك.

والآيات في حرمة اتباع الظن ـ كأصل ـ وحرمة قفو غير العلم أو اثارة من علم ، عديدة في عدة مجالات ، واتباع الظن ـ حتى فيما يضطر إليه ـ محظور إلّا أن يتبع فيه دليل العلم من كتاب أو سنة قطعية كأدلة الاستصحاب والاشتغال والبراءة والظاهر وقاعدة الفراغ والتجاوز ، فليس اتباع الظن فيها إلّا باتباع العلم فيما لا سبيل علميا إليه ، فهي بين تهدير هذير أم تقرير منير.

ذلك ولأن أمثال الإجماع والشهرة والقياس والاستحسان والاستصلاح لا دليل على حجيتها في الظنون الحاصلة منها ، بل والدليل قائم على ألّا حجية فيها ، فالظنون الحاصلة منها مردودة بل والقطع الذي يحصل من غير دليل شرعي عقليا وسواه ، مثله كمثل تلك الظنون ، وقيلة ألا سبيل إلى نقض القطع للقاطع أيا كان ، عليلة ، حيث القاطع ليس ليدعي الحيطة القاطعة العلمية غير المتخلفة عن الواقع ، فللشارع نصب الوسائل كما يراها صالحة للحصول على القطع ، وقد نصب الكتاب وعلى ضوءه السنة

٢٤٢

طريقين لا ثالث لهما للعلم الحجة ، فسائر العلم ليست إلّا في لجّة ، سواء الحاصلة برؤيا أو في يقظة.

وقد سمي غير الحاصل من علم أو أثارة من علم ظنا لا يتبع ، ثم الظن الحاصل من أحدهما كما أمرنا يتبع ، وقد بحثنا عنها بطيّات الآيات الواردة فيها.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(١١٧) :

ولأنه هو أعلم بالمهتدين ، لذلك يأمر باتباع العلم اليقين وينهى عن إتباع الظن التخمين ، وهنا «من يضل» دون جارّ قد يكون لنصبه دون خافض ، بقرينة (أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) هنا و (أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) في النجم : (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً. فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا. ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) (٥٣ : ٣٠).

و«أعلم» هنا ـ الطليقة عن المفضل عليه ـ كما يحتمل طليق العلم الخاص به تعالى ، أنه هو العالم لا سواه ، كذلك يحتمل العلم المفضل على من سواه ، فإن منهم من يعلم الضال عمن اهتدى مهما بان البون بين العلمين.

ولأن طليق العلم دون خلط بجهل يختص بالله سبحانه ، فهو وحده صاحب الحق في وضع الميزان بين الضال والمهتدي (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا

٢٤٣

اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ)(١١٩) :

هنا «فكلوا ..» أمر تجويز لما هو في موقف الحظر جاهليا ، حيث الجاهلية حرّمت أكلّ ما ذكر اسم الله عليه في حين أحلت أكلّ الميتة وما أهل لغير الله به ، محتجا بأنه كيف لا نأكلّ ما قتله الله ونأكلّ ما قتله خلق الله ، وليس ذكر اسم الله ـ فقط ـ مما يحلّل ما قتلناه ، كما وكانوا يفضّلون ذكر اسم غير الله على ما يقتلون كأنه يحلّله دون ذكر اسم الله؟!

وهنا (إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) خطاب لمن آمن ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم ، إذ كانوا ينحون منحى الجاهلية في حظر الأكلّ عما ذكر اسم الله عليه.

ثم «فكلوا» تفريع على حظر الإتّباع للأكثرية الغائلة القائلة بحظر الأكل مما ذكر اسم الله عليه ، أن اتباع الحق يقتضي رفض ما فر أهل الباطل مهما كانوا كثرة.

ثم (وَما لَكُمْ) تنديد بكلّ هؤلاء الذين كانوا لا يأكلون مما ذكر اسم الله عليه ، مسلمين أو أهل كتاب أو مشركين ، قضية التخيّلية الجاهلية أن ما قتله الله أولى بالأكلّ مما قتله الناس وذكر اسم الله عليه.

وهنا (ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) مجهولا يطلق حلّ ما ذكر اسم الله عليه مهما كان الذاكر الذابح كتابيا ، كما ويطلق حرمة ما لم يذكر اسم الله عليه مهما كان الذابح مسلما ، وقد احتج باقر العلوم (ع) بالآية في طليق الحل والحرمة (١).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٦١ في من لا يحضره الفقيه روى أبو بكر الحضرمي عن الورد بن زيد قال : قلت لأبي جعفر عليهما السّلام حدثني حديثا وأمله عليّ حتى اكتبه قال اين ـ

٢٤٤

(وَقَدْ فَصَّلَ) إشارة إلى تفصيل قبل الأنعام وليس إلّا في النحل النازلة قبلها ، ثم بعدهما تفصيل في المدنيتين : البقرة والمائدة ، وهذه الأربع مشتركة في تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ، وتفصيل النحل من ذي قبل هو (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (١٦ : ١١٦).

وهنا «ما لكم» تنديد عام هام يحلق على كلّ هؤلاء الذين لا يأكلون ما ذكر اسم الله عليه ومنهم المتحذّر عن ذبائح أهل الكتاب المذكور عليها

__________________

ـ حفظتكم يا أهل الكوفة؟ قلت : حتى لا يردّه علي أحد ما تقول في مجوسي قال بسم الله وذبح؟ فقال : كلّ ، فقلت : مسلم ذبح ولم يسم؟ فقال : لا تأكل ، ان الله تعالى يقول : فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ـ ويقول : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) أقول : قدمنا تفصيل البحث حول اشتراط كون الذابح مسلما وعدمه على ضوء قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) ومختلف الأحاديث الواردة فيه في المائدة فلا نعيد ، والحكم ما قدمنا من الحل بدليل هذه الآية «فكلوا ..» والسنة الظاهرة المتظافرة ومنها التالية :

١ ـ هنا أحاديث مطلقة في المنع عن ذبائح اهل الكتاب وهي ٢٦ حديثا.

٢ ـ المطلقة في الجواز وهي ٤٣ ـ ٤٤ ـ ٤٥ ـ ٤٦ ب ٢٨.

٣ ـ المفصلة بين ما ذكر اسم الله عليه فجائز وما لم يذكر فحرام وهي ٣٥ حديثا.

٤ ـ الناهية عنه وان سمى وهي اثنان.

ففي ص ٣٤١ ب ٢٦ ح ١ و٣ لا يؤمن على الذبيحة إلّا اهل التوحيد وح ٣ ـ إلّا أهلها وح ٤ و٦ و٧ ـ ١٠ وب ٣٧ ح ٣ ـ ٣ ـ ٤ ـ ٨ ـ ١١ : لا بأس إذا ذكروا اسم الله وح ١٤ ـ ١٥ ـ ١٧ : لا بأس إذا سمعوا و١٨ ـ ٢٢ ـ ٢٣ ـ ٢٤ ـ ٢٧ ـ ٢٩ ـ ٣١ ـ ٣٢ ـ ٣٤ : لا بأس به إطلاقا و٣٥ ـ ٣٦ ـ ٣٧ ـ ٣٨ ـ ٣٩ ـ ٤١ مطلق في الجواز و٤٣ ـ ٤٤ ـ ٤٥ ـ ٤٦ و٢٨ ب ح ٧ ـ إذا فالأقوى عدم اشتراط الإسلام في الذابح إلّا لإحراز شروط الذبح.

٢٤٥

اسم الله بسائر شروط التذكية ، أن حرمتها بكونها ذبيحة غير المسلم غير واردة في تفاصيل التحريم الذاتي في القرآن بحقل بهيمة الأنعام ، وكذلك السنة.

ولا تصلح (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) في المائدة بيانا لشريطة إسلام الذابح كما فصلناه عند تفسيرها ، فلا يدخل في الحصر فعل المخاطبين وإلّا لكان ما ذكاه غيرك من المسلمين محرما عليك ، فإنما الخطاب هنا للمسلمين حيث المخاطبون هنا هم المسلمون في هذه الأحكام ، وأنهم هم الذين يطبّقون شروطات الذبح الشرعية.

وهنا ـ بين شروط الذبح ـ ذكر اسم الله ، يحتلّ الموقع الأعلى ، المخصوص بالذكر في الذكر الحكيم ، ثم التوجيه إلى القبلة وفري الأوداج الأربعة يستفادان من السنة القطيعة ، وما شرط الإسلام إلّا للشرط الأوّل كأصل والآخرين فرعا له.

ولقد كانت هذه النصوص تواجه قضية حاضرة في البيئة الجاهلة حيث كانوا يمتنعون من ذبائح أحلها الله ويحلّون ذبائح وميتات حرمها الله ويزعمونه من شرعة الله تخرصا على غيب الله : (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) اعتداء على شرعة الله (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) ف «اعلموا عباد الله أن المؤمن يستحل العام ما استحل عاما أوّل ويحرم العام ما حرم عاما أوّل ، وأن ما أحدث الناس لا يحل لكم شيئا مما حرم عليكم ولكن الحلال ما أحل الله والحرام ما حرّم الله .. وإنما الناس رجلان : متّبع شرعة ومبتدع بدعة وليس معه من الله سبحانه برهان سنة ولا ضياء حجة ..(الخطبة ١٧٤ / ٣١٦).

(وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ)(١٢٠) :

٢٤٦

(ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) قد تعني ـ إضافة إلى إضافة الصفة : الإثم الظاهر والإثم الباطن ـ تعني واجهتي كلّ إثم ظاهرا وباطنا ، فهي تحلّق على كلّ الإثم في كلّ إثم ، وهو كلّ ما يبطئ عن الثواب ظاهريّا أم باطنيا ، بظاهر من الإثم أو باطنه ، بالإثم الظاهر والإثم الباطن ، وثالث هو كون (ظاهِرَ الْإِثْمِ) صفة لمحذوف هو العصيان الظاهر إثمه أو باطنه وهذا أليق بظاهر الصلة بين الآية وما قبلها وما بعدها.

ف (ظاهِرَ الْإِثْمِ) ـ إذا ـ ما ظهر إثمه للناظر سواء أكان ظاهرا كالقتل أم باطنا كالشرك ، وباطنه ما لا يظهر إثمه سواء أكان ظاهرا كالأكلّ مما لم يذكر اسم الله عليه ، وترك الأكلّ مما ذكر اسم الله عليه وأكلّ لحم الخنزير ، أم باطنا كالحسد غير الظاهر فاعليته.

وقد ينتظمها كلها (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ) أيا كان وبأية حالة وأية مجالة (سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ).

ذلك ومن باطن الإثم إثم القلب : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) (٢ : ٢٨٣) و (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (٤٩ : ١٢) (وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) (٥٨ : ٨) ومن أنحس باطن الإثم الإشراك بالله (١).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٦١ عن تفسير القمي في الآية قال : الظاهر من الإثم المعاصي والباطن الشرك والشك في القلب وقوله (بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) اي : يعملون.

وفيه في روضة الكافي في رسالة طويلة لأبي عبد الله (ع) يقول فيها : واعلموا ان الله لم يذكره احد من عباده المؤمنين إلّا ذكره بخير فأعطوا الله من أنفسكم الاجتهاد في طاعة فان الله لا يدرك بشيء من الخير عنده إلّا بطاعته واجتناب محارمه التي حرم الله في ظاهر القرآن وباطنه فان الله تبارك وتعالى قال في كتابه وقوله الحق : (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ).

٢٤٧

ومن الإثم الظاهر : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) (٢ : ٢١٩) والحظر يشمل (ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) فان لظاهره باطنا ولباطنه ظاهرا ، وحتى إذا اختص الإثم بظاهر أم باطن فهو إثم كيفما كان ، إبطاء عن الثواب أيا كان ، وكلّ مبطئ عن واجب الثواب فهو محرم لهذه الضابطة ثم (ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) قد تعني فيما عنت ظاهر الإثم متظاهرا فيه ف (ظاهِرَ الْإِثْمِ) ومتخفيا ف «باطنه».

وما هو ـ بعد ـ ظاهر الإثم وباطنه في حقل الأكل هنا؟ من ظاهر الإثم ترك الأكل مما ذكر اسم الله عليه ، والأكل مما لم يذكر اسم الله عليه ، ومن باطنه تحريم الأول وتجويز الثاني تشريعا وان لم يظهر في العمل ، كما وان من ظاهر الظاهر اقترافه متظاهرا ، ومن باطنه اقترافه خفية (١) كما أن من ظاهره الأكل مما يضر صحيا أم هو خيانة ، ومن باطنه الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه غير الظاهر إثمه إلّا بوحي وقد أوحي.

فقد يخيل إلى ناس أن ليس ترك الأكل من المباح والأكل من الحرام محظورا إن لم يعتقد في حل أو حرمة خلاف شرعة الله ، أم ليست العقيدة المتخلفة في الأكل محظورة إن لم تظهر في العمل ، أم لا يحرم العمل ما لم يتظاهر فيه ، أم لا يحرم لعدم ظهور إثمه ، فنزلت الآية حاسمة إياها منددة بها مهما كانت دركات ، ثم الجمع بين ظاهر الإثم وباطنه هنا وفي سواه أسفل دركا ، ثم باطن الإثم اعتقادا ، ثم ظاهره اقترافا ، ثالوث منحوس من الإثم تشمله (ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ).

ذلك ، وليس يختص الحظر هنا بإثم الأكل المحرم وتحليله ، بل هو ضابطة ثابتة تحلّق على كل إثم في كلّ الحقول ، حيث الإثم : المبطئ

__________________

(١) قال الضحاك كان اهل الجاهلية يرون الزنا حلالا ما كان سرا فحرم الله تعالى بهذه الآية السر منه والعلانية.

٢٤٨

عن الثواب هو محرم ككلّ في شرعة الله : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٧ : ٣٣).

ففي كلّ محظور إثم ، سواء أكان ظاهر الإثم أم باطنه ، فإن الله لا يحظر على شيء إلّا وهو إثم ، وفي كلّ محبور ثواب مهما لم يظهر لأهل الظاهر ، فإن الله لا يأمر بشيء إلّا وهو ثواب.

وترى أن نية السوء هي من باطن الإثم؟ كلا ، ف (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٧ : ٩٠) والعمل مهما شمل العقيدة ليس ليشمل النية فإنها نية العمل وليس من نفس العمل ، ولكن العقيدة الصالحة والطالحة هما مورد الأمر والنهي.

ثم (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) ليست لتشمل النية لأنها نية الكسب وليست نفس الكسب ، كما وليست اقترافا للإثم بل هي قصده ولمّا يقترف ، ولو أن نية الإثم كانت هي ـ أيضا ـ من باطن الإثم فهو ـ إذا ـ إثم مغفور.

صحيح أن العقيدة الفاسدة هي اقتراف لإثم القلب : (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) ولكن نية الإثم خارج عن إثم القلب والقالب ، فكم من طاهر قلبه ينوى الإثم ثم يتركه لطهارته.

وصحيح أن نية الخير لها جزاء الخير ولكنه من فضل الله ، وقضية العدل في نية الشر ألا تقابل بعمل الشر ، وأما العقيدة الشريرة فهي عمل القلب المقلوب إلحادا أو إشراكا أم كفرا لكتابي وسواه ، أم عقيدة فاسدة لمسلم ، فإنها محسوبة بحساب العمل الطالح ، وهو يشملها حين يفرد مهما ينفصل عنها حين يتقارنان.

(وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ

٢٤٩

لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)(١٢١) :

(وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ) (٦ : ١٣٨) و (مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) أي على تذكيته وذبحه ، تعم ما ذكر اسم غير الله عليه وما لم يذكر عليه أي اسم ، فإنّ ذكر اسم الله على الذبيحة مفروض وعدمه مرفوض سواء لم يذكر عليه أي اسم أم ذكرت عليه أسماء الأوثان أم أي اسم ذكره إثم (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) : خروج عن طاعة الله وعبوديته إشراكا بالله أو عصيانا إياه.

وقد يعم ضمير الغائب في «إنه» كلا الأكلّ وعدم ذكر اسم الله على الذبيحة ، بل الثاني أقرب ادبيا ومعنويا مهما كان الأول أقرب معنويا ، فإنه محور التحريم الأول ، فلا يحرم الأكلّ ما لم يذكر اسم الله عليه إلّا إذا ترك فسقا ، لا نسيانا أو جهلا اللهم إلّا نسيان التساهل أو جهله المقصر فانه داخل في الفسق ، ويؤيده (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) ، كما لا يحرم الأكلّ منه إلّا إذا تعمده دون اضطرار ، فالجاهل أحكام الذبح وهو عالم جهله لا يجوز له الذبح ، فإن ذبح تركا لبعض شروطه كان فسقا لا يجوز الأكلّ منه ، ذلك ولكن «انه فسق» لا يعني طليق الفسق ، بل هو الفسق في ترك ذكر اسم الله الذي هو أفسق الفسق ، فلا يعني ـ إذا ـ إلّا العامد في ترك ذكر الاسم ، وكما تلمح إليه لام التأكيد ، فكلا الأكلّ مما لم يذكر اسم الله عليه وعدم ذكر الله عليه «لفسق» فسق مؤكد لا يعني إلّا ترك ذكر الاسم عمدا ، والأكلّ منه عمدا ، ثم (إِنَّهُ لَفِسْقٌ) راجع ـ فيما يرجع ـ إلى عدم ذكر الاسم وليس هو فسقا لغير العامد مهما كان جاهلا أو ساهيا أو ناسيا مقصرا ، فهؤلاء خارجون عن الأمر وغير داخلين في النهي كما (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) تؤيده

(وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) الحواشي الإمعات ، يوحون

٢٥٠

من زخرف القول ك «كيف يؤكل ما يذبحه خلق الله ولا يؤكل ما يقتله الله» (١)؟ تصور من تصورات الجاهلية المنكوسة التي لا حدّ لسخافتها وتهافتها في جميع الجاهليات.

(.. لَيُوحُونَ ... لِيُجادِلُوكُمْ) في وحي الله (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) عقيديا أو عمليا (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) بالله عقيديا أو عمليا أم فيهما ، فطاعة الشيطان دركات وكلها إشراكات بالله بدركاتها.

فذلك نص قرآني قاطع يوحي أن طاعة غير الله تخلفا عن طاعة الله تخرجه عن الإسلام إلى الشرك إن كان مسلما.

وترى إذا شكّ في ذبيحة أنه ذكر اسم الله عليه أم لا فما هو دورها؟ إذا كانت في أرض الإسلام أو يد مسلم أو سوق المسلمين فهي محكومة بالتذكية الكاملة ، وإلّا فلا تحل لأن ذكر اسم الله غير محرز لا واقعيا ولا بإمارة شرعية.

فهنا حالات للذبيحة : أن يذكر اسم الله عليه فحلّ دون ريب ، أو لم يذكر اسم الله عليه سواء لم يذكر أي اسم أو ذكر من أسماء الأصنام والطواغيت أو الصالحين ، فحرام دون ريب ، والفرق بين موارد الثانية لا فارق له حسب النص ، والرواية المنسوبة إلى النبي (ص) ان «ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله» (٢) مطروحة أو مؤولة بالنسيان ويؤيده «إن ذكر» حيث تلمح إلى

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٤٢ عن ابن عباس قال : لما نزلت (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) أرسلت فارس إلى قريش ان خاصموا محمدا فقولوا له : ما تذبح أنت بيدك بسكين فهو حلال وما ذبح الله بمسمار من ذهب يعني الميتة فهو حرام؟ فنزلت هذه الآية : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ ..).

(٢) رواه أبو داود في المراسيل من حديث ثور ابن يزيد عن الصلت السدوسي مولى ـ

٢٥١

النسيان حيث لم يذكره ، وكما يروى عنه (ص) قوله : «ذبيحة المسلم حلال سمى أو لم يسم ما لم يتعمد والصيد كذلك» وأما ذبيحة غير المسلم الذي لا يذكر اسم الله فهي محرمة حين ينساه فإن ذكره ونسيان على سواء ، اللهم إلّا أن يكون ممن يذكر اسم الله عليه فنسي فإنه نسيان مغفور لا يشمله .. وإنه لفسق .. فهو أيضا حلّ ، وما لم يذكر اسم الله عليه عمدا هو رزق الشيطان (١) وأتباعه ، وهل يكفي ذكر اسم الله عليه عند أكله وإن لم يذكر عند ذبحه؟ كلّا! فإن (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) تجعل محور التسمية حالة الذبح دون حالة الأكلّ ، فإن سمى عند الأكلّ على ما أهلّ لغير الله به شمله نص التحريم دون ريب ، كما وأن (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها) (٢٢ : ٣٦) و (أَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ) (٦ : ١٣٨) فانه تنديد شديد بمن لا يذكرون الله على الأنعام حيث يعني حين ذبحها ، وهذه براهين قاطعة لا مردّ لها على واجب ذكر الاسم على الذبائح حين ذبحها لا حين الأكلّ من لحومها ، وكذلك (ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) مجهولا يعني جواز الأكلّ مما ذكر اسم الله عليه وان لم يكن الآكلّ هو المسمي.

فقد نهي عن ذكر اسم غير الله على الذبائح وأمر بذكر اسم الله عليها ، فعند تعمد تركه تحرم على أية حال ، أيا كان الذابح ، وعند ذكره ـ بسائر الشروط ـ تحل أيا كان مسلما وسواه.

__________________

ـ سويد بن ميمون احد التابعين الذين ذكرهم أبو حاتم ابن حبان في كتاب الثقات قال : قال رسول الله (ص): ...

(١) المصدر عن ابن عباس عن النبي (ص) قال قال إبليس يا رب كلّ خلقك بينت رزقه ففيم رزقي؟ قال : فيما لم يذكر اسمي عليه.

٢٥٢

وهل إن «اسم الله» الواجب ذكره على الذبيحة أو الصيد هو ـ فقط ـ «الله»؟ أم يكفي أي اسم من أسماء الله تعالى؟ قد تلمح «اسم الله» مفردة ألا يكفي غير «الله» ولكنه قد يعني جنس اسمه تعالى كما قال الله : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) فما صدق عليه اسم الله ـ وهو الاسم المختص بالله ـ يكفي ذكره على الذبيحة وما أشبه (١).

وهل يجب الجهر باسم الله لحد إسماع الغير؟ طليق (ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) يطلقه عن قيد الإجهار ، ولكنه على أية حال ذكر باللسان ، لا ـ فقط ـ ذكر القلب ، كما ويؤيده «عليه» فذكر القلب لا يتعدى بجار ، فإنما هو ذكر اللسان.

وهل يكفي مجرد ذكر اسم الله عليه وان كان بمسجلة؟ كلا! لمكان «فاذكروا اسم الله عليه» ولا يخاطب المسجلة فليكن الذاكر ممن يصح خطابه.

تلحيقة على ضوء ذكر اسم الله على الأنعام ذبحا ونحرا :

هنا شرط سلبي رئيسي في تذكية بهيمة الأنعام هو عدم الإهلال بها لغير الله ، نجده في آيات أربع لأنه يحتمل القمة العليا بين شروطها ، فرغم أنه ليس ركنا تحرم المذبوحة بتركه إلّا حال الذّكر ، ولكنه ركن في الفقه الأكبر ، والسماح لأكلها في نسيان الذكر رعاية لحال القاصرين وصد عن التبذير ، وذلك الإهلال يعم ما إذا كان أهل ذكرا لغير الله قالا أو نية وحالا ، أم جمعا بينهما فأضل سبيلا ، أيا كان غير الله ، وفي حكمه ما إذا ذكر مع الله

__________________

(١) وتدل عليه صحيحة محمد بن مسلم قال سألته عن رجل ذبح فسبح أو كبر أو هلل أو حمد الله؟ فقال : هذا كله من اسماء الله ولا بأس به (الكافي ٦ : ٢٣٣ والتهذيب ٣ : ٣٥٣).

٢٥٣

سواه ، أو ذكر الله وينوي سواه ، أو نوى الله وذكر سواه ، فالإهلال لغير الله يعم كلّ هذه الموارد وأشباهها.

وشرط إيجابي رئيسي هو ذكر اسم الله على الذبيحة ، ذكرا بكلا القال والحال ، فالنسيان أو الجهل مغفوران لأنهما ليسا من الفسق مهما كانا عن تقصير ، فسقا في أصل التقصير دون ترك الذكر ، والنص يعلل التحريم ب «إنه لفسق» فقد انتقشت كلمة (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) في الذبائح والمنحورات ، وجانب السلب أقوى مهما كان الأصل جانب الإيجاب ، ولكن السلب قدر ما هو أقوى فالإيجاب على غراره أقوى ، وحرمة ونحاسة ونجاسة ما أهل به لغير الله أشد مما لم يذكر عليه اسم الله ولا سواه.

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٢٢) :

«ميتا» علّها مخففة عن «ميّت» وكما استعملتا في معنى واحد : «سقناه لبلد ميت ـ بلدة ميتا» و«الميتة» هي مؤنثها ، خففت في حالتيها عن ثقلها.

أم هي مصدر يعني طليق الموت في كلّ حقوله الفطرية والعقلية؟ ولكنه لا يناسب أدب اللفظ ولا المعنى ، ف «فعل قياس مصدر المعدى من ذي ثلاثة كعد عدا» ثم طليق الموت لا يناسب إلّا من مثله في الظلمات أن أصبح طليق الموت!.

وهنا قرن بين أهل النور والظلمات ، تفضيلا لأهل النور : أن «كان ميتا» ليست له حياة إيمانية ، ولكنه كان يعيش حياة فطرية وعقلية ، تحرّيا عن حياة الإيمان «فأحييناه» بها أن وفقناه للإيمان بما سعى وتحرّى (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) وهو نور الإيمان الحاصلة على ضوءه بأعمال

٢٥٤

الإيمان ، فلا يضل بين ظلمات الناس النسناس؟ .. (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) فطرية وعقلية أماهيه من ظلمات اللّاإيمان (لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها)(١) حيث انغمس فيها فأحاطت به «كذلك» البعيد البعيد عن الايمان ونوره (زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أن حسبوها حسنة فهم من «الأخسرين (أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً).

فهنالك الإحياء بالإيمان كآية أنفسية داخلية ، و (نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) برسول الإيمان ، والقرآن كآية آفاقية : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) (٤ : ١٧٤) (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً) (٤٢ : ٥٢).

ويعاكسه الميت عن الايمان حيث تحيط به الظلمات آفاقية بالشياطين وأنفسية بنفسه الظالمة المظلمة.

أجل وإن الإيمان الصالح ينشئ في القلب حياة بعد موت ، وتطلق فيه نورا بعد الظلمات ، والكفر انقطاع عن هذه الحياة وتلك النور فهو موت طليق حليق على كيان الكافر كله.

__________________

(١) المصدر عن المجمع قيل انها نزلت في عمار بن ياسر حين آمن وأبي جهل وهو المروي عن أبي جعفر عليهما السلام ، وفيه ح ٢٧١ عن أبي عبد الله (ع) في حديث طويل : وقال الله عزّ وجل : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) فالحي المؤمن الذي يخرج طينته من طينة الكافر والميت الذي يخرج من الحي هو الكافر الذي يخرج من طينة المؤمن ، فالحي المؤمن والميت الكافر وذلك قوله عز وجل : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) فكان موته اختلاط طينته مع طينة الكافر وكان حياته حين فرق الله عزّ وجلّ بينهما بكلمته كذلك يخرج الله جلّ وعز المؤمن في الميلاد من الظلمة بعد دخوله فيها إلى النور ويخرج الكافر من النور إلى الظلمة بعد دخوله إلى النور وذلك قوله عزّ وجلّ : (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ).

٢٥٥

والإيمان استعداد فسعي فاستمداد فهو حياة تتعالى.

والكفر موت عنها كلها حيث يحجب الروح عن كلّ تحركاتها الإنسانية السامية ، والإيمان ظل ممدود من الرحيم الرحمن والكفر ضلال ممدود من اللعين الشيطان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟

أجل والإيمان حياة طيبة تسعى نوره في كلّ النشآت ولا سيما الآخرة : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) (٥٧ : ١٣).

وكما للإيمان درجات متتاليات كذلك للنور درجات متواليات : (يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) (٦٦ : ٨) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥٧ : ٢٨).

ذلك والحياة البدنية ونورها تنقضي بالموت ولكن حياة الإيمان ونوره يستمران إلى البرزخ والقيامة الكبرى دون اعتراض موت ، اللهمّ إلّا تكاملا وشفافية اكثر مما كان في الدنيا ، أجل وإنها حياة فوق الحياة الشاملة لكلّ الأحياء العاقلة نتيجة العمل الصالح للإيمان وبالإيمان : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٦ : ٩٧) حياة طيبة روحية نورانية لا تشوبها أية قذارة أو موت ، ف (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (٥٨ : ٢٢).

فأين حياة الروح وموته من حياة البدن وموته ، فرب حيّ بالبدن ميت في الروح وهو الكافر ، أو ميت بالبدن حيّ في الروح وهو المؤمن.

٢٥٦

ومن آثار تلك الحياة وذلك النور أن صاحبها (يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) مشي الحي البصير على صراط مستقيم ، حين يمشي سائر الناس مكبين على وجوههم : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٦٧ : ٢٢).

وكذلك كان المؤمنون ويكونون في مثلث الزمان دون اختصاص للنص بأيّ كان ، فقبل أن ينفتح الإيمان في أرواحهم ويطلق فيها هذه الطاقة الفخمة من الحيوية والحركة والتطلّع والاستشراف كانت قلوبهم ميتة دون حراك إلّا تحريا عن الإيمان ، وكانت أرواحهم ظلاما بكلّ عراك ، فثم إذا قلوبهم ينضح عليها الإيمان فتهتز ، وإذا أرواحهم يشرق فيها النور فتضيء ويفيض منها النور فتمشي في الناس هادية الضالين ، ملتقطة الشاردين ، مطمئنة الخائفين ، محررة المستعبدين ، كاشفة معالم الطريق للناس أجمعين.

ذلك ومن غريب الوفق عدديا في القرآن ما بين الموت والحياة بمختلف صيغهما ان كلا منهما يذكر (٧١) مرة ، وعله لأنهما معا بلوى كما يقول الله : (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (٦٧ : ٢).

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ

٢٥٧

اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤) فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ

٢٥٨

عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (١٣٥)

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ)(١٢٣) :

وكما (جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ...) (١١٢) و (زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢٢) وجعلنا من الناس أحياء بالإيمان ومنهم أمواتا بالكفر ، (وَكَذلِكَ جَعَلْنا ...) جعلا تكوينيا أن

٢٥٩

لم نصدّهم عن تطاولاتهم المجرمة ، بل أملينا لهم (لِيَمْكُرُوا فِيها ..) و (أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (٦٨ : ٤٥) (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) (١٧ : ٢٠).

وذلك قضية حكمة الابتلاء الحكيمة ليتم الابتلاء بعظم البلاء ، وينفذ القدر المقدر ، وتتحقق الحكمة من دار الابتلاء ، فيمضي كلّ فيما هو ميسّر له دون أن يكون مسيّرا في خير أو شر.

فلأن شرعة الله تمحور القضاء على الأكابر المستكبرين ، لذلك فهم يقفون أكثر ممن سواهم موقف العداء من شرعة الله ، حيث تبدأ من نقطة تجريد هؤلاء من كبريائهم وعلوائهم.

فكما أن رسل الله هم أكابر العارفين بالله ، العابدين الله ، كذلك أعداءهم ـ في الأصل ـ هم أكابر الجاهلين بالله التاركين عبودية الله ، سنة جارية في كلّ قرية ، مستمرة حتى تقوم دولة الحق العالمية الكبرى بصاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف.

إنها معركة مصيرية محتومة بين كتلتي الإيمان والكفر ، قائمة على أساس القضاء بين القاعدة الأولى لشرعة الله ـ وهي حصر الحاكمية كلها لدين الله ـ وبين أطماع أكابر المجرمين في القرى : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) (١٧ : ١٦).

ذلك ، ولكنه لا خوف على أهل الإيمان من (أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) إذ (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ) ـ (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ).

أجل ، ولأنه ليس المؤمنون وحدهم يخوضون تلك المعارك المهالك ، فالله وليهم فيها وهو حسبهم حيث يرد على أكابر المجرمين كيدهم وميدهم

٢٦٠