الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤

صادقة إلّا ويحويها ذلك الكتاب المبين والبرهان المتين.

فهو مبارك في صيغة التعبير بلاغة وفصاحة في القمة العليا ، مبارك في الدلالة والتدليل ، مبارك في وفق الفطرة والعقلية السلمية وقضية الواقع المعاش السليم دون أي دغل أو دخل أو دجل ، فلا مزرءة فيه في أي حقل من الحقول ، ولا ممسك عليه علميا أو عقليا أو واقعيا أم في أي سؤال أو سؤال للمكلفين ، وفي جملة واحدة (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).

وثانيتها : (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) فالكتاب غير الإلهي ليس ليصدق الوحي ـ كما لا يصدقه الوحي ـ ولا يصادقه لاختلاف الصادر والمصدر ، فلا يصدّق الوحي إلّا الوحي لتطابق المغزى ، وتوافق المعنى.

فسلسلة الوحي الرباني مرتبطة بحلقات متماثلة مهما تفاصلت في طقوس أو تفاضلت ، فانها تتفاضل حسب المصالح ولا تتعاضل ، وسائر السلسلة غير متماثلة وهي متفاصلة متعاضلة ، قضية وحدة المصدر وطليق العلم هناك ، وعديد المصدر وحدّ العلم هنا.

ذلك ، كما وأن تصديق الذي بين يديه حجة على أهل الكتاب تحرضهم على الإيمان به ، ولا سيما في الزمن القاحل الجاهل الذي سيطر فيه الجهل ، وحرفت كتب الوحي عن جهات أشراعها.

لا سيما وأن القرآن يذكّرهم بما في تلك الكتابات من بشارات في تصريحات وإشارات إلى هذه الرسالة الأخيرة.

كما وأن بلاغة التعبير وتلائم المعبر عنه دون تصادم ـ حال ان كتبهم أدنى تعبيرا وهي محرفة ـ يدلهم على أنه بأحرى منها في صبغة الوحي وصيغته وصياغته.

وثالثتها (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) حيث إن مسئولية إنذار أم القرى وفيها ألدّ

١٤١

الأقوام في التأريخ الرسالي ، هذه بواقعية تأثيره كما حصلت ، مما يبرهن على بارع وحيه وقارع وقعته.

ورابعتها (وَمَنْ حَوْلَها) حيث الرسالة العالمية تتطلب معدات أقوى مما سواها ، والنظر الصائب الثاقب يفيدنا أن قابلية هذه الرسالة وفاعليتها تناسب الإنذار الطليق في العالمين أجمعين (١).

ذلك ، (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ) حيث الايمان بالآخرة ايمان بالحساب ، فالثواب والعقاب ، ولزامه الرسالة الإلهية الحاملة لتكاليف الشرعة الحافلة لسؤل المتشرعين ، فلولاها لكانت الآخرة عاطلة ، إذا فالإيمان بذلك البعث يوم الأخرى إيمان بالبعث يوم الأولى ، ومن ثم إنه هو الداعي إلى أمن شامل في الآخرة بما يبين من شروطات الأمن الواجب تحقيقها يوم الدنيا.

فالمؤمن بالآخرة حسابا وثوابا وعقابا يفتش عن أصلح المعدات لحياة سعيدة فيها ، وقضية ذلك التحري الصالح هي الوصول إلى كامل الإيمان بالقرآن ورسوله ، وكلما كان الإيمان بالآخرة أقوى فذلك التحري أكثر وأقوى ، وكلما كان أضعف كان صاحبه أفشل وأغوى.

صحيح أن من قضايا الإيمان بالآخرة هو الإيمان بشرعة سماوية تعم كلّ كتب السماء ، إلّا أن صالح الإيمان بعد تحرّف الكتب السالفة ونزول كتاب جديد مهيمن عليها ، غير محرف عن جهات أشراعها ، إن ذلك يقتضي ـ فقط ـ الإيمان بالقرآن تطبيقا له في كافة ميادين الحياة ، مهما كان التصديق بكلّ كتب السماء أيضا من قضاياه ، تصديقا لأصل الوحي فيها ، وتصديقا لانقضاء دورها ، فتصديقا بهذا القرآن كآخر منشور من ولاية الله.

__________________

(١) لتكملة البحث حول «أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها» راجع تفسير آيتها الثانية ٢٥ : ١١٥ ـ ١٢٥.

١٤٢

فلأن إيمان الكثير من أهل الكتاب بالآخرة قليل ضئيل قصورا منهم وقصورا في كتبهم لتحرفها عن الآخرة ، الصالحة للإيمان ، لذلك فهم لا يؤمنون بالقرآن تصلّبا على شرعتهم القومية ، مصلحية الحفاظ عليها بالمنظر الأدنى إخلادا على هذه الأدنى.

أجل وليس الإسلام هو الشرعة الوحيدة التي يؤمن بها من يؤمن بالآخرة لأنها فقط شرعة التوحيد الصالح والرسالة الصالحة وما أشبه كما يقوله قوالون ، إنما هو المهيمن على ما بين يديه من كتاب ومصدق لصادق الوحي فيها ، ولا يندد القرآن إلّا بالمحرّف المجدف فيها ، فليحذر الكتّاب والقارئون ذلك المزلق الخطير الذي يخيل إلى البسطاء أنه خدمة للإسلام.

(وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) لأنها أفضل الصلات إلى مرضات الله وأحوط الحياط على حرمات الله.

فإفراد الصلاة بالذكر بعد التوحيد والمعاد صراحا والإيمان بالقرآن بينهما ، ذلك دليل الأهمية البالغة للصلاة بين كافة الصلات ولكن شرط المحافظة عليها بكلّ المتطلبات المعرفية والعملية فيها ، فإنها ـ إذا ـ عمود الدين ، وقد اعتبرت إيمانا بين سائر العبادات : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) (٢ : ١٤٣) فإنها واردة في حقل الصلاة عند غيار القبلة ، كما ولم يعبر عن سائر المعاصي بالكفر وقد عبر به لترك الصلاة ف «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر».

هنا تختم هذه الجولة المتلاحقة الأشواط بمشهد شاخص حي مكروب رعيب ـ مشهد الظالمين ـ والله من ورائهم رقيب :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ

١٤٣

الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)(٩٣) :

هنا عرض لثالوث منحوس من مظالم الافتراء في حقل الوحي ، وأنها أظلم الظلم بحق الوحي :

١ ـ (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أنه ما أنزل على بشر من كتاب وما أرسل بشرا رسولا ولا يحيي الموتى ليوم الحساب ، وما أشبه من سلبيات وإيجابيات كافرة مفترية على الله ، ومن أكفرها اتخاذ الشركاء لله وعبادتها كما الله ، وهو مفتاح كلّ فرية على الله.

٢ ـ «أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه بشيء» كسائر المدّعين الوحي بكلّ إدغال وإضلال ودون أي برهان ودليل.

٣ ـ (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) ترفيعا لرتبته إلى مرتبة الربوبية ، أو تخفيفا له تعالى إلى خافض منزلة العبيد ، وكما قاله مشركون : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٨ : ٣١).

وهنا الرواية القائلة أن الرسول (ص) كان يمضي ما يغيره بعض كتاب الوحي (١) إنها فرية قاحلة عليه (ص) تجهيلا لساحته ، ونسبة الخيانة في الوحي إلى سماحته!.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٤٥ في اصول الكافي ابو علي الأشعري عن محمد بن عبد الجبار عن صفوان بن يحيى عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أحدهما قال : سألته عن قول الله عزّ وجلّ : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ..) قال : نزلت في ابن أبي سرح الذي كان عثمان استعمله على مصر وهو ممن كان رسول الله (ص) يوم فتح مكة هدر دمه وكان يكتب لرسول الله (ص) فإذا انزل الله (أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) كتب (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فيقول له رسول الله (ص) دعها فان الله عليم حكيم وكان ابن أبي سرح يقول للمنافقين : اني لأقول من نفسي مثل ما يجيء به فما يغير علي فانزل

١٤٤

ومما يحير العقول نقل أمثال هذه الأحاديث في كتب التفسير وسواها تصديقا لمحتوياتها دون رعاية لحرمة القرآن ورسوله أو دراية لما يروى!.

وهكذا ابتلي الإسلام بروايات مختلقة تروى وتقع موقع القبول ،

__________________

ـ الله تبارك وتعالى فيه الذي انزل.

وفيه عن تفسير القمي حدثني أبي عن صفوان عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) قال : ان عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان أخا عثمان من الرضاعة اسلم وقدم المدينة وكان له خط حسن وكان إذا نزل الوحي على رسول الله (ص) دعي فكتب ما يمليه عليه رسول الله (ص) فكان إذا قال له رسول الله (ص): (سَمِيعٌ بَصِيرٌ) يكتب (سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وإذا قال : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) يكتب «بصير» ويفرق بين التاء والياء وكان رسول الله (ص) يقول : هو واحد فارتد كافرا ورجع إلى مكة وقال لقريش : والله ما يدري محمد ما يقول : أنا أقول مثل ما يقول فلا ينكر عليّ فأنا انزل مثل ما ينزل فانزل الله على نبيه في ذلك (وَمَنْ أَظْلَمُ ...) فلما فتح رسول الله (ص) مكة امر بقتله فجاء به عثمان قد أخذ بيده ورسول الله (ص) في المسجد فقال يا رسول الله (ص) اعف عنه فسكت رسول الله (ص) ثم أعاد فسكت ثم أعاد فقال (ص) هو لك فلما مر قال رسول الله (ص) لأصحابه : ألم أقل من رآه فليقتله فقال رجل كان عيني إليك يا رسول الله (ص) ان تشير لي فأقتله فقال رسول الله (ص) ان الأنبياء لا يقتلون بالاشارة فكان من الطلقاء».

وفي رواية ابن عباس انه ابن سعد ابن أبي سرح وكان اسلم وكتب الوحي لرسول الله (ص) وانه لما نزلت الآية في «المؤمنون» (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) دعاه النبي (ص) فأملأها عليه فلما انتهى الى قوله (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) عجب عبد الله في تفصيل خلق الإنسان فقال : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) فقال رسول الله (ص) : هكذا نزلت علي ... فشك عبد الله حينئذ وقال : لئن كان محمد صادقا لقد اوحي إليّ كما اوحي إليه ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين (رواه الكلبي عن ابن عباس).

أقول : في هذه الروايات مس من كرامة الرسالة وامانتها وكرامة الوحي ومحتدة فهي من المختلقات الزور أعاذنا الله منها.

١٤٥

مناقضة صريحة لكتاب الله الناطق بالحق!.

وهذه الآية تندد ـ فيمن تندد ـ بهؤلاء المجاهيل الأغبياء ، الراوين لأمثال هذه المختلقات الزور ، ثم البسطاء الذين يتقبلونها آخذين لها بعين الإعتبار ، لا لشيء إلّا لأن فلانا روى وفلانا هوى.

ذلك! وابن أبي سرح المختلق فيه ـ في هذا المسرح ـ ما اختلق ، كان ـ لو كان ـ يكتب الوحي في المدينة وآية التنديد مكية ، ثم وكيف يستأمن النبي الصادق الأمين مثل هذا الخائن اللعين المصرح بخيانته ثم يقره عليها ، ثم هو يرتد بتلك المجاراة الخائنة!.

وهنا نعرف الضرورة القاطعة في عدم الوثوق إلى الروايات شيعية أو سنية ما لم يصدقها القرآن ، أم ولأقل تقدير لم يكذبها (١).

ثم «أو» العاطفة بين الأولين دليل اختلافهما ، فالمفتري على الله الكذب هنا لا يشمل «من قال أوحي إلى ...» مهما كان من المفترين ،

__________________

(١) فما لم تتقن في دلالة قرآنية لشيء ليس لك نقل حديث فيه او تصديقه ، وإذا استفاض أو تواتر حديث عن الرسول (ص) أو الأئمة المعصومين من ذريته فالموافق للقرآن مصدق مفروض ، والمخالف للقرآن مكذب مرفوض ، وما لم تجد له أصلا في كتاب الله فالى سنة رسول الله (ص) وما لم تجده فيها مما لا يخالف قاطع العقل والعلم والحس تصدقه ، وحين يخالف واحدا منها لا تصدقه ، وغير المخالف ولا الموافق للكتاب والسنة وغيرهما من المقطوع حجيته نتردد فيه ونحمّله على راويه.

إذا فلا يجوز الاستناد الى حديث بمجرد ان ناقله فلان ومصدقه فلتان ، حيث الرسول (ص) يحذرنا عن ذلك في خطبته الشهيرة الغرّاء في منى : «لقد كثرت علي الكذابة وستكثر فمن كذب علي متعمدا فليتبوء مقعده من النار فما جاءكم عني من حديث يوافق كتاب الله وسنتي فانا قلته وما جاءكم من حديث يخالف كتاب الله أو سنتي فلم أقله».

١٤٦

فالأولون هم المشركون وأضرابهم الذين يفترون على الله الكذب ، والآخرون هم المدّعون الوحي ، فكما أنهم أولاء يفترون الكذب فهم من أظلم الظالمين ، كذلك مدعي الوحي ولا يوحى إليه بشيء ، فلو أنني : محمد الرسول ـ لم يوح إلي وادّعيه لكنت من أمثالكم في أظلم الظلم.

ثم هنا فرقة ثالثة يدعي مستقبل الوحي وعدا مكذوبا ، وهم أنحس من مدعي الوحي كاذبا لمكان «سأنزل» الدالة على إمكانية إنزال مثل ذلك من عند الله أم سواه ، ويكأنه إله من دون الله ينزل وحيا كما هو ، أم هو مسيطر على الله يستنزله الوحي ، أم ويستنزله ممّن سواه ، وذلك فرق الوحي المنزل على الرسل حيث ينزل عليهم ولا ينزلون ، فإنما المنزل الوحي المنزل على الرسول ليس إلّا منزله ، والوسيط فيه هو النازل به ، ف «سأنزل» هي دعوى فوق الرسالة ألوهة وسواها.

وقد تلمح (مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) أنه ينزله ممن سواه ، نفسه أم سواه ، وذلك من دعوى المماثلة مع الله ، أن ينزل من الوحي على رسول كما أنزل الله على رسوله.

ثم «سأنزل» في وعد الاستقبال لا مستقبل له منذ وعده كما لم يحصل حتى الآن ، فقد حاول كثير أن يعارضوا وحي القرآن بما سواه وحتى بسائر وحي الله ولن يقدروا : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٢ : ٢٤).

ذلك ، والذين يختلقون ضوابط دون سناد إلى كتاب أو سنة ، ثم يرتكنون عليها في إصدار أحكام ينسبونها إلى الله ، هم كذلك من المفترين على الله الكذب ، أو القائلين (أُوحِيَ إِلَيَّ ..) أو (سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) ومن أشبه ..

١٤٧

(وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) «مشهد مفزع مرعب حيث غمرات الموت تغمرهم ، وكما كانوا في غمرات الضلالات جزاء وفاقا ونكالا حسابا.

وهنا استعارة لطيفة بارعة حيث شبه الظالمون الذين يعتورهم كرب الموت وغصصه بالذين تتقاذفهم غمرات الماء ولججه ، وقد سميت الكربة غمرة لأنها تغمر قلب الإنسان آخذة بكظمه وخاتمة على متنفسه ، والأصل في ذلك كله غمرة الماء.

(وَلَوْ تَرى ... وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) لتوفّيهم وهم ماسكون أرواحهم في زعمهم فيقولون لهم : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) عن الحياة الدنيا وعن أبدانكم ، أمرا قاطعا لا مرد عنه ، فهم الباسطون أيديهم يتوفونهم رغم أنوفهم قائلين : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) كما أهنتم الحق (بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ).

ذلك ، وإن نفس المؤمن تنشط للخروج للقاء ربه ، ونفس الكافر تكره الخروج بما قدمت يداه على حد قول الرسول (ص): «من أراد لقاء الله أراد الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» (١).

ول (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) إخراجات ، منها (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) من غامرات العذاب إن كنتم فاعلين ، هزء بهم كما هزءوا بآيات ربهم ، أو (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) المخلدة إلى هذه الحياة الشرسة المحرجة لعباد الله ، فاعلين بهم فعلة الغريم الملازم الملحّ ، باسطا يديه إلى من عليه الحق.

وعلى أية حال فالأمر هنا بين تعجيز هازئ وبين تكليف واقع لا يستطيعون أن يتخلفوا عن أمره على إمره.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ١٣ : ٨٥.

١٤٨

ومما تدل عليه (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) دون «أخرجوا» أن الأنفس هي غير الأبدان مهما كانت وليدة منها وكما قال الله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) فالروح ـ إذا ـ خلق آخر أنشئ من البدن بعد اكتماله جنينا.

كما تدل (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ) على الحياة البرزخية ابتداء بالموت حيث اليوم هو يوم خروج الأنفس.

و«الظالمون» هنا هم رؤوس الظلم ومنهم المختلقون هذه الأحاديث الزور تشويشا على وحي القرآن ، ثم الناقلون لها دونما رد عليها تلقيا بالقبول! مهما كان الأصل هم المشركون ، فان واجهة الخطاب من قبل هم المشركون ومن بعدهم أنفسهم : (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ ...) (٩٤) ولكن أشباههم يصطلون بصلاءهم في الجحيم.

فكما «الظالمون» شرعة الوحي أدخلوا السذج العوام في غمرات الارتياب ، كذلك اليوم يجزون عذاب الهون بما كانوا يقولون على الله غير الحق ..

هنا (عَذابَ الْهُونِ) عذاب مع الهوان قضية الافتراء على الله كذبا ، وتكذيب لآيات الله إهانة بها ومهانة واستكبارا ، فعذاب الهون جزاء وفاق للافتراء الهون والاستكبار فيخلد فيه مهانا.

وهكذا يتوفى الذين كفروا بكلّ إيعاد وهوان : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ. ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٨ : ٥١) يضربون وجوههم لمواجهة العذاب ، وأدبارهم حين لا يحنّون لخروج أنفسهم ، وهذه أولى حرقة لعذاب الهون : (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ).

(وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ

١٤٩

ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)(٩٤) :

هل الخطاب في «جئتمونا» هو من الله؟ والكفار (لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ)(٣ : ٧٧)! فليكن من الملائكة نقلا عن الله؟ وصالح التعبير ـ إذا ـ (لَقَدْ جِئْتُمُونا ... كَما خَلَقْناكُمْ)!.

(لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ) (٣ : ٧٧) إضافة إلى اختصاص السلب بيوم القيامة ، لا تعني إلّا كلام العطفة الرحمة ، وأما كلام التنديد والزحمة فهم مستحقوها على أية حال ، اللهم إلّا يوم الدنيا حيث لا يواجهون بخطاب إلّا بوسيط الوحي.

(وَلَقَدْ جِئْتُمُونا) لعالم الحساب والجزاء ، فكلنا جاءون إلى الله ، إلى ربوبيته في عالم التكليف يوم الدنيا ، وإلى ربوبية الجزاء في عالم الجزاء ، وهنا زيادة أن المكلفين لا خيرة لهم في أعمال ، إلّا الجزاء الموعود لهم ثوابا وعقابا.

(جِئْتُمُونا فُرادى) بالخلق الثاني يوم القيامة ، فردا عريان وأجرد غلبان ، لقد ندّ عنكم كلّ شيء وتفرق عنكم كلّ أحد وما عدتم تقدرون على شيء ممّا خولكم الله إياه ، فأصبحتم دون أي جمع أو قوة إلّا كلّ بنفسه (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) حيث لا جمع ولا قوة ، بفارقين اثنين : أن المحافظين من الوالدين وسواهما هنا ليسوا هناك ، وأنكم تحملون معكم مستحق الثواب أو العقاب ، ف (تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ ..) تقضي على الأوّل ، وكونه يوم الجزاء يحكم بالثاني ، وكافة الوسائط المزعومة والشفعاء المتخيلة مقضي عليها ب «تركتم ـ إلى ـ تزعمون».

(تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ) من قوات ذاتية ، وأخرى منفصلة من أموال وبنين وما شأبه ، إنها كلها متروكة وراء ظهوركم ، حيث ظلت في الحياة الدنيا

١٥٠

وضلت عنكم في الأخرى ، فما يحولنا الله إياه من طاقات وإمكانيات متصلة أو منفصلة هي متروكة لسماعينا ، أن نتركها وراء ظهورنا إذ لم نستفد منها ولم نفد في مرضات الله ، أو نقدمها لأنفسنا (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) فليس «جئتمونا فرادى وتركتم» إلّا على الأولين ، ثم الآخرون يجيئون الله بجمعهم الخيّر وعملهم النيّر مما قدموه لأنفسهم.

ثم (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) لله ، أو شركاء في حيوياتكم الدنيوية ، وفي عبارة مختصرة محتصرة (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) ما بينكم وبين مزاعمكم (وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) من شركاءكم وكلّ من يناصركم في غمراتكم.

فالكافرون ـ إذا ـ هم فرادى عن جمعهم وما كانوا يكسبون حيث لا تنفعهم ، والمؤمنون ليسوا فرادى حيث جمعوا إلى أنفسهم مرضات الله ف (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٢٦ : ٨٩) وهو أجمع جمع ينفع يوم لا ينفع أي جمع.

وعلّ «فرادى» هي جمع «فردان» كسكارى جمع سكران ، أو جمع «فريد» كردافى جمع رديف.

ثم الفردان والفريد تعنيان التفرد عن غير أنفسهم ، فاضية خاوية عما كانوا يزعمون من جمع وناصرين ، فما لهم من جمع هناك ولا ناصرين (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ...).

ولأنه لا فصائل هناك على الحقيقة فتوصف بالتقطع ، فالمراد ـ إذا ـ لقد زال ما كان بينكم من شبكة المودة وعلاقة الألفة ، التي تشبه لاستحكامها بالحبال المحصرة والقرائن المؤكدة.

فمهما كانت تلك الوصالات هنا أكيدة بكلّ مكر ومكيدة ، فهي تبدل إلى انفصالات أكيدة ، تقطعا بعد التوصل ، وتشتتا بعد التحصّل.

١٥١

وهنا «بينكم» منصوبا ذات وجهين ، نصبا بالمفعولية والفاعل هو الله المضمر في «تقطع» أي تقطع الله بينكم ، أو تقديرا ل «ما» فهي ظرف لها ، لقد تقطع ما بينكم.

ثم (ما نَرى مَعَكُمْ) سلب لشفاعتها لهم ، لا لكونها معهم في الأخرى ف (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ. لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ) (٢١ : ٩٩) فالمعية المنفية هي المناصرة بصفة الشركاء كما كانوا يزعمون ، فلا تعني سلب وجود الشركاء معهم هناك خارجة عن معية الإشراك ، إلى معية الخلود في النار.

وقد تلمح (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أنه «إذا كان يوم القيامة حشر الناس حفاة عراة عزلا» (١) ، وحين يسأل رسول الله (ص) على المحكي : «وا سوأتاه إن الرجال والنساء سيحشرون جميعا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض؟ يجيب : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض»(٢).

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٢ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله سمعت رسول الله (ص) يقول : ...

(٢) المصدر اخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن عائشة أنها قرأت قول الله (لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) فقالت عائشة يا رسول الله (ص) : ...

وفيه عن الخرائج والجرائح عن النبي (ص) حديث طويل يذكر فيه فاطمة بنت اسد وفيه قرأت عليها يوما (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) فقالت : وا سوأتاه بالله فسألت الله أن لا يبدي عوراتها ثم سألتني عن منكر ونكير فأخبرتها بحالهما قالت وا غوثاه بالله فسألت الله ان لا يريهما إياها وان يفسح لها في قبرها وان يحشرها في أكفانها».

وفيه عن اصول الكافي عن أبي عبد الله (ع) حديث طويل يحكي فيه ما صنع رسول الله (ص) بفاطمة ام امير المؤمنين (ع) لما توفيت يقول فيه (ع) قال (ص): ـ

١٥٢

وقد تعني (كَما خَلَقْناكُمْ ..) في خصوص (جِئْتُمُونا فُرادى) فيحشر الناس ـ إذا ـ بأكفانهم أو ما يسترهم من غيرها (١) فان «ما نرى ..» تسلب ما ينفع يوم لا ينفع مال ولا بنون ، أم إن المؤمنين يحشرون بأكفانهم احتراما وغيرهم عراة اختراما ، وهذا قول فصل بين مطلق السلب والإيجاب يؤيده اختصاص الخطاب بالكافرين.

ذلك المشهد الذي يهز القلب هزا عنيفا وهو يشخص ويتحرك ويلقي ظلاله على النفس ويسكب إيحاءاته في القلب .. إنه منشور ولاية الله ، إنه القرآن العظيم الذي هم عنه معرضون ، فأين تذهبون وأنى تؤفكون؟ أإفكا آلهة دون الله تريدون.

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ

__________________

ـ واني ذكرت يوم القيامة وان الناس يحشرون عراة كما ولدوا فقالت وا سوأتاه فضمنت لها ان يبعثها الله كاسية وذكرت ضغطة القبر فقالت : وا ضعفاه فضمنت لها ان يكفيها الله ذلك فكفنتها بقميصي واضطجعت في قبرها لذلك.

(١) المصدر في الكافي بسند متصل عن أبي عبد الله (ع) قال : توقوا في الأكفان فانكم تبعثون بها ، وفيه في الفقيه قال (ع) جيدوا أكفان موتاكم فانها زينتهم ، وفيه عن الاحتجاج عن امير المؤمنين (ع) حديث طويل وفيه قال السائل : اخبرني عن الناس يحشرون يوم القيامة عراة؟ قال : بل يحشرون في أكفانهم ، قال : أنّى لهم بالأكفان وقد بليت؟ قال : ان الذي أحيى أبدانهم جدد أكفانهم ، قال : فمن مات بلا كفن؟ قال : ستر الله عورته بما يشاء من عنده ، قال : فيعرضون صفوفا؟ قال : نعم هم يومئذ عشرون ومائة الف صف في عرض الأرض.

١٥٣

حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ

١٥٤

كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣) قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ)(١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٠٨)

وهكذا تدافع الموجات المتلاحقة القرآنية في مجاريها المتدفقة المتلفقة ، عن روعة باهرة يصل إليها التعبير والتصور والإيقاع من سياقها.

فالقارئ يحس كأنما المشاهد تنبثق انبثاقا مباشرا بمدلولاتها بكلّ التماع ولألاء ، متجلية للحواس والعقول والقلوب ، موجات متلاحقة

١٥٥

متلافقة تدع الناظرين إليها حيارى ، ف (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ)!

وها نحن في هذا الدرس أمام كتاب التكوين المفتوح برحمة متواترة ربانية يذكرنا بها ربنا ويعمر بها الغافلون سكارى سبات ..! :

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)(٩٥) :

إنه تعالى «رب الفلق» (١١٣ : ١) : ف (فالِقُ الْإِصْباحِ) (٩٦) عن ظلام الليل ، وفالق المصباح بمادة النور و (فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) وفالق الحي من الميت والميت من الحي ، فلا فالق إلّا هو كما لا خالق إلّا هو ، فانه في التكوين ككلّ هو «رب الفلق» حيث يفلق النطفة عن المني ، والعلقة عن النطفة ، والمضغة عن العلقة ، والعظام عن المضغة ، والروح عن الجنين : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ).

ذلك في فلق الإنسان وبأحرى فيما دونه في كون أو كيان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟!.

ثم وليس يختص فلق رب الفلق بمادة الكون ، بل وبأحرى في الروحيات المتلفقة ، فرب الفلق يفلق ما أغلقته الشياطين من غاسق إذا وقب ومن النفاثات في العقد ومن حاسد إذا حسد ـ.

ذلك ، لأن الفلّق في أصله هو شق الشيء واستخراج ما فيه ، فقد يشمل كلّ شق فيه خير بعدله ورحمته ، وكما فلق السماوات والأرض من المادة الأولية المسماة ب «الماء» وفلق ذلك الماء لا من شيء إلّا بإرادته البديعة ، فقد يشمل «رب الفلق» مثلث الفلق كأصل ، وسائر الفلق كفروع ، ولذلك نسمع الرسول (ص) يدعو : «اللهم فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا اقض عني الدين وأغنني من الفقر

١٥٦

وأمتعني بسمعي وبصري وقوتي في سبيلك» (١).

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ) عن موته وكذلك (النَّوى) إلى حياة نباتية أم حيوانية أو إنسانية ، فنوى النطفة تنقلب جنينا حيا ، وذلك إخراج للحي من الميت : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كعملية دائبة دونما أية وقفة ، لمحة من المضارع المقصود به الاستمرار لأنه أهم.

(وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) بصيغة الفاعل اللّامحة إلى الأقل عملية لأنه دون الأوّل ، أم ولأنه معطوف على «فالق» ففاعل ، و«يخرج» تفسير ل «فالق» ففعل.

«ذلكم» العظيم العظيم هو «الله» دون من سواه (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) تحوّلون إلى كذب خاو وأنتم تعلمون؟.

وليس فحسب أن العلم على تقدمه البارع لم يصل حتى الآن إلى سر الحياة ، بل ولمّا يصل أيضا إلى حقيقة المادة ، والعلم كله عند الله (ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)!.

(فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)(٩٦) :

«الإصباح» هو الدخول في الصبح ، وليس الداخل فيه إلّا الشمس الآخذة في طلوعها في الآفاق وعلى ضوءها كلّ المصبحين ، فالله هو الذي يفلق الإصباح ، حيث يشق ظلام الليل في منتهى انحداره فيفلق ظلام الجو بطلوع الشمس ، فالدخول في الصبح بحاجة إلى فلق وهو (فالِقُ الْإِصْباحِ).

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٤ ـ اخرج ابن أبي شيبة عن مسلم بن يسار قال كان رسول الله (ص) يدعو ...

١٥٧

وهو كذلك الصبح ففلقه هو شقه عن الليل بوصول الشمس إلى الآفاق المعنية منذ تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، فذلك الخيط لما يفلق عن قرينه فهنالك الصبح فقد يعني الإصباح الخيط الأبيض إذ يدخل في الصبح بعد فلقه عن الخيط الأسود من الفجر.

وانفلاق الظلام بالإصباح حركة تشبه انفلاق الحياة عن الحب والنوى ، فكما أن الله هو المخرج الحي من الميت في سائر الأحياء من الأموات ، كذلك هو المخرج النور عن الظلام ، مهما اختلفت شكلية الإخراج والمخرج هنا وهناك.

وفيما يظن أن ظلام الليل موت فلما ذا هو؟ تأتي الحكمة الربانية صارحة : (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) لنومة هي كموتة فلتكن في حالة ميتة من الأفق وهي الليل ، فقد جعل الليل بمنزلة المحبوب الذي تسكن إليه النفوس وتحبه القلوب.

كما (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) حسابا لحياة اليقظة لتمضي بحساب دونما فوضى جزاف : ف (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) (١٠ : ٥) (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) (٥٥ : ٥).

ذلك ، وعلى حد المروي عن الرسول (ص): «إن خيار عباد الله الذين يراعون الشمس والقمر والنجوم والأظلة لذكر الله» (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٤ ـ اخرج ابن شاهين والطبراني والحاكم والخطيب عن عبد الله بن أبي أوفى قال قال رسول الله (ص) : .. وفيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله (ص) ثلاثة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلّا ظله التاجر الأمين والامام المقتصد وراعي الشمس بالنهار» وفيه عنه (ص) أحب عباد الله الى الله رعاء الشمس والقمر يحببون عباد الله إلى الله ويحببون الله الى عباده.

١٥٨

ولأنه (جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) فلا تصلح الحركات المتعبة في الليل أو أسحاره دون نوم ، ولا ذبح الحيوان فيه إلّا عند الضرورة (١).

ولأن النساء سكن فقد يرجح التزويج بالليل سكنا على سكن (٢) «ولا تسر أول الليل فإن الله جعله سكنا وقدره مقاما لا ظعنا فأرح فيه بدنك وروح ظهرك» (٣).

وترى «حسبانا» هي جمع الحساب كركبان وشهبان ، أم مصدر كالرجحان والنقصان؟.

قد يرجح المصدر بمعنى ما يحسب به وكما (يُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ) (١٨ : ٤٠) ، فكما أن العذاب حسبان يحسب به محاسبة العذاب ، كذلك الشمس والقمر حسبان يحسب بهما محاسبة السنين والشهور والأيام والساعات.

فلقد جعل الشمس والقمر لمحاسبة الأوقات لحد يعبر عنهما بالحسبان الحساب و (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).

فكما (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) كأنه نفس المواقيت حال أنه لمعرفة المواقيت بأهلّته ، كذلك الشمس وبأحرى منه

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٤٩ في تهذيب الأحكام باسناده الى ابان بن تغلب عن أبي عبد الله (ع) قال : كان علي بن الحسين عليهما السلام يأمر غلمانه أن لا يذبحوا حتى يطلع الفجر ويقول ان الله تعالى جعل الليل سكنا لكلّ شيء ، قال : قلت جعلت فداك فان خفنا؟ قال : ان كنت تخاف الموت فاذبح».

(٢) المصدر في الكافي الحسين بن محمد عن علي بن محمد عن الحسن بن علي الوشاء عن أبي الحسن الرضا (ع) قال : سمعته يقول في التزويج : من السنة التزويج بالليل لأن الله جعل الليل سكنا والنساء إنما هن سكن.

(٣) المصدر في نهج البلاغة عن الامام علي امير المؤمنين (ع).

(٣) المصدر في نهج البلاغة عن الامام علي امير المؤمنين (ع).

١٥٩

حيث يعرف منها الساعات إضافة إلى الأيام ، والقمر لا تقرّر الساعات إلّا نزرا.

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٩٧):

أترى (جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ) فقط ، فهذه المليارات من النجوم في الجزائر السماوية لا فائدة فيها إلّا (لَكُمُ ... لِتَهْتَدُوا)؟ ولمّا تصل أنوار بعض النجوم إلينا حتى الآن أم لن تصل؟ فضلا عن الاهتداء بها في ظلمات البر والبحر!.

كلا! إنها لحكم ومصالح شتى ، ولكنها ليست منفصلة عما لكم فقد «جعل» منها (لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها ..) وليس «خلق» حتى تعم كلّ الغايات ، وذلك من واسع رحمته أنه يهدينا بنجوم فكما هي لأهلها رحمة ، كذلك لنا ـ البعاد البعاد عنهما بملايين السنين الضوئية أمّا قل أو كثر ـ هي جمال منظرا ، وهدى نظرا ، وعلّنا نهتدي بسائر النجوم في مستقبل مجهول (فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) للأسفار الجوية.

ذلك ، ف «تعلموا من النجوم ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر ثم انتهوا» (١) ، فإن تعلم النجوم لما سوى هذه الهدى ضلالة أن يزعم لها تأثير في سعادة وشقاوة أو موت أو حياة أو رزق أو جوع وما أشبه ، وهذا هو المعني من «نهى رسول الله (ص) عن النظر في النجوم» (٢) ومحور النهي

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٤ ـ اخرج ابن مردويه والخطيب عن ابن عمر قال : قال رسول الله (ص) : ...

(٢) الدر المنثور ٣ : ٣٥ ـ اخرج ابن مردويه والخطيب عن علي (ع) قال : نهاني رسول الله (ص) عن النظر في النجوم ، واخرج مثله عن أبي هريرة وعائشة وعمر وابن مسعود.

١٦٠