الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤

أترى (الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) مؤمنون مصدقون بالحشر؟ فكيف يخافونه وهو الوعد الصادق الأمين؟.

إنهم لا يخافون أصل الحشر القاطع كأصل ، إنما يخافون حشرهم أنفسهم خوفة مما قدمته أيديهم ، ولا يعني الخوف من الله إلّا الخوف من عدله يوم الحشر اتهاما لأنفسهم بما تستحق به العقاب فقد : (يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) (٢٤ : ٣٧) (١).

(لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) يوم الحشر كما هنا (أَنْذِرْ بِهِ ... لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ولا يطغون.

ثم «أنذر به» مما يدل على واجب الإنذار الرسالي ، أنه ليس إلّا بالقرآن ، فالإنذار بغير القرآن قاحل مهما كان من الرسول ، والإنذار بالقرآن من غير أهله غير كامل.

(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٥٢) :

وترى كيف يطرد أوّل العابدين الذين يدعون ربهم .. يريدون وجهه؟ وما أرسل إلّا لدعاء ربه وعبادته! ونوح وهو أدنى منه محتدا في كلّ شيء يقول في جواب القول : (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) : (وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ. وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٦ : ١١٤) ـ (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ ... وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (١١ : ٣١).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٢٠ عن المجمع قال الصادق (ع): «انذر بالقرآن من يرجون الوصول إلى ربهم ترغبهم فيما عنده فان القرآن شافع مشفع».

٤١

لكن «لا تطرد» ليست إلّا ك «لا تشرك» ـ (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) وما أشبه.

تدليلا على أنهم أحرجوا موقفه من المؤمنين الفقراء ، فلا يعني نهيه إلّا إيّاك أعني واسمعي يا جارة ، لييأسوا عن طرده إياهم عساهم لا يطاردونه في عدم طردهم.

ذلك! وهل نزلت في أصحاب الصفة حيث كان رسول الله (ص) يتعاهدهم بنفسه فقيل فيهم ما قيل فقال الله فيهم ما قال (١)؟ والسورة كلها

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ١٣ ـ اخرج الزبير بن بكار في أخبار المدينة عن عمر بن عبد الله بن المهاجر مولى غفرة أنه قال : في أسطوانة التوبة كان اكثر نافلة النبي (ص) إليها وكان إذا صلى الصبح انصرف إليها وقد سبق إليها الضعفاء والمساكين واهل الضر وضيفان النبي (ص) والمؤلفة قلوبهم ومن لا مبيت له إلّا المسجد ، قال وقد تحلقوا حولها حلقا بعضها دون بعض فينصرف إليهم من مصلاه من الصبح فيتلو عليهم ما أنزل الله عليه من ليلته ويحدثهم ويحدثونه حتى إذا طلعت الشمس جاء أهل الطول والشرف والغنى فلم يجدوا اليه مخلصا فتاقت أنفسهم إليه وتاقت نفسه إليهم فأنزل الله (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ...) فلما نزل ذلك فيهم قالوا يا رسول الله (ص) لو طردتهم عنا ونكون نحن جلساءك وإخوانك لا نفارقك ، فأنزل الله : (وَلا تَطْرُدِ ...) إلى منتهى الآيتين.

وفي نور الثقلين ١ : ٧٢٠ روى الثعلبي بإسناده عن عبد الله بن مسعود قال : مر الملأ من قريش على رسول الله (ص) وعنده صهيب وخباب وبلال وعمار وغيرهم من ضعفاء المسلمين فقال : يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك ، أفنحن نكون تبعا لهم ؛ أهؤلاء الذين من الله عليهم ، اطردهم عنك فلعلّك إن طردتهم اتبعناك فأنزل الله : «وَلا تَطْرُدِ ..» وفيه عن تفسير القمي في الآية فانه كان سبب نزولها انه كان بالمدينة قوم فقراء مؤمنون يسمون اصحاب الصفة وكان رسول الله (ص) أمرهم أن يكونوا في صفة يأوون إليها وكان رسول الله (ص) يتعاهدهم بنفسه وربما حمل إليهم ما يأكلون وكانوا يختلفون الى رسول الله (ص) فيقربهم ويقعد معهم ويؤنسهم وكان ـ

٤٢

مكية! قد تعني روايات نزولها بحق أصحاب الصفة مجرد الجري والتطبيق كما في كثير من أسباب النزول.

ولقد عرض عمر عليه (ص) طردهم ردحا قائلا : لو فعلت يا رسول الله (ص) حتى ننظر ما يريدون بقولهم وما يصيرون إليه من أمرهم فأنزل الله (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ) ـ الى قوله تعالى ـ (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) فاعتذر عمر من مقالته(١).

__________________

ـ إذا جاء الأغنياء والمترفون من أصحابه أنكروا عليه ذلك ويقولون له : أطردهم عنك ، فجاء يوما رجل من الأنصار إلى رسول الله (ص) وعنده رجل من اصحاب الصفة قد لزق برسول الله (ص) يحدثه فقعد الأنصاري بالبعد منهما فقال له رسول الله (ص) تقدم فلم يفعل فقال له رسول الله (ص) : لعلك خفت أن يلزق فقره بك؟ فقال الأنصاري أطرد هؤلاء عنك فأنزل الله : «ولا تطرد ..» أقول : لأن الأنعام كلها مكية فليس نزول بعض آياتها بما حصل في المدينة إلّا تطبيقا وجريا ، أو أنها نزلت مرتين.

وفيه عن تفسير العياشي عن الأصبغ بن نباتة قال : بينما علي (ع) يخطب يوم الجمعة على المنبر فجاء الأشعث بن قيس يتخطا رقاب الناس فقال يا أمير المؤمنين حالت الحدا بيني وبين وجهك قال فقال علي (ع) : مالي وللضياطرة ـ العظيم من الرجال لا غناء عندهم ـ أطرد قوما غدوا أول النهار يطلبون رزق الله وآخر النهار ذكروا الله فأطردهم فأكون من الظالمين»؟.

(١) الدر المنثور ٣ : ١٣ أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال : مشى عتبة بن ربيعة وقرظة بن عبد عمر بن نوفل والحارث بن عامر بن نوفل ومطعم بن عدي بن الخيار بن نوفل في اشراف الكفار من عبد مناف إلى أبي طالب فقالوا : لو ان ابن أخيك طرد عنا هؤلاء الأعبد فإنهم عبيدنا وعسفاؤنا كان أعظم له في صدورنا وأطوع له عندنا وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقه فذكر ذلك أبو طالب للنبي (ص) فقال عمر بن الخطاب : لو فعلت ... «فلما نزلت اقبل عمر بن الخطاب فاعتذر من مقالته ...».

٤٣

أجل «لا تطرد ..» بل (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ، وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ...) (١٨ : ٢٩) ، ولم يخلد قط بخلده المبارك أن يطردهم والرواية المفترية عليه هي مطرودة (١).

ذلك ولا نجد في سائر القرآن (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) إلّا في هاتين فما هي إرادة وجه الله؟.

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ١٣ عن خباب قال جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فوجد النبي (ص) قاعدا مع بلال وصهيب وعمار وخباب في أناس ضعفاء من المؤمنين فلما رأوهم حوله حقروهم فاتوه فخلوا به فقالوا : انا نحب أن تجعل لك منا مجلسا تعرف لنا العرب به فضلنا فان وفود العرب ستأتيك فنستحي أن ترانا العرب قعودا مع هؤلاء الأعبد إذا نحن جئناك فأقمهم عنا فإذا نحن فرغنا فلتقعد معهم إن شئت ، قال : نعم قالوا فاكتب لنا عليك بذلك كتابا فدعا بالصحيفة ودعا عليا ليكتب ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبرئيل بهذه الآية : «ولا تطرد ...».

وفيه في نقل سعد بن أبي وقاص فوقع في نفس النبي (ص) ما شاء الله أن يقع فانزل الله» وليت شعري كيف يشاء الله في نفس النبي ما هو ينهاه عنه.

فكيف يفترى على رسول الهدى انه مال إلى بغية المشركين وامر عليا أن يكتب بها ميثاقا و (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) ـ (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ)!.

أذلك جبر لكسر الشيخين ، فان عمر تطلب سؤلهم من رسول الله (ص) فنزلت الآية ، وأبو بكر وقرهم في عيون المؤمنين كما في صحيح مسلم عن عائذ ابن عمران أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال ونفر فقالوا : والله ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها ، قال : فقال أبو بكر : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم فأتى النبي (ص) فأخبره فقال : يا أبا بكر لعلك أغضبتهم لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك ، فأتاهم ابو بكر فقال : يا إخوتاه اغضبتكم؟ قالوا : لا ـ يغفر الله لك يا أخي ...

٤٤

قد تعني «وجهه» أدبيا كلا الإضافتين : إلى الفاعل وإلى المفعول ، أنهم «يريدون» أن يتجه إليهم ربهم بخاصة رحمته ، كما يتجهون إليه بخاصة عبوديته.

ذلك وكما يتجهون إلى الله معرفيا بعبوديته وعبوديا بمعرفته ، وبهما إلى رضوانه ، لكي يتجه إليهم الله أن يقربهم إليه زلفى بما يتقربون ، ويغربهم عما سواه كما يتغربون.

«لا تطرد ..» حيث يدعون ربهم بالغداة والعشي ، أوقات الصلوات المفروضات ، أم ليل نهار على طول الخط (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ).

(ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ) أولاء المؤمنين «من شيء» ـ (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ) (٢٦ : ١١٣) ـ (وَما مِنْ حِسابِكَ) أنت الرسول (عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) فلا محاسبة بينك وبينهم لو كانت أعمالهم منافقة حتى تطردهم وهم في مظاهر الإيمان الصالح.

إنه لا محاسبة في البين حتى تطردهم بحسابها لو أنهم غير صالحين وهم من أصلح الصالحين.

ذلك! فهلّا يجوز طرد المنافقين إذ (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)؟ وطردهم مع سائر المعاندين هو من قضايا الإيمان كما أن لصقهم من رزايا الإيمان!.

هنا محطّ التنديد هم (الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) فالضابطة الرسالية تحكم بلصقهم وعدم طردهم ولا سيما تطلّبا من أولئك المتبخترين ، مؤمنين كانوا أم غير مؤمنين.

فما دامت مظاهر الإيمان فيهم لائحة ، فلا دور لطردهم بطلب وغير طلب ، اللهم إلّا بما غاب عنك من استحقاقهم لطردهم وأنت تتهمهم ، فهنا (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ

٤٥

تَشْعُرُونَ) فلو كانوا من المطرودين لكان الله هو الذي يأمر أو يسمح بطردهم وهو ينهاك عن طردهم ويأمرك بالصبر معهم!.

هكذا ينهى الرسول (ص) عن طردهم أولاء ويؤمر بتقريبهم إليه رغم هؤلاء ، إنذارا به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم دون هؤلاء الناكرين الحشر إلى ربهم مهما كانت الدعوة عامة ، ولكن للسابقين إلى قبولها الدور الأصيل دون أي بديل عنهم إلى من يتعنّتون ، بلا دليل ، ولا سيما هؤلاء الذين يفرقون بين الفقراء والأغنياء وهم أغبياء ، يريدون ليحملوا رسول الهدى على مثل ذلك التمييز البغيض البعيد عن صلب الدعوة.

أجل ، وإن في تقديم هؤلاء المترذّلين لفقراء المؤمنين ، في تقديمهم عليهم تفضيل المفضول على الفاضل وذلك يناحر صميم الدعوة الرسالية.

لقد تقول أولئك الكبراء بكلّ تعنّت وكبرياء على هؤلاء الضعاف الفقراء الذين كان يخصهم رسول الهدى (ص) بمجلسه وقربه فطعنوا فيهم وعابوا ما بهم من فقر ، وان وجودهم في مجلسه (ص) ـ وبذلك التقريب الغريب ـ يسبب نفور هؤلاء السادة وعدم إقبالهم إلى الإسلام ، فقضى الله عليهم بما قضى (وَأَنْذِرْ ... وَلا تَطْرُدِ ..).

(ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ) بفقرهم وضعفهم «من شيء» (وَما مِنْ حِسابِكَ) وأنت نبي أم لو كنت غنيا (عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) فلا دخل لهذه القيم الزائفة في محطة الإيمان ، وبل والغنى والكبرياء منحطان عن الإيمان.

«لا تطردهم ..» فلينفر النافرون المستكبرون القائلون (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) كيف بالإمكان أن يختص الله من بيننا بالخير والمكانة المرموقة عند الرسول هؤلاء الضعاف الفقراء الذين كانوا بالأمس خدامنا ، فلو كان خيرا ما سبقونا إليه ، فإننا نحن المختارون للخير أبدا ، وكانت هذه فتنتهم ، وبليتهم :

٤٦

(وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (٥٣) :

«وكذلك» الشديد البلاء ، العظيم الابتلاء (فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) حيث فتن الكفار الأغنياء بالمؤمنين الفقراء ، ومن الغاية الصالحة لهذه الفتنة الربانية «ليقولوا» هؤلاء الكافرون «أهؤلاء» الفقراء الضعفاء المؤمنون (مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ) بالإيمان والكرامة «من بيننا»؟ ونحن أحق منهم بكلّ كرامة ، وهم أحق منا بكلّ عرامة ، أم ولا أقل من التسوية بيننا وبينهم!.

والجواب الحاسم : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) وهم الفقراء السابقون إلى الايمان ، فالممنون عليه من الله ليس منّه فوضى جزاف ، إنما هو شكره نعمة الرسالة وهم كافرون.

فالفتنة في أصلها هي فتنة الذهب الخليط بالنار لاستخراج الخليص ، وهذه غاية صالحة تربوية تمحيصا وتخليصا بما يسعى (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

وهنا في شأن النزول فتنة ثلاثية حيث فتن الرسول (ص) بها وفتن كلّ بالآخر ، وكان الساقط في هذه الفتنة هم الأشراف ، ومن مقالهم للرسول (ص) : «نؤمن لك فإذا صلينا معك فأخر هؤلاء الذين معك فليصلوا خلفنا» (١).

وترى «ليقولوا» هي غاية مقصودة لربنا في هذه الفتنة الشاغرة المائرة؟ إنها مقصودة بجنب كونها اعتيادية للمفتونين بطبيعة حال الفتنة ، فقد يريد الله بما يفتن عباده ليعلم صالح الإيمان من طالحه المدعى علما ،

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ١٤ عن ابن عباس في الآية قال : هم أناس كانوا مع النبي (ص) من الفقراء فقال أناس من أشراف الناس : نؤمن ..

٤٧

ولكي يعرف الناس أقدارهم أنفسهم ويعرفوا بها ، وحياة التكليف كلها فتنة.

ذلك! وفي فتنة بين الفقراء والأغنياء نرى الأكثرية الساحقة من السقوط بين الأغنياء المترفين ، مهما يسقط من الفقراء من يبهرهم باهر الظاهر من زخرفة الحياة الدنيا.

ذلك مهما كان كلّ من الفقر والغنى فتنة لكلّ من الفقراء والأغنياء : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ. كَلَّا ..) (٨٩ : ١٧) فإنها فتنة وأفتنها فتنة الكرامة والنعمة حيث يسقط فيها خلق كثير ، ثم الفقر المدقع ، ومن ثم حالة العوان بينهما فانها أيسر الفتن.

والحكمة التربوية الربانية تقتضي الاختلاف بين العطيات والقابليات ليخلص في هذا البين خالص ، ويفلس فالس كالس ، إتماما للبلية الربانية بعد ابتلاءهم بسائر التكاليف والمسؤوليات الفردية والجماعية.

ولقد بقي في هذه الفتنة فقراء الجيوب أغنياء القلوب عند رسول الله (ص) ونفر نفر من المستكبرين الأغنياء الأغبياء ، المستنكفين عن الإيمان يقولون : «أهؤلاء» السقاط من الناس البائسين الكالسين (مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) بنعمة الإيمان وكرامته ونحن أحق بها منهم ، قولة هازئة لا تحمل واقعا من الاهتمام بالإيمان ، ولو كان لما كان من قضايا الايمان ، فإن فضل الإيمان لا يعرف تقديما بسائر الفضل ، بل هي رذل أمام فضل الإيمان.

كما وأن من مقالهم البئيس اليئيس (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) (٤٦ : ١١).

وهنا يرد عليهم بما يحفل ويحمل إيحاءات وإيماءات بصيغة استفهام

٤٨

الإنكار : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) فهو يهديهم إلى إيمان ، وبإيمانهم إلى مزيد وكرامة ، فنعمة الإيمان وكرامته لا تتعلقان بقيم الأرض الزائفة السائدة في الجاهليات ، فانما يختص الله بها من يفحص عنها ويسعى لها ويشكرها مهما كانوا من الموالي الضعاف الفقراء ، ولا يهدي لها الكبراء الرّعناء المتأنفون الذين اثّاقلوا إلى الأرض ورضوا بالحياة الدنيا من الآخرة.

ذلك! وهكذا يستمر التوجيه الرباني لرسول الإسلام والسلام ، أن يصبر نفسه مع المؤمنين بادئا لهم بالسلام :

(وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥٤) :

هنا (يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا) دون «آمنوا» دليل على حالة الإيمان قبل واقعه ، تحرّيا عن صالح الإيمان ، فهم مهما كانوا قبل إيمانهم في شك منه ولكنه شك مقدس لأنهم على وشك منه ، فيحق لهم استقبال رسول الإيمان ب (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) إخبارا وإنشاء ، دعاء لسلامهم عن الشك إلى الإيقان ، وإخبارا بأنه ليس لهم في ذلك المجيء إلّا «سلام».

(فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) ثم قل (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) ومصبّها المكتوب عليه بما كتب : (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ) دون إصرار وعناد (ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ) نفسه وأصلح من أفسده وما أفسده (فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٢٢ عن تفسير العياشي عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (ع) قال : رحم الله عبدا تاب إلى الله قبل الموت فان التوبة مطهرة من دنس الخطيئة ومنقذة من شقاء الهلكة فرض الله بها على نفسه لعباده الصالحين فقال : كتب ربكم ـ

٤٩

وترى «من بعده» تعني عاجله وكما (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) (٤ : ١٧) وقد تقرّب شريطة قربه «من بعده»؟.

ولكن «ثم» المراخية لمدخولها تحوّل «من بعده» إلى الآجل مع العاجل حتى الموت.

ولكن «إنما» في آية النساء تحصر واجب التوبة على الله بالتوبة القريبة!.

ولأن النساء مدنية وهذه مكية فقد تكون دائرة التوبة المقبولة ـ قطعا ـ فيها أضيق منها في مكة ، وتلك السعة المكية هي قضية سماحة الدعوة في بواديها وكما السماحة في الخطوة الخطوة للحقول الأحكامية واجبة ومحرمة.

ذلك ، ولكن مصب هذه الآية هو (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا) ولمّا يؤمنوا ، فالمفروض فيهم «ثم» إذ قد تسبق لهم سابقة الكفر المديد ، والضابطة الثابتة فيهم : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) (٨ : ٨) (١).

__________________

ـ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً).

وفيه عن المجمع روي عن أبي عبد الله (ع) أنها نزلت في التائبين ، أقول : علّهم التائبون عن الكفر ، حيث التائبون عن العصيان حالة الايمان انما التوبة لهم على الله إذا تابوا من قريب.

وفي تفسير البرهان ١ : ٥٢٧ عن زرارة عن أبي جعفر عليهما السلام قال : إذا بلغت النفس هذه ـ وأهوى بيده إلى حلقه ـ لم يكن للعالم توبة وكان للجاهل توبة.

(١) الدر المنثور ٣ : ١٤ عن هامان قال أتى قوم إلى النبي (ص) فقالوا : إنا أصبنا ذنوبا عظاما ، فما رد عليهم شيئا فانصرفوا فأنزل الله (وَإِذا جاءَكَ ...) فدعاهم فقرأها عليهم.

٥٠

فسواء أكان ذلك الإيمان في العهد المكي أو المدني أم بعد ذلك وإلى يوم الدين ، فهذه الضابطة الجاذبة إلى كتلة الايمان واردة بحق الذين يؤمنون.

فأما إذا آمنوا ف : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) (٤ : ١٧) وأما التائبون من غريب فهم مرجون لأمر الله ، سواء في العهدين أم سواهما.

وحين يبدأ النبي (ص) (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا) ب (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) فما ترى ـ إذا ـ سلامه للذين آمنوا؟ لقد «كانوا إذا دخلوا على النبي (ص) بدأهم فقال : سلام عليكم ، وإذا لقيهم فكذلك أيضا» (١).

وقد تعم (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) من آمن من قبل ومن يؤمن فإنهما مشتركان في حالة الإيمان وهالته ، فقد «كان النبي (ص) إذا رآهم ـ أهل الصفة ـ بدأهم بالسلام ويقول : الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأه بالسلام» (٢).

إذا ف (ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ) تعني كلا التائب عن الكفر أو الفسق مهما اختلفا في واجب قبول توبتهم على الله إطلاقا كما في الأولين ، أو اختصاصه بتوبتهم من قريب كما في الآخرين.

فاختصاص الآية بالمؤمنين هو خلاف الظاهر من (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) وخلاف النص في آية النساء : (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) وليس في آيتنا إلّا (ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ) الشامل للقريب والغريب!.

__________________

(١) المصدر اخرج ابن المنذر عن ابن جريح قال : أخبرت ان قوله (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) قال : كانوا ...

(٢) تفسير الفخر الرازي ١٣ : ٣ قال عكرمة كان النبي (ص) : ...

٥١

(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (٥٥) :

«كذلك» البعيدة المدى ، العميقة الهدى ، الطويلة الصدى (نُفَصِّلُ الْآياتِ) التربوية ، فإنها نقلة من جحيم الحياة الجاهلية إلى جنة الحياة الانسانية السامية ، فليست مجرد مبادئ وقيم ونظريات جافة قاحلة لا تعدوا حدودها إلى الواقع ، وإنما تمثل خطوات واسعة ونقلات شاسعة وضيئة على آفاق الإنسانية ، تحققت في الحياة المشرقة الرسولية ، والله يريدها للحياة الرسالية على طول خطوطها وخيوطها ، خانقة كلّ النعرات والشعارات القومية والجنسية والطبقية والطائفية والإقليمية أماهيه ، رافعة للإنسانية من السفح الساحق إلى الرفع السامق.

ذلك ومع الأنسى نرى في الحضارة الراقية تراجعا إلى رجعية الجاهلية وأنحس منها ، نرى عصبيات الجنس واللون وما أشبه لا تقل نتنا عنها أم وتزيد ، (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)! كما تستبين سبيل المؤمنين ، حيث الواو عطف على محذوف معروف هو سبيل المؤمنين ، فانها الغاية القصوى من تفصيل الآيات.

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (٥٦) :

هنا نتلمّح أن المشركين تخطّوا من خطوتهم وخطتهم اللئيمة في طرد المؤمنين ، أن يعبد الرسول معهم آلهتهم التي ألهتهم حتى يعبدوا الله معه ، شركة متساهمة متسالمة في العبودية ، فأمر أن يعلن (إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) مهما عبدتم الله بديلها ، وبصورة جامعة : (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ) ومنها أن أطرد فقراء المؤمنين (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً) في ذلك الإتباع الغاوي الخاوي (وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) فكيف أحمل لواء الهدى؟!.

٥٢

(قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) (٥٧) :

(عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) هي قرآن محمد ومحمد القرآن ، فإنهما صنوان تحكمهما آية ربانية واحدة «و» الحال أنكم «كذبتم به» بربي في بيّنته ، فإن تكذيب محمد البيّنة وتكذيب القرآن البيّنة تكذيب للرب المرسل ، بيّنة ببيّنة ، أم كذبتم بأصل البيّنة وهو القرآن ، والجمع أجمل كما هو أكمل ، فلو كان القصد إلى «بيّنة» لكان صحيح الضمير «بها».

(ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) من آية عاجلة أم عذاب عاجل «إن الحكم» فيهما وسواهما من حكم رباني «إلّا الله» حيث (يَقُصُّ الْحَقَّ) اتباعا لأثره بعد قصّه عن الباطل وفصله (وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) هنا بين الحق والباطل ، وهناك يوم الدين بين أهل الحق وأهل الباطل.

لفتة إلى الحكم والحق :

والحكم الصالح هو الجمع الصالح بين الفصائل قلّت أم كثرت ، من حكمة الدابة التي تربطها عن الانزلاق والانحياق ، وكذلك حكم الله في التكوين والتشريع وفي أي حقل من حقوله في الأولى والأخرى حيث (لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

وكما الله هو الحاكم في التشريع ككلّ ، كذلك هو الحاكم في الأقضية الخاصة بين المتخاصمين.

و (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) تحصر الحكم بين الخلق بأسره في الله ، وطليق «الحكم» يعم مثلثه تكوينا وتشريعا وشرعة في الحكم الزمني والروحي وهما في الحق واحد ، فإن شرعة الله تحمل كلّ ألوان الحكم بين الخلق.

والحكم المتحلل عن حكم الله ليس إلّا حكم الجاهلية مهما كان

٥٣

دركات ، كما أن حكم الله فيمن يحمله درجات : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٥ : ٥٠).

ومهما كان الحكم بزواياه الثلاث لله ، ولكن الزاوية الثالثة : الشرعة ـ يحملها أهل الله بحكم الله : (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) (٦ : ٨٩) وهذا هو محط الاستدعاء لمن يحق له : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (٢٦ : ٨٣).

وليس تحكيم الرسل بإذنه إشراكا في حكمه حتى ينافي : (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) (١٨ : ٢٦) ، حيث الرسول الذي يحمل حكم الله ويحكم بإذن الله ليس مشاركا لله في حكمه إلّا أن يستقل بعضا ما في حكمه أو يستغل ، والحاكم بإذن الله بعيد عن أي استقلال أو استغلال.

ثم الحق الذي يقصه الله ليس إلّا ما أحقه هو لا سواه ، فالحق بالنسبة لمن سوى الله هو ما وافق الحق لأنه ليس نفسه ، وهو لله ليس إلّا نفسه ذاتيا وفعله ، فالله ذاته حق وصفاته حق وأفعاله حق ، وإرادته حق وعلمه حق ، فكلما وافق حقه فهو الحق ، وكلما خالفه فهو الباطل ، وهذا هو توحيد الحق.

ذلك! ولكنه ليس ليقص ذاته أو صفات ذاته لخلقه ، إنما يقص ما بالإمكان أن يعرفه الخلق أو يعمله من فعله ومشيئته.

فليس (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) (٢ : ١١٩) وما أشبه ، يعني إرسالا بما يوافق الواقع المتحلل عن صفات الله وأفعاله ، بل هو الحق المرسل به من نفسه المقدسة كما يراه صالحا ، ف (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (٢ : ١٤٧).

فأمثال قوله تعالى : (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) (٢١ : ١١٢) لا تعني إلّا

٥٤

الحكم بما عنده وكله حق ، لا الحكم بما هو حق عندنا كواقع متحلّل عن الخالق والخلق.

ثم الحق منه مخلوق كحق التكوين والتشريع المتبنّيين رحمانيته ورحيميته ، ومنه حق غير مخلوق كذاته القدسية وصفات ذاته ، فكما الحق الخالق هو ذاته ، كذلك الحق المخلوق ليس إلّا منه وهو فعله.

فالحق كونيا هو ما وافق تكوينه ، والحق شرعيا هو الموافق تشريعه ، والحق إراديا هو ما وافق إرادته ، وكذلك سائر الحق إلى سائر ما له من الحق.

فالله تعالى هو الحق وهو الحاكم بالحق وليس محكوما به وكأن الحق حقيقة خارجية متحللة عن كلا الخالق والمخلوق ، فكما الخلق يحكمهم الحق كذلك الله ، وعوذا بالله ، ويكأن الحق إله من دون الله يتحكم على الله كما يتحكم على خلقه.

ذلك ، فلا علينا ولا لنا حين نتحرى عن الحق إلّا التحري عن فعل الرب ومرضاته ، لنتابع في حياتنا وحيوياتنا حقّه الطليق عن أي باطل.

ولأن الحق الطليق هو الحسن الطليق وسواه هو الباطل القبيح السحيق ، إذا فكلّ ما هو صادر عن الحق هو حق طليق إلّا أن نمزجه نحن بباطلنا أو نحوّله إلى باطل من عندنا.

وهذا لا يعني إمكانية الظلم والباطل من الله وأنهما منه حق لو حصلا ، حيث الإمكانية الواقعية لهما بعيدة كلّ البعد عن ساحة مشيئته ومرضاته ، فلا يفعل إلّا صالحا يناسب ساحة ربوبيته العادلة الكريمة.

فمن ينسب ظلما إلى الله ، مبررا إياه أنه بالنسبة له حق وعدل ، إنما ينسب اليه المستحيل عليه بربوبيته ، وإن لم يكن مستحيلا عليه ذاتيا فلا يقدر عليه.

٥٥

ولأنه حق في كلّ أفعاله وحسن فيها محسن ، لذلك (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٢١ : ٢٣) (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ) (٢٨ : ٧٠) (وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) (١٣ : ٤١) : (فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (١٠ : ٣٢) و (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) (١٣ : ١٤).

وفي رجعة أخرى إلى الحق نقول إنه اثنان : حق طليق يخص بالله تعالى شأنه ، وحق غير طليق وهو لأهل الحق من خلقه شرعة وإيمانا ، ولجميع خلقه تكوينا فإنهم كخلق الله حق خلقوا بحق : (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ).

وهنا (يَقُصُّ الْحَقَّ) يعمهما ، فهو يقص حق ذاته وصفاته وأفعاله وتشريعاته عمن سواه ، كما يقصها عن باطل كلّ المنسوب به إياه ، ويقص رسله عن المدعين رسالته كذبا ، وأحكامه عن سائر الأحكام المنسوبة إليه.

إذا فقصّ الحق يخصه دون سواه تكوينا وتشريعا وشرعة ، وما الرسل إلّا حملة شرعته دون تشريع أو تكوين.

ثم «يقص» طليقة عن ظرف ك «عن» وما أشبه ، تعم قصّ الحق في نفسه وقصّه عما سواه ، فله القصص الحق كأصل لا سواه.

(قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ)(٥٨) :

«ما عندي» هناك سلبت عنه عندية أيّة آية طليقة عن الإحالة ،

٥٦

و«لو» هنا تحيلها بصورة طليقة كما سلبت في (لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ ...).

ف (لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) ثم أنا عجلت به من إتيان آيات مقترحة ليصبح الحق ـ كما تزعمون ـ واضحا وضح النهار ، أم آية مستعجل العذاب (لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) وهو أمر الرسالة حين يستأصل المرسل إليهم بعذاب أم ببالغ الحجة التي ليس بعدها إمهال (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) فيما يقترحون متعنّتين ، فليس من الصالح لهم ولا للحق المرام أن يصغي إليهم فيما يتطلبون.

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ)(٥٩) :

«مفاتح» وهي جمع مفتح وهو الباب ، تأتي في ثلاث ثانيتها (أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) (٢٤ : ٦١) والثالثة (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) (٢٨ : ٧٦).

فلا تعني (مَفاتِحُ الْغَيْبِ) مفاتيحه حيث المفاتح جمع مفتح وهو الباب أو الخزينة نفسها ، والمفاتيح جمع مفتاح ، وأين مفتح من مفتاح ، لا سيما وأن الله الذي لا يغلق عليه شيء لا تصح له (عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) فهي خزائن الغيب ف (إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (١٥ : ٢١).

وهنا «عنده» ظرفا مقدما يفيد الحصر ، ثم (لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) حصر في علمه به ، كما و«الغيب» كأصل ، هذه دلالات ثلاث على ذلك الإختصاص.

فلو كانت (مَفاتِحُ الْغَيْبِ) عند غيره وإن توكيلا أو تخويلا لم تصح

٥٧

«عنده» ولو يعلمها غيره وإن بتعليمه إياه لم تصح (لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) حيث إن علم الغيب بأسره مسلوب عمن سواه ذاتيا وعرضيا ، كما وأن (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) سلبتهما عمن سواه بدليل (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) ولا يفرق في استكثار الخير ذاتي العلم عن عرضيه.

ولأن «عنده» تعم عندية العلم والقدرة القيومية لمكان (مَفاتِحُ الْغَيْبِ) وهي خزائنه ، ف (لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) بيان لأحد شقي العندية ، ولكن يعرف منها وبأحرى اختصاص عندية القدرة ـ أيضا ـ به كما العلم ، حيث الجاهل بالخزائن هو ـ بأحرى ـ عاجز عنها.

ثم (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) ثالثة ورابعة في حقل الدلالة على ذلك الإختصاص ، ومن ثم الخامسة المحلقة على كلّ غيب : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ).

وترى إذ تختص مفاتح الغيب به تعالى ، كذلك المفاتيح لا يعلمها غير الله؟ طبعا لا ، حيث العالم والقادر بمفاتح الغيب عالم وقادر بمفاتحه مهما كان بمقدمة المفاتيح ، ف (عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) تسلب عن غيره مفاتيحه إلى مفاتحه.

ثم «الغيب» هو الغيب المطلق المتأبّي عن الظهور لغير الله ، لا مطلق الغيب الذي قد يظهر لمن سوى الله بوحي وسواه من محاولات خارقة العادة وسواها.

ف (لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) سلبية طليقة للعلم بهذه المفاتح ، بأية صورة من صورها ، ذاتية أو بتعلمها ، إلّا لله الذي يعلمها بذاته (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ١٥ عن ابن عمران رسول الله (ص) قال : مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلّا الله ، لا يعلم ما في غد إلّا الله ولا يعلم متى تغيض الأرحام إلّا الله ولا ـ

٥٨

ولأن (ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) ـ والكون لا يخلو عن أحدهما ـ فإنهما يشملان إلى بر الأرض وبحرها سائر البراري والبحور ـ لأنه يعم الظاهر إلى الغيب المطلق ، فلكي يبين علمه المحيط بكلّ شيء الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ثنّى (مَفاتِحُ الْغَيْبِ) بطليق العلم : (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) مجاهل البر وغيابات البحر.

ولكي نعلم أنه لا سقطة في ذلك العلم المحيط أبدا ثلّثه ب (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) وقد تعني «من ورقة» كافة الأوراق مادية كورق الشجرة وورق النطفة وورق كلّ وليد انساني أو حيواني أما ذا من ورقة هي فرع من أية شجرية.

ثم وفي تبيين رابع (وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ) أرض الأرض ككلّ

__________________

ـ يعلم متى يأتي المطر إلّا الله ولا تدري نفس بأي ارض تموت إلّا الله ولا يعلم احد متى تقوم الساعة إلّا الله».

أقول : للنظر في هذا الحديث مجالات عدة منها «مفاتيح» بدل «مفاتح» خلافا لنص الآية ، ومنها أنه اقتباس ومتابعة لآية لقمان (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(٣٤) وآية الرعد (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) (٨).

وليس لا يعلم من (ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) و (ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) إلّا نفس ما تغيض وتحمل دون «متى تغيض الأرحام» ، كما (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) اختصاص للقدرة على تنزيل الغيث به تعالى دون علمه «متى يأتي المطر».

ومن ثم لا تختص مفاتح الغيب بهذه الأربع المذكورة في آية لقمان ، مهما كانت منها أو من أهمها كعلم الساعة!.

ذلك وان تفسير «ورقة» بالسقط والحبة بالولد وظلمات الأرض بظلمات الأرحام والرطب بما يحيى من الناس واليابس بما يقبض ، كلّ ذلك من التأويلات رواها من روى عن الإمامين الصادق والكاظم عليهما السلام.

٥٩

وأراضي الأرحام وما أشبه من ظرف لغائب الحبوب ، ومن ثم خامس يحلق على كلّ شيء : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) وذلك الختام بمناسبة البداية والعوان بينهما هو كتاب علم الله ، فإنه «مبين» ـ ما يصلح للكينونة ـ كونه ، وما يصلح لبيانه بيانه في أيّ من حقول التكوين والتبيين : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (١٠ : ٦١) وهو اللوح المحفوظ ، وهو الكتاب الحفيظ ، وهو الإمام المبين : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) (٣٦ : ١٢).

أترى كلّ هذه الخمسة مغلقة على غير الله تعالى؟ والعلم بظاهر مما في الأرض والسماء مما يعلمها غير الله ضروريا أو نظريا ، كما وأن للمطهرين مسّ لما في كتاب مكنون!.

هذه الخمس مشتركة في اختصاصها بالله في خاصة علمه الحقيقي الذاتي ، ومختلفة في طليق العلم بها ، فمنها ما لا يعلّمها الله سواه كما لا يعلمها سواه وهي الأولى (مَفاتِحُ الْغَيْبِ) ومنها ما يعلمها المصطفين من عباده ، المرسلين ، وهم حملة غيب الوحي ، المعنيون في (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (٥٦ : ٧٩) و (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) (٧٢ : ٢٧) ، ولكن ليس ممّا يعلّمه إياهم سقوط كلّ ورقة وكلّ حبة في ظلمات الأرض وكلّ رطب ويابس ، إذ لا تمت بصلة لرسالاتهم ، إلّا غيب الوحي رسوليّا ورساليا ، وكما اختص (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) ب (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً. لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ ...).

وقد تشير «مفاتح» بدلا عن «خزائن» أنه الذي يفتح من الغيب كما يرى لأنبيائه وملائكته وسائر أهل خاصته من خلقه ، فكلّ ما يتوصل به إلى فتح المبهم وبيان المستعجم يعبر عنه بالمفتح : مكان الفتح وطريقته.

ولكن هذا المعنى هو ضمن المعني من (مَفاتِحُ الْغَيْبِ) حيث يتطلب

٦٠