الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤

(مَفاتِحُ الْغَيْبِ) جمع المفتح ، والمفتح بمجرده هو الخزينة.

ذلك ، وحتى الآيات الرسولية ليست مما يعلمهم إياها ف (إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) اللهم إلّا التي هي رسالية مع كونها رسولية كالقرآن العظيم حيث علمه رسوله الكريم ، علم الوحي مادة وصيغة ، دون علمه صياغة.

ثم من الغيب ما هو كائن غيبه ككلّ الكائنات ، وما هو مكوّن مستقبلا أو كان ماضيا ثم فنى ، وهذه الزوايا الثلاث لمثلث الغيب مختصة بالله إلّا ما ليس من الغيب المطلق.

وفي رجعة أخرى إلى الآية نقول : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) قضية عقلية محلّقة على كافة العلوم الغيبية ، شاملة للمحسوس وسواه ، ولكي يقرب ذلك المعقول إلى عقول أهل الحس ثنّاه ب (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) حيث تشمل كافة المعلومات غيبية وسواها ، فهنا إضافة إلى تبيين مدى علمه تعالى بالغيب في سعته إضافة للمشهود إليه وبأحرى.

ثم قرّ مرّة أخرى بصورة مستغرقة لعلمه بالغيب والشهادة (وَما تَسْقُطُ ...) ثم عممه رابعة جمعا بين الضابطة العقلية الأولى والمثالين بعدهما للحيطة العلمية الربانية : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ).

ويا لها من جولة تدير الرؤوس وتذهل العقول ، جولة في آماد الزمان وآفاق المكان ، وأغوار من السر والعلن والمعلوم والمجهول ، جولة موغلة مترامية الأطراف تشمل فعلية الكون وإمكانيته ، وكما تعني ـ في الأصل ـ ذات الله وصفاته وأفعاله المعلومة ـ فقط ـ لديه.

والإنسان ـ أو أأيّا كان من الخليقة العاقلة العالمة ـ ليسبح في بحر من المجهول فلا تقف إلّا على جزر طافية يتخذ منها معالم في الخضمّ ف (ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)!.

٦١

والغيب في الكون كله يحيط بالإنسان كله ، غيب في مثلث الزمان والمكان ، وغيب في نفسه وفي كيانه ، غيب في النشأة الأولى والأخرى والعوان بينهما ، وغيب في كلّ شيء مهما يشهد ظاهرا من الكون قليلا ضئيلا لو لا فضل الله ورحمته لحرم منه أيضا.

وما أجمله بعد جمال القرآن قول الامام علي (ع) التلميذ الثاني للقرآن في خطبة الأشباح في علمه تعالى وتقدس :» عالم السّر من ضمائر المضمرين ، ونجوى المتخافتين ، وخواطر رجم الظنون ، وعقد عزيمات اليقين ، ومسارق إيماض الجفون ، وما ضمنته أكنان القلوب وغيابات الغيوب ، وما اصغت لاستراقه مصائخ الأسماع ومصايف الذّر ، ومشاتي الهوامّ ، ورجع الحنين من الموليات ، وهمس الأقدام ، ومنفسح الثمرة من ولائج غلف الأكمام ، ومنقمع الوحوش من غيران الجبال وأوديتها ، ومختبإ البعوض بين سوق الأشجار وألحيتها ، ومفرز الأوراق من الأفنان ، ومحط الأمشاج من مسارب الأصلاب ، وناشئة الغيوم ومتلاحمها ، ودرور قطر السحاب في متراكمها ، وما تشفي الأعاصير بذيولها ، وتعنو الأمطار بسيولها ، وعوم بنات الأرض في كثبان الرمال ، ومستقر الأجنحة بذرى شناخيب الجبال ، وتغريد ذوات المنطق في دياجي الأوكار ، وما أوعبته الأصداف ، وحضت عليه أمواج البحار ، وما غشيته سدفة ليل أو ذرّ عليه شارق نهار ، وما اعتقبت عليه أطباق الدياجي وسبحات النور ، وأثر كلّ خطوة ، وحسّ كلّ حركة ، ورجع كلّ كلمة ، وتحريك كلّ شفة ، ومستقر كلّ نسمة ، ومثقال كلّ ذرة ، وهماهم كلّ نفس هامة ، وما عليها من ثمر شجرة ، أو ساقط ورقة ، أو قرارة نطفة ، أو نقاعة دم ومضغة ، أو ناشئة خلق وسلالة ، لم يلحقه في ذلك كلفة ، ولا اعترضته في حفظ ما ابتدع من خلقه عارضة ، ولا اعتورته في تنفيذ الأمور وتدابير المخلوقين ملالة ولا فترة ، بل نفذهم علمه ، وأحصاهم عدده ، ووسعهم عدله ، وغمرهم فضله ، مع تقصيرهم عن كنه ما هو أهله» (الخطبة ٨٩ / ٤ / ١٧٥).

٦٢

«خرق علمه باطن غيب السترات ، وأحاط بغموض عقائد السريرات» (الخطبة ١٠٦ / ٢٠٥).

«ولا يخفى عليه شخوص لحظة ولا كرور لفظة ، ولا ازدلاف ربوة ، ولا انبساط خطوة ، في ليل داج ، ولا غسق ساج ، يتفيأ عليه القمر المنير ، وتعقبه الشمس ذات النور في الأفول والكرور ، وتقلب الأزمنة والدهور ، من اقبال ليل مقبل ، وادبار نهار مدبر ، قبل كل غاية ومدة ، وكل إحصاء وعدة» (الخطبة ١٦١ / ٢٨٩).

«علمه بالأموات الماضين كعلمه بالأحياء الباقين ، وعلمه بما فى السماوات العلى كعلمه بما في الأرضين السفلى» (١٦١ / ٢٩٠).

«ولا يعزب عنه عدد قطر الماء ولا نجوم السماء ، ولا سوافي الريح في الهواء ، ولا دبيب النمل على الصفا ، ولا مقيل الذر في الليلة الظلماء ، يعلم مساقط الأوراق وخفي طرف الأحداق» (١٧٦ / ٣١٩).

«فسبحان من لا يخفى عليه سواد غسق داج ، ولا ليل ساج ، في بقاع الأرضين المتطأطات ، ولا في بقاع السفع المتجاوزات ، وما يتجلجل به الرعد في أفق السماء وما تلاشت عنه بروق الغمام ، وما تسقط من ورقة تزيلها عن مسقطها عواصف الأنواء وانهطال السماء ، ويعلم مسقط القطرة ومقرها ، ومسحب الذرة ومجرها ، وما يكفي البعوضة من قوتها ، وما تحمل الأنثى في بطنها» (١٨٠ / ٣٢٥).

(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ

٦٣

تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ

٦٤

فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)(٧٣)

(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٦٠) :

٦٥

التوفي هو الأخذ وافيا ، إما للروح كله وهو توفّي الموت ، أم للروح الإنساني والحيواني باق في البدن وهو توفي النوم ، فالنوم ـ إذا ـ أخ الموت ، وإما توفي الروح والجسم دون فصال بينهما وهو الأخذ وافيا عن مكان إلى آخر كما في توفي السيد المسيح (ع).

وفي توفي النوم آيتان أخراهما : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٣٩ : ٤٢)(١).

وهنا (يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) مسايرة مع أغلبية المنام وهي في الليل ، وأنه أصلح من نوم النهار كما هو المستفاد من آيات المنام.

والروح المتوفّى في المنام هو الروح الإنساني دون استئصال للحياة بأسرها وكما يروى عن رسول الله (ص): «مع كل إنسان ملك إذا نام يأخذ نفسه فإن أذن الله في قبض روحه وإلا رد إليه فذلك قوله : (يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ)(٢) ، فالنفس هي النفس الإنسانية والروح هو الحيواني ، وهو يجاوب آية الزمر (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) وفي «يتوفاكم» لمحة باهرة لأن أصل الإنسان هو النفس الإنسانية ، دون الروح الحيواني فضلا عن البدن ، فإن «كم» خطاب لنا إنسانيا ، والنفس الإنسانية هي المتوفاة بكاملها حين النوم كما الموت والفارق بينهما الروح الحيواني الباقي في النوم والذاهب مع النفس في الموت.

فحين يطلق الإنسان على مثلث كيانه نفسا وروحا وجسما ، فإنما المحور فيه هو النفس والآخران على هامشها.

__________________

(١) راجع للاطلاع على فصل القول حول النوم والموت إلى الزمر : ٣٤٤ من الفرقان.

(٢) الدر المنثور ٣ : ١٥ ـ اخرج أبو شيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال قال رسول الله (ص) : ...

٦٦

والواو في «يتوفاكم ويعلم» حالية تعني : يتوفاكم حال أنه يعلم ما جرحتم بالنهار.

وترى «جرحتم» تعني عملتم؟ وعبارتها الصالحة الفاصحة : عملتم ـ أو ـ كسبتم! ولم يأت الجرح في سائر القرآن لطليق العمل صالحا وطالحا ، إنما هو العمل الطالح حيث يجرح كيان الإنسان ، ويجرح كيان العبودية ، ويجرح الحياة بأسرها ـ بالنتيجة ـ في النشأتين(١).

وليس «جرحتم» تعني : عملتم بالجارحة ، حيث الجرح بالنهار تعم عمل الجارحة إلى عمل الجانحة عقيدة ونية وإرادة وسائر الطوية ، والجرح الطالح يتبنى جارحة الجانحة قبل جارحة الجارحة ، ولم تسم الأعضاء جوارح إلّا لأنها الظاهرة في جرحها ، لا أنها هي الجوارح دون سواها ، أو أنها هي العاملة صالحة وطالحة دون سواها ، فإنما الجارحة هي التي تجرح باطنية أم ظاهرية ، فلا تشمل ـ في الأصل ـ الصالحات.

ومن ثمّ فموقف الآية هو موقف التنديد بجوارح الأعمال والأحوال والأقوال ، والعظة بذلك التمثيل الأمثل للنوم بالموت لكي يتحلل الإنسان عن غفلته وغفوته فلا يعود يعمل الجوارح بالنهار.

ثم «ما جرحتم» تعني كلا الموصولة والموصوفة ، فهو يعلم جرحكم بالنهار ويعلم ما جرحتموه ، ومما يؤيد الاحتمالين إضافة إلى تحمل «ما» إياهما عدم ذكر لضمير الموصول ، فلا يتمحض في الموصولية بل ومعها الموصوفية.

وها هي وفاة النوم حين يأخذنا النعاس ، وفاة في صورة من صورها ، وسيرة من سيرها ، انقطاعا عن الحيوة العقلية والإرادية والحسية ، اللهم

__________________

(١) والآيات في الجرح هي : «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ ..» (٤٥ : ٢١) «وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ» (٥ : ٤٥) «وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ» (٥ : ٤).

٦٧

إلّا نموا كالنبات وحركات حيوية حيوانية بلا إرادة حالة السبات ، والإنسان فيها على أقرب مشارف الموت ، لا يستطيع الرجوع إلى حياة اليقظة إلّا ببعث رباني كما توفّي : (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) بعثا عن حدث النوم كما البعث عن جدث الموت ، واين بعث من بعث؟.

فهنا بعث (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) في مدرسة الحياة الدنيا ، وهناك بعث (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى).

وترى ما هو هنا «أجل مسمّى»؟ هل هو المحتوم؟ وكثير من الآجال معلقة تحصل قبل المحتوم! أم والمعلق؟ وليس هو من المسمّى!.

قد يعني «أجل مسمى» كليهما ، مسمّى محتوما كأصل ، ومسمّى معلقا على هامشه ، مهما كان المسمى المحتوم أسمى وأفسح لمجال الامتحان بالتكليف.

فليس الأجل المسمى ـ فقط ـ هو المقضي ، بل والمعلق كذلك من المقضي مهما اختلف قضاء عن قضاء ف (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ..) (٦ : ٢) فالقصد هنا من «أجل مسمى» هو الأجل المقضي محتوما ومعلقا ، (ثُمَّإِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) بعد قضاء الأجل ، مرجع في مثلث المراحل ، برزخا وحسابا ونتيجة.

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ)(٦١) :

وترى «عباده» هنا تعني خصوص المكلفين؟ ف (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) (١٩ : ٩٣) قد تختصهم بهم ، كما وكلّ الآيات التي تحمل «عبد» بكلّ صيغها تعنيهم.

ولكن العبودية تعم كافة الكائنات ، ف (إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (١٧ : ٤٤) وذلك التسبيح أيا كان هو عبادة

٦٨

مهما كانت بأدنى إدراك وشعور ، ثم الحفظ الرباني يعم كلّ شيء : (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) (١١ : ٥٧) ، مهما كان المحور الأصيل في الحفظ العقلاء من عباده ، كما (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) (١٣ : ١١).

وحفظ الله تعالى بين رحماني يعم كلّ شيء كما في آية هود وأضرابها ، ورحيمي يخص الصالحين ، وهو بين حفظ للإيمان قدر القابلية والفاعلية ، وحفظ للعصمة الربانية على درجاتها ، ومن الرحيمي حفظ الأعمال ليوم الحساب (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ) (٨٢ : ١١).

وهنا «عليكم» حفظ رباني رحماني يعم كلّ عباد الله ، ورحيمي حفظا للأعمال : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) بأمر الله ، فليس الله ـ إذا ـ حفيظا عما يريده من اجل مسمّى (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) في دائرة توفّي الأموات التي يرأسها ملك الموت (وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) تقصيرا في كمية الإماتة وكيفيتها ، فإنهم ماضون بأمر الله دون تمييز بين الذين جاءهم الموت.

وترى (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) ضمانة تامة للحفاظ علينا فلا علينا أن نحافظ على أنفسنا مما يصطدمنا في حياتنا وحيوياتنا؟.

أجل ، إن علينا كلّ المحاولات الممكنة في حفاظنا على نواميسنا الخمسة فانه ضرورة عقلية ورسالية ، إلّا أنّ حفاظاتنا على نواميسنا ليست بالتي تكفينا لو لا أن الله يحفظنا ويرسل علينا حفظة ، فمهما ترك لنا الحرية لنتعرف ، ومن العلم لنعرف ، ومن القدرة لنقوم بالواجب ، ولكنها كلها محدودة بأقدارنا وقدراتنا ، فنحن بحاجة ماسة الى حفظة الله ، وهذه هي المعية الربانية المعنية ب (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٥٧ : ٤).

ثم وليس حفظ الأعمال بتسجيلها من حفظنا ، وإنما هو الحفظ على ما لا

٦٩

يختص به الله من سائر ما أمرنا بالحفاظ عليه من أمورنا الاختيارية الاختبارية.

ولأن الحفظ رحمانيا ورحيميا يعم حفظ الروح إلى حفظ الجسد ، فلا بد للحفظة بأمر الله من الاطلاع على موارد واجب الحفظ فيهما ، والله هو الذي يطلعهم على ما أرسلوا لحفظه.

وهل إن هؤلاء «الحفظة» هم رسل الموت أم سواهم؟ لا تدل الآية على أحدهما ، وقد تلمح «رسلنا» دون «حفظة» أو «توفوهم» إلى أنهم غيرهم ، ويؤيده أن الملائكة العمال درجات ، لكلّ طائفة منهم عملية كما يأمر الله ، فلا خلط ـ إذا ـ مبدئيا إلّا أن يدل عليه دليل.

وكما أن الحفظ الرباني من الغيب كذلك توفيه لنا ، فإذا جاءت اللحظة المرسومة المسماة ، الموعودة لكلّ نفس وهي غافلة ، أدى رسول الموت مهمته وقام برسالته هذه بعد ما أدى الحفظة رسالة حفظهم دون أي تناحر بين الرسالتين.

(ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ)(٦٢) :

أتراهم بعد توفيهم لهم مكوث حتّى يردوا إلى الله مولاهم الحق؟ (أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) قد ينحّي ذلك الرد إلى يوم البعث ، وأما البرزخ ففيه حكم وحساب مؤقت ، ف «ثم» المراخية لردهم لمحة إلى الحساب المتراخي يوم الحساب ، ثم و (هُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) على وفر العباد المحاسبين ، وقد روي أنه سبحانه يحاسب جميع عباده على مقدار حلب شاة (١) ، ولو شاء لأسرع أسرع من حلبة شاة.

__________________

(١) مجمع البيان وروي .. وروي عن امير المؤمنين (ع) أنه سئل كيف يحاسب الله سبحانه الخلق ولا يرونه؟ قال : كما رزقهم ولا يرونه.

٧٠

أجل إنه ليس مردّهم جميعا إلّا إلى (مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) دون سائر الموالي فإنها باطلة كلها في حقل الربوبية المزعومة لها.

والرد هنا هو الرجوع ، فلأنهم ، بلا شعورهم وعقلهم واختيارهم كانوا عند الله في كلّ حول وقوة ، ثم الله نقلهم إلى عالم الإختيار ، ومن ثمّ يرجعهم إلى ما كانوا بفارق الحساب واللّاحساب ، لذلك فقد يصح التعبير عن هذه النقلة بالرد والرجوع إلى الله.

ولأن الله هو نفسه ليس منتهى غاية زمانا أو مكانا أو وصولا إلى ذاته أم أفعاله وصفاته ، فالرد إليه هو الرد إلى ربوبية جزاءه منذ الموت ، بعد ما عاشوا ربوبية تكليفه ردح التكليف.

وهنا (أَلا لَهُ الْحُكْمُ) يضم كأهم موارده حكم الرد والحكم الحساب بعد الرد ، فلا حساب إلّا على الله وكما لا رد ولا رجوع إلّا إلى الله ، ف «إياب الخلق إليكم وحسابهم عليكم» ترد أو تؤوّل بما يناسب انحصار الإياب والحساب في الله يوم الإياب والحساب ، ككونهم موازين الأعمال ، فبهم ـ كأمثولات عليا ويرأسهم الرسول (ص) ـ توزن الأعمال ، ثم يردون إلى الله لعدل العقاب أم فضل الثواب.

ذلك ، ومن ثمّ يحاكمنا ربنا إلى فطرنا العارفة إياه حيث تلتجئ إليه في ساعة العسرة :

(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ)(٦٤) :

(ظُلُماتِ الْبَرِّ) هي ظلمات الليل فيه وظلمات الظلامات ليل نهار ، إضافة إلى ظلمات السحاب.

وظلمات «البحر» كذلك إضافة إلى ظلمات أعماقها حين تغرقون

٧١

فيها ، ومن أظلم ظلمات البحر ظلمة الليل وظلمة السحاب الغاشية وظلمة غور الماء ، إضافة إلى ظلمة الظلم حين يحكم هذه الظلمات ممن يستغل فرصها.

ففي هذه الظلمات ـ وقد تقطعت الأسباب وحارت دونها الألباب ـ يرجع الإنسان إلى فطرته حيث تزول غباراتها المختلفة المختلقة بزوال أسبابها الغاشية المتخيّلة حيث يغيب كلّ سبب ومسبب.

وقد يعني تخصيص الظلمات هنا بالذكر أخص الحالات المضطربة حيث تخفى الأسباب المتخيلة مهما كانت كائنة ، فهي ـ إذا ـ أيأس الحالات عن كافة الأسباب ، حيث لا يبقى في الدور إلّا مسبّ الأسباب.

إذا ـ وبطبيعة الحال ـ «تدعونه» لا سواه ، حيث ضل من كنتم تدعونه إلّا إياه ، (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً) إليه لا سواه «وخفية» وهي من آداب الدعاء كما يروي عن النبي (ص) قوله : «خير الدعاء الخفي وخير الرزق ما يكفي ، ومر بقوم رفعوا أصواتهم بالدعاء فقال : إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا وإنما تدعون سميعا قريبا» (١).

أجل «خفية» كأدب لو خلي الداعي وطبعه ، ولا سيما إذا كان وحيدا ، فقد يتعرض الدعاء جهرا للرئاء كما في جمع ، أم للجهالة كأن يخيّل إلى الداعي كأن بالمدعو صمما ، ثم الخلو منهما يرجح فيه «خفية» إلّا إذا تعني تعليم من معك ، أو تلتذ برفع صوتك بالضراعة والدعاء حينما تأمن الرئاء فأحرى لك إذا أن تدعوا جهرا.

فالدعاء في أصله تضرع في خفية : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا

__________________

(١) مجمع البيان «من فوقكم» السلاطين الظلمة و (مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) العبيد السوء ومن لا خير فيه وهو المروي عن أبي عبد الله (ع) (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) يضرب بعضكم بما يلقيه بينكم من العداوة والعصبية وهو المروي عن أبي عبد الله (ع).

٧٢

يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (٧ : ٥٥) لأنه بالنسبة للمدعو : (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) (١٣ : ١٠) ، ولكن دعاء الخفية قد يراد منه الإخفاء عمن يسمعه ، تسترا عن حكم الفطرة بهذه الحالة الانقطاعية.

وهنا (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) قد تعني «وخفية» للدعاء والتضرع فيه لكي يخفى على من يعرفونكم بحالة الإشراك ، تسترا عن إيمان الفطرة وفطرة الايمان ، إذا فالخفية في الدعاء خفيتان صالحة كأصلحها وطالحة كأنحسها وبينهما عوان ، وكلّ ذلك اعتبارا بمختلف الملابسات الطارئة.

وهنا (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ) إجابة من الفطرة يقولها فاطرها لأنها باهرة غير خفية «ثم أنتم» الناجون بدعائكم ، الواعدون : (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) ـ «أنتم» أنفسكم أيها الخونة الكاذبون «تشركون».

و«كلّ كرب» هنا تحلّق الإنجاء على كلّ المحاور مهما كانت هناك أسباب ظاهرة ، فإنها ليست لتعمل إلّا بمشيئة الله.

(قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ)(٦٥) :

تهديد شديد بالمتخلفين عن شرعة الله بعذاب غامر من فوق أو نابع من تحت أو آت من بينكم ، ثالوث من العذاب من نواح ثلاث تغمر الناس في خضمّها ، وقد تدل على اختصاصها بالمسلمين في هذا الخطاب (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) حيث المشركون وسائر الكفار هم ملبسون شيعا قضية مبدئهم ، وأما المسلمون فقضية مبدئهم الإسلام هي الوحدة اعتصاما بحبل الله جميعا.

٧٣

ولكن لا تحديد في ذلك التهديد إلّا بالمتخلفين الشرسين عن شرعة الحق ككلّ وقد سبق الخطاب المشركين المتعنّتين.

إلّا أن المحور ـ ولا سيما في يلبسكم شيعا ـ هم غير المشركين فإنهم شيع بإشراكهم : (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (٣٠ : ٣٢) ولكن لبس الشيع كعذاب من العذابات يوم الدنيا ، يشمل كلّ من يستحقه ، سواء المشركين فبمزيد الشيع ، أو المسلمين المتوحدين فبأصل الشيع ، أو المتفرقين كما هو دأبهم الدائب فبمزيده كما المشركين مهما كانوا دركات.

وقد تعني (مِنْ فَوْقِكُمْ) إضافة إلى عذاب السماء إلهيا وبشريا «السلاطين الظلمة» و (مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) إضافة إلى مثل الخسف والعذابات البشرية «العبيد السود» ثم (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) لبس الخلافات بين المسلمين أنفسهم كما وهو سوء الجوار (١).

فقد يعذبون بمن فوقهم وما فوقهم ، أو بمن تحتهم وما تحتهم ، أو بمن معهم وهم في مستواهم ، عذابات لا قبل لهم بها ... (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ).

وهل «أن يبعث» تختص عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم بما ليس للإنسان فيه صنع؟ والعذابات الخلقية كذلك مما يبعثها الله قضية توحيد الربوبية! فهنالك ثالوث من (عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) وأخرى (مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) والسابع : (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ)

__________________

(١) المجمع قيل هو سوء الجوار عن أبي عبد الله (ع) وفي الدر المنثور عن ابن عباس في (عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) قال : يعني من امرائكم (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) يعني سفلتكم (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) يعني بالشيع الأهواء المختلفة (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) قال يسلط بعضكم على بعض بالقتل والعذاب.

٧٤

أبواب سبع من جحيم العذاب يفتحها ربنا على من لا يفقهون وهم متخلفون عن جادة الصواب.

وقد يفوق لبسهم شيعا وذوق بعضهم بأس بعض كافة العذابات من فوقهم أو من تحت أرجلهم ، إذا فهو الدرك الأسفل من الدركات السبع للعذاب ، وهو الذي يخلّف سائر العذابات الفوقية والتحتية.

ففي انقسام المسلمين شيعا وأحزابا مذهبية أو سياسية أماهيه ، فيه ضعفهم وفشلهم ، فيسيطر عليهم السلطات الفوقية بل والقوات التحتية.

فحين يأمرنا الله تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ...) يعني الحفاظ على كوننا وكياننا في أنفسنا وأمام سائر الناس المتربصين بنا كلّ دوائر السوء.

وحين نترك ذلك الاعتصام نلبس شيعا فيذوق بعضنا بأس بعض على قدر تحللنا عن ذلك الاعتصام.

ولقد أخذ لبسهم شيعا منذ السقيفة منذ أن ارتحل الرسول (ص) ثم توسعت الخلافات المذهبية وتعرقت بين المسلمين مما جعلتهم شذر مذر أيادي سبا لا تحكمهم إمرة صالحة واحدة ، فهم ـ على كثرتهم ـ عائشون تحت إمرة المتأمّرين الظالمين من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، المتآمرين عليهم ، المخططين ضدهم كلّ الخطط الخاطئة الساحقة.

ذلك! وكما يتعوذ الرسول (ص) من هذه العذابات (١) قائلا : أما إنها

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ١٧ عن جابر بن عبد الله قال : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله (ص) أعوذ بوجهك (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) قال : أعوذ بوجهك (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) قال : هذا أهون وأيسر» أقول : أيسر في وجهه نفسه وهو أعسر لأنه يخلف عذابا من فوقكم ومن تحت أرجلكم.

٧٥

كائنة ولم يأت تأويلها بعد (١) وما ورد من إجارة هذه الأمة من الأولين بدعاء الرسول (ص) معارض بمثلث المعارضات كتابا وسنة (٢).

إذا فالأمة الإسلامية مهددة بهذه العذابات الثلاث المنقسمة إلى سبعة وعوذا بالله كما استعاذ رسول الله (ص) ، مهما شملت هذه التهديدات غيرهم بأحرى منهم.

ذلك ، وكما نرى قسما من هذه العذابات التي يروى إجازة هذه الأمة عنها ، واقعة فيهم ك «وسألته ألا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها» (٣)! وهم في الأكثرية الساحقة يعيشون كثيرا من القرون

__________________

(١) المصدر عن سعد بن أبي وقاص عن النبي (ص) في هذه الآية : أما انها ..

(٢) ما يروى عنه (ص) انه قال : اللهم لا ترسل على امتي عذابا من فوقهم ولا من تحت أرجلهم ولا تلبسهم شيعا ولا تذق بعضهم بأس بعض فأتاه جبرائيل فقال : ان الله قد أجار أمتك ان يرسل عليهم عذابا من فوقهم او من تحت أرجلهم» كما في نفس المصدر ، أنه يعارض «اما انها كائنة» ولا يلائم الآية ، بل وتعارضها : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) وليس الرسول فينا ثم وظرف العذاب الموعود عدم الاستغفار!.

(٣) المصدر عن ابن مردويه عن ثوبان انه سمع رسول الله (ص) يقول : إن ربي زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها وأعطاني الكنزين الأحمر والأبيض وان امتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها واني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة فأعطانيها وسألته ألا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها وقال يا محمد إني إذا قضيت قضاء لم يرد إني أعطيت لامتك أن لا أهلكها بسنة عامة ولا أظهر عليهم عدوا من غيرهم فيستبيحهم بعامة ولو اجتمع من بين أقطارها حتى يكون بعضهم هو يهلك بعضا وبعضهم هو يسيء بعضا واني لا أخاف على امتي إلّا الأئمة المضلين ولن تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من امتي بالمشركين وحتى تعبد قبائل من امتي الأوثان وإذا وضع السيف في امتي لم يرفع عنها الى يوم القيامة وانه قال : كلها يوجد في مائة سنة وسيخرج في امتي ـ

٧٦

الإسلامية حتى الآن تحت أنيار الذل من السلطات الكافرة.

فالروايات المروية عنه (ص) بإجارة الأمة عن سلطة عدو عليهم من غيرهم ـ على كثرتها ـ مخالفة للقرآن وللواقع المعاش لهم ، اللهم إلّا أن تعني من الأمة حقهم وحاقهم الآتين بشروط الإسلام.

وترى هذه الآية المهددة بلبسنا شيعا تمنعنا عن إقامة البراهين الصادقة لإثبات المذهب الحق لأنها تعارضها براهين من آخرين؟.

كلّا وإنما ما تمنعنا عن ترك الاعتصام بحبل الله جميعا ، فإن القرآن هو رمز الوحدة العريقة الدينية ، وما اختلاق المذاهب عقيدية وفقهية أماهيه إلّا من مخلّفات البعد عن حجة القرآن حقها وكما في خطبة الرسول (ص): «إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن ..».

(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)(٦٧) :

«كذب به» إذ لا مرجع لضميره سالفا يرجع إليه بخصوصه ، وقد ذكر توحيد الله والرد إليه والقرآن ، فكلّ منها مرجع ل «به» على الأبدال ، وقد يشمل الرسول (ص) نفسه فإنهم كذبوه كرسول لهذه الأصول ، ولا تنافيه «قومك» إلّا إذا عني هو بخصوصه فإن عبارته الصالحة إذا : وكذب بك قومك وأنت الحق.

ثم (وَهُوَ الْحَقُّ) دون «هو حق» يفرد الله تعالى بكونه المحور هنا لأنه الحق المطلق كله ، وتحت ظلاله كتابه ورسوله ويوم الحساب ، فذلك

__________________

ـ كذابون ثلاثون كلهم يزعم انه نبي الله وأنا خاتم الأنبياء لا نبي بعدي ولن يزال في امتي طائفة يقاتلون على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي امر الله ...».

٧٧

المربع تصلح عنايته هنا على الأبدال ، ومن ثم خامسا علّه التكذيب بواقع وعد العذاب (١).

وهنا (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) يرد عليهم زعم استقلاله بجنب الله أو تخويله من قبل الله أن يستجيبهم في كلّ الآيات المقترحة ، ف (لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) تنفي عنه مستأصلا وكالته عليهم ، حفاظا لهم ، أو حملا لهم على الإيمان ، أو استجابتهم فيما يهوون.

ثم (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) تحليق للأنباء الربانية ومنها (... عَلى أَنْ يَبْعَثَ ...) لمحة إلى واقع لمثلث العذاب في مسبّعه حين تستحقها الأمة الإسلامية بتخلفاتها.

(وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) مستقر الأنباء هنا أو يوم يقوم الأشهاد ، استقرارها ومكانه ، فان هذه الثلاث معنية مستقرة بطليق «مستقر» مصدرا واسم زمان ومكان.

إذا فلا خلف لوعده في أنباءه بمستقراتها في نشئاتها الثلاث إذا كانت محترمة كهذه الثلاث.

ذلك ، وإنها تحمل الطمأنينة الواثقة بالحق ، وثوقا بنهاية الباطل مهما تبجّح ، أخذا لأهله يوما مّا في الأجل المرسوم.

وما أحوج الدعاة إلى الله أمام المكذبين الجفات إلى هذه الطمأنينة

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٠ ـ اخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن زيد بن اسلم قال : لما نزلت (قُلْ هُوَ الْقادِرُ ..) قال رسول الله (ص) : لا ترجعوا بعدي كافرا يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيوف ، فقالوا : نحن نشهد ان لا إله إلّا الله وانك رسول الله قال : نعم فقال بعض الناس لا يكون هذا ابدا فأنزل الله : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ).

٧٨

الواثقة ، مع ما فيها من تهديدة دامغة لهؤلاء الأنكاد.

(وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(٦٨) :

(وَإِذا رَأَيْتَ) أنت الرسول (١) أو أي من المرسل إليهم (٢) فانها رؤية المسؤولية السلبية (الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا) خوض التشكيك والتكذيب والتجديف والتجديل والتحريف ، إثارة لأحاديثها ليستشفوا بواطنها ويعلموا حقائقها ، تحميلا عليها ما يهونها تكذيبا لها وتشكيكا فيها كالخابط في غمرة الماء لأنه يثير قعرها ويسبر غمرها فيغرق في أعماقها وأغوارها.

(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) حين لا تنفعهم الذكرى التي بها ينتفعون اهتداء أو يتركون بقاء على كفرهم دون خوض ودعاية على آياتنا.

وجامع الخوض في آياتنا (يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ) بها كما في آية النساء : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٠ ـ اخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريح قال : كان المشركون يجلسون إلى النبي (ص) يحبون ان يسمعوا منه فإذا سمعوا استهزءوا فنزلت (وَإِذا رَأَيْتَ ...) قال : فجعلوا إذا استهزءوا قام فحذروا وقالوا : لا تستهزأوا فيقوم فذلك قوله : لعلهم يتقون ان يخوضوا فيقوم ونزل : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ...) وفي تفسير العياشي عن أبي جعفر عليهما السلام في الآية قال : الكلام في الله والجدال في القرآن».

(٢) المصدر اخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال : لما هاجر المسلمون إلى المدينة جعل المنافقون يجالسونهم فإذا سمعوا القرآن خاضوا واستهزءوا كفعل المشركين بمكة فقال المسلمون لا حرج علينا قد رخص الله لنا في مجالستهم وما علينا من خوضهم فنزلت بالمدينة (وَإِذا رَأَيْتَ ..).

٧٩

جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا» (١٤٠) والنازل في الكتاب هناك هو النازل هنا في الأنعام ، و«عليكم» فيها تحول الخطاب هنا إلى غير الرسول (ص).

ذلك ، و«الكفر على أربع دعائم ، على التعمق والتنازع والزيغ والشقاق ، فمن تعمق لم ينب إلى الحق ، ومن كثر نزاعه بالجهل دام عماه عن الحق ، ومن زاغ ساءت عنده الحسنة وحسنت عنده السيئة وسكر سكر الضلالة ، ومن شاق وعرت عليه طرقه ، وضاق عليه مخرجه» (٣١ ح / ٥٧٠).

فالقعود مع الخائضين في آيات الله تسالما أو استسلاما نفاق مع هؤلاء الرفاق ، اللهم إلّا عند الضرورات التي تبيح المحضورات تقية على الأهم بترك المهم.

(وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ) تعني ـ فقط ـ من قد ينسيه الشيطان ، وليس منهم رسول الهدى فانه ليس له عليه سلطان نسيانا وغير نسيان ، وهو خارج ـ كأصل ـ عن ذلك الخطاب وكما دلت عليه آية النساء «عليكم» ولا نجد آية تحمل ذلك النهي إلّا هيه ، (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

وترى كيف تتجاوب «إما» الشرطية المخالفة للبت مع «ينسينك»؟.

إنها شرطية يحاول صاحب شرطها مؤكدا للإنساء ، فليحاول كفاحا صارما من ينسيه الشيطان ألّا ينسيه ، وإذا أنساه فليجبره ألّا يقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين» ، ف «إمّا» تشكيك حيث واقع الإنساء غير محتوم بل وسلبه محتوم للمخلصين.

وترى النسيان هنا بإنساء الشيطان هو نسيان الحظر بعد علمه؟ فعنده يسقط التكليف! إنه في الأصل نسيان التناسي فإنه من عمل الشيطان ،

٨٠