الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤

توحيده تعالى في الخالقية فالربوبية بكلّ حلقاتها ، فلو تفلّت شيء ـ وإن كان واحدا ـ عن هذه الخالقية الطليقة لنقصت الخالقية الموحدة وانتقضت!.

وترى خالقيته لكلّ شيء تبطل قانون العليه والمعلولية في الكائنات؟ كلّا حيث العلة التامة لا توجد في الكائنات أبدا ، اللهم إلّا مقتضيات إذا انضمت إليها إرادة الله تعالى تحققت وإلّا فلا تحقق كما في نار نمرود لإبراهيم الخليل (ع) ، حيث أصبحت بردا وسلاما بأمر الجليل.

ذلك ، ثم ولا منافاة بين العلل العرضية والطولية ، فالعلل العرضية تعمل آثارها بمقتضياتها وإرادة الله ، ثم الله من وراء كافة العلل والمعاليل رقيب عتيد ف (ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) كنموذج من نماذج الإرادة الإلهية في كلّ ظروف العلية.

ففي تعطيل الإرادة الربانية تفويض ، كما في تعطيل سائر العلل جبر ، وفي الجمع بينهما ـ كما يناسب عدله تعالى وفضله وحكمته ـ أمر بين أمرين.

إذا فلا مخصّص عقليا أو علميا أو شرعيا ل «كلّ شيء» في نطاق خلقته تعالى ، وذلك قضية توحيد الربوبية في كلّ شيء دون إبقاء.

ف «اعلم علمك الله الخير أن الله تبارك وتعالى قديم والقدم صفة دلت العاقل على أنه لا شيء قبله ولا شيء معه في ديمومته ، فقد بان لنا بإقرار العامة مع معجزة الصفة أنه لا شيء قبل الله ولا شيء مع الله في بقاءه وبطل قول من زعم أنه كان قبله أو معه شيء وذلك أنه لو كان معه شيء في بقاءه لم يجز أن يكون خالقا له لأنه لم يزل معه فكيف يكون خالقا لمن لم يزل معه ، ولو كان قبله شيء كان الأول ذلك الشيء لا هذا وكان الأول أولى

١٨١

بأن يكون خالقا للثاني» (١).

أترى ـ بعد ـ ان الله خلق كلّ شيء من شيء كان معه أو قبله؟ وذلك نقض لتوحيد الأزلية! أم خلق كلّ شيء من العدم؟ وليس العدم مادة الإيجاد! ، أم خلق كلّ شيء من شيء ذاته؟ وذلك ولادة وليس خلقا!.

إنه خلق الأشياء من الخلق الأوّل المسمى بالماء : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) وخلق المادة الأولى لا من شيء ، لا من لا شيء ولا من شيء معه أو قبله ، فخلقه الشيء الأوّل لم يكن له ما يخلق منه ، فإنما خلقه بإرادته دون أصل إلّا هي خلقا دون ولادة ف «إن صانع كل شيء فمن شيء صنع والله الخالق اللطيف الجليل خلق وصنع لا من شيء» (٢).

وفي حوار للإمام الصادق (ع) مع الزنديق حيث قال :

«من أي شيء خلق الأشياء؟

الامام (ع) : لا من شيء.

الزنديق : فكيف يجيء من لا شيء شيء؟

الامام (ع) : إن الأشياء لا تخلو أن تكون خلقت من شيء أو من غير شيء.

__________________

(١) المصدر في العيون عن الرضا (ع) في باب ما كتبه (ع) للمأمون من محض الإسلام وشرايع الدين.

وفيه بإسناده إلى حمدان بن سليمان قال كتبت إلى الرضا (ع) أسأله عن أفعال العباد أمخلوقة هي أم غير مخلوقة؟ فكتب : افعال العباد مقدرة في علم الله تعالى قبل خلق العباد بألفي عام.

أقول : يعني من «خلق تقدير» امرا بين أمرين ومن خلق تكوين الجبر.

(٢) نور الثقلين ١ : ٧٥٥ عن أصول الكافي عن أبي الحسن (ع) في حديث طويل : ان صانع ...

١٨٢

فإن كانت خلقت من شيء كان معه فإن ذلك الشيء قديم لا يكون حديثا ولا يفنى ولا يتغير ، ولا يخلو ذلك الشيء من أن يكون جوهرا واحدا ولونا واحدا فمن أين جاءت هذه الألوان المختلفة والجواهر الكثيرة الموجودة في هذا العالم من ضروب شتى ، ومن أين جاء الموت إن كان الشيء الذي أنشأت منه الأشياء حيا ، أو من أين جاءت الحياة إن كان ذلك الشيء ميتا ، ولا يجوز أن يكون من حي وميت قديمين لم يزالا ، لأن الحي لا يجيء منه ميت وهو لم يزل حيا ، ولا يجوز أيضا أن يكون الميت قديما لم يزل بما هو به الموت ، لأن الميت لا قدرة له ولا بقاء (١).

(لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(١٠٣) :

هذه من أمهات الآيات المحكمات تعريفا بالله تعالى شأنه ، مفسّرة لكافة المتشابهات التي يخيّل فيها أنه تعالى يبصر ببصر أو ببصيرة.

فالإدراك هو الوصول كيفما كان ، و«الأبصار» جمع البصر الشامل لبصر العين ، وبصر البصيرة ، فطريا أو عقليا أو قلبيا أم في أسر الأسرار فهي أبصر من بصر العين ، فلأن المبصر قد يكون محسوسا وأخرى غير محسوس ، فالأبصار تعم باصرة المحسوسات وسواها.

و (هُوَ اللَّطِيفُ) بحق اللطافة التي لا تدرك بحقيقة الذات وذاتيات الصفات بوحدتها مع الذات ، بل ولا الأفعال ، إلّا أن يري الله من أفعاله شطرا بعض عباده المخلصين كما يمكن أن يرى.

ذلك فالحيطة العلمية والمعرفية على الله مستحيلة لمن سوى الله وعلى حد قول رسول الله (ص) في ضوء الآية : «لو أن الجن والشياطين

__________________

(١) بحار الأنوار ٩ : ٦٤ و١٦٦ وهي من غرر الحاجات الجامعة لدررها.

١٨٣

والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا صفوا صفا واحدا ما أحاطوا بالله أبدا» (١) والصف الواحد هو في حقل المحاولات المعرفية لتلك الإحاطة.

هنا «لا تدركه» طليقة في استغراق أي زمان أو مكان أو أيّا كان من كائن غير الله في مثلث النشآت ، حيث الأبصار بحدودها كليلة عن إبصاره تعالى فإنه اللّامحدود والمجرد الطليق عن كلّ حد ، فليس محسوسا حتى يحس ولا مجسوسا حتى يجسّ ولا ملموسا حتى يلمس ف «لا يحس ولا يجس ولا يمس ولا يدرك بالحواس الخمس» ولا بغيره من إدراكات الأبصار وأبصار الإدراكات في أي حقل من الحقول ولأي عقل من العقول ، ف «كلما ميزتموه بأوهامكم فهو مخلوق لكم مثلكم مردود إليكم».

«لا تدركه» لا تعني ـ فيما عنت «لا تعرفه» حيث المعرفة الممكنة المأمور بها لا تعني إدراكه بمعرفة كهذه ، كما لا تعني «الأبصار» ـ فقط ـ أبصار العيون ، حيث الجمع المحلّى باللّام يحلّق على كافة الأبصار في أي إبصار ، سواء في هذه السلبية الطليقة أبصار عيون الإبصار أو أسرار البصائر ، بصائر الفطر والعقول والقلوب والألباب والأفئدة أماهيه من وسائل الإبصار.

فلأن «لا تدركه» هي من ميّزاته تعالى عن خلقه ، فإبصار واحد من واحد في أيّ من النشآت وفي أي حقل من حقوله من أي مبصر ينقض هذه الميّزة ويسوّيه بخلقه سبحانه في أصل الإبصار.

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٧ ـ اخرج ابن أبي حاتم والعقيلي وابن عدي وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله (ص) في قوله (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ..) قال : ...

١٨٤

ولو أن «لا تدركه» اختصت بأبصار العيون لما اختصت ذاته بعدم الإبصار حيث إن من المادة أو الطاقة المادية ما لا تدركه الأبصار ، و«إن أوهام القلوب أكبر من أبصار العيون فهو لا تدركه الأوهام وهو يدرك الأوهام» (١) ف «إياكم والتفكر في الله ، لا يزيد إلا تيها إن الله عز وجل لا تدركه الأبصار ولا يوصف بمقدار» (٢) «ولم تدركه الأبصار فيكون بعد انتقالها حائلا» (٣).

ذلك ، فكما أنه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) في ذاته وصفاته وأفعاله ، كذلك (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) في ذلك المثلث المقدس ، حيث إن إبصاره إدراكا له يشبهه بخلقه المبصرين.

ولئن قلت : «فإنا روينا أن الله قسّم الرؤية والكلام بين نبيين فقسم لموسى الكلام ولمحمد (ص) الرؤية؟! نقول :

فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين من الجن والإنس أنه (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ)(وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)؟ أليس محمد (ص)؟ .. بلى.

فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم أنه جاء من عند الله وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله ويقول : إنه لا تدركه الأبصار ـ ولا يحيطون به علما ـ وليس كمثله شيء ، ثم يقول : أنا رأيته بعيني ، وأحطت به علما

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٥٣ عن كتاب التوحيد باسناده إلى أبي هاشم الجعفري عن أبي الحسن الرضا (ع) قال : سألته عن الله عزّ وجلّ هل يوصف؟ فقال : أما تقرأ القرآن؟ قلت : بلى ، قال : فتعرفون الأبصار؟ قلت : بلى قال : وما هي؟ قلت : ابصار العيون ، فقال : إن ..

(٢) المصدر عن امالي الصدوق باسناده إلى أبي عبد الله (ع) قال : ...

(٣) المصدر عن كتاب التوحيد خطبة لعلي (ع) يقول فيها : ...

١٨٥

وهو على صورة البشر؟ أما تستحيون! ـ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا ، أن يكون أتى عن الله بأمر ثم يأتي بخلافه من وجه آخر ... وحين يقال : فتكذب بالرواية؟! نقول : إذا كانت الرواية مخالفة للقرآن كذبتها وما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علما ولا تدركه الأبصار وليس كمثله شيء ..» (١).

ومما يحير العقول تقديم الرواية المختلقة في رؤية الله على محكمات القرآن وأدلة العقول ، مما يدل على أن مختلقيها والمتمسكين بها ليسوا من أرباب العقول.

ذلك ، وإلى خطب توحيدية للرسول (ص) وعترته المعصومين عليهم السلام نبهة غالية على ضوء القرآن :

فمن خطبة للرسول (ص): «الحمد لله الذي كان في أوليته وحدانيا وفي أزليته متعظما بالإلهية متكبرا بكبريائه وجبروته ، ابتدء ما ابتدع وأنشأ ما خلق على غير مثال كان سبق ، ولا لشيء مما خلق ، ربنا اللطيف بلطف ربوبيته ، وبعلم خبره فتق ، وبإحكام قدرته خلق جميع ما خلق ، وبنور الإصباح فتق ، فلا مبدل لخلقه ، ولا مغير لصنعه ، ولا معقب لحكمه ، ولا راد لأمره ، ولا مستراح عن دعوته ، ولا زوال لملكه ، ولا انقطاع لمدته ، وهو الكينون أولا والديموم أبدا ، المحتجب بنوره دون خلقه في الأفق الطامح ، والعز الشامخ ، والملك الباذخ ، فوق كل شيء علا ، ومن كل شيء دنا ، فتجلى لخلقه من غير أن يكون يرى ، وهو بالمنظر

__________________

(١) بحار الأنوار ١٠ : ٣٤٣ ـ ٣٤٧ ، حوار للإمام الرضا (ع) مع أبو قرة المحدث صاحب شبرمة وفيها بعد ما ختمنا به في المتن : قال أبو قرة : فأين الله ، قال (ع) الأين مكان وهذه مسألة شاهد عن غائب والله تعالى ليس بغائب ولا يقدمه قادم وهو بكل مكان موجود مدبر صانع حافظ ممسك السماوات والأرض ...

١٨٦

الأعلى ، فأحب الإختصاص بالتوحيد إذا احتجب بنوره ، وسما في علوه ، واستتر عن خلقه ...» (١).

و«... إن الخالق لا يوصف إلّا بما وصف به نفسه ، وكيف يوصف الخالق الذي يعجز الحواس أن تدركه ، والأوهام أن تناله ، والخطرات أن تحده ، والأبصار عن الإحاطة به ، جل عما يصفه الواصفون ، نأى في قربه وقرب في نأيه ، كيّف الكيفية فلا يقال له : كيف؟ وأيّن الأين فلا يقال له : اين؟ هو منقطع الكيفوفية والأينونية ، فهو الأحد الصمد كما وصف نفسه والواصفون لا يبلغون نعته ، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ... (٢).

ومن خطبة خطبها وزير الرسول (ص) وخليفته علي (ع) بعد موته (ص) :

«الحمد لله الذي أعجز الأوهام أن تنال إلا وجوده ، وحجب العقول عن أن تتخيل ذاته في امتناعها من الشبه والشكل ، فارق الأشياء لا على اختلاف الأماكن ، وتمكن منها لا على الممازجة ، وعلمها لا بأداة لا يكون العلم إلا بها ، وليس بينه وبين معلومه علم غيره ، إن قيل كان فعلى تأويل أزلية الوجود ، وإن قيل لم يزل فعلى تأويل نفي العدم ، فسبحانه وتعالى

__________________

(١) البحار ٤ : ٢٨٧ ـ ٢٨٨.

(٢) المصدر ، وفيه قدم عليه (ص) يهودي يقال له نعثل فقال يا محمد! إني سائلك عن أشياء تلجلج في صدري منذ حين ، فان أنت اجبتني عنها أسلمت على يدك ، قال (ص) سل فقال يا محمد صف لي ربك فقال : ان الله ... قال صدقت يا محمد أخبرني عن قولك انه واحد لا شبيه له أليس الله واحدا والإنسان واحد فوحدانيته أشبهت وحدانية الإنسان؟ فقال (ص) الله واحد وأحدي المعنى والإنسان واحد تنوي المعنى ، جسم وعرض وبدن وروح فانما التشبيه في المعاني لا غير ، قال : صدقت يا محمد!».

١٨٧

عن قول من عبد سواه واتخذ إلها غيره علوا كبيرا» (١).

ومن خطبة له (ع) خطبها في مسجد الكوفة : «الحمد لله الذي لا من شيء كان ولا من شيء كون ما قد كان ، المستشهد بحدوث الأشياء على أزليته ، وبما وسمها به من العجز على قدرته ، وبما اضطرها إليه من الفناء على دوامه ، لم يحل منه مكان فيدرك بأينية ، ولا له شبح مثال فيوصف بكيفية ، ولم يغب عن شيء فيعلم بحيثية ، مباين لجميع ما أحدث في الصفات ، وممتنع عن الإدراك بما ابتدع من تصريف الذوات ، وخارج بالكبرياء والعظمة من جميع تصرف الحالات ، محرم على بوارع ثاقبات الفطن تحديده ، وعلى عوامق ثاقبات الفكر تكييفه ، وعلى غوائص سابحات النظر تصويره ، لا تحويه الأماكن لعظمته ، ولا تذرعه المقادير لجلاله ، ولا تقطعه المقاييس لكبريائه ، ممتنع عن الأوهام أن تكتهنه ، وعن الأفهام أن تستغرقه ، وعن الأذهان أن تمثله ، قد يئست من استنباط الإحاطة به طوامح العقول ، ونضبت عن الإشارة إليه بحار العلوم ورجعت بالصفر عن السمو إلى وصف قدرته لطائف الخصوم ...» (٢).

ومن خطبة له (ع) حين استنهض الناس في حرب معاوية :

«الحمد لله الواحد الأحد ... وغار في ملكوته عميقات مذاهب التفكير ، وانقطع دون الرسوخ في علمه جوامع التفسير ، وحال دون غيبه المكنون حجب من الغيوب ، تاهت في أدنى أدانيها طامحات العقول في لطيفات الأمور ، فتبارك الذي لا يبلغه بعد الهمم ، ولا يناله غوص

__________________

(١) البحار ٤ : ٢٢١ ، هي الخطبة التي خطبها بعد موت النبي (ص) بتسعة أيام حينما فرغ من جمع القرآن.

(٢) المصدر ٢٢١ ـ ٢٢٣.

١٨٨

الفطن ، وتعالى الله الذي ليس له وقت معدود ولا أجل ممدود ولا نعت محدود ...» (١).

ومن كلام له في ماهيته تعالى تأويلا للصمد :

«لا اسم ولا جسم ولا مثل ولا شبه ولا صورة ولا تمثال ولا حد ولا حدود ولا موضع ولا مكان ولا كيف ولا أين ولا هنا ولا ثمة ولا ملأ ولا خلأ ولا قيام ولا قعود ولا سكون ولا حركة ولا ظلماني ولا نوراني ولا روحاني ولا نفساني ولا يخلو منه موضع ولا على لون ولا على خطر قلب ولا على شم رائحة منفي عنه هذه الأشياء» (٢).

ومن خطبة للإمام الحسن المجتبى (ع): «الحمد لله الذي ليس له أول معلوم ، ولا آخر متناه ، ولا قبل مدرك ولا بعد محدود ، ولا أمد بحتى ، ولا شخص فيتجزء ، ولا اختلاف صفة فيتناهى ، فلا تدرك العقول وأوهامها ولا الفكر وخطراتها ، ولا الألباب وأذهانها صفته فيقول متى؟ ولا بدء مما؟ ولا ظاهر على ما؟ ولا باطن فيما؟ ولا تارك فهلا؟ ...» (٣).

ومن كلام للإمام الحسين (ع) حول التوحيد : «أيها الناس اتقوا هؤلاء المارقة الذين يشبهون الله بأنفسهم يضاهئون قول الذين كفروا من أهل الكتاب ، بل هو الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ، وهو الواحد الصمد ، ما تصور في الأوهام فهو خلافه ، ليس برب من طرح تحت البلاغ ، ولا بمعبود من وجد في هواء أو غير هواء ...

__________________

(١) المصدر.

(٢) المصدر ٣ : ٢٣٠ عن ابن الحنفية عنه (ع).

(٣) المصدر ٤ : ٢٨٩.

١٨٩

احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار وعمن في السماء احتجابه عمن في الأرض ...» (١).

ومن خط الامام الرضا (ع): «لا تشمله المشاعر ولا يحجبه الحجاب ، فالحجاب بينه وبين خلقه لامتناعه مما يمكن في ذواتهم ، ولإمكان ذواتهم مما يمتنع منه ذاته ، ولا فتراق الصانع والمصنوع والرب والمربوب» (٢).

ومن حوار له (ع) مع زنديق يقول له :

«فلم احتجب»؟ فيقول (ع) : إن الحجاب على الخلق لكثرة ذنوبهم ، فأما هو فلا تخفى عليه خافية في آناء الليل ، فلا تدركه حاسة البصر؟ للفرق بينه وبين خلقه الذين تدركهم حاسة الأبصار منهم ومن غيرهم ، ثم هو أجل من أن يدركه بصر أو يحيط به وهم ، أو يضبطه عقل ..» (٣).

ومن حوار له (ع) مع سائل في جواب كيف هو وأين هو؟ قال (ع) :

«ويلك إن الذي ذهبت إليه غلط ، وهو أين الأين وكان ولا أين ، وهو كيف الكيف وكان ولا كيف ، فلا يعرف بكيفوفية ولا بأينونية ولا بحاسة ولا يقاس بشيء ، قال الرجل : فإذا إنه لا شيء إذا لم يدرك بحاسة من الحواس؟ فقال (ع) : ويلك لما عجزت حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيته! ونحن إذا عجزت حواسنا عن إدراكه أيقنا أنه ربنا وأنه شيء بخلاف الأشياء ...» (٤).

__________________

(١) المصدر ٤ : ٣٠١.

(٢) المصدر.

(٣) المصدر ٣ : ٣٦ ح ١١ وفيه أخيرا «فما برح الزنديق حتى اسلم».

(٤) نور الثقلين ١ : ٧٥٤ في عيون الأخبار.

١٩٠

ومن حوار للإمام الصادق (ع) مع الزنديق :

الزنديق : كيف يعبد الله الخلق ولم يروه؟.

الامام (ع) : رأته القلوب بنور الايمان وأثبتته العقول بيقظتها اثبات العيان وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب وإحكام التأليف ، ثم الرسل وآياتها والكتب ومحكماتها ، واقتصرت العلماء على ما رأت من عظمته دون رؤيته.

الزنديق : أليس هو قادرا أن يظهر لهم حتى يروه ويعرفوه فيعبد على يقين؟.

الامام (ع) : ليس للمحال جواب» (١)

ذلك ، فاختصاص «لا تدركه» بأبصار العيون ، او اختصاصها ايضا بدركها إياه يوم الدنيا ، ذلك كله اجتثاث لميزة الربوبية الخاصة.

ف «لا تدركه» تحلق على كلّ زمان ، كما ان «الأبصار» تحلق على كافة الأبصار ، بل وصدقها على أبصار القلوب أحرى من أبصار العيون ف (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) إذ لا يعني الإبصار فيها والعمى إلّا إبصار القلوب وعماها (٢) كما و (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ. أَبْصارُها خاشِعَةٌ) (٧٩ : ٩)(٣) وقد تكفي عناية البصائر من

__________________

(١) المصدر ٩ : ٦٤ و١٦٦.

(٢) نور الثقلين ١ : ٧٥٢ في كتاب التوحيد باسناده إلى عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (ع) في قوله عزّ وجلّ : لا تدركه الأبصار ، قال : ما أحاطه الوهم ، ألا ترى الى قوله : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) ليس يعني بصر العيون (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ) ليس يعني من البصر بعينه (وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) لم يعن عمى العيون انما عنى احاطة الوهم كما يقال فلان بصير بالشعر وفلان بصير بالفقه وفلان بصير بالدراهم وفلان بصير بالثياب ، الله أعظم من ان يرى بالعين.

(٣) من آيات تلكم الأبصار : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي ـ الْأَبْصارِ) (٣ : ١٣) (اولي ـ

١٩١

الأبصار بجنب عناية العيون لعناية الاستغراق في (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ).

بل والإدراك ايضا ليس في الأغلبية الساحقة إلّا بحق القلوب ، وأما العيون فحقها «لا ترى ـ لا تبصر» وما أشبه.

وكما نرى آيات الإدراك كلها تعني الوصول وهو فعل القلب أم واقع الوصول دون العيون التي لا تجد إلّا صورا منعكسة عن الواقع قد تخطأ (١).

أجل (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) لعللها وكللها بحدودها وقيودها ، ولأنه تعالى لا يحسّ ولا يجسّ ولا يمسّ ولا يدرك بالحواس الخمس وسائر الإدراك.

(وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) لحيطته على كلّ شيء ، أنّه (عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) ثم : (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) لطيف لا يدرك ، ولطيف يدرك كلّما يدرك أو لا يدرك ، لطيف عن كلّ الأبصار ، ولطيف الإبصار لكلّ الأبصار ، لطيف في ذاته وفي أفعاله وصفاته ، لطيف في صنعه ، لطيف في عطفه ولطفه «لطيف لطف بخلق ما سميناه بلا علاج ولا أداة وإن صانع كل شيء فمن شيء صنع ، والله الخالق اللطيف الجليل خلق وصنع لا من شيء» (٢).

__________________

ـ الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) (٣٨ : ٤٥) (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) (٥٩ : ٢) (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) (٢ : ٧) (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ) (٦ : ١١٠) (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) (١٦ : ١٠٨) (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) (٤٧ : ٢٣).

(١) مثل (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) (١٠ : ٩٠) (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) (٣٦ : ٤٠) (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) (٤ : ٧٨) (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) (٣٦ : ٦١).

(٢) نور الثقلين ١ : ٧٥٥ عن اصول الكافي عن الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن (ع) ... فقولك (اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) فسره لي كما فسرت الواحد فإني اعلم ان ـ

١٩٢

فليس «اللطيف على قلة وقضافة وصغر ولكن ذلك على النفاذ في الأشياء والامتناع من أن يدرك ...» (١).

ذلك هو اللطيف «وأما الخبير فالذي لا يعزب عنه شيء ولا يفوته ، ليس للتجربة ولا للاعتبار بالأشياء ، فعند التجربة والإعتبار علمان ولولاهما ما علم ، لأن من كان كذلك كان جاهلا ، والله لم يزل خبيرا بما خلق ، والخبير من الناس المستخبر عن جهل ، المتعلم ، وقد جمعنا الاسم واختلف المعنى» (٢).

ذلك! وما أجهله وأحمقه من يستدل بهذه الآية على جواز رؤيته تعالى ، سنادا بأن امتداحه ب (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) لا يصح إلّا بإمكانية

__________________

ـ لطفه على خلاف لطف خلقه للفعل غير أني أحب ان تشرح لي ذلك فقال (ع) يا فتح! إنما قلنا اللطيف للخلق اللطيف لعلمه بالشيء اللطيف أو لا ترى وفقك الله وثبتك إلى اثر صنعه في النبات اللطيف وغير اللطيف ومن الخلق اللطيف ومن الحيوان الصغار ومن البعوض ومن الجرجس وما هو أصغر منها لا يكاد تستبينه العيون بل لا يكاد يستبان لصغره الذكر من الأنثى والحدث المولود من القديم فلما رأينا صغر ذلك في لطفه واهتداءه للفساد والهرب من الموت والجمع لما يصلحه وما في لجج البحار وما في لحاء الأشجار والمفاوز والقفار وافهام بعضها عن بعض منطقها وما يفهم به أولادها عنها ونقلها الغذاء إليها ثم تأليف ألوانها حمرة مع صفرة وبياض مع حمرة وانه ما لا يكاد عيوننا تستبينه لدمامة خلقها لا تراه عيوننا ولا تلمسه أيدينا علمنا ان خالق هذا الخلق لطيف ...

(١) المصدر عنه (ع) حديث طويل وفيه «وأما اللطيف فليس ... كقولك للرجال لطف عني هذا الأمر ولطف فلان في مذهبه ، وقوله يخبرك أنه غمض فيه العقل وفات الطلب وعاد متعمقا متلطفا لا يدركه الوهم ، فذلك لطف الله تبارك وتعالى عن ان يدرك بحد أو يحد بوصف واللطافة منا الصغر والقلة فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى».

(٢) المصدر ٧٥٦ عن اصول الكافي عن أبي الحسن الرضا (ع) ....

١٩٣

رؤيته ، حيث المعدوم المطلق أيضا لا تدركه الأبصار وليس بحقه مدحا (١).

ولكن خفي عليه أن امتناع إدراك ذاته هو امتداح لها ، يعني تجرده اللانهائي ، وعدم إبصار المعدوم ليس إلّا لسلب الموضوع ، وأما الموضوع الموجود الممتنع إبصاره للخلق لتجرده اللانهائي ، فذلك له غاية الامتداح.

ولأن «الأبصار» هنا أبصار الخلق ، فإبصاره تعالى ذاته خارج عن سلبية الإبصار لكلّ الأبصار ، فإبصاره تعالى بين ما هو لزام ذاته كإبصاره تعالى ذاته وما هو في حزام وامتناع وهو إبصاره تعالى لخلقه أن يبصروه.

فإبصار المحدود بأية أبصار ممتنع بالنسبة للّامحدود ، ثم إبصار اللّامحدود لذاته هو لزام علمه بذاته ، وإبصار محدود لمحدود ممكن في ذاته.

ففي مثلث الأبصار ، ليست الزاوية الواجبة لتفرض المستحيلة ، ولا المستحيلة لتحيل الواجبة ، كما الممكنة لا تفرض سواها كما لا تحيل!.

وأما أن «الأبصار» جمع الاستغراق وسلبه سلب لذلك الاستغراق اللّامح لثبوت الرؤية لبعض الأبصار؟ فغريب في نوعه ، حيث الاستغراق في موضع السلب استغراق للسلب لا سلب للاستغراق حتى يلمح لثبوت البعض ، ولو عني سلب الاستغراق لكان الصحيح «لا تدركه كل الأبصار».

وكذلك القول إن بالإمكان أن يخلق الله حسا سادسا يوم القيامة به يرى الله؟ حيث الأبصار تعم كافة الحواس والإدراكات الظاهرة والباطنة أينما

__________________

(١) ذكره الفخر الرازي في تفسيره ١٣ : ١٢٤.

١٩٤

كانت وأيان! وما يخلقه الله ـ فيما يزعم ـ من أبصار ، محدود لأنه من خلقه ، وليس للمحدود أن يحيط على اللامحدود ، ثم وهو غير مجرد عن المادة ، وليس للمادي أن يدرك غير المادي فان وسائل الإدراك محدودة بحدودها ، والمسانخة بين المدرك والمدرك من لزامات الإدراك.

ذلك ، ولمّا يخاطب موسى (ع) في حقل رؤيته تعالى ب «لن تراني» المحيلة لرؤيته لموسى على أية حال ، فبأن يحيل رؤيته تعالى لغير موسى أحرى.

والقول إن الرؤية نوعان ثانيهما الرؤية مع الإحاطة وهي الإدراك ، فنفي الإدراك إنما ينفي هذه الثانية دون الأولى ، مردود بأن ذلك إنما يصح في المرئي المتجزئ فقد يرى بعضه دون بعض ، وأما المجرد الصمد الذي لا تركّب فيه فسلب إدراكه هو سلب رؤيته إذ لا تنقسم رؤيته إلى هذين القسمين إحاطة ودونها ، اللهم إلّا أن تعني الرؤية غير المحيطة وهي المعرفة الممكنة لله تعالى.

وأما أن الآيات الدالة على رؤيته تعالى تخصص عموم الاستغراق في سلب إدراكه تعالى ، فذلك نقش بالنفخ على الحجر ، إذ ليست هنا آية ولا لمحة أن الله تعالى يرى ، اللهم إلّا رؤية المعرفة الممكنة وهي ليست إدراكا له تعالى ، لأنه الوصول والحيطة على ذاته ، ومجرد الرؤية هي مجرد المعرفة دون حقها فضلا عن حق الإدراك ، وهكذا تعني (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) كما تفسرها (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) فلقد رآه دون إدراك بفؤاده المتفئد بنور المعرفة الممكنة لأعلى قممها حيث إنه (ص) (دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى).

ذلك ، وختاما للبحث عن الرؤية ختما لها حتما نقول ، إن المحدود أيّا كان ليس ليحيط على غير المحدود وهو الإدراك ، إلّا أن يتحول

١٩٥

المحدود إلى اللّامحدود ، أو اللّامحدود إلى المحدود ، فأي بصر يتصور لا يمكن أن يدرك الله تعالى ، لا بصرا حيث الأبصار المادية ليست لتدرك إلّا المبصرات ، فلكلّ آلة للإدراك حقله الخاص ، فكما لا يبصر بالأذن ، ولا يسمع بالبصر ، فبأحرى استحالة ألا يحسّ غير المحسوس بأية حاسة من الحواس ، ثم ولا بصيرة لمكان المحدودية.

فحين نتخطى عن إدراكه بأبصار العيون ، فأبصار البصائر أيضا عليلة كليلة عن أن تدركها لاستحالة ادراك المحدود اللّامحدود.

والقول : إن بإمكان ربنا أن يرينا نفسه بقدرته الطليقة ورحمته الواسعة؟ مردود بأن القدرة فضلا عن الرحمة لا تتعلق بالمحال ، إذ لا سبيل إلى ادراك ذاته إلّا اللّامحدودية الربانية كما الله ، وهي ليست بالتي تخلق ، حيث اللّامحدود غني الذات ، وكونه مخلوقا يخرجه عن غناه الذاتي ، والمحال ـ ولا سيما الذاتي ـ هو محال على أية حال ، وتعلق القدرة بما يخيّل إلينا أنه محال يخرجه عن الاستحالة.

ذلك ومن خطب لعلي أمير المؤمنين (ع) حول استحالة إدراكه تعالى ورؤيته : «وامتنع على عين البصيرة» (٤٩ / ١٠٦) ـ «لم يطلع العقول على تحديد صفته» (٤٩ / ١٠٦) «لا تقع الأوهام له على صفة ، ولا تعقد القلوب منه على كيفية ، ولا تناله التجزئة والتبعيض ، ولا تحيط به الأبصار والقلوب» (٨٩ / ١٦١) ـ «هو القادر الذي إذا ارتمت الأوهام لتدرك منقطع قدرته ، وحاول الفكر المبرأ من خطرات الوساوس أن يقع عليه في عميقات غيوب ملكوته ، وتولهت القلوب إليه لتجري في كيفية صفاته ، وغمضت مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصفات لتناول علم ذاته ، ردعها وهي تجوب مهاوي سدف الغيوب متخلصة إليه سبحانه ، فرجعت إذ جبهت معرفة بأنه لا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته ، ولا تخطر ببال أولي الرويات خاطرة من تقدير جلال عزته» (٨٩ / ١ / ١٦٢) «فتبارك الذي لا

١٩٦

يبلغه بعد الهمم ولا يناله حدس الفطن» (٩٢ / ١٨٥).

ف «لم تره العيون فتخبر عنك ، بل كنت قبل الواصفين من خلقك» (١٠٧ / ٢٠٨) ، و«كيف يصف إلهه من يعجز عن صفة مخلوق مثله» (١١٠ / ٢١٨) «فلسنا نعلم كنه عظمتك ، إلا أنا نعلم أنك حي قيوم ، لا تأخذك سنة ولا نوم ، لم ينته إليك نظر ولم يدركك بصر ، أدركت الأبصار ، وأحصيت الأعمال ، وأخذت بالنواصي والأقدام ، وما الذي نرى من خلقك ، ونعجب له من قدرتك ، ونصفه من عظيم سلطانك ، وما تغيب عنا منه ، وقصرت أبصارنا عنه ، وانتهت عقولنا دونه ، وحالت ستور الغيوب بيننا وبينه أعظم ، فمن فرغ قلبه ، وأعمل فكره ، ليعلم كيف أقمت عرشك ، وكيف ذرأت خلقك ، وكيف علقت في الهواء سماواتك ، وكيف مددت على مور الماء أرضك ، رجع طرفه حسيرا ، وعقله مبهورا ، وسمعه والها ، وفكره حائرا» (١٥٨ / ٢٨٠) ف «لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان» (١٧٧ / ٣٢٠).

(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ)(١٠٤) :

«بصائر» جمع بصيرة ، وعلّها هنا فاعلة مبصرة ومفعولة ، حيث الآيات القرآنية آيات ربانية مبصرة ربانيتها بنفسها ، مبصرة كلّ الحقائق التي يتوجب على المكلفين معرفتها ، وقد تعني «بصائر» كافة البصائر مهما كانت القرآنية منها أعلاها.

تلك البصائر الجائية كلّ المكلفين إلى يوم الدين : (... قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٧ : ٢٠٣) وهي شريعة من الأمر: (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها ... هذا

١٩٧

بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٤٥ : ٢٠).

«هذا» هنا إشارة ـ فيما تشير ـ إلى القرآن ككلّ ، وحدة جامعة لآياته ، و«بصائر» خبر للقرآن اعتبارا بآياته البصائر ، والرسول (ص) والذين معه حملا للمسؤولية الرسالية الإسلامية يدعو ويدعون على بصيرة هي بصيرة وحي القرآن : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(١٢ : ١٠٨).

وكما (الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) (٧٥ : ١٤) كذلك آيات الله بصائر ، فكلّ من الداعية والمدعو بصيرة ، دون أية عمى إلّا ما يختلقه الإنسان من غشاوة وغباوة.

فالقرآن ليس بحاجة للشهادة على وحيه إلى بصيرة أخرى دونه ، بل هو الشهيد بين الله وبين الناس لرسالة المرسل به : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ...) (٦ : ١٩).

اجل ، فالبصائر ليست جمع الباصرة الخاصة بالعين الظاهرة ، بل هي جمع البصيرة ، فطرية وعقلية وعلمية وحسية ، بالوحي أماهيه ، فلا عمى فيها اللهم إلّا بتعمية عليها وتجديل ، أو تنحية عنها وتحويل.

فالفطرة الإنسانية بصيرة ، وعقليته بصيرة ، وقلبه بصيرة ، وحواسه بصيرة ، والقرآن بصيرة ، ونبي القرآن بصيرة ، ودعوته بصيرة ، ومصيرته ومسيرته بصيرة ، أبواب ثمان من البصائر الربانية عدد أبواب الجنة فتحت علينا ونحن بعد عمون ، تعمية لهذه البصائر وتجاهلا عنها.

ومما يشهد لعناية البصائر كلّ بصيرة تكوينية وتشريعية «من ربكم» حيث الربوبية للمكلفين تشمل جانبي التكوين والتشريع.

ذلك ، مهما كانت البصائر الأنفسية وسائل صالحة للحصول على

١٩٨

بصائر الوحي ، حيث البصائر الوسائل ليست معصومة يكتفى بها فيما يتوجب على المكلفين من أصول وفروع ، فإنما هي حجج للحصول على تصديق الأصول ، ومن ثم الفروع التي تتبنى الأصول.

فالحجة البالغة الربانية هي بصائر الوحي رسوليا ورساليا ، والحجج الباطنة هي ذرائع بالغة للبلوغ إلى تلك الحجج البالغة.

ومن غريب الوفق التوافق العددي بين البصر والبصيرة ، فان كلّا متكررة بمختلف الصيغ (١٤٨) مرة في القرآن.

ذلك ، ومن بصائر الوحي حامله المرسل به (ص) فإن حياته ولا سيما الرسالية منها بصائر تشرق بأنوار الهدى ابتعادا عن الردى ، فإنه المنذر المبشر بالقرآن ، بصيرة معصومة بما عصم الله ، ينذر ويبشر بهذه البصائر (نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ).

فحين تفتح أبصار القلوب إلى بصائر القرآن فهنالك الإبصار التام «فمن أبصر» بالبصائر القرآنية ، فاتحا بصيرته «فلنفسه» ومن عمى عنها «فعليها» حيث أعمى على نفسه تلكم البصائر (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٢٢ : ٤٦) فليس ليظل ضالا مع هذه البصائر إلّا معطل الحواس ، مغلق المشاعر ، مطموس الضمير ، المتغافل المتجاهل كالحمير ، بل هو أضل سبيلا.

ذلك (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) من ربي لأحملكم على بصائره فتهتدون ، إنما أنا نذير بها (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها).

أجل ، فالقرآن البصائر هو مادة الهدى ، ورسول القرآن هو الداعية بها ، دون حول له ولا طول في الحمل على الهدى (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (١٦ : ٩).

١٩٩

(وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(١٠٥) :

«وكذلك» المبصر المبصر بالحجة البالغة الدامغة (نُصَرِّفُ الْآياتِ) بوحي القرآن ، وآفاقية وأنفسية ، تصريفا في تكرير البيان ، ردا من حالة إلى أخرى ، تحليقا على كلّ الأحوال المبصرة للعقول والقلوب ، إخراجا لها عن الأوحال في كلّ الأحوال.

ولأن التصريف هو تكثير الصرف : الرد من حال إلى حال ، فتصريف الآيات البصائر هو تكثير ردها إلى مختلف الأحوال المبصرة دون إبقاء لبصيرة على أية حال.

ذلك (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) هذه الآيات عن كتابات السماء عند علماءها ، أم أية تقوّلة ليست لتصارع بصائر القرآن ، فلا دور في معرض الفطر والعقول لفرية اختلاق القرآن من دون وحي ، حيث القرآن هو نفسه حجة بالغة لإثبات وحيه لأعلى قممه المرموقة وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)!.

«ولنبينه» : القرآن ، بتصريف الآيات (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) الحقّ عن الباطل ، (وَلِيَقُولُوا) لهذا الرسول حول قرآنه «درست» قولة ذاهبة في الأثير هباء لا سناد لها ، فليقولوا إذا أين درس ذلك الدرس الذي يفوق كافة دروس الوحي فضلا عن سائرها؟ هل درسه عند علماء الكتاب ، والقرآن مهيمن على وحي الكتاب ، نقضا للمدسوس فيه ، وتكميلا لما نقص ، وترميما لما تقلّص ، فكيف يكون القرآن ـ إذا ـ درسا عن سائر الكتاب بعلمائه أو سواهم ، ولأنه أعلى من كلّ كتب السماء محتدا؟ فليكن كلّ تلميذ أعلم ممن تلمذ عليه! إذا فلتكن التورات درسا عن أساطير الأولين اكتتبها موسى فهي تملى عليه بكرة وأصيلا!.

وليكن ـ كذلك ـ كلّ كتاب نابغ نابعا عما دونه من كتاب ، وهكذا

٢٠٠