الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤

هو التنجيم إخبارا عن الغيوب أو اعتقادا بتأثيرها في الكائنات (١).

__________________

وفيه عن ابن عباس قال : قال النبي (ص) من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد» وفيه عن العباس بن عبد المطلب قال : قال رسول الله (ص) لقد طهر الله هذه الجزيرة من الشرك ما لم تضلهم النجوم» وفيه عن ابن عباس قال : قال رسول الله (ص): «ان متعلم حروف أبي جادوراء في النجوم ليس له عند الله خلاق يوم القيامة» وفيه عن سمرة بن جندب انه خطب فذكر حديثا عن رسول الله (ص) انه قال : أما بعد فان ناسا يزعمون ان كسوف الشمس وكسوف هذا القمر وزوال النجوم عن مواضعها لموت رجال عظماء من أهل الأرض وانهم قد كذبوا ولكنها آيات من آيات الله يعتبر بها عباده لينظر من يحدث له منهم توبة.

(١) أرسل المحقق في المعتبر عن النبي (ص) انه من صدق منجما أو كاهنا فقد كفر بما انزل على محمد (ص) وفي رواية نصر بن قابوس عن الصادق (ع): ان المنجم ملعون والكاهن ملعون والساحر ملعون.

وفي نهج البلاغة انه (ع) لما أراد السير الى بعض أسفاره قال له بعض أصحابه إن سرت في هذا الوقت خشيت ألا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم فقال (ع) : له : أتزعم انك تهدي الى الساعة التي من سار فيها انصرف عنه السوء وتخوف الساعة التي من سار فيها حاق به النصر فمن صدقك بهذا القول فقد كذب القرآن واستغنى عن الاستعانة بالله تعالى في نيل المحبوب ودفع المكروب ـ إلى ان قال ـ : أيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلّا ما يهتدى به في بر أو بحر فانها تدعو إلى الكهانة فالكاهن كالساحر والساحر كالكافر والكافر في النار ، ومثله ما وقع بينه وبين منجم آخر نهاه عن المسير فقال (ع) له : أتدري ما في بطن هذه الدابة اذكر ام أنثى؟قال : حسبت علمت ، قال (ع) فمن صدقك بهذا القول فقد كذب بالقرآن قال الله : ان الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام .. ما كان محمد (ص) يدعي ما ادعيت أتزعم انك تهدي الى الساعة التي من سار فيها صرف عنه السوء والساعة التي من سار فيها حاق به الضر من صدقك بهذا فقد استغنى بقولك عن الاستعانة بالله في هذا الوجه وأحوج إلى الرغبة إليك في دفع المكروه عنه.

١٦١

ذلك ، فترى ـ بعد ـ أن الله الذي جعل من فوائد النجوم أن يهتدي بها في حوائجنا المعيشية ، انه لم يجعل لنا نجوم الهدى الروحية رسلا وأئمة يهدوننا إلى الله ، فكما لا بد من نجوم الهدى المعيشية دائبة ، كذلك ـ وبأحرى ـ دائب نجوم الهدى الروحية ، فأصلها هو القرآن العظيم ، وفرعها بفصلها هو الثقل الأصغر ، وكما في الخبر : «النجوم آل محمد (ص)» (١).

(قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ـ يعلمون دلالات الآيات على مدلولاتها ، ودلالاتها ككلّ على الخلاق العظيم ، استدلالا بالمحسوس على اللّامحسوس ، وبالمحدود على اللّامحدود ، وبالآفل على غير الآفل الأزلي الأبدي وهو الله تعالى شأنه» (٢).

أجل وذلك الفلك الدائر بشمسه وقمره ونجومه هو من آيات الله البينات (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) كما هي من الغايات المعبودات لقوم لا يعلمون.

ذلك ، وترى ظلمات البر والبحر في هدى النجوم هي فقط الظلمات الحسية؟ وظلمات الأفكار والتصورات في مختلف التطورات هي أظلم من الحسية!.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٥٠ عن تفسير القمي ، وهو من الجري والتأويل أو تعميم الدليل.

(٢) عن معاني الأخبار روى الفضيل بن عمرو عن أبي عبد الله (ع) في قوله تعالى : «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ» قال : وأنا الكلمات فمنها ما ذكرناه ومنها المعرفة بقدم بارئه وتوحيده وتنزيهه عن الشبيه حتى نظر الى الكوكب والقمر والشمس واستدل بأفول كلّ منها على حدوثه وبحدوثه على محدثه ، ثم اعلم ان الحكم بالنجوم خطأ.

١٦٢

وهذه من الميّزات القرآنية في مخاطبة الفطرة والعقلية الإنسانية بالحقائق الكونية في صورتها الواقعية دون مجرد مثل ونظريات ، بل هي الواقعية في صورتها الرائعة غير المحرفة ، تتجلى من وراءها يد الخلاق العظيم ، موعية للبصر ، موحية للبصيرة ، دافعة إلى استخدام العلم والفكرة للوصول إلى الحقيقة الكبرى المهيمنة عليها ، ف (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

فالاهتداء بالنجوم الحسية والروحية بحاجة إلى معرفة مسالكها ودوراتها ومواقعها : (وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) (١٦ : ١٦) ووقفة الاهتداء على صالح الحياة الدنيا دون أن يبصر بها إلى العليا ، ليست هي الغاية التامة حيث تخطى عن العليا.

ولأن الآيات المفصلة لقوم يعلمون تحلق على كلّ درجاتها ، فقوم يعلمون ايضا درجات حسب درجاتها (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

وليس يعني «يعلمون» هنا صلاحات العلم أيا كان ، إنما هو العلم الصافي الضافي بالنفس ، ومن ثم بخالق النفس ، رؤية للآيات الآفاقية والأنفسية ، ذريعة للحصول على الحق المرام : ف «رب عالم قتله جهله ، وعلمه معه لا ينفعه» (١٠٧ ح / ٥٨٤) و«هلك امرء لم يعرف قدره» (١٤٩ ح / ٥٩٦) ف «الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل» (١) ـ «والعلم وراثة كريمة ، والآداب حلل مجددة ، والفكر مرآة صافية» (٦٤ / ٥٦٥).

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة ٣٩٢ / ٣ / ٥٣٠.

١٦٣

فالعلم الصالح هو من دعائم الإيمان ، فقد سئل علي (ع) عن دعائم الإيمان فقال : والعدل منها على أربع شعب ، على غائص الفهم ، وغور العلم ، وزهرة الحكم ، ورساخة الحلم ، فمن فهم علم غور العلم ، ومن علم غور العلم صدر عن شرائع الحكم ..» (٣٠ ح / ٥٧٠) ـ ف «لا تجعلوا علمكم جهلا ، ويقينكم شكا» (٢٧٤ ح / ٦٢٢) ـ و«العلم نقطة كثرها الجاهلون» (مستدرك ١٨٦) ـ و«أوضع العلم ما وقف على اللسان ، وأرفعه ما ظهر في الجوارح والأركان» (٩٢ ح / ٥٨٠) ـ و«العلم مقرون بالعمل ، فمن علم عمل ، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل عنه» (٣٦٦ ح / ٦٣٩) ـ و«مالي أرى الناس إذا قرب إليهم الطعام ليلا تكلفوا إنارة المصابيح ليبصروا ما يدخلون بطونهم ، ولا يهتمون بغذاء النفس بأن ينيروا مصابيح ألبابهم بالعلم ليسلموا من لواحق الجهالة والذنوب في اعتقاداتهم واعمالهم» (١).

«واعلموا ان عباد الله المستحفظين علمه يصونون مصونه ويفجرون عيونه» (٢١٢ / ٤٠٧).

و«لو أن حملة العلم حملوه بحقه لأحبهم الله وأهل طاعته من خلقه ولكنهم حملوه لطلب الدنيا فمقتهم الله وهانوا على الناس» (مستدرك ١٧٧).

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ)(٩٨) :

هنا (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) هي من عساكر البراهين القرآنية على أن ليس

__________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ٥٣.

١٦٤

هناك نفس أخرى إنسانية أو سواها ، شاركت هذه النفس الواحدة في انتسال نسل الإنسان ككلّ ، اللهم إلّا زوجها المخلوق منها : (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً ..) (٤ : ١).

ف «أنشأكم» كسائر الأناسي في كلّ الأنسال ، تعني أن ليس في دور الانتسال إلّا نفس واحدة وهنا (خَلَقَ مِنْها زَوْجَها) يثنّي الأصل كمرحلة ثانية وعلى طول الخط.

ثم «أنشأكم» تعم إنشاء الجسم والروح مهما انتشأ الروح عن الجسم : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ).

وهذه الأنفس المنشأة (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) هي (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) دون حالة لها ثالثة ، فما هما (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ)؟ وقد يروى عن النبي (ص) : أنه قال : «أنبئت بكل مستقر ومستودع من هذه الأمة إلى يوم القيامة كما علم آدم الأسماء كلها»(١).

قد تعني «فمستقر ..» فمنكم مستقر ومنكم مستودع ، وقد تلمح المقابلة بينهما أن «مستودع» هو المؤقت المرجوع ، فالمستقر هو الثابت غير المرجوع.

ثم (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) هما اسما زمان ومكان واسما مفعول ومصدر ، تعني فمن المنشأ في مكان الاستقرار وزمانه وقد أقر ، ثم المصدر هنا غير مناسب.

فمن المنشأ المستقر :

١ ـ من ولد ، ومن المستودع ما أودع في الأصلاب والأرحام ، فلا يخلو

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٣٦ ـ اخرج ابو الشيخ عن عوف قال بلغني ان رسول الله (ص) قال : ...

١٦٥

المنشأ من أحدهما : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (٢ : ٣٦).

٢ ـ كما وأن من المستقر ما هو في قرار الصلب ، أو الرحم (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) (٢٣ : ١٣) ، حتى يولد ، والمستودع هو الساقط قبل الولادة.

٣ ـ ومنه المستقر في الصلب ثم هو المستودع في الرحم.

٤ ـ ومنه المستودع في الصلب المستقر في الرحم.

٥ ـ ثم بعد الولادة مستقر في قراره ومستودع في مستودعه كالحاضر والمسافر ومن أشبه كما (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (١١ : ٦).

٦ ـ ثم قد يستقر إلى أجله المسمى المرسوم المحتوم وقد يستودع إلى الآجال المعلقة.

٧ ـ ومن ثم الروح قد يؤمن ويستقر فيه الإيمان حتى الموت (١) أو

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٥٠ في تفسير العياشي عن أبي نصير عن أبي جعفر عليهما السلام قال قلت : (.. فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ)؟ قال : ما يقول اهل بلدك الذي أنت فيه؟ قال : قلت يقولون مستقر في الرحم ومستودع في الصلب ، فقال : كذبوا ، المستقر ما استقر الايمان في قلبه فلا ينزع منه ابدا والمستودع الذي يستودع الايمان زمانا ثم يسلبه وقد كان الزبير منهم» وفيه عن سعد بن أبي الأصبغ قال سمعت أبا عبد الله (ع) وهو سئل عن مستقر ومستودع قال : مستقر في الرحم ومستودع في الصلب وقد يكون مستودع الايمان ثم ينزع منه ولقد مشى الزبير في ضوء الايمان ونوره حتى قبض رسول الله (ص) حتى مشى بالسيف وهو يقول : لا نبايع عليا.

وفيه عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن (ع) في الآية قال : ما كان من الايمان المستقر فمستقر الى يوم القيامة ابدا وما كان مستودعا سلبه الله قبل الممات» وفيه عن أبي الحسن الأول (ع) المستقر الايمان الثابت والمستودع المعار.

١٦٦

يستودع حتى يكفر أينما كان وأيان.

٨ ـ كما قد يكفر ويستقر فيه الكفر ، أو يستودع حيث يؤمن بعد كفره فيموت مؤمنا (١).

٩ ـ ثم الأنفس المؤمنة قد تكون مستقرة الإيمان بعصمة ربانية ، أو مستودعة فعليها الحفاظ عليها لكي تستقر فيها دون العصمة الربانية بعصمة تربوية على تطبيق شرعة الله (٢)

__________________

(١) تفسير البرهان ١ : ٥٤٥ عن محمد بن مسلم قال سمعته يقول : ان الله خلق خلقا للايمان لا زوال له وخلقا خلقا للكفر لا زوال له وخلق خلقا بين ذلك فاستودع بعضهم الايمان فان شاء ان يتممه لهم أتمه وان شاء ان يسلبهم إياه سلبهم.

وفيه عن الشيخ في التهذيب بسند عن محمد بن سليمان الديلمي قال سألت أبا عبد الله (ع) فقلت له جعلت فداك ان شيعتك تقول ان للإيمان مستقرا ومستودعا فعلمني شيئا إذا قلته استكملت الايمان ، قال : قل في دبر كلّ صلاة فريضة : رضيت بالله ربا وبمحمد (ص) نبيا وبالإسلام دينا وبالقرآن كتابا وبالكعبة قبلة وبعلي وليا وإماما وبالحسن والحسين والأئمة صلوات الله عليهم اللهم إني رضيت بهم أئمة فارضني لهم انك على كلّ شيء قدير.

وفي نور الثقلين ١ : ٧٥٠ عن تهذيب الأحكام في الدعاء بعد صلاة الغدير المسند الى الصادق (ع): اللهم إني اسألك بالحق الذي جعلته عندهم وبالذي فضلتهم على العالمين جميعا أن تبارك لنا في يومنا هذا الذي أكرمتنا فيه وأن يتم علينا نعمتك وتجعله عندنا مستقرا ولا تسلبنا ابدا ولا تجعله مستودعا فانك قلت (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) فاجعله مستقرا ولا تجعله مستودعا

(٢) المصدر ٥٤٤ عن الكافي عن أبي الحسن (ع) قال : ان الله خلق النبيين على النبوة فلا يكونون إلّا الأنبياء وخلق المؤمنين على الايمان فلا يكونون إلّا مؤمنين وأعار قوما إيمانا فان شاء تممه وإن شاء سلبه إياه قال وفيهم جرت (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) وقال : ان فلانا كان مستودعا فلما كذب علينا سلبه الله إيمانه» وفيه عنه عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال سمعته يقول : ان الله عزّ وجلّ خلق خلقا للإيمان لا زوال له وخلق خلقا بين ذلك واستودع بعضهم الايمان فان يشأ ان يتممه لهم أتمه وان شاء سلبهم إياه وكان فلان منهم معار.

١٦٧

١٠ ـ ومنها المستقر في الجنة ، ومنها المستودع في نار ، ثم مستقر في الجنة أو موت مع فوت النار.

وتلك عشرة كاملة من محتملات (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) وهي مضروبة في محتملاتهما أدبيا وهي ثلاث تصبح ثلاثين ، الصالحة منها لفظيا ومعنويا مقبولة ، وغيرها مرفوضة.

فهذه المستقرات العشر وما أشبه بمستودعاتها قد تكون معنية ب (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) حيث تتحملها في أدب اللفظ وحدب المعنى ، ولا يخلوا المنشأ من نفس واحدة منها.

ومن أهم المحتملات مستقر الإيمان ومستودعه كما يروى عن علي أمير المؤمنين (ع): «فمن الايمان ما يكون ثابتا مستقرا في القلوب ومنه ما يكون عواري بين القلوب والصدور إلى أجل معلوم فإذا كانت لكم براءة من أحد فقفوه حتى يحضره الموت فعند ذلك يقع حد البراءة» (١).

ذلك وليس مستقر الإيمان فوضى جزاف دونما سعي ولا جهاد لاستقراره ، فإنما يستودع الإيمان في قلوب الذين يؤمنون في تجربة الحياة ، ثم قد يستقر إذا أقررته بما تسعى فيقره الله عصمة ودونها ، أم يبقى مستودعا قد يزول إذا لم تحقق شرائط دائب الإيمان ، فمستقر الإيمان بين عصمة خلقية بما تسعى ، فعصمة ربانية قدر ما تسعى ، عصمة رسالية فما دونها (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

وهذه المستقرات والمستودعات للمنشئات من نفس واحدة هي حالات متلاحقة يوم الدنيا ثم تستقر في الأخرى في الجزاء الوفاق ، اللهم إلّا أهل النار إذ يأتي يوم تفنى النار ويفنى معها أهل النار فلا نار ـ إذا ـ ولا أهل

__________________

(١). نهج البلاغة الخطبة ١٨٧ / ٣٤٩.

١٦٨

نار ، ولكن أهل الجنة فمستقرون دون موت أو خروج عنها (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ).

ذلك ، وقمة المستقرات هي مستقر الإيمان فمستقر الجنة ، وقمة المستودعات مستودعات الإيمان التي تستقر بمساعي أصحابها ، وهذه من المستقرات والمستودعات الأخيرة ، ومن المستقرات الأولى حيث تبدأ الحياة فيها خطوتها الأولى للتكاثر بالخلية الملقحة ، هي نفس مستودعة كخلية في أصلاب الآباء ، ثم هي مستقرة في أرحام الأمهات ، ثم تأخذ الحياة في النمو والانتشار.

ذلك وبين المستقرات والمستودعات الأولى والأخيرة متوسطات.

(قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) :

ولأن الفقه هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد ، فهو في حقول المستقرات والمستودعات الإنسانية ضروري لإدراك صنع الله العجيب في هذه النفس الواحدة ، فيها وفي المنشآت منها بمستقراتها ومستودعاتها.

فالفقه الصالح في حقل انتشاء النسل من نفس واحدة فمستقر ومستودع ، هو الذي يوصل الإنسان إلى معرفة صالحة عن خالق الكون ، سبحان الخلاق العظيم!.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٩٩) :

(أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) دون «ينزل» لامحة لأول نزول من ماء السماء بداية الحياة الأرضية بنازل الماء ، (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي

١٦٩

الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) (٢٣ : ١٨) و (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) (٢٠ : ٥٣).

(فَأَخْرَجْنا مِنْهُ) الماء ، دون الأرض لمكان ذكورة الضمير ، فنبات كلّ شيء خارجة من الماء كما (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) (٢١ : ٣٠).

ثم (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) نابت : نباتا وحيوانا وجنا وإنسانا : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) (٧١ : ١٧) فغير النابت لا يحتاج في كونه وكيانه إلى ماء ، كما الأرض كانت أرضا قبل أن ينزل عليها ماء : (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) (٢ : ١٦٤) (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) (٣١ : ١٠).

ذلك بصورة عامة في المخرجات من الماء ، وهنا (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً) ككلّ السنابل والفواكه المتراكبة بعضها على بعض ، وقد اختص بالذكر هنا من المتراكب «ومن النخيل .. من أعناب والرمان».

«ومن النخيل من طلعها» وهو أول طالع من ثمرها «قنوان» جمع قنو وهو الفرع الصغير ، فهو هنا العذق تمرا كالعنقود من العنب ، فهي متراكبة فوق بعض منظمة منضدة فإنها «دانية» مع بعضها البعض دنو التراكب.

(وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) وهي من أفضل الفواكه «مشتبها» كلّ مع ذوي نوعه كالأعناب المشتبهة والزيتون والرمان ، (وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) كالمختلفة من كلّ.

(انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ) أنظروا بالحس البصير دون الأعمى الحسير ، انظروا إليه في ازدهاره وازدهاءه وبهاءه إلى ثمره : ثمر الماء النازل من السماء ، أو ثمر هذه الأشجار ، أو ثمر الأرض ، والجامع ثمر ما ذكر من ذلك المثلث ، حيث الثمر منتج من هذه الثلاث مهما كان الأصل هو

١٧٠

الماء ، «إذا أثمر» وأنظروا إلى «ينعه» : نضجه ، فالنضج هو الخطوة الثانية والأولى هي الثمر (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فالإيمان هو الذي يفتح القلب ويمد البصيرة وينبه أجهزة الاستقبال والاستجابة في الفطرة والعقلية الإنسانية.

وأما الذين لا يؤمنون ولا يفقهون فلهم قلوب مغلقة مقفّلة مغفّلة ، وبصائر مطموسة مركوسة منكّسة ، تمر بهذا الإبداع كله وبهذه الآيات كلها دون تفقّه وتنبّه.

ذلك ، وفي رجعة أخرى إلى الآية تساؤلات وإجابات تالية

١ ـ هل «السماء» هنا هي جو السحاب؟ وهي التي تسحب من بخارات المياه الأرضية!.

إنها من «السماء» غير جو السحاب ، لأنها مسحوبة بعد ما أخذت الأرض نصيبها من ماء السماء ، فالسماء هنا غير السماء في الأمطار النازلة من السحاب.

١ ـ هل إن (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) تعني أن لكلّ شيء نباتا؟ والجماد لا ينبت!.

(كُلِّ شَيْءٍ) هنا تعني شيء الأرض ، وكلّ شيء الأرض له نبات من ترابه وحجره ورمله وما أشبه ، في ظاهرها وباطنها ، فالنفط نبات والجواهر والمعادن كلها نابتات ، ولكن هل للماء مدخل في نابتات الجواهر والمعادن وما أشبه؟.

قد تعني (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) نابت من الماء وهو كلّ شيء حي بدليل آيته ، والحياة المعروفة لدينا آخذة من النباتية إلى الحيوانية إلى الانسانية والجنية أماهيه؟.

٣ ـ لما ذا هنا «مشتبها» وفي نظيرتها متشابها؟ : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ

١٧١

جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (٦ : ١٤١).

(وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) هنا قد تدل على أن «مشتبها» تعني ما تعنيه «متشابها» ولكن بفارق أن الثانية تعني التفاعل والأولى تعني الفعل ، ولكنه لعمومه فيما ذكر تفاعل بالمآل.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) (١٠٠):

«وجعلوا» هؤلاء المشركون وأضرابهم جعلا جاهلا قاحلا مفتريا (لِلَّهِ شُرَكاءَ) عدّة ممن خلق «الجنّ» أنهم شركاء الله في ربوبيته «و» الحال أنه «خلقهم» (وَخَرَقُوا لَهُ) من ذاته أو من صفاته أو من أفعاله في ربوبيته «بنين» كما الجن ، وعزيز والمسيح عليهما السلام ومن أشبه «وبنات» كالملائكة (بِغَيْرِ عِلْمٍ) في أي حقل من حقوله «سبحانه» عن أن تكون له شركاء أو شريك «وتعالى» شأنه (عَمَّا يَصِفُونَ).

و«الجن» هنا إما بدل عن «شركاء» أم ـ وبأحرى هي المفعول الأول المؤخر و«شركاء» هي الثاني المقدم ، وجعلوا له الجن شركاء ، لمكان «الجن» دون «الشياطين» تعني الأعم من الشياطين وسواهم ، فقد كانوا يعبدون الجن : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ. قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) (٣٤ : ٤١).

كما وقد عبدو الشيطان ويعبدون (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٣٦ : ٦٠) ومنهم اليزيدية القائلون بألوهية الشيطان وأن يزيد رسوله ، مسمين إيّاه ب «ملك طاووس ـ شاه بريان»

١٧٢

والمجوس الثنوية القائلون ب «يزدان وأهرمن» : الله والشيطان.

ذلك وقد (جَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) (٣٧ : ١٥٨) بأنه صاهر الجن ببناته الملائكة وما أشبه من النسب ، كما «وجعلوا له من عباده جزء» (٤٣ : ١٥) أن المسيح أم سواه جزء متجزء من ذات الله أو صفاته!.

ولأن الخرق هي الأرض الواسعة حيث تتخرق فيها الريح وتتفرق اتساعا ، والخرق من الرجال هو الكثير العطاء فكأنه يتخرق ، والخريق الريح الشديدة الهبوب ، فقد تعني (وَخَرَقُوا لَهُ) اتسعوا في دعوى البنين والبنات لله كذبا ، اختراقا واختلاقا واختراعا دونما أي أصل من الأصول.

ولقد خرق جمع له تعالى إخوة في ألوهيته فقالوا : ان الله وإبليس اخوان فالله سبحانه خالق الناس والدواب والأنعام والخيرات وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب والشرور(١).

ذلك وان قصة الولادة الربانية أو بنوتها الشهيرة بين الوثنيين والبرهمية والبوذية قد تسربت الى اليهود والنصارى وترسبت فيهم إذ قالوا عزيز ابن الله والمسيح ابن الله.

وكيف يكون له شريك أو ولد أو معاون وهو :

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ(٢) وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(١٠١) :

إنه تعالى : «مبدعهما ومنشئهما بعلمه ابتداء لا من شيء ولا على مثال» (٢) ، فالبديع هو المبدع بلا مثال محتذى ولا نموذج به يهتدى

__________________

(١). تفسير الفخر الرازي ١٣ : ١١٣ نقله عن ابن عباس. ـ

(٢) نور الثقلين ١ : ٧٥١ المجمع عن أبي جعفر عليهما السلام ، وفي تفسير البرهان ١ : ٥٤٥ عن سدير الصيرفي قال سمعت حمران بن أعين يسأل أبا جعفر عليهما ـ

١٧٣

ويقتدى ، فالسموات والأرض ـ وهما الكون أجمع ـ هما ـ ككلّ ـ من إبداعه خلقا دون ولادة ذاتية أمّاهيه.

ثم الولادة من الوالد مستحيلة دون صاحبة مهما أمكنت من الوالدة دون صاحب.

وإجابة عن سؤال؟ كيف لا تصح ولادة دون صاحبة وهي تصح دون صاحب كما في مريم (ع) بل وتصح دون والدين كما في آدم (ع).

نقول : كلّ هذه خلق لله وليست ولادة ، والمستحيل هو الولادة الإلهية فإنها بصاحبة وغيرها مستحيلة ، وعلى المجاراة أنه تعالى يلد كما يلد خلقه فالولادة بحاجة إلى والدين ، والمشركون منكرون لخرق العادة في الولادة بصاحبة دون صاحب أم بصاحب دون صاحبة ، وأما الولادة دون صاحبة بالقدرة الربانية فهي كائنة في خلقه ولدا من والد دون صاحبة أو دون والدين كما في آدم وكما يخلقنا الله يوم القيامة مرة أخرى حيث (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) دون صلب ولا رحم ، ولكنه مستحيل أن يلد الله بصاحبة أم دون صاحبة حيث الصحبة والولادة لما فيهما من مجانسة بين والد وما ولد ، كما بين صاحب وصاحبة ، هي عليه مستحيلة ، ولا مسانخة بين المجرد اللامحدود والمادي المحدود ، فكما المجرد لا يتحول مادة بكلّه أو جزء منه حيث لا جزء له ، كذلك لا يتزاوج مع مادة لاستحالة اللقاء تداخليا بين المجرد والمادة.

ولو قيل بصاحبة هي إلهة كما الله فهما مجردان ، فتعدد المجرد غير المحدود مستحيل ، ثم المجرد لا يحتاج إلى ولادة ، ولو ولد لم يلد إلّا

__________________

ـ السّلام عن قول الله عزّ وجل (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فقال ابو جعفر عليهما السلام : ان الله عزّ وجلّ أبدع الأشياء كلها بعلمه على غير مثال كان قبله فابتدع السماوات والأرضين ولم يكن قبلهن سماوات ولا أرضون اما تسمع لقوله تعالى : وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ».

١٧٤

المجرد ، والجن والملائكة وغيرهما ممن اتخذوا للرحمن ولدا كلهم من عالم المادة.

وأما قولة البعض من المسيحيين أن مريم (ع) هي صاحبة الله فقد أولد بها المسيح (ع) فهي غير واردة في حقول المشركين ، ثم هي ماردة في الحقول الكتابية ، وفي كافة الحقول العقلية ، حيث المجرد اللّامحدود لا يتجزأ بانفصال جزء محدود منه ينتقل الى رحم امرأة أماهيه.

إذا ف (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) إنما تواجه من لا يعرف له صاحبة ، ثم تعارض القائل أن له صاحبة باستحالتها في ساحة الألوهية ، ثم العادة الجارية ان لا ولادة إلّا بأم صاحبة وسواها ، ف «لم تكن» هي أعم من «لن تكون» سلبا لصاحبة له في حقل المعرفة المألوفة وفي حقل العقلية السليمة ، فلو فرض له صاحبة فاستحالة الولادة بينهما قائمة بحالها أن لا يتحول المجرد مادة ، ثم الضرورة قائمة بمجانسة الوالدين ، وأية مجانسة بين المجرد والمادة؟ فالولادة المادية من والد مجرد عن المادة مستحيلة على أية حال ، سواء يتجزأ جزء منه أم بتحوله إلى مادة هي الولد ، فكلّ أنواع الولادة بصاحبة ودون صاحبة مستحيلة على الله.

وكيف يكون له ولد ام تكون له صاحبة (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) من أولاد وصاحبات (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ولا يعلم لنفسه ولدا ولا صاحبة ، ثم وكيف يحتاج الخالق إلى مخلوق ولدا وصاحبة ، أحاجة إلى المحتاج إليه في خلقه وقد كان ولم يكن معه شيء؟!.

فليس الخالق لشيء والدا له بأي معنى يدعى ، فالذي يصدقه تعالى خالقا لكلّ شيء ومنها هؤلاء الذين يزعمونهم أولاد الله أو بناته ، فكيف يخرق للخالق ولادة إلهية ، وبين الخلق والولادة بون عظيم ، لضرورة المجانسة في الولادة ، وضرورة المباينة في الخلقة ، فالولد جزء من الوالد وليس المخلوق جزء من الخالق.

١٧٥

فالوالد يلد ما يلده من ذاته ، والخالق يخلق ما يخلقه بديعا بمشيئته ، يخلق لا من شيء كالمادة الأوّلية المخلوقة لا من شيء ، أو يخلق من شيء خلقه قبل ، فلا يخلق من شيء ذاته فإنه ولادة ، ولا من شيء غير مخلوق له فإنه إشراك في الخالقية!.

ذلك ، ثم الصاحبة للإيلاد إنما هي لمصاحبها كونها وكيانا ولا مصاحبة بين المجرد عن المادة والمادة ، ثم لا شهوة للمجرد تقتضي مصاحبة الصاحبة لو كانت له ممكنة ، ومن ثم فتوليد الولد بشهوة وصاحبة غير محتاج إليه لمن خلق كلّ شيء بديعا.

والقول إن صاحبة الله إلهة كما الله فيولد بينهما إله ثالث ، مردود أولا باستحالة التعدد في الله ، ثم الوليد لو أمكن يجب أن يكون مجردا عن المادة كما الله ، فليس المسيح (ع) على أية حال ولدا لله!.

فهؤلاء المشركون مهما جهلوا الكثير من الحق هم عارفون قاعدة التكاثر الولادي أن يكون للوالد صاحبة أنثى من جنسه .. فكيف يكون لله ولد ولم تكن له صاحبة؟.

وقول البعض من المسيحيين انه (ع) مولود غير مخلوق تناقض بين يشبهه قول آخرين من غيرهم أن العالم قديم زمني على حدوثه!.

ذلك ، فالولادة الربانية ـ المختلفة بطبيعة الحال عن الخلقة ـ هي مستحيلة بكلّ الوجوه ، تبدلا لذاته التجردية اللانهائية إلى ذات محدودة جسمانية ، أو انتقالا لجزء منه تعالى إلى رحم وسواه يصبح ولدا ، إذ لا جزء له ، أو اتخاذا تشريفيا مجازيا في عبارة «الولد» حيث المجاز إنما يجوز فيما تجوز فيه الحقيقة ، فلما استحالت الولادة الإلهية حقيقيا فالمجازي كذلك مستحيل ، وعلى فرض الإمكان مجازيا ف (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ)!

١٧٦

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)(١٠٢) :

«ذلكم» العظيم العظيم (اللهُ رَبُّكُمْ) جميعا دون أن يكون له شريك أو أن يتخذ شريكا أو ولدا (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) من عابدين ومعبودين (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) فليس له أي وكيل أو بديل ، بل هو الذي يكلّ أمر كلّ عليل وكليل.

ولأن الوكالة الربانية هي ولايته الطليقة لخلقه تدبيرا لما هم عنه عاجزون ، فلا تدخل هذه الوكالة في حقل التوكيل ، فالوكالة الخلقية أحيانا بحاجة إلى توكيل وأخرى لا تحتاج لأنها ولاية لا تحتاج إلى جعل من المولّى عليه ، والله وكيل لمن توكلّ عليه أم لم يتوكلّ.

ذلك وإن تفرّد الله تعالى بالخلق يفرده سبحانه بالملك ، والمتفرد بهما يتفرد في كافة شؤون الربوبية ومن أبرزها المعبودية وتقدير العباد.

ف (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) برهان حاسم لكونه إله كلّ شيء ومقدّره ورازقه ومدبّره ، ولأنه إله كلّ شيء وخالق كلّ شيء ، «فاعبده» لا سواه ، ولأنه (عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) فليس له وكيل في ألوهيته أو ربوبيته حتى يصلح للعبادة والتدبير بديلا عن الله أو وكيلا عنه فضلا عن مثيل.

وخالقيته تعالى لكلّ شيء أصل قرآني علمي عقلي فطري. ف (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (١٣ : ١٦) ف (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) (٣٥ : ٣) (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (٣٩ : ٦٢) (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (٤٠ : ٦٢).

وهنا «كلّ شيء» هي الأشياء الممكن إيجادها ذاتيا ومصلحيا ، فغير الممكن ذاتيا هو اللّاشيء المطلق فلا تشمله «شيء» وغير الممكن مصلحيا وإن كان شيئا بإمكانيته الذاتية ولكنه لا شيء باستحالته

١٧٧

المصلحية ، فالقصد من «كلّ شيء» هو الممكن في حكمة الخلق ومصلحيته.

أجل «كلّ شيء» بصورة طليقة تشمل غير الممكن مصلحيا ، ولكنها في حقل فعلية الخلق ، المشروطة بالمصلحة الخلقية ، تتقيد بكونها شيئا يصلح للتكوين.

ولأن من «شيء» الأرواح كلها فلا يصح القول أن هناك عالم الخلق الخاص بخلق الماديات وعالم الأمر الخاص بالمجردات سنادا إلى (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) حيث الأمر هنا هو أمر تدبير الخلق ، ولغة الأمر لا تناسب ـ فقط ـ إيجاد المجردات ، بل هو في حقل الإيجاد يعني طليق الإيجاد : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فإن «لشيء» تعم كلّ شيء.

ذلك ، وفي الأصل لا مجرد في الكون إلّا الله فكيف يعني الأمر إيجاد المجردات ، فعالم التكوين لا يخلو من مادة أو طاقة مادية ، وكلّ وليدة الأخرى ، حيث المادة تتبدل بانبثاقها إلى طاقة ، والطاقة بتكثفها وتعقّدها تتبدل إلى مادة ، والأصل الأصيل لهما هو المادة الأولية المخلوقة قبل كلّ شيء ، المخلوق منها كلّ شيء.

ف «كلّ شيء» تحلّق على كافة الكائنات المخلوقة بقرينة «خالق» وليس الشيء الخالق مخلوقا حتى يفتّش عن خالقه ، إذ ليس الشيء بما هو شيء بحاجة إلى خالق ، إنما هو الشيء المخلوق غير الأزلي ، فحين يسأل : إذا كان الله خالق كلّ شيء فمن هو الذي خلق الله؟ فالجواب : ليس الله مخلوقا حتى يسأل عن خالقه ، وليس الوجود بما أنه وجود بحاجة إلى موجد ، إنما هو الوجود الحادث ، ولو أن الخالق كان بحاجة إلى خالق كخلقه لاستحال وجود كلّ شيء خالقا ومخلوقا قضية التسلسل غير

١٧٨

الناهي إلى شيء غير مخلوق (١).

ولئن سئلنا : إذا كان الله خالق كلّ شيء كما هو قضية توحيده في الخالقية ، فشيء الظلم والعصيان وكلّ سوء وضرر أيا كان مشمولة ل «كلّ شيء» والنتيجة براءة المتخلفين عما يعملون من سوء ، ولأن أعمالهم السيئة داخلة في «كلّ شيء» فهي كلها مخلوقة لله تعالى؟ وقد صرحت آيات بأن لنا أفعالا كما نختار ومنها التالية : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (١٠٤)!.

فالجواب أولا أن «كلّ شيء» هي الموضوعات الأصيلة في الخلق ، دون العوارض الاختيارية لها التي هي حصيلة الإختيار ، ثم الفعل يعبّر عنه بنفسه دون الخلق فمن فعل فعلا لا يقال أنه خلقه.

وثانيا أن الإختيار شيء خلقه الله في المختارين للاختبار ، ثم تحقق الشيء المختار له واجهتان ، أولاهما واجهة فاعلية المختار خيرا أو شرا ، وثانيتهما واجهة خلق العمل المختار ، وليس الله ليخلق خيرا أو شرا من مثلث الأقوال والأحوال والأعمال إلّا بعد إختيار المختار ، ف «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين» وليس الخالق الأصيل في هذا البين إلّا الله ، حيث خلق المختار باختياره ، ثم يخلق ما يختاره دون تسيير ، فأين الجبر إذا وأين كون الشرور من خلق الله دونما اختيار من أهله؟.

أجل ، والأعمال المختارة تنتهي إلى الاختيار والله هو خالق المختار والاختيار ، فإنما الاختيار هو للاختبار (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) مهما لا يحصل واقع الكفر والإيمان إلّا بمشيئة الله بعد إختيار المختار ، مشيئة لولاها لاستحال تحقيق الإختيار في كافة الحقول.

__________________

(١) راجع الفرقان ٢٣ : ٣٧٤ في ظل الآية «اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ..» والحوار بين الإلهيين والماديين تحت عنوان «من خلق الله»؟!

١٧٩

ففي خلق الشيطان من الجان وسائر الشيطان في أنفس الجان والإنسان حكمة الاختبار في عالم التكليف الإختيار ، لو لا ذلك الخلق بجنب سائر الخلق لم يكن اختبار في إختيار ، وعالم التكليف هو مجموعة اختبارات في اختيارات.

ولا تعني مثل (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أن فعل الظلم ـ وهو من الأشياء ـ خارج عن «كلّ شيء» مخلوق له تعالى ، فإنما تعني سلب الإجبار والتسيير في مثل الظلم ، فأما إرادة تحقق الظلم بعد كلّ المحاولات المختارة من الظالم فهي ليست من الله ظلما بل هي من العدل تطبيقا لواقع الإختيار في ظلمهم وعدلهم ، كما وهي قضية توحيد الربوبية ، فما من فعل قالا وحالا وأعمالا إلّا ولله فيه المشيئة سلبا في سلبها وإيجابا في إيجابها ، وذلك من المعني في «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين».

إذا ف «أفعال العباد مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين والله خلق كل شيء ولا نقول بالجبر والتفويض» (١).

ذلك! وكما نسمع الله تعالى يقول (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) و (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) ـ (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) مع (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) وما أشبه تدليلا على أن الله ليس بمنعزل فاعلية عن الخيرات والشرور ، ولكنها فاعلية ربوبية غير مسيّرة ، مهما كانت في الخيرات ميسّرة وفي الشرور دونها ، وكما في حديث قدسي : «يا ابن آدم أنا أولى منك بحسناتك وأنت أولى مني بسيآتك».

ذلك ، واستغراق كلّ شيء لكلّ شيء دونما استثناء هو فقط قضية

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٥١ في عيون اخبار الرضا (ع) باسناده الى الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا (ع) انه قال : ...

١٨٠