الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٤

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٦

الروايات المعممة للزكوة الى كل الأموال ، فلا دور لها إلّا ردها او تأويلها.

وليست صدفة غير قاصدة تلحيق أحاديث التسعة بكلمة واحدة مكرورة فيها «وعفى رسول الله عما سوى ذلك» فانها لا تعنى ـ ان صدرت وصحت ـ أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) عفى عما فرضه الله ، بل هي إشارة الى سياسة التدريج والمرحلية لتطبيق فريضة الزكوة ، فهو ـ إذا ـ عفو مرحلي مؤقت عما سوى الأموال الهامة والعامة في تلك الزمن ، ومن ثم ـ وبعد ما تمكن الأمر ـ أمر (صلى الله عليه وآله وسلم) بالأخذ من كل أموالهم في أخريات العهد المدني : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٩ : ١٠٣).

ذلك! وكما أن (ما كَسَبْتُمْ) لا تتحمل الإختصاص بالنقود ، فضلا عن النقدين المسكوكين الرائجين ، فالآية طليقة بإطلاق لا يتحمل اي تقييد ، فضلا عن هكذا تقييد في (ما كَسَبْتُمْ) بالنقدين ، وفي (مِمَّا أَخْرَجْنا) بالغلات الأربع ، ام والأنعام الثلاثة!.

ومهما سميت واجب الإنفاق بزكوة وغير زكوة ، لا تنفصم عرى الإطلاق العام ، سمّه ما شئت ، فالمسمى هو واجب الإنفاق على أية حال ، وآيات الزكوات والإنفاقات والصدقات والايتاآت ، حيث تفرضها في ذلك المربع في عهدي الرسول مكيا ومدنيا ، إنها تفرض عن كل الأموال نصيبا مفروضا للمحاويج.

وهذه الآية تفرض واجبا ماليا في كل ما يتمول من (ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا) فأرباح التجارات بكل صنوفها داخلة في النص الأول وكما تقول الروايات بواجب الزكاة فيها ، دون أية اشارة منها إلى ندب ، خلاف ما يزعمه جماعة من الفقهاء دون اي مبرر لهكذا تأويل عليل دون دليل إلا ضده في صراح

٢٨١

الآيات والروايات ، وقد يأتي القول الفصل في تعلق الزكاة بكل الأموال بطيات آياتها ولا سيما آية الصدقات المقررة إياها لأصناف ثمانية : (٨ : ٦٠).

ولأن طيبات ما كسبتم وما أخرجنا لكم من الأرض درجات ، قد تصبح أدناها من الخبيث نسبيا ، ف (لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ) قد تعني من المنفق من الطيبات ، ام هو أعم منه ارجاعا للضمير المفرد الى الإنفاق مادة وكيفية وكمية ، فلا خبث في مادة الإنفاق كما لا خبث في كيفيته أو كميته ، بل هو انفاق طيب من مادة طيبة ، فلا تنفقوا من خبائث ما كسبتم ، ولا من الطيبات الأدنى ، ف (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (٣ : ٩٢).

«تنفقون» خبيثا «و» الحال أنكم (لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ) خبيثا في كيفية ، ام في مادة او كمية ، (لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) إغماضا عن خبثه : محرما او محللا ضرورة إلى أصله ، ام تجاهلا عن كيفه وكمه ومادته او حله وحرّمته ، حرصا على أصله ، ومن الأغماض فيه ان تغمضوا البائع فيما يبيعه لكم نقصا من ثمنه ، فقد تغمض بصرك او بصيرتك فيه ، وأخرى تغمض الثمن في بيعه.

ف «الطيبات» إذا هي المحللات الجيدات مزيدات غير زهيدات ، فالإنفاق من المحرم انفاق خبيث لأنه انفاق من الخبيث (١) وانفاق الطيب الرديء غير محبور ولا مشكور لأنه نسبيا خبيث ، وانفاق الطيب الجيد ، الزهيد ـ غير طيب ، لأنه خبيث نسبيا ، فالطيب المطلق هو الخالص عن هذا

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٣٤٧ ـ اخرج البيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يكسب عبد مالا حراما فينفق منه فيبارك له فيه ولا يتصدق فيقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده الى النار إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ولا يمحو السيئ إلا بالحسن إن الخبيث لا يمحو الخبيث.

٢٨٢

الثالوث كخلوصه عن ثالوث المن والأذى ورئاء الناس ، فهذه ست في واجب الإنفاق.

و «اعلموا» ايها المجاهيل المنفقون خبيثا (أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ) عن انفاق الخبيث والإنفاق الخبيث «حميد» في غناه ، فلم يأمركم بالإنفاق لضنّة منه وبخل او عجز عن الإنفاق دون وسيط ، وانما يؤدبكم ويربيكم بإنفاقكم الطيب تربية صالحة.

فمهما كان الإنفاق في سبيل الله دون من ولا أذى ولا رئاء الناس ، ولكن الخبيث مما تنفقون يخبّثه ، فليكن الإنفاق في مثلث من كيف وكم ومادة ، هي كلها صالحة وفي سبيل الله ، تباعدا عن ثالوثة المنحوس كيفا وكما ومادة.

فقد يكون الإنفاق طيبا في النية ، ولكنه خبيث في كم او مادة ، ام هو طيب فيهما او في أحدهما ، ولكنه خبيث في النية ، والإنفاق في سبيل الله يتطلب الطيب في كل الأطراف المعنية ، نية ومادة وكمية.

وقد «جاء رجل ذات يوم بعذق حشف فوضعه في الصدقة فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : بئس ما صنع صاحب هذا فأنزل الله تعالى هذه الآية» (١) ف «انهم كانوا يتصدقون بشرار ثمارهم ورديء أموالهم فانزل الله هذه الآية» (٢) تنديدا بخبث المادة بعد التنديد بخبث الكيفية.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٨ : ٦١ عن ابن عباس جاء رجل ...

(٢) المصدر روي عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) والحسن ومجاهد انهم كانوا ... وفيه اخرج عبد بن حميد عن جعفر بن محمد عن أبيه قال لما امر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بصدقة الفطر جاء رجل بتمر رديء : فامر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يخرص النخل ان لا يجيزه فانزل الله هذه الآية ، وفيه بسند عن سهل بن حنيف قال : امر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصدقة فجاء رجل بكبائس من هذا السحل يعني الشيص فوضعه فخرج رسول الله ـ

٢٨٣

والحد الواجب من مادة الزكاة ان تكون «من وسط أموالكم فان الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره» (١) فان (طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) تقابلها «خبيثات»

__________________

ـ (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : من جاء بهذا؟ وكان كل من جاء بشيء نسب اليه فنزلت الآية. ونهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن لونين من التمر أن يؤخذا في الصدقة الجعرور ولون الجبيق.

وفيه اخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس قال : كان اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يشترون الطعام الرخيص ويتصدقون فأنزل الله الآية ، وفيه اخرج ابن جرير عن عبيدة السلماني قال سألت علي بن أبي طالب عن هذه الآية فقال : نزلت هذه الآية في الزكاة المفروضة كان الرجل يعمد الى التمر فيصرمه فيعزل الجيد ناحية فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه من الرديء فقال الله : ولا تيمموا الخبيث ... ولا يأخذ أحدكم هذا الرديء حتى يهضم له.

وفيه اخرج ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا أديت الزكاة فقد قضيت ما عليك ومن جمع مالا من حرام ثم تصدق به لم يكن له فيه اجر وكان إصره عليه.

(١) المصدر ٢٤٦ ـ اخرج ابو داود والطبراني عن عبد الله بن معاوية الفاخري قال قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الايمان ، ومن عبد الله وحده وانه لا إله إلا الله ، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه وافرة عليه كل عام ولم يعط الهرمة ولا الذربة ولا المريضة ولا الشرط اللئيمة ولكن من وسط أموالكم ... وفيه اخرج الشافعي عن سعر أخي بني عدي قال جاءني رجلان فقالا : إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعثنا نصدق اموال الناس ، قال فأخرجت لهما شاة ما خصا أفضل ما وجدت فرداها علي وقالا ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهانا أن نأخذ الشاة الحبلى قال : فأعطيتهما شاة من وسط الغنم فأخذاها ، وفيه اخرج احمد وابو داود والحاكم وصححه عن أبي بن كعب قال : بعثني النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مصدقا فمررت برجل فجمع لي ماله فلم أجد عليه فيها إلّا ابنة مخاض فقلت له : أدابة مخاض فانها صدقتك ، فقال : ذاك ما لا لبن فيه ولا ظهر ولكن هذه ناقة عظيمة سمينة فخذها فقلت له : ما أنا بآخذ ما لم أومر به وهذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منك قريب فان أحببت أن تأتيه فتعرض عليه ذلك قال : إني فاعل فخرج معي بالناقة حتى قدمنا على رسول الله (صلى الله عليه ـ

٢٨٤

وهي المحرمات والرذيلات دون المتوسطات.

وترى (طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) هل تشملان الأولاد الطيبين ، لتفقهم في سبيل الله ، او ننفق من أموالهم؟.

اجل! «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وان ولده من كسبه» (١) ف «هم من أطيب كسبكم وأموالهم لكم» (٢) ف «أنت ومالك لأبيك» (٣).

فقد يجوز او يجب الإنفاق من اموال الأولاد ما لم يكن فيه إجحاف او إسراف ، بل كما تنفق من مالك.

فحصيلة المعني من الآية باختصار هي وجوب ان يكون الجود بأوسط الموجود او أفضله ، دون الدون والرديء الذي يعافه صاحبه ، او المحرم ، أما ذا من مثنى الثالوث : منا ـ او أذى ـ او رئاء الناس ، ثم إنفاقا من حرام ـ او من حلال رديء ـ او فضيل قليل.

ذلك هو الإنفاق اللائق الفضيل ، دون الرذيل الهزيل ، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ

__________________

ـ وآله وسلم) فأخبره فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : ان تطوعت بخير آجرك الله فيه وقبلناه منك وامر بقبض الناقة ودعا له في ماله بالبركة.

(١) الدر المنثور ١ : ٣٤٧ ـ أخرج احمد وعبد بن حميد والنسائي وابن ماجة عن عائشة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

(٢) المصدر اخرج عبد بن حميد عن عامر الأحول قال جاء رجل الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مالنا من أولادنا؟ قال : هم من أطيب كسبكم وأموالهم لكم.

(٣) المصدر اخرج عبد بن حميد عن محمد بن المنكدر قال : جاء رجل الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إن لي مالا وان لي عيالا ولأبي مال وله عيال وان أبي يأخذ مالي؟ قال : أنت ومالك لأبيك.

٢٨٥

غَنِيٌّ) عنكم وعن انفاقكم «حميد» إذا أنفقتم كما يرضاه ، حميد حين أنفق عليكم فأمركم بإنفاقه ، حميد حين لا ينفق المحاويج دون وسائطكم حيث الدار دار الأسباب والإختيار والاختبار.

(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨)).

«الشيطان» بشخصه كأصل الشيطنات ، وبخيله ورجله كفروع وسطاء ، وبالأنفس الأمارة بالسوء تقبلا لوحي الشيطان ، «الشيطان» في ثالوثه المنحوس (يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) خلفية لازبة للإنفاق ، وكل إنسان يخاف الفقر فيحذر فيتحذر ـ إذا ـ عن الإنفاق حين يصغي الي وعد الشيطان.

(... يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) حين انه (يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) في أموالكم ، فهل الفحشاء في ثالوثها ـ الإسراف والتبذير والإنفاق في غير حل ـ هلّا يخلف الفقر ، ثم الإنفاق العفو ، عوانا بين الإفراط والتفريط يخلف الفقر؟ إذا فباء الشيطان في امره بالفحشاء يجر ، وباء الرحمن في امره بالإنفاق لا يجر (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى)!.

ومن الفحشاء في ترك الإنفاق الشيوعية وما أشبهها من مخلّفات الإقتار ، فانها تهلكة للأثرياء المقترين ، ولا سيما المسرفين في مصارفهم الفوضى اللامبالات على أعين المعدمين ، فإنهم ـ ولا بد ـ يوما مّا يتفجرون في وجوه هؤلاء المترفين.

فقد يأمرهم الشيطان بترك الإنفاق ، وبالفحشاء في مصارفهم إعلانا وهو يأمرهم بالفحشاء الاقتصادية من قبل المعدمين كخلفية لا حول عنها اسرارا ، حيث الفحشاء الأخيرة هي من خلفيات فحشاء الإقتار عن الإنفاق ، وفحشاء الإسراف والتبذير في شهواتهم أنفسهم!.

٢٨٦

ذلك الشيطان! ولكن (اللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ) في الدارين لذنوبكم ، وغفرا على أموالكم وأحوالكم هنا من هجمات البائسين ، حيث الإنفاق الإسلامي السامي يمنعهم من أي كيد أو ميد عليكم ، ثم «وفضلا» هنا في أموالكم وأحوالكم ، وباحرى في الأخرى بسبعمائة ضعف او تزيد ، ومن أفضل الفضل هو النفسي ، حيث تتعود على البذل والتنازل عما ينفقه في الله ، وتربوا معرفة بالله ، وزلفى إلى الله ، (وَاللهُ واسِعٌ) علما وقدرة ورحمة ، فلا يخلف الميعاد «عليم» بنياتكم وطوياتكم ، و «عليم» كيف يثيبكم وأنّى (١).

ف (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) في أصل الإنفاق ، فإذا عجز ففي طيبه الواجب ، ثم الراجح ، وكأنه هو الذي يغني ويقني! والله هو الذي (أَغْنى وَأَقْنى) (٥٣ : ٤٨).

فكل بخل وتثاقل عن طيب الإنفاق هو من وعد الشيطان ، منعا عن أصله ، ام إفسادا في نيته او كميته او كيفيته ، قرنا للإنفاق ام بعده بمن او أذى ام رئاء ، (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ. فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ. فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ ... الَّذِينَ

__________________

(١) في الدر المنثور ١ : ٣٤٨ عن ابن مسعود قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إن للشيطان لمة يا ابن آدم وللملك لمة ، فأما لمة الشيطان فإيعاد وبالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم انه من الله فليحمد الله ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان ثم قرأ (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ ...).

وفي نور الثقلين ١ : ٢٨٤ عن العلل بسند متصل عن أبي عبد الرحمن قال قلت لابي عبد الله (عليه السلام) إني حزنت فلا أعرف في اهل ولا مال ولا ولد وربما فرحت فلا اعرف في اهل ولا مال ولا ولد؟ فقال : انه ليس من أحد الا ومعه ملك وشيطان فإذا كان فرحه كان دنو الملك منه وإذا كان حزنه كان دنو الشيطان منه وذلك قول الله : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ ...).

٢٨٧

يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٨ : ٧٩).

هنا (يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) تعني أبعد الخطوات الشيطانية من خلال وعدكم الفقر وسواه من وساوس وهواجس ، ففي حقل الإنفاق يقول للبخيل لا تنفق ، ويقول للسمح أنفق من الرديء ، ويقول للمنفق من الطيبات أنفق قليلا ، وللمنفق كثيرا منّ عليه ، ويقول للمتمنع عن كل ذلك ، اتبع انفاقك بمن او أذى او رئاء الناس.

ذلك ، ولكنه لا يرضى إلّا الخطوة الأخيرة إن استطاع لها سبيلا ، والفحشاء في حقل الإنفاق هي المتجاوزة عن حد الاعتدال والعدل.

ومن الفحشاء في وعد الفقر وأد البنات خوفة العيلة وهو فحشاء نفسية ، تتجاوز حد الظلم الى أفحشه ، ومنها فحشاء الربا والسرقة والميسر وبخس المكيال والإدلاء إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون ، فان خوف الفقر يحرص النفوس ويحرّضها على الكلب والسلب.

(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢٦٩).

«الحكمة» هي من حكمة الدابة ، التي تربطها عن مشيتها العشواء إلى صراط مستقيم ، وكذلك الإنسان ، المبتلى بالنفس الأمارة بالسوء المتخلفة عن الصراط ، وبالعقل الذي قد يخطئ الصراط ، فلا بد له من حكمة ربانية تعقل النفس الإمارة ، وترشد العقل والفطرة عن اخطارهما الى سوي الصراط ، كسائر الحكمة.

وقد تربط آية الحكمة بآيات الإنفاق ان الحكمة في الإنفاق هي من الخير الكثير فالفطرة حكمة ، والعقل حكمة ، ولكنهما لا يكفيان تحكيما لعرى

٢٨٨

الإنسانية المتشتتة ، فلا بد من حكمة معصومة تعصمنا عن كل الأخطاء ، وتمشيّنا على صراط مستقيم.

و «من يشاء» هنا وفي اضرابها تدلنا على ان الحكمة المؤتاة ليست هي الفطرة ولا العقلية الإنسانية ، فإنهما مبذولتان لكل إنس أو جان ، ثم وليستا هما (خَيْراً كَثِيراً) بل هما قلّ بجنب الحكمة الربانية المتعالية ، التي تعصمنا عن كل الأخطاء.

هنالك بعد الفطرة والعقل ـ كحكمتين داخلتين ـ يأتي دور حكمة الإيمان ، فالتقوى ، فالعدالة ، ومن ثم حكمة العصمة ، ولا تعني «الحكمة هنا» إلا الزائد عن الأوليين ، على درجاتها حسب المساعي والفاعليات والقابليات.

فالحكمة هي بصورة عامة ما تربط صاحبها عن التعثر والتبعثر فطريا ـ عقليا ـ علميا ـ خلقيا ـ عقيديا ـ عمليا ، وفي ايّ من الحقول الحيوية ، (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ...).

فلا تعني «الحكمة» هنا ولا في سائر آياتها العشرين ، الحكمة المختلفة البشرية ، المتخلفة عن الحكمة الربانية ، فهي على تناقضاتها ، وتخلفاتها عن الحكمة الإلهية ، لا تأهل لتكون من عطيات الله الخاصة ، الموصوفة ب (خَيْراً كَثِيراً) بل هي من خلفيات أفكار فلسفية خليطة من الحق والباطل ، غير خليصة عما يناحر الحكمة الحكيمة.

وإذا كانت هي حكمة تمنع عن التعثّر والانزلاق ، فما هذه التعثرات الشاسعة ، والاختلافات الواسعة بين أصحاب الحكمة البشرية ، فلم تزد هي على كل أبعادها إلا إبعادا عما تحكمه الفطرة السليمة والعقلية الإسلامية السامية.

وليس معلم الحكمة الحكيمة المرضية إلا الله ، ورسل الله بما أرسلهم الله

٢٨٩

(يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ...) (٢ : ١٢٩) فالقرآن هو كرأس الزاوية في حقل الحكمة الإلهية في كل بنود الدعوة الرسالية (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ) (٥٤ : ٥).

ذلك ، وكما الله حكيم (١) واين حكيم من حكيم ، إلّا أن الحكمة النازلة على رسله وسائر المصطفين من خلقه ، هي من حكمته الممكن إيتاءها لخلقه ، استحكاما في سبل عبوديته.

والحكمة في آياتها العشرين هي القرآن وما يحويه ، وهي حكمة نبي القرآن تفسيرا وتطبيقا لما يحويه ، ولان القرآن حكمة في كل الحقول ، فقد تعني الحكمة بكل زواياها الفطرية والعقلية والعلمية والعقيدية والاخلاقية و ـ الفردية والجماعية ، اقتصادية وسياسية وحربية اماهيه من حكمة تربط عن الانزلاق والتخلف.

وأفضل الحكم الربانية على طول خط الرسالات هو القرآن العظيم ، فالعلم به حكمة علمية مطلقة ، والتخلّق به حكمة خلقية ، والعمل به حكمة عملية ، وقد يروى عن رسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم): «من قرأ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه غير انه لا يوحى اليه ، ومن قرأ القرآن فرأى أن أحدا أعطي أفضل مما أعطي فقد عظم ما صغر الله وصغر ما عظم الله وليس ينبغي لصاحب القرآن إن يجد مع من جد ولا يجهل مع من جهل وفي جوفه كلام الله» (٢) و «القرآن غنى لا فقر بعده ولا غنى دونه» (٣) و «من

__________________

(١) لقد وصف الله نفسه بالحكيم في (٩٩) آية من الذكر الحكيم.

(٢) الدر المنثور ١ : ٣٤٩ ـ أخرج الطبراني والحاكم وصححه والبيهقي عن عبد الله بن عمر ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ... ـ

٢٩٠

أعطاه الله حفظ كتابه وظن ان أحدا أوتي أفضل مما أوتي فقد غمط أعظم النعم» (١) و «كل مؤدب يحب ان يؤتى أدبه وأدب الله القرآن فلا تهجروه» (٢) و «أول ما يرفع من الأرض العلم فقالوا يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يرفع القرآن؟ قال : لا ولكن يموت من يعلمه ـ او قال ـ من يعلم تأويله ويبقى قوم يتأولونه على أهوائهم» (٣).

فالحكمة التي هي ضالة المؤمن (٤) هي حكمة القرآن حيث يفتش عنها المؤمن ، فضالتها ـ إذا ـ ما ضلت عنه ويتحراها ، ثم مضلّة المؤمن هي الحكمة البشرية المختلقة.

فكل إخلاص على ضوء القرآن هو نبعة لحكمة معرفية ، ف «من أخلص لله أربعين يوما تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه» (٥).

وحين يكون «القرآن منار الحكمة» (٦) فما سواه هو نار الحكمة ، حيث ان الحكمة المعرفة والتفقه في الدين فمن فقه منكم فهو حكيم ، وما احد يموت من المؤمنين أحب الى إبليس من حكيم (٧) وهل يصدر فقه الدين في أصوله وفروعه إلا من وحي القرآن؟!.

__________________

ـ (٣) المصدر اخرج ابو نعيم في فضل العلم ورياضة المتعلمين والبيهقي عن أنس ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ...

(١ ـ ٥). المصدر كلها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأسانيد عدة.

(٦) نور الثقلين ١ : ٢٨٧ ـ علي بن ابراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وقد ذكر القرآن ـ لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه ، مصابيح الهدى ومنار الحكمة.

(٧) المصدر في تفسير العياشي عن سليمان بن خالد قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) فقال : ان الحكمة المعرفة ...

٢٩١

و «هي طاعة الله ومعرفة الإسلام» (١) وهل لهما منار إلّا حكمة القرآن؟.

ولقد اوتي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) القرآن واوتي من الحكمة مثل القرآن (٢) وهو السنة المفسرة للقرآن. و «الحكمة ضياء المعرفة وميزان التقوى وثمرة الصدق ، ولو قلت ما أنعم الله على عباده بنعمة أنعم وأنظم وأرفع وأجزل وأبهى من الحكمة لقلت قال الله (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أي لا يعلم ما أودعت وهيأت في الحكمة إلا من استخلصته لنفسي وخصصته بها ، والحكمة هي النجاة وصفة الحكمة الثبات عند أوائل الأمور والوقوف عند عواقبها وهو هادي خلق الله إلى الله (٣) «ورأس الحكمة مخافة الله» (٤) وهي «حقيقة الإيمان» (٥).

__________________

(١) المصدر في محاسن البرقي عن أبيه عن النضر بن سويد عن الحلبي عن أبي بصير قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الآية فقال : ...

(٢) نور الثقلين ١ : ٢٨٧ عن مجمع البيان وروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال : ان الله آتاني القرآن وآتاني من الحكمة مثل القرآن وما من بيت ليس فيه شيئ من الحكمة إلا كان خرابا.

(٣) المصدر عن مصباح الشريعة عن الصادق (عليه السلام).

(٤)المصدر عن الخصال عن الزهري عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال : كان آخر ما أوصى بالخضر موسى بن عمران (عليه السلام) أن قال له : لا تغيرن أحدا ـ الى قوله ـ : رأس الحكمة مخافة الله.

(٥) المصدر عن الخصال عن أبي جعفر (عليهما السلام) قال : بينما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات يوم في بعض أسفاره إذا لقيه ركب فقالوا : السلام عليك يا رسول الله ، فالتفت إليهم وقال : من أنتم؟ فقالوا مؤمنون ، قال : فما حقيقة إيمانكم؟ قالوا : الرضا بقضاء الله والتسليم لأمر الله والتفويض الى الله فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علماء حكماء كادوا ان يكونوا من الحكمة أنبياء ، فان كنتم صادقين فلا تبنوا ما لا تسكنون ولا تجمعوا ما لا تأكلون واتقوا الله الذي اليه ترجعون.

٢٩٢

والحكمة نظرية ومعرفية وخلقية وعملية أمّاهيه ، ليست حكيمة إلا على ضوء حكمة القرآن ، وليست الحكمة هي ـ فقط ـ قراءة القرآن ، ام حفظه عن ظهر الغيب ، بل هي هدي القرآن علميا وعقيديا وعمليا ، وكما يدل على هذا الخصوص (مَنْ يَشاءُ ... وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ ...).

فالحكيم هو الذي استحكم بالقرآن عرى فطرته وعقليته وإحساسه ، حيث أوتي ـ إذا ـ القصد والاعتدال فلا يفحش ولا يتعدى الحدود ، وأوتي إدراك العلل والغايات فلا يضل في تقدير الأمور ، وأوتي البصيرة المستنيرة التي تهديه للصالح الصائب من الحركات والأعمال وكافة البركات في اعمال وحركات ، وذلك خير كثير ، رغم انه (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً).

فكل علم أوتيناه ككلّ قليل ، وما يؤتيه الله لمن يشاء من الحكمة هو خير كثير (وَما يَذَّكَّرُ) تلك العطية الربانية والخير الكثير (إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) الزائلة عنهم قشور عقولهم ، فأولو الألباب هم ممن يشاء الله ان يؤتيهم الحكمة دون اولي القشور.

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (٢٧٠).

«نفقة» هي المأمور بها بأصل الشرع ، و «نذر» هو المأمور به بما لزمه على أنفسنا بنذر او شبهه عهدا او حلفا أما شابه ، وعل «نذر» هنا بمناسبة «نفقة» هو نذر المال ، وضمير الغائب المفرد في «يعلمه» راجع الى «ما» فيهما ، دون خصوص النذر ام إليهما.

إذا فكل مال تؤتونه للمحاويج (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) كما وكيفا ونية وطوية واتجاها ، (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) وعلّ «الأنصار» تشمل هنا كل عدل وشفيع ، وكل تكفير من توبة وسواها ، اعتبارا ان المورد من حقوق الناس ،

٢٩٣

وهي لا تغفر حتى يغفر المظلوم؟ ف «إياكم والظلم فان الظلم هو الظلمات يوم القيامة»(١).

ام ان هذه كضابطة : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) حين يموتون ظالمين ، واما من ظلم ثم كفّر عن ظلمه فهو منصور حيث يغفر ، كما وان من مات ظالما بصغار الذنوب تاركا للكبائر فهو منصور حيث يغفر : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (٤ : ٣١) كما وان من اهل الكبائر من يشفع له ، ومهما كان ترك الإنفاق والنذر من الكبائر ، فهو منصور حيث يغفر ، وانما الظالم الذي لا يغفر له هو الذي مات مشركا : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) أمّن شابه.

ثم «نفقة» تعم كافة النفقات مالية وسواها الذي قد يربوا عليها ، وكذلك «نذر» ثم لا نذر إلّا في طاعة الله كما لا نفقة إلا في وجه الله ، ف «لا

__________________

(١) قد ورد متظافرا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أحاديث عدة كما في الدر المنثور ١ : ٣٥٢ ، وفيه أخرج الطبراني عن أبي امامة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): صنفان من امتي لن تنالهم شفاعتي امام ظلوم غشوم وكل غال مارق ، وفيه أخرج الحاكم وصححه عن ابن عمر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد الى السماء كأنها شرارة ، وفيه أخرج احمد بن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): دعوة المظلوم مستجابة وان كان فاجرا ففجوره على نفسه ، وأخرج الطبراني عن خزيمة بن ثابت قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اتقوا دعوة المظلوم فانها تحمل على الغمام يقول الله وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين ، وفيه اخرج احمد عن انس بن مالك قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اتقوا دعوة المظلوم وان كان كافرا فانه ليس دونها حجاب ، وفيه اخرج ابو الشيخ بن حبان في كتاب التوبيخ عن ابن عباس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال الله تبارك وتعالى : وعزتي وجلالي لأنتقمن من الظالم في عاجله وآجله ولأنتقمن ممن رأى مظلوما فقدر ان ينصره فلم يفعل.

٢٩٤

وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك العبد» (١) ملكا شرعيا او عقليا ام عرفيا حيث لا يستطيع عليه تكوينا او تشريعا ، فلا يبدل النذر حكما من احكام الله ، فانما يلزم عليك راجحا من واجب اكثر مما وجب ، وسواه.

فلا نذر إلا في نطاق طاعة الله كتأكيد لها ، وإلا في ترك معصية الله كتأكيد لتركها.

واصل النذر من الخوف ، وهو هنا الالتزام بما يلزم او لا يلزم تخوفا فيما يهمه ، من تفلت في ترك واجب او فعل محظور ، أم انتظار لما يتطلبه من ربه في

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٣٥١ ـ اخرج ابن أبي شيبة ومسلم وابو داود والنسائي وابن ماجة عن عمران بن حصين قالت : أسرت امرأة من الأنصار فأصيبت العضباء فقعدت في عجزها ثم زجرتها فانطلقت ونذرت ان نجاها الله عليها لتنحرنها فلما قدمت المدينة رآها الناس فقالوا : العضباء ناقة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت : انها نذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها فأتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فذكروا ذلك له فقال : بئس ما جزتها نذرت لله ان نجاها الله عليها لتنحرنها ألا لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك العبد.

وفيه اخرج البخاري ومسلم وابو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن ثابت بن الضحاك عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ليس على العبد نذر فيما لا يملك.

وفيه اخرج بنفس الإخراج عن أنس ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى شيخا يهادي بين ابنيه فقال : ما بال هذا؟ قالوا : نذر ان يمشي إلى الكعبة قال ان الله عن تعذيب هذا نفسه لغني وأمره ان يركب. وفي نقل آخر فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): اركب ايها الشيخ فان الله غني عنك وعن نذرك.

وفيه اخرج ابو داود وابن ماجة عن ابن عباس ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : من نذر نذرا لم يسمّه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا في معصية الله فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا اطاقه فليوف به ، وفيه أخرج النسائي عن عمران بن حصين سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : النذر نذران فما كان من نذر في طاعة الله فذلك لله وفيه الوفاء ، وما كان من نذر في معصية الله فذلك للشيطان ولا وفاء فيه ويكفر ما يكفر اليمين.

٢٩٥

سؤل ، فلا نذر دونهما ، ولا فوضى فيه تشمل كل إلزام والتزام في غير ما خوف او رجاء ، فانما النذر بين خوف ورجاء.

وهنا (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) بشارة لمن ينفق صالحا او ينذر صالحا ، فانه وعد المنفقين ما وعد ، وهو قادر على تحقيق ما وعد ، وهو العالم بما فعلت ، فانتظر ـ إذا ـ ثوابه عاجلا او آجلا.

ثم هي نذارة لتارك نفقة او نذر طالحا ام دون ما يجب ، وهو القادر على نقمة الظالمين ، العالم بما يعمله الظالمون ، سوف يعاقبهم ، فلينتظروا عقابه عاجلا وآجلا.

فشعور المؤمن بانّ عين الله ناظرة حاضرة إلى نيته وعمليته ، يثير في حسه مشاعر متنوعة حية ، تحذرا عن كل محظور في جنب الله ، وتنضّرا بكل انفاق منظور او منذور في شرعة الله ، وليكون على نبهة وأهبة واستعداد ، سلوكا إلى الله ، حصولا على مرضات الله.

(إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٢٧١).

لكل من إبداء الصدقات وإخفاءها خير وكما في كل عمل صالح ، ف «عمل السر أفضل من العلانية والعلانية أفضل لمن أراد الاقتداء به» (١) وهنا في الصدقة فالأفضل «جهد من مقل وسر الى فقير» (٢) فان السر ابعد من الرئاء.

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٢٥٢ ـ اخرج البيهقي في الشعب عن ابن عمر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

(٢) المصدر اخرج الطيالسي واحمد والبزاز والطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب عن أبي ذر قال قال ـ

٢٩٦

فلأن تبنّي النفس صالحة خالصة عند الله أفضل من تبنّي الغير إلّا بعد النفس ، ف (إِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ).

ثم (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) في نفسه ، نبراسا للآخرين وأسوة للشاردين ، وتشجيعا للواردين ، ثم والجمع بين «نعما هي ـ و ـ خير لكم» ان تؤتى الصدقة بادية بخالص النية ، دون فارق فيها بين السر والعلن إلّا بان العلن قدوة وأسوة.

ولان طبيعة الحال في إبداء الصدقات تسرب الرئاء وما أشبه من استخفاف الفقير وان لم ينوه ، فصدقة السرّ ـ هي ككل ـ أفضل من العلن ، فإن فقدت قدوة فليست لتبتلى بالرئاء ، ودفع الضر أولى من جلب مزيد الخير.

فلذلك ترى أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة اهل بيته (عليهم السلام) تتواتر بفضل صدقة السر ، لحد «يتصدق بيمينه فيخفيها عن شماله» (١) و «صدقة السر تطفئ غضب الرب» (٢) (فَنِعِمَّا هِيَ) تعني

__________________

ـ لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ قلت : بلى يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، قال : لا حول ولا قوة إلا بالله فانها كنز من كنوز الجنة ، قلت فالصلاة يا رسول الله؟ قال : خير موضوع فمن شاء أقل ومن شاء اكثر ، قلت : فالصوم يا رسول الله؟ قال : قرض مجزئ ، قلت : فالصدقة يا رسول الله؟ قال : اضعاف مضاعفة وعند الله مزيد ، قلت فأيها أفضل؟ قال : جهد من مقل وسر إلى فقير.

(١) المصدر ٢٥٤ ـ اخرج احمد والبيهقي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن انس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : لما خلق الله الأرض جعلت تميد فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرت فتعجبت الملائكة من خلق الجبال فقالت يا رب هل من خلقك شيئ أشد من الجبال؟ قال : نعم الحديد؟ قالت : فهل من خلقك شيء أشد من الحديد؟ قال : نعم النار ، قالت : فهل من خلقك شيئ أشد من النار؟ قال : نعم الماء قالت : فهل من خلقك شيئ أشد من الماء؟ قال : نعم الريح ، قالت : فهل من ـ

٢٩٧

الصدقات الظاهرة في نفسها ، ثم (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) في أنفسكم ، واين خير من خير ، حيث الثاني يصنع الأنفس والاول صانع الآخرين ، ولذلك فضّل السر على العلن بكلمة التفضيل (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أنفسكم من صدقة العلن ، وقد تشمل «لكم» الفقراء الى جانب الأغنياء حفاظا على كرامتهم كما تحفظ الأغنياء من الرئاء.

ولان الصدقة الواجبة هي ابعد عن الرئاء من النافلة ، فابداءها ـ إذا ـ قد يكون أفضل من إخفائها اللهم الا رئاء الناس ، كما ان إخفاء النافلة أفضل من ابداءها اللهم الا اتقاء رئاء الناس وهكذا تفسر الأحاديث المفسرة لإبدائها بالفريضة ولاخفاءها بالنافلة (١).

وليست الآية لتعني نافلة الصدقة ككل (٢) كما لم تنقسم الى فريضة في ابداءها ونافلة في إخفائها ، حيث «الصدقات» تحلق عليهما ، مهما كانت

__________________

ـ خلقك شيئ أشد من الريح؟ قال : نعم ابن آدم يتصدق بيمينه فيخفيها عن شماله.

وفيه عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) انه ممن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلّا ظله.

(٢) فيه اخرج الطبراني عن معاوية بن حيدة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ...

(١) نور الثقلين ١ : ٢٨٩ ـ القمي بسند متصل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : كل ما فرض الله عليك فإعلانه أفضل من إسراره وكل ما كان تطوعا فإسراره أفضل من إعلانه ولو ان رجلا حمل زكاة ماله على عاتقه فقسمها علانية كان ذلك حسنا جميلا.

وفيه عنه عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله عز وجل : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) قال : هي الزكاة المفروضة ، قلت (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ) قال : يعني النافلة ، إنهم كانوا يستحبون اظهار الفرائض وكتمان النوافل.

(٢) المصدر عن الكافي بسند متصل عن أبي بصير عن أبي عبد الله قال قلت له : (إِنْ تُبْدُوا ...) قال : ليس من الزكاة ... أقول : تعني المفروضة ، وفيه عن أبي عبد الله في قول الله عز وجل (وَإِنْ تُخْفُوها ...) قال : هي سوى الزكاة ان الزكاة علانية غير سر.

٢٩٨

معاكسة الفضيلة في الإبداء والإخفاء بين الفريضة والنافلة.

ثم الصدقة قد تكون صفة للعطية ، فقد تعني العطية الصادقة ، صدقا مع الله حيث تعطى في سبيل الله وتصديقا لوعد الله حيث وعد اضعاف الجزاء ، وصدقا مع عباد الله حيث تعطى دون منّ ولا أذى ، وصدقا مع نفس المعطي حيث لا تخالجها أية خالجة خارجة عن الصدق.

(لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (٢٧٢).

الهدى هي واقعها بعد الدلالة إليها وتقبّلها ، و (لَيْسَ عَلَيْكَ) ولا لك «هو أهم» لأنها توفيق وتكوين وهما من مختصات الربوبية (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (٢٨ : ٥٦).

فلقد كان حريصا على هداهم شغفا الى هدى الله فنبهه الله : (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ) (١٦ : ٣٧).

والهدى هنا تعم القلبية والعملية ، و (ما تُنْفِقُوا ...) تناسب الثانية كما تناسبها الآيات السالفة ، فقد كان الرسول يدأب في حملهم على هداهم في صالح الإنفاق ، وكان يتحسر على تخلفاتهم عنه ، فأذهب الله عنه الحزن بما بين أن (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) الهدى ، ومن يشاء ان يهديه وهو الذي يحن إلى هدى ، فلا ان مشيته بيدك ولا مشية الله ، (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) (٣ : ٢٠).

وقد يعنى «هداهم» الاولى الى جانب الثانية ، ألا تختص بانفاقك اهل الإسلام وتحرم من سواهم إذ لم يهتدوا حتى يهتدوا وكما يروى «ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يأمرنا ان لا نتصدق إلا على اهل الإسلام حتى نزلت

٢٩٩

هذه الآية فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين» (١) ، ثم تشجيعا للمنفقين يثلث لهم الترغيب :

(وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) وليس لله حيث لا ينتفع به الله ، وانما أنفسكم أنتم حيث تزدادون سماحة في أنفسكم ونماء في أموالكم وخيرا في أولاكم وأخراكم ، وذودا عنكم كل دوائر السوء من المعدمين.

كما والمنفق إليهم هم ايضا من أنفسكم ، وفي اخوة اسلامية ـ ام ولأقل تقدير ـ اخوة انسانية ، فقد يأمركم الله بالإنفاق الراجع بصالحه في كل الأبعاد قريبة وبعيدة الى اشخاصكم والى ذوي نوعكم ، من اهل الكتاب وسواهم ، ومن المسلمين مهما تفاضلوا في وجه الإنفاق.

٢ (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) إخبار يحمل آكد الإنشاء ، أمرا مؤكدا بوجه الإنفاق انه فقط (ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) ورضاه لا سواه ، فالإنفاق في ذلك الوجه هو خير ولأنفسكم ، والا فهو شر وعلى أنفسكم ، وحين يكون الإنفاق لوجه الله فلا يختص باهل دينكم بل واهل كل الأديان مهما كان المسلمون أفضل.

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٣٥٦ ـ أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء عن ابن عباس ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ... وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر عن سعيد بن جبير قال كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يتصدق على المشركين فنزلت (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) فتصدق عليهم ، وفيه أخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا تصدقوا الا على اهل دينكم فانزل الله (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) ـ الى قوله ـ (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : تصدقوا على اهل الأديان ، وفيه أخرج سفيان وابن المنذر عن عمرو الهلالي قال : سئل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنتصدق على فقراء اهل الكتاب فأنزل الله : ليس عليك هداهم ... ثم دلوا على الذي هو خير وأفضل فقيل : للفقراء الذين ...

٣٠٠