الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٤

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٦

يؤده علما وقدرة أو قضاء حفظهما (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ).

(وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) ثقلا في قدرة ، وجهدا في علم ، وتدبيرا في حكمة ، فلا ثقل عليه حفظا لهما كما لم يغلبه خلقهما : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) (٥٠ : ٣٨).

فإنما الأود هو للمحدود ، المتحرك بالتحريك ، المتحرر بالتحرير ، والمتغير بالتغيير ، وأما القيوم اللامحدود الذي لا يتغير بانغيار المخلوقين ولا يتحد بتحديد المحدودين فلا يؤده خلق ولا حفظه (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ).

ولئن صح التعبير فخلقه وحفظه له كتصوراتنا التي لا تكلفنا حولا ولا قوة إلا مجرد الإرادة المبدعة ، والخلق كلهم يوهم كل فعل وحتى التصور وهو تعالى لا يؤده أي فعل (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ).

أجل إنه سبحانه «لم يتكأده صنع شيئ منهما إذ صنعه ولم يؤده منهما خلق خلق ما برأه وخلقه» (١) فإنه «لا يتغير بحال ولا يتبدل في الأحوال ولا تبليه الليالي والأيام ولا يغيره الغيام والظلام ولا يوصف بشيء من الأجزاء ولا بالجوارح والأعضاء ، ولا بعرض من الأعراض» (٢) ف «كل قوي غيره ضعيف وكل مالك غيره مملوك وكل عالم غيره متعلم وكل قادر غيره يقدر ويعجز».

(وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) : علي على كل شيء ، وعليّ من أن تناله طائرات العقول في منتهيات صعودها ، عظيم في علوه غاية العظمة (وَهُوَ الْعَلِيُّ

__________________

(١) النهج الخطبة ٢٢٨ و (٣٨) الخطبة ٦٤ و (٣٩) الخطبة ٢٢٨.

(٢) بحار الأنوار ٢ : ١٣٠ من الطبعة الجديدة عن عيون الأخبار باسناده الى محمد بن سنان قال : سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) هل كان الله عارفا بنفسه قبل ان يخلق الخلق؟ قال : نعم ، قلت : يراها ويسمعها؟ قال : ما كان محتاجا الى ذلك لأنه لم يكن يسألها ولا يطلب منها ، هو نفسه ... وفي اصول الكافي مثله.

٢٢١

الْكَبِيرُ) (٣٤ : ٢٣) (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ).

وهو علي عن قياسه إلى المخلوقين ، وعن أن تعني أسماءه اختلافا في ذاته وصفاته كما في خلقه ، فهو نفسه ونفسه هو ، قدرته نافذة فليس يحت(وَهُوَ الْعَلِيُّ) اج إلى أن يسمي نفسه ولكنه اختار لنفسه أسماء لغيره يدعوه بها ، لأنه لم ينعت باسمه لم يعرف ، فأوّل ما اختار لنفسه «العلي العظم» لأنه على الأسماء كلها. فمعناه أنه واسمه «العلي العلي العظيم» لأنه على الأسماء كلها فمعناه الله واسمه (الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) هو أوّل أسماءه لأنه علي على كل شيء.

ذلك! فلا يعني علوه علو المكان أو الزمان أو الدرجة المدرّج هو إليها أو أيا كان من علو طارىء ، بل هو علو الذات والصفات ذاتيا وعلو الأفعال إراديا ، فلا يقال : إنه أعلى إذ لا عليّ بجنبه حتى يكون أعلى منه ، و «ربي الأعلى» في سجود الصلاة تعني الأعلى من أن يدرك أو ينال أو يعطى حقه من العبودية اللائقة بجنابه كما (اللهِ أَكْبَرُ) من أن يوصف.

هذا ـ وكذلك العظيم ، فكل شيء صغير في جناب عظمته ، والعظمة هي رداءه الخاصة به.

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٥٦).

الدين هو الطاعة ، وهو هنا وفي أضرابه طاعة الله ، واقعيا في الأولى إقرارا باللسان واعتقادا بالجنان وعملا بالأركان ، وظهورا للطاعة والعصيان جزاء وفاقا في الأخرى.

وهنا «لا إكراه» تخص الأولى ، فإن تبيّن الرشد من الغي هنا يخص الأولى ، فالأخرى ـ إذا ـ خارجة عن ضابطة السلب المستغرق المستأصل لكل مصاديق الإكراه في الدين.

٢٢٢

فالاكراه في ظهور العصيان وملكوت الجزاء في الأخرى ليس استثناء عن هذه الضابطة. واما الأولى فقد يكون فيها الإكراه على تطبيق الدين بالنسبة لمن يعتقده ويتركه ، امرا بالمعروف ونهيا عن المنكر عمليا بعد تبيّن الحق فيهما ، ولكنه ليس في الحق اكراها ، بل هو حمل على ما يعتقده ، وتوافقه فطرته وعقليته ، فقد لا يصدق عليه الإكراه.

وكذلك الحمل على الإقرار باللسان فيما يعتقده عقليا ولا يقرّ به فإنه ـ في الحق ـ ليس اكراها ، واما عقيدة القلب فليست لتقبل الإكراه على اية حال ، فلا إكراه في الدين في أية حال ، ثم الدين كما يعم مثلثه ولا إكراه إطلاقا في عقيدة الدين ، كذلك يعم دين الفطرة والعقلية ف (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) فطريا ـ كما فطر الله ـ وعقليا.

فلا إكراه فيما توافقه الفطرة والعقلية حيث المطاوعة حاصلة بطبيعة الحال ، كما لا إكراه فيما يخالفهما حيث المطاوعة ـ إذا ـ غير حاصلة على أية حال.

فالرشد المتبين لا إكراه على اتباعه كما لا إكراه على تركه ، وكذلك الغي المتبين ، فلا واقع للاكراه في حقل التبين ، فلا إكراه ـ إذا ـ شرعيا ولا واقعيا بسند تبين الرشد من الغي ، فمن تبين له الرشد من الغي يعتقده دون إكراه ، ومن لم يتبين له لا يعتقده بأي إكراه ، ف «لا إكراه» في الاوّل سلب لتحصيل الحاصل ، اللهم الا في عمل الايمان في حقل الأمر والنهي ، وفي الثاني سلب لاستحالة حصوله بالإكراه.

ومهما انضبط «لا إكراه» في اصل الايمان ، فهنالك إكراه وحمل على مقدمات الإيمان وهي رؤية الآيات الربانية آفاقية وانفسية حتى يتبين لهم الحق :

٢٢٣

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).

وليس هذا من الإكراه في الدين ، بل هو حمل على سلوك سبيل الحق حتى يتبين لهم الحق ، ثم لا إكراه بعد ما تبين لهم الحق.

فالحمل على الإقرار باللسان بالنسبة لمن بيّن له الحق وليس ليقبله او يقبل اليه ، ذلك حمل على قضية الفطرة والعقلية الصالحة ، وحتى يتبين الحق بكامله ، كما الحمل على فعل المعروف وترك المنكر بالنسبة لمن تبين له الحق فيهما ، حمل على قضية الإيمان الحاصل ، غير الكامل.

وقد يعم «لا إكراه» التكوين والتشريع ، سلبا للحمل على الإيمان شرعيا وواقعيا ، فهو يعم الإخبار والإنشاء : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ، وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (١٠ : ١٠٠).

فالله ـ وهو قادر على أن يحملهم على الإيمان تقليبا لقلوبهم إليه ـ لا يشاءه تكوينا ، فضلا عمن سواه مهما كان رسول الله فضلا عن سواه.

ذلك وإنما يتحقق الإكراه مكروها او ممنوحا في مظاهر الإيمان دون أصله ، أن يكره المؤمن على ترك عمل الإيمان أو فعل ما ينافي الإيمان فانه محرم ويشمله «لا إكراه» : ف (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ ، مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٦ : ١٠٦).

او يكره الفاسق على عمل الايمان وترك ما ينافي الايمان كالخطوة الأخيرة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سدا لثغور الفساد (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ

٢٢٤

بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ).

ف «لا إكراه» تشمل ما لا يمكن فيه الإكراه وما لا يصح ، والسلب في الثاني تحريم وسلب للآثار التكليفية في المكره عليه كمن يكره على زواج او طلاق او بيع.

فجو الدين لا يقبل اي إكراه ، اللهم الا إكراها على ما يعتقده المؤمن ان صدق عليه الإكراه ، فإن حمل المؤمن على ما يعتقده حمل له على قضية الفطرة والعقلية الإسلامية.

فالاكراه في الدين بين مستحيل كالاكراه على الإيمان او اللاايمان ، وممكن مفروض كموارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والإكراه على الانتظام في سلك النظام الإسلامي حفاظا على مظاهر الإسلام بين الكتلة المؤمنة ، وحملا على ما يعتقده التارك لمظاهر الايمان.

وآخر مرفوض كالاكراه على ترك واجب او فعل محرم ، او على ترك مباح او راجح ام فعل مرجوح ، وقضية اللااكراه في كلّ كما يناسبه إلا فيما يتوجب فيه الإكراه ، وليس «لا إكراه» مختصا بنا ، بل ولا يكرهنا ربنا على الدين فيما لا يجوز او لا يصلح ، فهي ـ إذا ـ ضابطة ثابتة في حقل الدين ككل ، والموارد المستثناة قد لا يصدق عليها إلاكراه كما مرت لمرات.

ولماذا ليس هنا «لا إكراه في الايمان»؟ لأنه واضح البطلان!.

ام «لا إكراه على الدين» لأنها تختص جانب الإثبات.

واما (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) فهي تجتث كل ألوان الإكراه موضوعا او حكما ، تكوينا او تشريعا ، سلبا او إيجابا في حقل الدين لسانا وجنانا وأركانا ، من الله او من خلق الله ، فلا أجمل ولا اشمل من هذه الصيغة الجامعة ، ضابطة سارية المفعول في «اللااكراه».

٢٢٥

ثم لماذا (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ)؟ لأنه (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) فلا إكراه ـ إذا ـ لا على الرشد ولا على الغي.

ذلك ، وباحرى «لا إكراه» فيما لم يتبين الرشد من الغي سواء الرشد في اصل الايمان ام عمل الايمان.

فكما لا يحمل على لفظ الايمان او عمله من لم يتبين له الرشد من الغي ، كذلك لا يحمل على عمله من لم يتبين له بعد الايمان ، حيث الايمان درجات قد يقنع المؤمن لعمل الايمان وهو مؤمن.

لذلك ف (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (١٦ : ١٢٥).

فما لم تحمل الدعوة الى الرب حكمة وموعظة حسنة ثم وجدالا بالتي هي احسن ، لم تكن الدعوة صالحة ، ولم تتبين بها الرشد من الغي ، فلا إكراه ـ إذا ـ على لفظ الإيمان او عمله فضلا عن أصله ، فانما يكره على لفظ الايمان وعمله من تبين له الرشد من الغي ، إن صح التعبير عنه بالإكراه ، ثم تبين الرشد من الغي درجات ثلاث ، فطريا وعقليا وشرعيا ، فإذا اكتمل الثلاث فقد حق الحمل على لفظ الايمان وعمله ، والا فلا حمل عليهما فضلا عن اصل الايمان.

ولأنه (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) إذ (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) ـ (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) على تبين لسلبه (وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) على تبين لإيجابه (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) حيث لا أوثق منها (لَا انْفِصامَ لَها) مهما اكره ذلك المؤمن على ترك لفظ الايمان او عمله حيث (أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) فمهما انفصم ظاهر الايمان بإكراه فليس لينفصم أصله بذلك الإكراه ، (وَاللهُ سَمِيعٌ) مقال

٢٢٦

اللاايمان من المؤمن المكره «عليم» بحاله ومقاله ، فلا يأخذه على ما اكره عليه من خلاف الايمان.

(فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) هي عبارة اخرى عن كلمة التوحيد : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) ، وكما يقابل الطاغوت المستضعف في كل الحقول ، كذلك نجده يأتي في آيات ثمان كما المستضعف (١) وليس قران هذا العدد في القرآن صدفة عمياء ، بل هو عدد قاصد ككل ما في القرآن صراحة واشارة.

الطاغوت تأتي بصيغتها في القرآن كله (٨) مرات وبمختلف الصيغ (٣٩) مرة ، وهي تأتي جنسا كما هنا ، ومفردا (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) (٤ : ١٠) وجمعا كما (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) ومذكرا كما هنا ومؤنثا ك (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها).

ثم الطاغوت هي مبالغة الطغيان ، على الله إلحادا أو اشراكا بالله ام محادة ومشاقة بجنب الله ، ام على خلق الله في أي من الأبواب السبع الجهنمية الطاغوتية : استضعافا واستخفافا واستبدادا واستكبارا واستعمارا واستثمارا واستحمارا ، والدرك الأسفل منها هو الأخير الذي يضمن سائر الدركات.

__________________

(١) فالطاغوت هنا وفي التي بعدها مرتان ، ثم (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) (٤ : ٥١) (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) (٤ : ٧٦) (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) (٤ : ٦٠) (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) (٥ : ٦٠) (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (١٦ : ٣٦) (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ ...) (٣٩ : ١٧).

ثم المستضعف يأتي في (٤ : ٧٥ و ١٠٠ و ١٢٧ و ١٣٧ و ٧ : ١٣٧ و ٨ : ٢٦ و ٢٨ : ٧ و ٣٤ : ٣١ ـ ٤٣).

٢٢٧

ثم الطاغوت منه نفسي ومنه خارجي ، وأقواه وأغواه هو الاول حيث الثاني لا يؤثر الا باستجابة الاول ، فقد تطغوى النفس على العقل ثم على عباد الله ثم على الله ، فهي في ثالوث الطغيان.

ولكن الطاغوت الخارجي ليس له مجال إلا في الأخيرين ، وبعد أن طغت النفس على العقل ، وأسفل دركات الطغيان هو النفسي والخارجي مع بعض في كل الأبواب السبع المذكورة ، والكفر بالطاغوت كما الايمان بالله يعم مثلث القال والحال والأعمال ، كفرا كاملا كافلا لمفاصلة تامة بينك وبين كل طاغوت ، كما الايمان يعم كل المواصلات بالله ، وهذا الإيجاب بعد ذلك السلب هو العروة الوثقى التي لا انفصام لها.

وقد يعبر عن ذلك السلب والإيجاب بإسلام الوجه لله : (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) (٣١ : ٢٢).

فبداية العروة الوثقى هي الايمان بالله ، ونهايتها هي إسلام الوجه بكل وجه الى الله ، ثم بينهما درجات ، ورأس الزوايا الثلاث في كلا الايمان والإسلام هو ايمان القلب ، ثم اللسان بيان ظاهر لذلك الايمان ، وعمل الأركان هو تجسد الايمان.

(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٥٧).

«الولي» هو الذي يلي امر غيره او يلي امره غيره ام هما المتواليان ، و (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) حيث يلي أمر إخراجهم من الظلمات إلى النور كما يلي سائر

٢٢٨

أمرهم ، وهم يلون أمر شرعة الله وطاعته قدر ما يعرفونه ويحبونه ، كما (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (٩ : ٧١).

وولاية الله هي الأعم من التكوينية والتشريعية فضلا عن الشرعية ، ثم لا ولاية لغير الله إلّا شرعية بانتصاب خاص كما في رسل الله وأئمة الهدى ، أم بانتخاب خاص كما في الفقهاء ، ام في نخبة عامة ككل مؤمن بالنسبة لمن دونه في الإيمان.

وولاية الله الخاصة بالذين آمنوا هي ولاية التوفيق تكوينا ، إخراجا من الظلمات الى النور حين هم يخرجون ، ف (اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (٤٧ : ١٧).

فلان الايمان درجات تشوبها ظلمات وان الايمان بمفرده لا يكفل الخروج عن كل الظلمات إلى كامل النور ، لذلك ف (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) بسند الايمان وقدره (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) ، إذ (ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) رئاء اما فوقه او تحته من اشراك يعم كل خروج عن خالص التوحيد.

ثم الولاية ـ ككل ـ منها خيرة كما لله ورسله والهداة اليه ، واخرى شريرة كما للطاغوت (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) عن قضية الفطرة والعقلية والشرعة (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) فان لهم أربابا متشاكسين ، مهما اختلفت طاغوت عن طاغوت فان الكفر ملة واحدة.

(يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ) نور الفطرة والعقل والشرعة (إِلَى الظُّلُماتِ).

فترى الذين كفروا هم في نور حتى يخرجهم الطاغوت منها الى الظلمات؟ أجل! ولا اقل من نور الفطرة والعقل ، ثم نور الشرعة لمن آمن ثم كفر.

٢٢٩

(أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) قدر خلودهم في الكفر مادة ومدة وأثرا دونما فوضى جزاف لا في اصل الخلود ولا في قدره ، والقدر المعلوم من عدم الخلود هو اللانهائي فانه ليس جزاء وفاقا ، بل هو من أظلم الظلم وكما فصلنا في طيات آيات حول الخلود.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ

٢٣٠

شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٦٠)

آيات ثلاث تحمل هامة العقيدة ، لا سيما سر الموت والحياة ، والتعريف بالله الذي يملكهما دون سواه ، تعريفا في حجاج قامع ، وبيان للواقع ، فلها صلة بآية الكرسي المقررة لصفات ربانية هي الأصل في الإماتة والإحياء ، كسائر الأفعال الربانية الخاصة بالله لا سواه.

فالآية الأولى تعرض حوارا بين ابراهيم والذي حاجه في ربه ، طيا عن ذكر اسمه ادراج الرياح ، تصغيرا لكيانه ، ولأن اسمه لا يزيد في شكلية الحوار وحصيلتها والعبرة بها ، فلندرس ذلك الحجاج اللجاج من الذي حاج بكل نبراتها ، تذرعا الى قوة الحجاج الإبراهيمية لحد (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)!.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ ...).

(أَلَمْ تَرَ) يا رسول الهدى! ام ويأكل من رأى تلك الحجاج في تاريخ الرسالات! استنكارا بتشنيع وتفظيع على الذي حاج ، وتعجيبا عجيبا لمن يرى او يسمع ذلك الحجاج ، وحمق اللجاج من ناحية ، وعمق الحجاج من أخرى.

٢٣١

(الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) : رب ابراهيم كما هو الحق المعترف هو به ، ورب الذي حاجه كما هو الواقع المنكور لديه ، فانه رب العالمين ، مصدقين له او ناكرين ، إذا فضمير الغائب راجع إليهما على البدل ، وما أجمله جمعا كما هو داب القرآن الفني الخاص في تأدية المعاني الواسعة ، ولماذا (حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ)؟ : (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ)! وتراه هو ملك ابراهيم الذي آتاه الله روحيا وكما آتى بعض ولده وآله زمنيا ، ام روحيا وزمنيا وكما يقول : (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (٤ : ٥٤) تأويلا لآل ابراهيم بإبراهيم وآله و (مُلْكاً عَظِيماً) يجمع كلتا القيادتين : الروحية والزمنية ، مهما انفرد البعض منهم بإحداهما ، حيث جمعتا لآخرين كداود وسليمان ويوسف ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخيرا القائم المهدى من آله عليهم السلام.

ولقد سبقت آية الملك هذه آية الملك الروحي الرسالي المحمدي : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً. أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا ...).

مما يمحور الملك الروحي ، فليس الملك الزمني إلا على هامشه وتحت إشرافه ، وليس الملك المتخلف عن القيادة الروحية إلا سلطة مغتصبة إبليسية.

ومما يرجح هنا ملك ابراهيم ادبيا هو اقربيته مرجعا من الذي حاجه.

ذلك! ولكن ل (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) لا تمت بصلة كسبب لمحاجته ابراهيم ، إذ كان ناكرا لله ، فضلا عن ملك آتاه الله ابراهيم كقيادة روحية ، ولم تكن زمنية ملموسة مصدقة!.

وقد يوجه ذلك الملك هنا بما نجاه الله من نار نمرود : (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ. وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ ، وَنَجَّيْناهُ

٢٣٢

وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ ... وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ...) (٢١ : ٧٣) وكما يروى ان الحجاج كان بعد إلقاءه في النار (١).

فتلك النجاة ، الخارقة لكل العادات ، الحارقة لنمرود وزمرته ، إنها طرف طريف من ذلك الملك الروحي ، الذي لا يوجد في اي ملك زمني منفصل عن الوحي ، ولا سيما منعزل عن حق الملك كنمرود.

فقد تميز نمرود غيضا ، فتحيز فرصة أخرى بحجاجة اللجاج ، تعمية لتلك الخارقة الكبرى ، وتدجيلا عليه مرة أخرى فحاجة في ربه ، وفي النهاية (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) مرة أخرى بعد الأولى ، فلا السلطة الزمنية النمرودية قدرت على إحراقه ، ولا حجاجه اللجاج سيطرت على دمغه وإحراجه ، فنجاه الله سليما في كلتا المرحلتين ، ثم هم أولاء الانكاد الأوغاد (فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ)!

وقد تعني (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) (الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) وقد يقربه ادبيا انه هنا محور الكلام ، ف «أن أتاه» تعلل حجاجه بما آتاه الله ، مهما كان أبعد مرجعا.

ثم القيادة الروحية لا تسمى ملكا مهما كانت هي حق الملك وحقيقته ، حيث الملك ظاهر في واقع السلطة الملموسة ، والسلطة الروحية على واقعها ليست ملموسة ، بل وهي دوما تعيش تحت ضغوط السلطات الظالمة الزمنية.

ولكن كيف (آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) ولا يؤتى ملك الله إلا من يحق له ويستحقه؟.

إن إيتاء الملك هنا تكويني وليس تشريعيا وبينهما عموم من وجه : تكويني لا تشريعي كما هنا ، بمعنى انه لا يمنعه الله عن الملك مهما منعه تشريعا حيث الدار دار الإختيار.

__________________

(١) عن المجمع واختلف في وقت هذه المحاجة قيل : بعد القائه في النار وجعلها عليه بردا وسلاما عن الصادق عليه السلام).

٢٣٣

ثم تشريعي لا يوافقه التكوين كالقيادات الروحية في المعصومين ، أئمة ونبيين ، الذين صدّ بينهم وبين سلطاتهم الزمنية ، الشيطنات المدروسة من اصحاب السلطات الزمنية.

ثم الجمع بينهما كالذين ذكرناهم من ذي قبل ، فداود (عليه السلام) ومن أشبهه جمع له القيادتان.

ثم تكويني يوافق التشريع ولكنه ليست قيادة رسالية ، كمثل طالوت الذي آتاه الله الملك دون نبوة ، فان قضية توحيد الإفعال ان لله تعالى دخلا في كل خير او شر دون إجبار ، ومنها الملك : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣ : ٢٦).

فإتيان الملك لمن يحق له نبيا وسواه اعتلاء ، وإتيانه لمن لا يستحقه ابتلاء ، وكل من الاعتلاء والابتلاء بملك وسواه انما هو من الله لا سواه ، دون استقلال لأحد في ملك وسواه.

ثم هنا (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) تعليل بما يناحر ذلك الحجاج اللجاج ، فبديلا عن أن يشكر ربه ان آتاه الله الملك ، أخذته زهوة الملك وعزته فأخذ يجادل في الله : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ. وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) (٢ : ٢٠٦).

والجمع بين المحتملين أجمل واجمع ، حيث القرآن حمال ذو وجوه فاحملوا الى احسن الوجوه ، وهو هنا وسواه مما أشبه ، الجمع بين المعاني التي يحتملها ادب اللفظ وحدب المعنى!.

(إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ).

٢٣٤

أترى ـ وذلك بازغة الحجاج من ابراهيم ـ فأين البداية من الذي حاجه؟ إنها ـ لسخافتها كاسمه ـ أدرج درج الرياح ، وقد يلوح من (قالَ إِبْراهِيمُ ...) ان نمرود ادعى الربوبية لنفسه ثم قال له : ومن ربك أنت لأرى أينا أقوى وأحرى بالربوبية ، فعرّف ابراهيم ربه بأهم اختصاصات الربوبية : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) : إحياء لكل الميتات التي تحق الحياة ، وإماتة للأحياء التي تحق الممات ، نباتية وحيوانية وانسانية وملائكية أماهيه.

فالإحياء والإماتة هما الظاهرتان المكرورتان أمامنا على طول الخط ، المعروضتان للإحساس والعقل دونما وقفة ، وهما في نفس الوقت من الأسرار المحيرة للعقول في كل الحقول ، لا يتمكن العاقل ومن دونه أن يسندهما إلّا الى الخالق المتعالي عن عجز المخلوقين.

اننا لا نعرف شيئا عن حقيقة الحياة والموت على الإطلاق حتى الآن ، اللهم الا مظاهر لهما ، فنلزم ـ إذا ـ ان ننهي مصدرهما الى قوة ليست من جنس القوى المحكومة بالموت والحياة وهو الله الحي الذي لا يموت.

ولماذا هنا «يحيي» قبل «ويميت» وفي كثير سواها «يميت ويحيى»؟ لأن هذه في مقام إثبات الحياة بعد الموت ، ونمرود ناكر اصل المحيي والمميت فضلا عن اليوم الآخر ، إذا فلا يناسبه إلا (يُحْيِي وَيُمِيتُ) الذي هو ملموس لكل أحد.

ثم ومن هؤلاء الذين أحياهم الله هو نمرود نفسه ، وتراه يرى نفسه أحياها بنفسه؟ وكذلك سائر الأحياء ، فلا مجال له ان يدعي لنفسه الإحياء ، ولكنه أخذ يلوي قصة الإحياء والإماتة بتوسعة تسعه وسواه من النماردة وسواهم ـ :

(قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ).

٢٣٥

ويكأنه هو المحيي والمميت ككل ، إذ لم يعطف قوله بقول ابراهيم اشراكا لنفسه بالله في الإحياء والإماتة ، بل «انا ...» دون «وانا ...».

فحتى وان عطف نفسه بالله في ذلك لم يكن إحياءه وإماتته فعلة ربانية ، فان كل احد له سلطة مّا على آحاد بإمكانه ذلك الإحياء والإماتة ، ان يقتل غير المحكوم عليه بالقتل ، ثم يبقي المحكوم عليه به كما فعله نمرود ، وقد يروى انه قال له ابراهيم : أحي من قتلته إن كنت صادقا (١).

ذلك! فضلا عن ان يكون له ـ فقط ـ كل إحياء وإماتة بكل صورهما ، فمن هو المحيي له نفسه ـ إذا ـ إلا الله ، ثم ومن هو المحيي والمميت حقا ـ ككل ـ إلا الله ، وما مثاله إلا تقديما لما يقدر عليه كثير أمثاله ودونه بكثير.

وهنا لم يكن من الصالح الرسالي في ذلك الظرف الهرج والمرج من السلطة النمرودية ، الحاجبة للعقول والحلوم ، ان يسترسل في جدل حول المعني من الحياة والموت ، والقصد من الإحياء والاماتة ، مع غبي قوي يماري ويداور في تلك الحقيقة الهائلة.

ولكيلا يأخذ نقضه الناقص الجاهل القاحل مأخذه من أوهام هاوية من شعبه ، ممن تبهره سلطته الزمنية فيحسب باطله حقا ، ينتقل من هذه الحجة المحتاجة الى تفهم ، إلى حجة أخرى لا تحتاج إلى تفهم ، وإنما يكفيها الحس مهما كان حيوانيا ف :

حقيقة ملموسة كونية هي بمرأى ومعلم ذوي الأبصار ، دون ان تتخلف ولا مرة يتيمة ، يكفى لإدراتها حيونة الإبصار مهما كانت من انسان او حيوان ، فلا مجال ـ إذا ـ للحيونة النمرودية ان تحول بينها وبين دلالتها على الله ، ولا مجال في أية مماراة.

__________________

(١) عن المجمع وقد روي عن الصادق (عليه السلام) ...

٢٣٦

(قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ).

وحيث كانت الشمس الشارقة الغاربة قبل ان يخلق هو وآباءه ، لم يكن له أن يدعي إتيانه بالشمس من المشرق بنفسه فيعارض بالعكس : فليأت بها ربك من المغرب.

لذلك تراه هناك قال (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) وهنا «فان الله» دون «ربي» ارتقاء من ربوبيته الخاصة ـ تنازلا من ابراهيم في بداية الحجاج ـ الى الربوبية العامة «فان الله» فهنا لم يرد عليه بالنقض «فإني آتي بالشمس من المشرق ...» بل :

(فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٢٥٨).

فهذه بهتة بحتة ، لم يسطع عنها فرارا إلا إقرارا برب العالمين ، حيث التحدي قائم على سوقه ، ولا مدخل ولا مسرب لأي دخيل من تضليل وتدجيل ، اللهم الا بهتا بحتا مهما ثبت على كفره عنادا واستكبارا.

فتلك آية في الأنفس (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) ، وهذه حقيقة في الآفاق : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ ...) حقيقتان متجاوبتان في ذلك الميدان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) : ـ (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٤١ : ٥٣).

وهنا تتجاوب حيوية الإنسان في حاجياته البدنية والروحية ، فكما يبحث عن الهواء والماء وما أشبه ، ويجده بغية الحيوانية ببساطة ، كذلك حين يبحث عن عقيدة صالحة فهي على الأبواب التي يقرعها فطرية وعقلية وحسية ، فان الله

٢٣٧

ارحم بعباده ان يكلهم في قصة الايمان الساذج الى طائل العلم وغائلة الذي قد يتأخر او يتعثر ويتبعثر ، وانما يكلهم الى ما هو بمرآهم في الأنفس والآفاق ، مهما كان لمن فكر مزيد الأثر في بالغ الايمان ونابغه.

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٥٩).

هناك في نمرود «الذي» وهنا «او كالذي» أفليس هو المقصود بنفسه في هذا التوجيه فجاء مشبها به ، ومن هو الذي أشبهه حتى يكون هو المقصود؟ والذي مر على قرية هو أحرى ان يقصد لحاضر قصته!؟.

قد تعني «كالذي» هنا تعميما للممثل به الى أضرابه ، كيلا يظن انه الفريد في نوعه ، فيذهب السامع الى اي مذهب من هذا المثال البارع ، وقد تذكر أمثاله في القرآن بصور أخرى في سور أخرى وهذه ك (الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) (٣ : ٢٤٣) (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) (٢ : ٧٣)) فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٥٦).

فهنا حجج ثلاث تعرض كأمثال مترتبة ، حجة عقلية وحسية هي في الحجاج الاوّل ، وهي تعم كافة المكلفين ، سواء الذين يؤمنون او لا يؤمنون.

ثم حجة واقعية ملموسة هي أعلى من الأولى ، كالذي مر على قرية ، حيث لمس في نفسه وفي حماره إحياء الموتى ، بعد علمه به كما يجب ، وهي للمؤمنين ومن أرسل إليهم.

٢٣٨

ثم حجة هي أوقع في القلب ، اراءة لملكوت الاماتة والاحياء ، دون ظاهر منهما ، او حجة لهما ، كما حصلت لخليل الرحمن (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

ولقد حلّقت حجج محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ المخاطب بهذه الثلاث ـ هذه وزيادة ، هي قضية إمامته على المرسلين ككلّ ، و «ا لم تر» ترفع من حججه على هؤلاء إذ أراه الله إياها بعد مضي زمنها وكأنها حاضرة لديه ، بحق اليقين ، والذي مر على قرية راها بعين اليقين ، وابراهيم رآها بحقه عينا حاضرا ، ولكن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) أريها ـ تشريفا له ـ بحق اليقين كأعلى قممه دون ان يساوى أو يسامى.

وترى الذي مر على قرية هو عزير؟ او ارمياه وهما نبيان؟ وهكذا تشكّك في البعث لا يناسب الإيمان فضلا عن النبوة (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها)! (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ ...) تبينا بعد البعث واستعجابا قبله!.

ولكنه ليس تشككا ، بل هو سؤال عن الزمن الذي يحييهم الله ، استعظاما لذلك الإحياء ثم «اعلم» دون علمت دليل استمرارية علمه دون حدوثه بإحيائه ، والتبين (فَلَمَّا تَبَيَّنَ) هو حاضره المشهود ، بعد حاضر العلم المعهود.

ذلك ، ثم الله ليس ليوحي الى غير نبي مهما كان من أخلص المؤمنين وقد أوحى الى الذي مر على قرية : (قالَ كَمْ لَبِثْتَ ... قالَ بَلْ لَبِثْتَ ... فَانْظُرْ ... وَانْظُرْ ... وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً ... وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ ...) خطابات ست ضمن تشريفه بإحيائه بعد اماتته مائة عام ليريه بأم عينيه إحياءه بعد موته.

وقد تظافر الأثر انه عزيز النبي الذي قالوا عنه (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) لإخراجه التوراة بعد فقده أو حرقة ، بعد ما أحياه الله بعد أن أماته مائة عام مهما ورد شاذا أنه ارمياء ، ولا يهمنا هنا معرفة الاسم كما أجمل عنه القرآن ، فانما

٢٣٩

القصد إلى اصل البعث بعد الموت أيا كان المبعوث وأيان.

و «قرية» تراها هي بيت القدس؟ ولم تأت منكرة في سائر القرآن فانها (الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) (٥ : ٢١) و (الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) (١٧ : ١) وما أشبه!.

أم هي القرية التي خرج إليها ألوف حذر الموت؟ وهم خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت؟ لا انهم دخلوا قرية! (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) وليس لخارج الديار عروش! ثم الله أحيى الألوف ، فلو كانت هي تلك القرية لم يمته ثم يحييه ، إذ كان في إحياءهم كفاية عن سؤاله بسؤاله ، إنها «قرية» دون زيادة او نقصان ، حيث القصد هو البعث بعد الموت أيا كان الكائن والمكان.

وقد تعني «قرية» القدس ، حيث كانت خربة بما هاجمها بخت النصر بما ظلم أهلوها ، فهتكوا كما هتكت ، هتكا للماكن والمكان اعتبارا بظلمهم دون المكان ، فعبر عنه ب «قرية» وكما عبر عن مكة المكرمة ب «قرية» حيث أخرجت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ) (٤٧ : ١٣).

وجامع الأمر في تنكير (كَالَّذِي مَرَّ) و (عَلى قَرْيَةٍ) هو استصغار الأمر لكسر سورة الاستبعاد ، ان ذلك وما فوقه على الله هين دون سغب ولا صعب ، وكما نكر (الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ) توهينا له ولحجاجه ، وذكر إبراهيم هناك وفي (رَبِّ أَرِنِي) تشريفا له وتكريما ، وتبيينا انه في ذلك الموقف منقطع النظير ، اللهم إلا ما كان من هذا البشير النذير.

(وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) : محطمة على قواعدها وسقفها ـ شجرية ام حجرية اماهيه ـ عن بكرتها.

٢٤٠