الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤

فيتردون في الردى فهم (فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

فلا يعني تقليب قلوبهم وأبصارهم إزالتها عن مواضعها وإقلاعها عن مناصبها ، والبنية حية صحيحة متصرفة ، وإنما يعني رميها بالحيرة والمتاهة جزاء على الكفر والضلالة فتصبح الأفئدة مسترجعة لتعاظم أسباب المخاوف ، والأبصار منزعجة لتوقع طلوع المكاره في الأولى ، وتقليبها على قراميص الجمر في النار في الأخرى.

وهنا «أوّل مرة» هو المرة الأولى من مجيئهم آيات بينات ، وهي القرآن العظيم لهؤلاء ، وسائر الآيات قبل القرآن لمن عاشوها زمن سائر الرسالات.

فكما أن آباءهم أولاء لم يؤمنوا بالآيات المبصرة المبصرة من ذي قبل ، وهم أنفسهم لم يؤمنوا بالقرآن الذي هو أم الآيات ، لذلك (نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ ..).

ولئن سأل سائل أن لو آمنوا بآيات مقترحة فلما ذا إذا تقليب قلوبهم وأبصارهم حتى لا يؤمنوا؟.

والجواب أن ذلك ـ لو كان ـ فهو من قاحل الإيمان ، رفضا للإيمان بآيات يرضاها الله ، وإقبالا إلى آيات يشتهونها ، وهكذا إيمان مهما حمل لفظه فهو حامل في الحق رفضه ، فلذلك «نقلب».

وكيف لا وهم القوّالون «درست» اندراسا لأفضل آية رسالية وأكملها ، وكيف يجتمع الإيمان بالله بآية مقترحة والكفر بآية حقة ربانية تدل دلالة قاطعة؟.

__________________

أقول : الميثاق حيث يعني الميثاق الفطري والعقلي وما أشبه فمعلوم ، وأما الذر فان كان هو الميثاق الفطري وإلّا فلا تكليف في عالم قبل الخلق حتى يكون هنالك ايمان وكفر.

٢٢١

وسؤال ثان : هب إنهم لا يؤمنون ، أولا تزيدهم حجة فلجّة زائدة بكفرهم المزيد؟.

أجل ، ولكنما حاذر العذاب الموعود للمكذبين إذا حاضر حيث (كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) (٨ : ٥٤) فما ذا يفيد ـ إذا ـ حجة بعد الحجة؟ وحتى لو آمنوا لا ينفع ـ إذا ـ نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ، ف (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (٦ : ١٥٨) (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) (١٧ : ٥٩) (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) (٧ : ٦٤) (وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) (٧ : ٧٢).

وإنما تقدم تقليب الأفئدة على تقليب الأبصار ، لأن الأفئدة هي المحاور للأبصار وسائر الإدراكات وكما في الخبر «القلوب أئمة العقول والعقول أئمة الأفكار والأفكار أئمة الحواس والحواس أئمة الأعضاء».

ثم و (كَما لَمْ يُؤْمِنُوا) قد تتحمل إلى وجه الجزاء ـ كما بيناه ـ وجه التشبيه ، فكما لم يؤمنوا أوّل مرة فقلبنا افئدتهم وأبصارهم ، كذلك نقلبها مرة أخرى إذ لا يؤمنون.

(وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ) على الحق «يعمهون» حيث لا نوفقهم لمعرفة الحق بعد إذ أنكروه عاندين ، فيا ويلاه لمن وكله الله إلى نفسه حتى إن كان مؤمنا فضلا عن أمثال هؤلاء المكذبين.

ثم وتأكيدا لكذبهم في دعوى الإيمان شرط أن تأتيهم آية أخرى كما يشتهون :

٢٢٢

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ)(١١١) :

هنا جمع لجماع الآيات الممكنة في ذواتها أن تأتيهم في مثلث نزول الملائكة وتكليم الموتى وحشر كلّ شيء عليهم قبلا ، أنهم (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) اللهم (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) حملا لهم على إيمان ، ولكنه خلاف حكمة الابتلاء ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) تجاهلا عن ذلك الواقع المرير الشرير ، فأقلهم يعلمون أنهم سوف لا يؤمنون.

ف «لو أننا ...» تشعر هؤلاء المسلمين (أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) كما ويشعر هؤلاء المشركين بما هم يجهلون ويتجاهلون ، مزيدا لايمان المؤمنين ، وحجة على الكافرين ، فهم ـ أكثرهم ـ يجهلون الحق وآيات الحق ودلالاتها على الحق ، ظلمات بعضها فوق بعض.

وهنا «حشرنا ...» غير الداخلة في مقترحاتهم تضاف إليها مزيدا لما يقترحون ، لمزيد الإشعار أنهم لا يؤمنون ، فهي ـ إذا ـ حجة بالغة تحلّق على ما يمكن اقتراحه من الآيات ، ولم يذكر من اقتراحاتهم المستحيلة كإتيان الرب نفسه ، إذ هو خارج عن حيطة الإمكان ، فكيف بالإمكان أن يحتج بواقع له على واقع اللاإيمان عنده ، وقد نزلت الآية بشأن مختلف اقتراحاتهم المتخلّفة (١)!.

__________________

(١) في تفسير الفخر الرازي ١٣ : ١٤٩ قال ابن عباس : المستهزئون بالقرآن كانوا خمسة : الوليد بن المغيرة المخزومي والعاص بن وائل السهمي والأسود بن عبد يغوث الزهري والأسود بن المطلب والحرث بن حنظلة ثم انهم أتوا الرسول (ص) في رهط من اهل مكة وقالوا له : أرنا الملائكة يشهدوا بأنك رسول الله أو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم أحق ما تقوله ام باطل ، أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا اي كفيلا على ما تدعيه فنزلت هذه الآية.

٢٢٣

هنا مبررات لتقبّل الإيمان ، من مبررة الفطرة والعقلية السليمة ، ومبررة الحجة السليمة البالغة ، ومن ثم إرادة الله تعالى لواقع الإيمان وهي الخطوة الأخيرة من خطوات الإيمان.

فآيات الله في كلّ حقولها هي حجج بالغة لا قاصرة في تدليلها ولا مقصرة ، ولا دور للإرادة الإلهية للإيمان إلّا بعد الخطوتين الأوليين ، فحين تقصر أو تقصّر الخطوة الأولى تجاهلا عامدا عن الحق المرام ، فالخطوة الثانية غير مؤثرة ، ثم الخطوة الثالثة ليست لتؤثر أثرها إلّا تسييرا على الإيمان أم توفيقا يتغلب على داعي اللاإيمان وهما متخلفان عن حكمة الابتلاء.

فسلطان المشيئة الربانية في تحقيق الإيمان ليس إلّا على ضوء السعي إلى الإيمان ، أم ولأقل تقدير ترك العناد على الإيمان.

ف (لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) في أي نازل ، من وحي إليهم رساليا ، أم كلام معهم رسوليا أن محمدا (ص) رسول من الله ، وكلما هم يتطلبون من تنزيل الملائكة.

«و» لو (كَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) بحق الحق في هذه الرسالة بكلّ حقولها ، رجوعا لهم إلى الحياة الدنيا ، أم وهم أموات غير أحياء.

أم (وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً) تجنيدا لكافة الكائنات لتلك الشهادة الرسالية ، كونا وكيانا وحالا وقالا وأفعالا وعلى أية حال! (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) إذ لا تنقصهم الحجة على الحق ، فإنما تنقصهم الفطرة المحجوبة بما حجبوها ، والعقلية المكسوفة إنارتها بطوع الهوى ، والمصلحيات الشهوانية الحيوانية التي يبغونها.

(وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً) تعني جمع كلّ شيء عليهم في تلك الشهادة «قبلا» مقابلة لهم ، فإنها جمع «قابل» مقابلة لحواسهم عيانا ، أو

٢٢٤

جمع «قبيل» تعني جماعات تلو بعض ، أم تعنيهما حيث تحشد كلّ شيء قبيلا قبيلا تقابلهم عيانا كما يشتهون ، فإنهم لا يؤمنون (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أن يؤمنوا مشيئة هارفة خارقة ـ وعوذا به منها ـ حيث المشيئة الحكيمة للإيمان ليست إلّا في حقل الانعطاف إلى الإيمان ممن يسعى له أم لا يسعى للإعراض عن الإيمان.

أجل وهؤلاء الحماقى الأنكاد هم الشياطين المعاندون للنبيين ، الملقون في أمنياتهم الرسالية :

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ)(١١٢) :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.) ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد. وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم. (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) (٢٢ : ٥٥)(١).

«وكذلك» الذي جعلنا لك عدوا «جعلنا ...» وذلك جعل تكويني أنه لم يمنعهم تسييرا أن يعادوا النبيين ، حيث الدار دار الإختيار.

هنا «جعلنا» مجردة عن البعث والتحريض ، مع توفيق من الله تعالى رفيق للنبيين حيث لا يضلون بإضلال الشياطين.

__________________

(١) راجع آية الحج تجد على ضوءها تفصيل البحث حول إلقاء الشياطين.

٢٢٥

وهناك «أرسلنا وقيضنا» على الكافرين سلبا لأي توفيق لهم إذ لا يستحقون ، ولأنهم قرناءهم في شيطناتهم : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ ..) (٤١ : ٢٥) (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) (١٩ : ٨٣).

فمختلف الجعل هناك والتقييض والإرسال هنا ، يجعل مختلف الدور والظرف بين النبيين والكافرين.

فلا دور لشياطين الإنس والجن إلّا تجاوب الوحي بزخرف القول غرورا في الفرية على النبيين ، وذلك من إلقاءهم في أمنيات النبيين (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ ..)(١).

وذلك الوحي الباطل الحامل لزخرف القول غرورا هو من بعضهم الرؤساء إلى البعض المرئوسين قولا يزخرفونه بمظاهر الحق المرام ، غرورا لهؤلاء الأتباع حتى يتم أبعاد العداء في تلك الإيحاء الشورى الشيطاني ، ويطم في فاعليته إلقاء في أمنيات النبيين (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

والوحي ـ كأصل ـ هو إشارة في رمز ، لخير كما لله وأهله إلى أهله ، أم لشر كما لشياطين الإنس والجن حيث يرمزون الشر إلى بعضهم البعض تشاورا وتعليما وتعلما ، ولكي يضلوا سائر الإنس والجن.

ف «كذلك» من تقليب القلوب والأبصار لهؤلاء المكذبين الأنكاد ،

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٥٨ عن تفسير القمي في الآية حدثني أبي عن الحسين بن سعيد عن علي بن أبي حمزة عن بعض رجاله عن أبي عبد الله (ع) قال : ما بعث الله نبيا إلّا وفي أمته شيطانان يؤذيانه ويضلان الناس بعده فأما صاحبا نوح فقنطيقوس وحزام وأما صاحب ابراهيم فمكثل وزرام واما صاحبا موسى فالسامري ومر عقيبا واما صاحبا عيسى فبولس ومرتيون وأما صاحبا محمد (ص) فحبتر وزريق.

٢٢٦

وعدم إرادة الإيمان لهم ، وجعلهم مخيرين بين إيمان وكفر (جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا ..).

فذلك لا يعني جعل العداوة ، بل هو جعل العدو ابتلاء في دار الابتلاء ، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (٨ : ٤٢).

وأعدى العداء من هؤلاء الأعداء هو الإلقاء الافتراء في أمنيات الرسالات والنبوات كما في آية الحج ، فلا يؤثر في خواطر الرسل أي تأثير ، فإنما يبتلى بها سائر المكلفين (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) مشيئة مسيّرة مصيّرة لهم بعيدين عن كلّ عداءاتهم وإلقاءاتهم ، فلا تخفهم على نفسك رسوليا ولا رساليا (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) حيث لا يصغى إليه المؤمنون.

ولا تعني (لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) «أن المعاصي بأمر الله ، ولكن بقضاء الله وبقدره وبمشيته وعلمه ثم يعاقب عليها» (١) وذلك المربع لا يعني مشيئة تشريعية ، أم تكوينية مسيّرة ، فإنما هي مسايرة مع العصاة فيما يعصون ، قضاء بما قضوا وقدرا بما قدروا ومشيئة بما شاءوا وعلما بما علموا وما كانوا يعملون.

ذلك ، فكما أنهم لا يؤمنون مع تواتر الآيات البينات إذ قلّب الله أفئدتهم ، كذلك (لَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ) مشيئة ربانية تحلق على كلّ شيء ، حكيمة عادلة رحيمة فاضلة.

فحين لا يستطيعون أن يؤمنوا أو يضلوا إلّا بإذن ربّك (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) فإن ربك لبالمرصاد ، فإن (اللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٥٩ عن مجمع البيان روي عن أبي جعفر عليهما السلام انه قال : ان الشياطين يلقى بعضهم بعضا فيلقي اليه ما يغري به الخلق حتى يتعلم بعضهم من بعض.

٢٢٧

فلقد اقتضت الحكمة الابتلائية التربوية الربانية في دار البلاء والابتلاء أن يترك شياطين الإنس والجن أن يشيطنوا في القدر الذي تركه لهم من القدرة والإختيار ، وأن يدعهم يؤذون النبيين والصالحين ، ابتلاء لأوليائه وبلاء لأعدائه (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ).

وليرى أهل الحق أيثبتون عليه وهم يرون الباطل ينتفش ويتنفج مستطيلا ، أفيخلصون من حظ أنفسهم في أنفسهم ويبيعونها بيعة واحدة وصفقة فاردة لله؟ على الضرّاء والسرّاء سواء ، وفي المنشط والمكره سواء؟.

ذلك ، وليس لهم مع كلّ ذلك سيطرة القضاء على قضاء الله وهيمنة القدر على قدر الله ف (لَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ).

وليس هذا تجميدا للطاقات الإيمانية أمام الشياطين يفعلون ما يشاءون ، فإنما هو طمأنة لأهل الإيمان أنهم لا يغلبون بإيمانهم حين يحققون شرائطه ، ومنها الدعوة الصارمة المتواصلة ، والتصبر على الأذى ، وتحمّل اللّظى في هذه السبيل ، (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

و«ربك» في (لَوْ شاءَ رَبُّكَ) تلميحة بتلك التربية الكاملة الكافلة لهذه الرسالة السامية ، فلا تذروها الرياح ولا تصيبها الرماح حيث لا يضعها هدرا هذرا.

(وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ)(١١٣) :

«ولتصغى ..» غاية طبيعية أتوماتيكية للذين لا يؤمنون بالآخرة ، ثالوث ملعون سالوس يشكّل كيانهم أمام إمامهم : (شَياطِينَ الْإِنْسِ

٢٢٨

وَالْجِنِّ)(١) ، والواو تعطف على محذوف معروف ك «ليختبر عباده وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك ولتصغى» فصغي أفئدتهم لما يفترون على الرسالات هو من نتائج تقليبها عن صنعي الحق ، فللقلوب أسماع كما للآذان وأين اسماع من أسماع ، كما لها أبصار كأبصار (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٢٢ : ٤٦)» «وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق حجب النور فتصل إلى معدن العظمة».

وقد تعني «لتصغى» غاية الصغي ل (يُوحِي بَعْضُهُمْ ..) كما هي غاية الابتلاء ل «جعلنا» وأين غاية من غاية ، فإنها في ربانيتها خيّرة ابتلاء ، وفي شيطنتها شريرة بلاء!.

وهنا المعطوف عليه ك «ليضلوا بعضهم بعضا بزخرف القول ولتصغى إليه زخرف القول» ـ «لتصغى ..» صغيا للقلوب المقلوبة والأفئدة المتفئدة بنيران الضلالة والمتاهة وبالنتيجة «وليرضوه» : «ما يفترون» ومن ثم «وليقترفوا» هؤلاء الصاغون الراضون «ما هم» أولئك الشياطين «مقترفون» من تخلّفات فاتكة هاتكة لحرمات الله أصليا وفرعيا.

ف «تعوذ بالله من شر شياطين الجن والإنس» (٢) تعوذا حقيقيا لئلا تكون ممن قال الله : «ولتصغى ...» ـ «ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٥٩ في كتاب الخصال مرفوع الى علي (ع) قال : الأعمال ثلاثة احوال وفرائض وفضائل ومعاصي واما المعاصي فليست بأمر الله ولكن ...

(٢) الدر المنثور ٣ : ٣٩ ـ اخرج احمد وابن أبي حاتم والطبراني عن أبي امامة قال : قال رسول الله (ص) يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الجن والأنس قال يا نبي الله وهل للإنس شياطين؟ قال : نعم شياطين الانس والجن يوحي بعضهم الى بعض زخرف القول غرورا».

٢٢٩

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ..) بل تكون ممن قال : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢٢ : ٥٤) وصغي الباطل وسقي الحق بصيغة للحق هما غايتان في خضم الابتلاء لذلك الجعل الحكيم.

فليست وساوس شياطين الإنس والجن بالتي تسيّر القلوب إلى شيطناتهم ، إلّا القلوب المقلوبة من ذي قبل ، وأما القلوب الصافية الضافية بمعرفة الله فتزداد إيمانا وإيقانا : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً).

شياطين الإنس هنا يتقدمون ذكرا على شياطين الجن حيث البعض منهم أشطن من أولاء «وجوههم وجوه الآدميين وقلوبهم قلوب الشياطين» (١) نفاقا عارما في شيطناتهم ، وقد يروى عن الرسول (ص) «هم شر من شياطين الجن» (٢).

ذلك ، وإنهم بصورة واسعة على دركاتهم «من لم يجعله الله من أهل صفة الحق فأولئك هم شياطين الإنس والجن» (٣).

وترى شياطين الجن هم ـ فقط ـ من ذرية الشيطان الرجيم؟ أم ومن

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٥٩ في كتاب الخصال عن أبي عبد الله (ع) قال : الإنس على ثلاثة اجزاء فجزء تحت ظل العرش يوم لا ظل إلّا ظله وجزء عليهم الحساب والعذاب وجزء وجوههم وجوه الآدميين وقلوبهم قلوب الشياطين.

(٢) تفسير الفخر الرازي ١٣ : ١٥٤ روي عن النبي (ص) انه قال لأبي ذر : هل تعوذت بالله من شر شياطين الجن والأنس؟ قال قلت : وهل للإنس من شياطين؟ قال : نعم هم ...».

(٣) نور الثقلين ١ : ٧٥٩ الكافي باسناده الى أبي عبد الله (ع) حديث طويل يقول فيه (ع) «فان من لم يجعله الله ...».

٢٣٠

ذرية سائر الجن؟ ، «أتتخذونه وذريته أولياء وهم لكم عدو» تؤيد الأوّل ، فسائر الجن ليسوا من الشياطين مهما فسقوا ، فهم طرائق قدد ، لا يولد شيطان منهم إلّا من شيطان : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) (٧٢ : ١١).

ذلك مهما كان الشيطان الأول هو من الجن : (.. إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) (١٨ : ٥٠).

فرغم أن في الإنس قد يولد شيطان من مؤمن أو مؤمن من شيطان ، فليس في الجن هكذا توالد ، فإنما يولد شياطين الجن من أنفسهم ، والوالد الأول فيهم هو إبليس الشيطان الأول رأس زوايا الشيطنة.

ذلك ، وقد تعني (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) ـ إلى ما عنت ـ الشياطين المختصين بإضلال الإنس ، والآخرين المختصين بإضلال الجن ، من اضافة الصفة إلى مفعوله ، إذا فشياطين الجن فريقان مقتسمان بين الإنس والجن ليضلوهم ، فكما أن شياطين الإنس يضلون الإنس والجن ، كذلك شياطين الجن يضلون الجن والانس ، شيطنات مدروسة موحاة ومستوحاة فيما بينهم ، تحلّق على الإنس والجن أصلية وفرعية.

فالوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس ، ذلك الوسواس أعم من الجنة والناس دون اختصاص بجنة أو ناس ، وسوسة من الشياطين بمختلف صنوفهم كما إلى صدور الجنة ، كذلك إلى صدور الناس.

فهنا (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) توحي أنهم يوسوس بعضهم إلى بعض تضليلا له أكثر مما هو ، ثم تشجيعا لتضليل الآخرين من الإنس والجن.

٢٣١

ويا ليت أهل الحق اتخذوا ذلك المسلك الصامد لبثّ الهدى أن يوحي بعضهم إلى بعض مسالك الهدى ليزيدوهم هدى على هدى ، وليصلحوا لذلك الإيحاء إلى الآخرين ، تعاونا على البر والتقوى كما يتعاون الشياطين على الإثم والعدوان ليتحقق الكفاح الصارم في الحق أمام الكفاح العارم في الباطل ، دفاعا صالحا عن حوزة الحق : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (٢ : ٢٥١).

فالموازنة بين دعاية الحق والباطل تؤمّن أهل الحق عوانا ، وتغلّب الدعايات الباطلة تشكلّ عليهم خطرا جاسما حاسما ، ثم تغلّب الدعايات الحقة تحسم مادة الباطل ، وهكذا يجب أن يكون أهل الحق صامدين غير خامدين أو هامدين ، (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ...) (٨ : ٣٩).

فكما أن أمر شياطين الإنس والجن شورى بينهم في تلك المواحاة المضلة المدللة في زخرف القول الغرور ، كذلك فليكن أمر المؤمنين شورى بينهم في المواحاة المهتدية الهادية بحق القول ، بل وأوسع نطاقا ورفاقا من أولئك الشياطين تحقيقا لدولة الحق وتمحيقا لدولة الباطل.

ذلك والشيطان هو المتمرد عن الحق المتمحض في الباطل أيا كان ، وقد يوصف به الحيوان المتمرد والجرثومة الخطرة وكلّ متمرد عن وجه الصواب.

ونكران وجود شياطين الجن كأصل الجن سنادا إلى عدم رؤيتهم ولمسهم كسائر المرئي ، نكران جاهل ورمي في الظلام ، فإن حوزة الإحساس الخاص لنا ، هي ما يمكن أن يحس بحواسنا ، دون المواد الرقيقة كالروح والجن والملائكة ، وما أشبه.

فأولئك الناكرون المتترسون بالعلوم التجربية على م يرتكنون ، أعلى علمهم المحدد بالمحسوس من الكون؟ فذلك جهل! فإنه لا يحيط بعالم

٢٣٢

المحسوس لهم فضلا عن غير المحسوس بالحواس البشرية ، فمن التحكّم والتبجّح أن ينفي أحد باسم «العلم» كائنات غير محسوسة به ، رغم قاطع البرهان على كونها.

فكما أن من شياطين الإنس غير محسوس كالأنفس الأمارة بالسوء ، الموسوسة في الصدور حيث نلمسها نفسيا مهما لا نلمسها حسيا ، كذلك شياطين الجن غير المحسوسين بواقعهم ، ف (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) (٧ : ٢٧) بهذه الأبصار البشرية.

فكما أن وحي الفطرة والعقلية ووحي العلم والشرعة الربانية أثبتت وجود الله وهو غير محسوس ولا مدرك بأي إدراك ، كذلك وحي الشرعة أثبتت لنا وجود الملائكة والجن وسائر الغيب ، ومن ميّزات الإنسان ومن أشبهه الإيمان بالغيب قضية براهينه الساطعة.

ذلك وإن معركة الكفاح بين المؤمنين والشياطين معركة مصيرية ، تتجمع فيها من ناحية تخطيطات الشيطنات لإمضاء خطة مقررة مغرّرة هي معاداة الحق الممثّل في النبيين وسائر عباد الله الصالحين ، يمد بعضهم بعضا بكلّ وسائل الخداع والإعلام ، امتدادا للضلالة الموحاة بين بعضهم إلى بعض ، وإلى سائر عباد الله لينضموا إلى حزبهم فيحلّق الشر على الكون كله.

ولكنه كيد غير طليق فإن ربك لهم بالمرصاد ، وإن حملة الرسالات إلهية برصيد الرسالة بكلّ المساعي الرسالية ـ لهم بالمرصاد.

وحين يتقاعد المؤمنون ويتقاعسون فهم الذين يخسرون أنفسهم ويخسرون ، وأما الله بشرعته وآياته فلا يخسر ، ولكن الله لم يشرّع شرعته لنفسه أن يتشرع بها ويحققها في نفسه ، فإنما (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ) ولها حفيظان اثنان : حفيظ رباني يحفظها في قلوب المتشرعين ، وحفيظ منّا

٢٣٣

نحافظ عليها بمساعينا وكفاحنا الصارم في كلّ ميادين النضال بين الحق والباطل.

فمشهد تجمّع الشياطين بإيحاءاتهم الشيطانية لتحقيق خطتهم المقررة المرسومة بمواصلة الإيحاءات والدعايات بزخرف القول غرورا ، جدير بأن يسترعي وعي أهل الحق ليعرفوا طبيعة هذه الخطة اللعينة وأبعادها ، وليكرّسوا كلّ طاقاتهم وإمكانياتهم للقضاء عليها كما يستطيعون.

كما ومشهد إحاطة المشيئة الربانية بخطة الشياطين ، جدير بأن يملأ قلوب أهل الحق الثقة بالله ، تعليقا لقلوبهم وأبصارهم بتلك القدرة القاهرة الباهرة ، وتحليقا لإمكانياتهم على تحقيق الحق وإبطال الباطل ف (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) و (أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) ، فلذلك :

(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)(١١٤) :

«أف» إذ يترك الله حكما يحكم بيني وبينكم ويحكم لصالح رسالتي عليكم ـ إذا ـ «غير (اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً) حيث ليس ليحكم ، أم هو يحكم بغير صالح لي؟ ، (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) دون سواه حتى أبتغي للحفاظ عليه وعلي حكما سواه ، وقد فصل الكتاب بما لا مزيد عليه ولا منقصة فيه ولا شبهة تعتريه ، كتابا مفصلا بنفسه ، مفسّرا في نفسه ، مبيّنا ببيناته ، قمة في الفصاحة والبلاغة في آياته ، فيه تبيان كلّ شيء وتفصيله : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (١١ : ١).

فذلك الكتاب المفصّل من لدن حكيم خبير يفصل الآيات ، تفصيلا

٢٣٤

للحق عن الباطل ، دون أيّة عماية ولا غواية : (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٦ : ٩٧) (.. لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) (٩٨) (... لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (١٢٦) (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١٠ : ٢٤) (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٣٠ : ٢٨) و (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (١٣ : ٢) وعلى الجملة (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) (١٧ : ١٢) لكلّ من ألقى السمع وهو شهيد.

أترى حين يكون القرآن مفصلا في نفسه وبنفسه ، ونورا ومنيرا وتبيانا لكلّ شيء فما هو الحاجة إلى مفسر سواه يفصله تفسيرا ، اللهم إلّا بيانا لتأويله وتبيانا!.

ذلك ، ولأن «حكما» هو الحاكم الحكيم الفضل العليم فلا يقضي إلّا بالحق المطلق ، وليس هو إلّا الله ، أو المرسل من عند الله فإنه حكم بحكم الله.

ومن حكمته تعالى إنزال الكتاب مفصلا ، تبيينا لمعانيه كأفضله دون أي تخليط وتداخل ، وهو أفضل شهيد على حكمته تعالى الوحيدة غير الوهيدة.

لذلك (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) فإنهم عارفون طبيعة وحي الكتاب ولغته ، والقرآن هو القمة المرموقة منه ، إضافة إلى بشارات الكتاب المحلّقة على قرآن محمد ومحمد القرآن (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أيها الناظر إلى القرآن نبيا وسواه ، فالنهي بالنسبة للنبي تأكيد للبقاء على إيقانه القمة ، من باب التهييج والإلهاب ك (لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أو لا تكونن من الممترين ف (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) أو من باب (إياك اعني واسمعي يا جاره) فما امترى رسول الهدى (ص) في رسالته لحظة ما ، وقد روي أنه (ص) عند ما نزل عليه (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ

٢٣٥

المُمْتَرِينَ) قال (ص): لا أشك ولا أسأل ، تدليلا على أنه لا واقع لشكه وامتراءه ، فإنما يعني من هذه السلبية المؤكدة غيره شخصيا.

ثم ولغيره تثبيت لدلالة «الكتاب» والقرآن نفسه على وحي القرآن ، وقد يتأيد ب (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ ..) فهنا أيضا قل (فَلا تَكُونَنَّ) أيها الناظر إلى القرآن (مِنَ الْمُمْتَرِينَ) في هذه الرسالة السامية ، وتأكيد النهي هو بمناسبة أكيد الآية القاطعة لهذه الرسالة قرآنا ورسولا.

إذا ف (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ ..) تحوّل في الخطاب إلى صاحب الخطاب العتاب.

واستفهام الإنكار هذا (أَفَغَيْرَ اللهِ ..) موجّه إلى هؤلاء الذين يتطلبون آية على هذه الرسالة السامية ، ويكأن القرآن ليس آية ، وهو الآية الأم بين كافة آيات الرسالات ، فتركه كآية رسالية شاملة ترك لآيات الله كلها ، أفتريدون أن ابتغي حكما لرسالتي غير الله ، وهو الحكم عليها بالقرآن؟! وهو أكبر شهيد بيني وبينكم فأنى تؤفكون (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ)!.

ذلك ، و (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) هي كما هنا استدلال بشاهدي رسالته : القرآن وسائر الكتاب.

(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(١١٥) :

إن (كَلِمَةُ رَبِّكَ) الدالة على رسالتك العظيمة الغالية ، الشاملة لكلّ ما يحتاجه المكلفون منذ بزوغها إلى يوم الدين ، إنها تمت بهذا القرآن العظيم ، «تمت .. صدقا» و«تمت .. عدلا» فكلّ قضايا الصدق والعدل الرباني مدلولة لكلمات ربك : القرآن ونبيّه (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) السالفة على أنبياءه رغم أنها كانت محددة لزمن خاص فضلا عن هذه الكلمة التامة الخالدة.

٢٣٦

وهنا (كَلِمَةُ رَبِّكَ) بإفراد تعني محمدا والقرآن فإنهما كلمة واحدة تحملان هذه الشرعة الأخيرة شرعة وداعية.

صحيح أن كلمات الرب رسوليا ورساليا على مدار الزمن تامة صدقا وعدلا ، ولكنها تمامية صالحة لردح من الزمن لكلّ رسول برسالته ، وليست تمامية طليقة ، ف «تمت» هنا تعني التمامية الطليقة التي ليس فوقها تمام ، فليس معها أو بعدها كلمة رسولية أو رسالية إلى يوم الدين ، إذ لا مبدل لهذه الكلمة إلهيا ولا خلقيا ، مهما كان لسائر الكلمات الربانية مبدل إلهي ، ف (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) تستغرق أي تبديل للكلمة الأخيرة ، وتختص سلب التبديل الحق في سائر كلماته بغير الإلهية حيث تبدّلت إلهيا ، كما وتبدلت بشريا بغير حق ، ولكن هذه الكلمة لا مبدل لها إلهيا ، ولا بشريا لا حقّا ولا باطلا إذ لا تحريف فيها ولا تجديف.

اجل فلا مبدل لها ربانيا فضلا عن مبدل سواه (وَهُوَ السَّمِيعُ) مقالات الممترين «العليم» بحالاتهم ، سمعا وعلما بكلّ مجالاتهم وبما يقوله أهل الحق ويعلمون ويعملون.

فهنا «كلمة» ـ جنسا ـ تعم كافة الدالات والدلالات الرسولية والرسالية أمّاهيه ، الدالة على كامل الربوبية تكوينية وتشريعية في هذه الرسالة الأخيرة و«ربك» ـ دون (رَبِّ الْعالَمِينَ) وما أشبه ـ تلمح إلى بالغ الربوبية ، المتمثلة في التربية المحمدية رسوليا ورساليا فانها القمة العالية منها ، ف (تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) إذا ختم للتربيات الربانية في كلّ حلقاتها وحقولها ، فلا تمام بعدها ولا تبديل ، مما يبرهن على خاتمية خاتم النبيين رسوليا وخاتمية القرآن رساليا ، وكلّ ذلك (صِدْقاً وَعَدْلاً) فليس بعد تمام كلمت ربك صدقا وعدلا إلّا كلمة الشيطان كذبا وظلما ، وهي كافة المختلقات الزور والغرور من كتابات وسواها بعد القرآن مما يدعى كونه وحيا.

٢٣٧

أجل (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) في كلّ مصاديقها الصادقة لفظية أو عينية ، فحين يكون المسيح كلمة من الله كما هو رسوله جمعا بين كلمتي الرسالة والآية الرسالية : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ) (٤ : ١٧١) فمحمد (ص) بقرآنه العظيم أحرى تماما وكمالا وختما للكلمات الرسولية والرسالية ، فلا آية بعد القرآن كما لا رسالة بعد رسول القرآن.

وحين (ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) (٢ : ١٢٤) فابتلاء محمد (ص) بكلمات أنبل وأعلى حيث تمت بها الكلمات.

إذا فيا متمم الكلمات في نفسه وفي كتابه ، في ابتلاءاته وكلّ كلماته (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) (١٨ : ٢٧) ، وذلك ، لأنها (كَلِمَةُ رَبِّكَ) فكما أنك (أَوَّلُ الْعابِدِينَ) والعارفين لربك بتربيتك القمة ، كذلك (كَلِمَةُ رَبِّكَ) لك ولكلّ العالمين إلى يوم الدين.

فذلك التمام تمام في كلّ حقوله ، زمنا وكمالا وحالا ومآلا وعلى أية حال ، والكلمة العليا في هذه الرسالة هي (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) حيث تحلّق على كلّ جنباتها لأتم درجاتها ومنها كسر الأصنام بكلّ صنوفها وصفوفها ، فقد «دخل النبي (ص) المسجد الحرام يوم فتح مكة ومعه مخصرة ولكل قوم منهم صنم يعبدونه فجعل يأتيها صنما صنما ويطعن في صدر الصنم بعصا ثم يعقره كلما صرع صنم أتبعه الناس ضربا بالفؤوس حتى يكسرونه ويطرحونه خارجا من المسجد والنبي (ص) يقول : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(١).

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٤٠ ـ اخرج ابن مردويه عن أبي اليمان جابر بن عبد الله قال دخل النبي (ص) ..

٢٣٨

وكان يعوذ نفسه والحسنين عليهما السلام وغيرهما بكلمات الله التامة من كلّ شيطان وهامة ومن كلّ عين لامة .. (١).

فلقد تمت كلمت التوحيد بكلمته على شروطها ، وكلمة الرسالة بمحمد (ص) بنفسه وبكلمة القرآن ، وكلمة الخلافة المعصومة عنه (ص) (٢) وهكذا كلّ كلمة من الله تعالى.

__________________

(١) فمن تعويذه الحسنين ما في الدر المنثور ٣ : ٤٠ من ابن عباس قال كان النبي (ص) يعوذ الحسن والحسين عليهما السلام أعيذكما بكلمات الله التامة من كلّ شيطان وهامة ومن كلّ عين لامة ثم يقول كان أبوكم ابراهيم يعوذ بها إسماعيل وإسحاق.

ومن تعويذه نفسه ما أخرجه النسائي والبيهقي عن ابن مسعود قال لما كان ليلة الجن اقبل عفريت من الجن في يده شعلة من نار فجعل النبي (ص) يقرأ القرآن فلا يزداد إلّا قربا فقال له جبرائيل ألا أعلمك كلمات تقولهن ينكب منها لفيه وتطفأ شعلته قل أعوذ بوجه الله الكريم وكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها ومن شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها ومن شر فتن الليل والنهار ومن شر طوارق الليل ومن شر كلّ طارق إلّا طارقا يطرق بخير يا رحمن فقال لها فانكب لفيه وطفئت شعلته ، واخرج ابو داود والنسائي وابن أبي الدنيا والبيهقي عن علي (ع) عن رسول الله (ص) كان يقول عند مضجعه : اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم وكلماتك التامة من شر ما أنت آخذ بناصيته أنت تكشف المغرم والمأثم اللهم لا يهزم جندك ولا يخلف وعدك ولا ينفع ذا الجد منك سبحانك وبحمدك.

ومن تعويذه (ص) غيره ما عن خولة بنت حكيم سمعت رسول الله (ص) يقول : من نزل منزلا فقال : أعوذ بكلمات الله التامات كلها من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك ، وعن أبي هريرة قال جاء رجل الى رسول الله (ص) فقال يا رسول الله (ص) ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة؟ قال : أما إنّك لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك.

(٢) نور الثقلين ١ : ٧٦٠ في أحاديث عدة ان هذه الآية مكتوبة على جبين والعضد الأيمن ـ

٢٣٩

لقد قال الله وفعل وكوّن كلّ كلماته التي كان من الصالح أن يقولها ويفعلها ويكوّنها للعالمين فلم تبق له كلمة إلّا وقد قالها في هذه الرسالة السامية دون إبقاء.

صحيح أن آيات الله ورسالاته كلها من كلمات الله ، وهي كلمة واحدة تدل على ربوبية واحدة برسالة واحدة ، ولكنها قبل الكلمة الأخيرة القرآنية المحمدية كانت تترى متكاملة في فتراتها الزمنية ، رسالة بعد رسالة وشرعة بعد شرعة ، ثم تمت كونها وكيانا وزمانا بهذه الكلمة الأخيرة (صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) تبديل النسخ أو التكميل أم أي تبديل بتحريف وتجديف ، حيث القرآن هو الوحيد بين كتابات الوحي في ميّزات ومنها عدم تحرّفه كما ضمن الله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١٥ : ٩).

وهنا «لا مبدل» نهي إلى نفي ، إخبارا بعدم تبدل كلماته ونهيا عنه ، تبديلا عن جهات أشراعه بكلّ تأويل عليل ، أو تبديلا لمواضعه أن تؤلف نسخة غير ما بأيدينا منذ تأليفه من الرسول (ص) بوحي من الله.

ذلك ، ولأنها تمت جملة وتفصيلا وحصولا وتحصيلا في ردح الوحي بكرة وأصيلا دون أن يتدخل فيها غير الله ، سبحانه وتعالى عما يشركون.

وقد تعني ـ فيما عنت ـ «صدقا» كلمة الإخبار ، و«عدلا» كلمة الإنشاء ، ولا تخلو كلمة القرآن ونبي القرآن عن إخبار أو إنشاء ، أو جمعا بينهما ، فقد أنشأ القرآن إنشاء كما أنشأ إنشاء ، وأخبر أخبارا كما أخبر ـ فيما أخبر بكله ـ إخبارا ، أنه الآية الوحيدة الخالدة غير الوهيدة على مدار الزمن إلى يوم الدين : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ

__________________

ـ من كل امام من الاثنى عشر حين ولدوا ، رواه ابو بصير والحسن بن راشد ويونس بن ظبيان ومحمد بن مروان كل عن أبي عبد الله (ع).

٢٤٠