الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٤

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٦

المضيعة لحقه ، او يخافا الا يقيما حدود الله ففراقا بفدية لحقها ، ثم لا حق له في الزائد.

وهل يحل له أخذ شيء من حقها إذا لا تكرهه ولا تطلب الطلاق؟ صريح النص (لا يَحِلُ ... إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) اللهم إلا سماحا منها كما قال الله (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) وهذا ليس أخذا بل هو تقبل للهدية الطيبة ، فالأخذ محظور إلّا في موردين اثنين حسب النصين ، ثم تقبل الهدية بنص ثالث.

فقيلة القائل بجواز الأخذ في غير الكراهية منها لانقطاع الاستثناء ، وانه معاملة عن تراض منهما ، انها ساقطة ماقتة ، حيث النص يحرم الأخذ عند الفراق آمرا بالإحسان إليها (إِلَّا أَنْ يَخافا ...) فيسمح الأخذ منها على كراهيتها للمقام عنده ، وكراهيتها للسماح عن حقها كما هي طبيعة الحال ، ولكنها في دوران الأمر بين حياة مرة وذهاب حق ، تفتدي بحقها للفرار عن مرير الحياة.

ففي حالة الإختيار وطيبة النفس وفاقا او فراقا يجوز لها السماح عن حقها ، لا أن يؤخذ منها ، وكذلك في حالة الاضطرار يجوز لها ان تفتدي بحق لها ، ثم لا معنى للافتداء في غير الاضطرار.

ومتظافر الصحاح رفض حلّ الأخذ من مالها إلّا عند الكراهية المصرحة المخيفة لعدم اقامة حدود الله (١) فإذا عرف من حالها ذلك الحد من كراهيتها

__________________

(١) كما في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : المختلعة لا يحل خلعها حتى تقول لزوجها : والله لا أبرّ لك قسما ولا أطيع لك امرا ولا اغتسل لك من جنابة ولأوطين فراشك من تكرهه ولأوذنن عليك بغير اذنك وقد كان الناس يرخصون فيما دون هذا فإذا قالت المرأة لزوجها ذلك حلّ له ما أخذ منها وكانت عنده على تطليقتين باقيتين وكان الخلع تطليقة ، وقال : يكون الكلام من عندها(الفقيه باب الخلع ٢ والكافي ٦ : ١٤١).

٦١

له ، وهما يخافان ـ إذا ـ ألّا يقيما حدود الله ، جاز الخلع بل وجب ، فان لم يخلعها في تلك الحالة المخيفة فرق الإمام بينهما بذلك الخلع وكما فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

واما الكراهية غير المخيفة فلا خلع فيها ولا مبارات ، حيث يلتزم الزوجان بحدود الله المفروضة عليهما ، فليس سماح الخلع بما تفتدى به ويأخذه الزوج إلّا للحفاظ على حدود الله.

ومن شروط صحة الخلع ان يكون الخوف من عدم اقامة حدود الله نتيجة المقام عنده ، سواء أكانت الحدود غير المقامة ـ إذا ـ حدود الزوجية ام سواها ، كما هددت جميلة بنت ثابت بقولها : أكره الكفر في الإسلام ، فان كان ترك إقامة حدود الله بعد الاختلاع وقبله على سواء فلا خلع إذا.

ذلك ، وأما إذ كرهها وهي لا تكرهه فلا يحل له أن يأخذ منها شيئا ،

__________________

ـ وفي الموثق قال سماعة سألته عن المختلعة فقال : لا يحل لزوجها ان يختلعها حتى تقول : لا أبر لك قسما ولا أقيم حدود الله فيك ولا اغتسل لك من جنابة ولأوطين فراشك ولأدخلن بيتك من تكرهه من غير ان تعلم هذا ولا يتكلمونهم وتكون هي التي تقول ذلك فإذا هي اختلعت فهي بائن وله ان يأخذ من مالها ما قدر عليه (الكافي ٦ : ١٤٠) أقول : ما قدر عليه يقيد بالصداق.

وفي الصحيح عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : المختلعة التي تقول لزوجها : اخلعني وأنا أعطيك ما أخذت منك ، فقال : لا يحل له ان يأخذ منها شيئا حتى تقول : ... فإذا فعلت ذلك من غير ان يعلمها حل له ما يأخذ منها وكانت تطليقة بغير طلاق يتبعها وكانت بائنا وكان خاطبا من الخطاب (المصدر) أقول : تظافرت المعتبرة على عدم اشتراط صيغة الطلاق بعد صيغة الخلع. وهو الصحيح لأن الخلع فسخ فلا يحتاج إلى طلاق ، ولأنه فسخ فلا زيادة على ما أخذت.

وروى جابر الجعفي عن عبد الله بن يحيى عن علي (عليه السلام) قال : كلمات إذا قالتهن المرأة حل له ان يأخذ الفدية إذا قالت : ...(آيات الأحكام للجصاص ١ : ٤٦٣).

٦٢

مهما خافا ألّا يقيما حدود الله فإن حقها لا تسقط بكراهيته هو دونها وكما قال الله : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً ..) (٤ : ٢١).

ف «ما (افْتَدَتْ بِهِ) هناك دليل كراهتها ، او الخوف الناشئ منها ، و (اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ) هنا دليل كراهته ، ولكل حكمة في آيته ، وفي كراهتهما الحكم عوان أن له أخذ البعض مما آتاها فهو مبارات.

وبصيغة أخرى إذا يخافا (أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) سواء أكان أصل الخوف من جانبها فخلع ، ام منهما فمبارات ، واما إذا كان أصله منه دونها فالمفروض عليه طلاقها دون ان يأخذ منها شيئا فانه أكل بالباطل دون ريب.

فالأصل عدم حلّ أخذ ما اوتين صداقا وسواه ، فالواجب عليه كما عليها اقامة حدود الله على اية حال ، و (إِلَّا أَنْ يَخافا) لا تعني إلا تفلت التخلّف عن حدود الله ، فالواجب إقامة حدود الله على أية حال ، مهما كانت بافتداءها من مالها ان كان لها مال ، وإلا فالواجب عند خوف ـ فضلا عن واقع ـ ترك الحدود ، ان يفرق بينهما حفاظا على حدود الله ، فليس الله ليرضى بقاء زوجية فيها ترك حدود الله.

(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ٢٣٠.

(فَإِنْ طَلَّقَها) مرة ثالثة (فَلا تَحِلُّ لَهُ) لا في العدة أن يردها إذ ليست رجعية ، ولا بعدها أن يعقد عليها (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ).

(فَلا تَحِلُّ لَهُ) تعم تحريم النكاح المقطع والملك والتحليل إلى النكاح الدائم (فَلا تَحِلُّ لَهُ) بأي محلل (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ)

٦٣

أترى «تنكح» تعني النكاح الدائم فقط؟ ام والمنقطع؟ ثم هل تعني العقد فقط ام والوطء؟ ثم لماذا «حتى تنكح» دون «ينكحها زوج غيره»؟

النكاح طليقا عن قيد الوطء لم يطلق في القرآن كله إلّا على العقد ، دون شريطة الوطء ولا الدوام ، ولكن (فَإِنْ طَلَّقَها) هنا تقيّده بالدوام ، كما (تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) تقيده بالوطئ ، حيث الزوج لا ينكح بمعنى العقد فانه تحصيل للحاصل ، ففرق بين ان «تنكح رجلا غيره» الظاهرة في عقد النكاح ، وأن (تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) فقد فرضت الزوجية في موضع النكاح ، وليست لتعني (تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) إلا ان تطأ زوجا غير الأول.

إذا فليست الروايات هي التي تقيد الآية الطليقة بالوطئ (١) والدوام (٢) ،

__________________

(١) مما يدل على شريطة الوطء من طرق إخواننا ما في الدر المنثور ١ : ٢٨٣ ـ اخرج ابن المنذر عن مقاتل بن حيان قال : نزلت هذه الآية في عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك النضري كانت عند رفاعة بن وهب بن عتيم وهو ابن عمها فطلقها طلاقا بائنا فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي فطلقها فأتت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت : انه طلقني قبل ان يمسني أفأرجع الى الاول؟ قال : لا حتى يمس ...» وقد تظافرت الرواية عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن أئمة اهل بيته شريطة ذوق العسيلة كناية عن الجماع ، منها ما في المصدر ـ اخرج الشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة واحمد البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي عن عائشة قالت : جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت : إني كنت عند رفاعة فطلقني فبتّ طلاقي فتزوجني عبد الرحمن بن الزبير وما معه إلا مثل هدبة الثوب فتبسم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : أتريدين أن ترجعي الى رفاعة؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ، وفيه اخرج البخاري ومسلم والنسائي وابن جرير والبيهقي عن عائشة ان رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت زوجا وطلقها قبل ان يمسها فسئل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أتحل للاوّل؟ قال : لا حتى يذوق من عسيلتها كما ذاق الاوّل ، وأخرجه مثله عن رفاعة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): فنهاه ان يتزوجها وقال : لا تحل لك حتى تذوق العسيلة.

وفيه اخرج عن جماعة مثله عن أنس وعن أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، واخرج ابن أبي

٦٤

ولا يصح هكذا تقييد فيما يمكن تقيد المطلق بلفظ يبينه ، فأي فرق بين «ان تطأ زوجا غيره» و (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) و «تطأ» أخصر حروفا من «تنكح»؟

فإنما يصح التقييد في لفظ لو جيء به مقيدا لطال بما لا يناسب اختصار القرآن ، دون الألفاظ التي لا يطول بها إلّا قليلا يتحمله القرآن ، أم هي سواء ، فضلا عن الأقل كما هنا.

فحتى إن لم تدل أحاديث الفريقين على شريطة الدوام والوطء لكانت الآية صريحة الدلالة عليهما دون ريب.

__________________

ـ شيبة عن علي (عليه السلام) قال : لا تحل له حتى يهزها به هزيز البكر.

وفيه اخرج ابو إسحاق الجوزاني عن ابن عباس قال سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : لا إلّا نكاح رغبة لا نكاح دلسة ولا استهزاء بكتاب الله ثم يذوق عسيلتها ، وفيه اخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن نافع قال : جاء رجل الى ابن عمر فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثا فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليحلها لأخيه هل تحل للاوّل؟ فقال : لا الانكاح رغبة كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ومن طريق أصحابنا ما رواه العياشي في تفسيره ج ١ : ١٦٦ عن سماعة بن مهران قال : سألته عن المرأة التي لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجا غيره؟ قال : هي التي تطلق ثم تراجع ثم تطلق ثم تراجع ثم تطلق الثالثة فهي التي لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجا غيره وتذوق عسيلته ويذوق عسيلتها وهو قول الله : الطلاق مرتان ... حتى تنكح زوجا غيره ـ التسريح التطليقة الثالثة ، ورواه في الوسائل ب ٤ من أبواب اقسام الطلاق ح ١٣ ، وقد وردت أحاديث عدة مثله في اشتراط الوطء في الباب ٤ ـ ٧ من أبواب اقسام الطلاق ، بمثلث التعبير : الدخول ـ ان يذوق عسيلتها ـ ... وان تذوق عسيلته.

(٢) مما يؤيد شرط الدوام ما رواه الشيخ في التهذيب ٣ : ٢٥٩ عن الصيقل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قلت له : رجل طلق امرأته طلاقا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره فتزوجها رجل متعة أتحلّ للاوّل؟ قال : لا ـ لأن الله تعالى يقول : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها ...) والمتعة ليس فيها طلاق!.

٦٥

وعلّ «حتى تنكح» دون «حتى ينكحها زوج غيره» لاستجاشة غيرة الرجال ، كيلا يقدموا على الطلاق بسرعة ، ولا سيما الثالث البائن إذ لا تحل له إذا (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ).

و «تنكح» بديلا عن «تطأ» أدب في التعبير منقطع النظير ، حيث القرآن كتاب أدب في كل الحقول تعبيرا ومعبّرا عنه.

وليس النكاح المحلّل إلّا كالنكاح الأول ، خلوا عن أية دلسة وحيلة ، وإلّا ف «لعن الله المحلل والمحلل له» (١).

فكما كان النكاح الأول أصيلا ، ولم يكن ذريعة لأمر آخر ، فليكن كذلك الآخر ، وأمّا أن يقصد به التحليل للأول ، ولا سيما بمشارطة وقرار بين الزوجين فقد لا يصح لأنه خديعة ودلسة وحيلة ، ولا حيلة في شرعة الله ، وإن كان الأشبه انها تحلّ للأول مهما كا في تلك الحيلة محظور ، إذ يصدق أنها نكحت زوجا غيره مهما كان مثل التيس المستعار ، إلّا ان يشترط قدر التحليل على المحلّل فإنه شرط فاسد قد يفسد العقد ، وحتى إذا صح العقد على هذا الشرط فهو عقد منقطع مجهول الأجل فيبطل لجهالة الأجل ، وحتى إذا صح فلا يحلّل لاشتراط الدوام في المحلّل!.

وترى ما هو القدر المحلّل من نكاحها زوجا غيره؟ هل انه ما صدق عليه

__________________

(١) في الدر المنثور ١ : ٢٨٤ ـ اخرج الترمذي عن جابر واخرج احمد وابو داود والترمذي وابن ماجة والبيهقي في سننه عن علي (عليه السلام) واخرج ابن ماجة عن ابن عباس ، واخرج ابن ماجة والحاكم وصححه والبيهقي عن عقبة بن عامر واخرج احمد وابن أبي شيبة والبيهقي عن أبي هريرة ، كلهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : لعن الله المحلل والمحلل له ، وفي لفظ عقبة عامر انه قال (صلى الله عليه وآله وسلم): ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : هو المحلل لعن الله المحلّل والمحلّل له.

٦٦

الوطء قبلا او دبرا مهما حرم الثاني على الأشبه ، العسيلة قد تختصه بالقبل! والذوق هو أقل الجماع بدخول قدر الحشفة لحد اللذة من العسيلتين ، لا مجرد الدخول غير أصيل ولا عسيل.

والقول ان ذوق العسيلة لا تقيّد الآية عن إطلاقها (حَتَّى تَنْكِحَ) فحتى إن لم يلتذ او لا تلتذ هي بالجماع لطوارئ خاصة فهو نكاح دون ريب ، وليس ذوق العسيلة إلا تعبيرا عن الحالة الطبيعية الأكثرية في الجماع.

إنه قد يرد ان «ذوق العسيلة» شرط قاطع بثابت السنة ، ولا ذوق لها ـ مهما كان له ـ بالجماع من الدبر مهما حلّ.

او يقال : (حَتَّى تَنْكِحَ) غاية للحل ، وإذا كان الوطء من الدبر محرما كما هو الأشبه فكيف يصبح الحرام ـ إذا ـ غاية للحلّ؟ فهو الوطء المحلّل أصليا كما في القبل ، وفرعيا ان يكون الوطء فيه غير محظور كحالة الحيض والنفاس والصيام والإحرام ، فالأشبه عدم التحليل بالوطئ المحرم دبرا ككل وقبلا حين لا يحلّ.

وهل يشترط البلوغ في الزوج المحلّل؟ قد يقال : نعم لمرسلة (١) والأصل هو اطلاق الآية حيث يصدق نكاح زوج آخر بغير البالغ ، اللهم إلّا إذا لم يكن بحد الالتذاذ ، المستفاد من ذوق العسيلة.

__________________

(١) كما في الكافي ٦ : ١٢٢ عن علي بن الفضل الواسطي قال : كتبت الى الرضا (عليه السلام): رجل طلق امرأته الطلاق الذي لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره فتزوجها غلام لم يحتلم؟ قال : لا حتى يبلغ ، فكتبت اليه ما حد البلوغ؟ قال : ما أوجب على المؤمنين الحدود.

أقول : وكيف يمكن تقييد الآية بهذه اليتيمة التي لا ثانية لها ، وذوق العسيلة لا يستلزم البلوغ حيث المراهق ومن دونه يذوقون العسيلة ، وليس من شروط ذوق العسيلة الانزال وان كان من تمام ذوقها.

٦٧

(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) تراجعا بعقد جديد يشترط فيه رضاهما ، ولذلك هنا «يتراجعا» وهناك في الرجعة بلا عقد (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) ، وإنما صحت صيغة التراجع لأنه رجوع الى الزوجية السالفة. أتراجعا دونما شرط؟ هناك شرط (الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ...) حيث تعم كافة المطلقات ، وهنا شرط (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) وإلّا فالتراجع جناح ، وظاهره بطلان العقد ، فان الزواج من السنة ما لم يعارض الفريضة ، وحدود الله من الفرائض ، فكيف يصح تراجع بتلك السابقة السوداء التي سببت الفراق ، ولاحقته مثلها سواء؟ فليست المسألة هوى تطاع وشهوة تستجاب ، وليسا هما متروكين لشهواتهما ونزواتهما في تجمع وافتراق ، انما المهم اقامة حدود الله زواجا وفراقا في كل منهما ، وهي إطار الحياة الذي ان أفلتت منه او أفلت لم تعد الحياة التي يريدانها ، ولماذا «إن ظنا» والواجب هو التصميم القاطع على إقامة حدود الله؟ لأن الإنسان أيا كان لا يعلم الغيب ، فلا يحصل بتصميمه إقامة حدود الله إلا الظن بها ، فلا منافاة بينه وبين العزم القاطع ، فحين لا يظنان ان يقيما حدود الله ، إما لعدم العزم على إقامتها ، أم لعدم الاطمئنان بالقدرة عليها فلا تراجع.

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) التي حددها لكم (يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) الحدود بالبيان وهم كافة المكلفين ، اللهم إلا من تنازل عن علمه ببيان ، إلى دركة الحيوان ، وهو التجاهل عما بان ، ثم وقوم يعلمون أنه بيان الله وكفاهم تصديقا علمهم بانه من الله ، وأما الناكرون قاصرين ومقصرين فليس ذلك لهم بينا!.

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ٢٣١.

٦٨

(إِذا طَلَّقْتُمُ) هنا تعني ما يصح بعده الرجوع ، ام وعقد جديد ، وذلك غير الطلقة الثالثة التي لا رجوع في عدتها ولا عقد جديدا بعد انقضاءها ، فإنما هو «المرتان».

وبلوغ الأجل هنا قد يعني قبيل انقضاء العدة بدليل «فأمسكوهن» فبالغ الأجل إلى آخره ليس فيه إمساك ، وانما هو عقد جديد والمرأة عنده مسرّحة لا تحتاج إلى تسريح كما لا يجوز إمساكها دون عقد ، وقد يعني «امسكوهن» كلا الرجوع في العدة وجديد العقد بعدها ، حيث الإمساك يعمهما دون الرد الخاص بالأول والعقد الخاص بالثاني ، إذا فبلوغ الأجل يعم انتهاء العدة فإمساك بعقد جديد ، ام قبيل انتهاءها فإمساك بالرجوع.

فالإمساك بمعروف ـ على أية حال ـ هو ردهن إلى حياة الزوجية بما يعرف من حقوقهن فطريا وعقليا وشرعيا ، مما يلمح ألّا طلاق إلّا ان يترك ذلك المعروف ، ومن أهم المعروف رعاية حدود الله في حقل الزوجية ، فان أمكن إمساكهن بكل ما يعرف من معروف ، دون ان يسبب منكرا منهما او من أحدهما فإمساك بمعروف ، وقد عبر عنه من ذي قبل بارادة الإصلاح.

وقد تلمح «بمعروف» لواجب الإشهاد ، ان يكون الإمساك معروفا عند من يعتدّ بمعرفته ، وكما قال الله : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ).

ولأن الإمساك يعني الرجوع الى حياة الزوجية ، فلا يعني إلا إمساكا للزوجية ، فان وطئها لا كزوجة لم يكن إمساكا بمعروف ، فانما هو الإمساك كزوج.

فالوطئ دون نية الإمساك محرم وليس رجوعا ، حين ان النظر إليها بنية الإمساك رجوع ، فالمهم صدق الإمساك كما هنا وصدق الرد كما هناك.

٦٩

وترى إذا وطئها حالة الحيض او الإحرام او الصيام بنية الرجوع ، كان الوطء رجوعا وهو غير معروف ، إنه رجوع بنفس النية مهما لم يكن الوطء المحرم رجوعا.

فإن لم يكن هناك إمساك بمعروف (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ليأخذن سراحهن للدخول في حياة جديدة بزواج أم عزوبة ، فالسراح هو المرتع ، فلما لا دور في ذلك الزواج من مرتع الحياة ، فليسرحن تحللا عن أسرهن إلى مسرح الحياة الحرة بزواج ودون زواج.

ومن السراح بمعروف ان توفّى حقوقهن دون إبقاء ، وبخلق طيبة دون أي إيذاء ولا بشطر كلمة ، بل بكل حنان ورأفة كأن تقول : أنا قاصر عن رجعة حياة طيبة فرجاء ان تعذريني ، وأن تمتعها على الموسر قدره وعلى المعسر قدره متاعا بالمعروف حقا على المتقين (فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) (٣٣ : ٤٩).

(وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا ...).

ولماذا التكرار في الإمساك بمعروف او تسريح بإحسان او معروف ، والطلاق هنا نفس (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) هناك؟.

علّه بيان لهامة المعروف في إمساك او تسريح بذلك التكرار ، ثم المرة الثانية تقدمة للحظر عن مضارتهن ، فقد ذكر هناك ردهن إصلاحا ، وهنا تذكر حرمة المضارة بذلك الرد.

ثم الإمساك بالمعروف أعم من معروف حال الإمساك وإن لفترة ، ومن معروف في كل الفترات ثم : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) تحلّق على الفترات كلها ، في حرمة الإضرار وواجب المعروف ، فليحلّق واجب المعروف

٧٠

وترك الإضرار على حياة الزوجية منذ الإمساك ، أو يكونان هما الأصل مهما تفلّت فالت كما هو طبيعة الحال في تلك الحياة وكل حياة جماعية.

ولأن الضرار منفي في الإسلام على أية حال ، سواء كان ضرارا نفسيا او عرضيا او ماليّا أم ايّا كان ، فإمساكهن ضرارا ليس يختص بالنهي مهما كان هنا منهيا لأنه مورده ، فكما إن إمساكهن ضرارا بالرجوع أو تكرره في العدة حرام ، كذلك إمساكهن بعقد جديد بعد العدة ، ثم وتطليقهن ضرارا ، كل ذلك محرم في شرعة الله ، وأضر من الكل هو الأول إذ لا يجدن سبيلا لإطلاق سراحهن حين يمسكن ولما تنقضي العدة ، فقد يمسكن في عدتين طوال ستة أشهر ، ثم يضاف إليها ثلاثة أخرى في الطلاق الثالث ، والضرار هنا يختص بنفس الإمساك كيلا يسرحن في حياة حرة عن عبء هذا الزواج ، أم والإيذاء خلال الإمساك ، أم واضطرارهن بالسماح عن صدقاتهن ، وكل ذلك من ضرار الاعتداء.

هنا إمساك الرجوع ضرارا لتعتدوا محرم ، وهناك (بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) مما يؤكد أنه لا يحق لهم الرجوع دون إرادة الإصلاح فضلا عن الضرار المعتدي.

وقد نزلت الآية في الرجل كان يطلق المرأة ثم يراجعها ولا حاجة له بها ولا يريد إمساكها كيما يطول عليها بذلك العدة ليضارها فأنزل الله ... (١).

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٢٨٥ ـ اخرج ابن المنذر عن ثور بن زيد الديلي ان الرجل ، وفيه اخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي قال نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلق امرأته حتى انقضت عدتها الا يومين او ثلاثة راجعها ثم طلقها ففعل ذلك بها حتى مضت لها تسعة أشهر بضارها فأنزل الله : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا).

وفي نور الثقلين ١ : ٢٢٦ في الفقيه روى ابن صالح عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سألته عن قول الله عز وجل (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) قال : الرجل يطلق إذا ـ

٧١

وليس ذلك فقط ضرارا بحق الزوجة المسكينة ، بل وهو من اتخاذ آيات الله هزوا ف «ما بال أقوام يلعبون بحدود الله يقول قد طلقتك قد راجعتك قد طلقتك قد راجعتك ليس هذا طلاق المسلمين طلقوا المرأة في قبل عدتها» (١).

وترى بعد أن تلك الرجعة النكراء الضرار المستهزءة بآيات الله اللاعبة بحدود الله ، انها صحيحة رغم حرمتها؟ فما ذا ترجو ان تكون العبارة الصريحة في بطلانها بعد ان البعولة لا حق لهم في ردهن إلا إرادة الإصلاح ، وأن الإمساك ضرارا واعتداء محرم في شرعة الله؟!.

ومن اتخاذ آيات الله هزوا أن يقول : رجعت ـ أنكحت ـ طلقت ـ بعت ـ اشتريت ، أمّا ذا من عقود وإيقاعات ثم يقول : إنما مازحت ، حيث يؤخذ بقوله الظاهر في القصد دون قوله الثاني ، لأنه لا يخلو في الواقع عن واقع القصد ام هزله ، والهازل يؤدّب ، ثم الإلزام على ما التزم به ضابطة فقهية ثابتة فلا يصغى إلى ما ينقضه إلى الهزل وسواه وكما يروى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ثلاث من قالهن لاعبا أو غير لاعب فهن جائزات عليه : الطلاق والعتاق والنكاح» (٢) «... فليس قوله بشيء يقع عليه ويلزمه» (٣) و «ثلاث

__________________

ـ كادت ان يخلو أجلها راجعها ثم طلقها يفعل ذلك ثلاث مرات فنهى الله عز وجل.

وفيه عنه روى البزنطي عن عبد الكريم بن عمرو عن الحسن بن زياد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : لا ينبغي للرجل ان يطلق امرأته ثم يراجعها وليس له فيها حاجة ثم يطلقها فهذا الضرار الذي نهى الله عنه إلا أن يطلق ثم يراجع وهو ينوي الإمساك.

(١) الدر المنثور ١ : ٢٨٦ ـ اخرج ابن ماجة وابن جرير والبيهقي عن أبي موسى قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

(٢) الدر المنثور ١ : ٢٨٦ ـ اخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبادة بن صامت قال : كان الرجل على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول للرجل زوجتك ابنتي ثم يقول : كنت لاعبا ويقول : قد اعتقت ويقول : كنت لاعبا فأنزل الله : (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ...

(٣) وفيه اخرج ابن أبي عمر في مسنده وابن مردويه عن أبي الدرداء قال : كان الرجل يطلق ثم يقول : لعبت ويعتق ثم يقول : لعبت فأنزل الله : (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) فقال رسول ـ

٧٢

جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة» (١).

ولماذا «ضرارا» مفاعلة و «لتعتدوا» إضرار من قبل بعولتهن؟ لأن اعتداءه بذلك الإمساك يقتضي اعتداء بالمثل ، بل لا يحل لها ترك الدفاع عن نفسها ومصالحها حين يعتدى عليه ، فتصبح حياة الزوجية الحنونة النفاعة حياة المعادات والمضارة ، فطبيعة الاعتداء هي الضرار ، مهما لم تدافع المظلومة عن نفسها ولم تجاوب الإضرار بالإضرار ، إذا فالإمساك اعتداء هو ضرار على أية حال ، رجوعا في العدة ام عقدا جديدا ام استمرارا في الزواج ، فإنه ثالوث منحوس وسالوس!. (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) ولماذا نفسه وهو ظالم غيره؟ لأن الظلم بالزوجة ظلم بالنفس لأنها نفسك (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) وان

__________________

ـ الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

(٣) وفيه اخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : طلق رجل امرأته وهو يلعب لا يريد الطلاق فأنزل الله ... فألزمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الطلاق. وفيه اخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن جرير وابن أبي حاتم قال : كان الرجل ... فأنزل الله ... وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ... وفيه اخرج الطبراني من طريق الحسن عن أبي الدرداء قال : كان الرجل في الجاهلية ... فأنزل الله ... فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من طلق أو حرّم او نكح أو أنكح فقال : «اني كنت لاعبا فهو جاء».

(١) المصدر اخرج ابو داود والترمذي وحسنة وابن ماجة والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «ثلاث ...» وفيه اخرج عبد الرزاق عن علي بن أبي طالب قال : «ثلاث لا لعب فيهن النكاح والطلاق والعتاق والصدقة» وفيه اخرج عبد الرزاق عن أبي ذر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من طلق وهو لاعب فطلاقه جائز ومن أعتق وهو لاعب فعتقه جائز ومن انكح وهو لاعب فنكاحه جائز.

٧٣

الظالم بها بتخيل انه ـ فقط ـ ظلمها ، هو ظالم بنفسه لأنها لا تقف مكتوفة اليدين ، بل وتضره كما تنضرّ ، وثالثا ان ظلمه غيره يرجع الى نفسه حيث يعاقب بما ظلم ، هنا لأنها لا تحل له فيحد حد الزنا ، وفي الأخرى لأنه ظلم وزنا ، فهو ـ إذا ـ في ثالوث الظلم بنفسه ، ومن ثم ظلم بآيات الله :

(وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) فإمساك المعتدة دون عقد رحمة وحكمة ربانية لغرض الرجوع الى حياة الزوجية الصالحة ، دون التلاعب والضرار ، ف (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً ، فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ...) (٦٥ : ١ ـ ٢).

فإنما جعلت العدة للأزواج استعدادا وتريّثا (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) دون أن يحدث الأزواج لأزواجهم أمرا إمرا باعتداء الضرار ، وهو لعبة بخلق الله واستهزاء بحدود الله ، وهو في الحق كفر بآيات الله ، وليس فقط كفرانا بنعم الله :

(وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) بالفطرة الصافية والعقلية الضافية الأنيسة الكافية ، وأن جعل بينكم مودة ورحمة وبالرسالة التامة الربانية :

(وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ) ومخمس الذكر هذه يحول بينكم وبين هذه اللعبة الظالمة بآيات الله (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

فآيات الله وحدوده في حقل النكاح والطلاق كما في سواهما ، واضحة قيمة مستقيمة جادة ، لا غموض فيها ولا التواء ، وهي تقصد إلى تنظيم هذه الحياة ـ

٧٤

التي هي رأس زوايا الحياة ـ أن تقام بجد وصدق واجتهاد ، دون استغلالية لها في إضرار أو ضرار ، تلاعبا بآيات الله سنادا إلى حرفية النصوص ، غضا عن الحكم المطوية فيها المبيّنة لها.

ذلك ـ وقد نرى رغم هذا رخصا فقهية جامدة تتخذ وسائل للتحايل والإيذاء في مجتمعنا الجاهلي المتحضر الحاضر ، فقد يستخدم حق الطلاق والرجعة في الرجعي منه أسوأ استخدام ، ضرارا منهيا بنص ، احتيالا بما تظن أنها رخص ، تأويلا لآيات الله ، واستهزاء بحدود الله ، فويل لمن يستهزأ بحدود الله ويلعب بحدود الله عمليا ، واشجى منه وأنكى فقهيا.

فما ذا يرجو المفتي بجواز الرجوع والإمساك ضرارا وضعيا وعدمه تكليفيا ، ماذا يرجو ان يكلمه الله؟.

أيرجو أن يحدّثه في نطاق الصلاحات الفقهية المختلفة والمختلقة ان يقول «لا تمسكوهن ضرارا فانه محرم وضعيا كما هو محرم تكليفيا»؟ فهل الحرمة الوضعية إلّا بما منع الله ، او ليس النهي عن الضرار منعا من الله يجمع الحرمتين ، وكيف يمكن ان يحرم تكليفيا ، ثم بالرغم منه يحلّله وضعيا ، ان تظلم المسكينة تحت نير الذل والهوان بوضع شرعي ، رغم نهي شرعي!.

ومن اين يعرف الحل وضعيا إلّا بوضع شرعي له ، وأين وضع الشرع حلّه الوضعي وهو يحرّم إمساكهن ضرارا ، أو لا يكفي لمطلق الحرمة تحريم الإمساك ضرارا؟!.

إن إمساكهن كنكاحهن ليس إلّا بسماح شرعي ، فأين حل نكاحهن أو إمساكهن بحلّ وضعي مع حرمة مغلظة في آيات عدة ، ولا سيما التي تزيل حق الرجعة في غير ما إصلاح بها : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً)!.

٧٥

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ٢٣٢.

(فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) هنا هو الخروج عن العدة بدليل (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) فإنهن قبل تمام العدة لا يسمح لهن النكاح الجديد حتى يقدمن عليه ، ثم وكيف ينهى الأزواج الأول عن عضلهن ، ونهين عنه قبل تمام العدة واجب كل مسلم ولا سيما بعولتهن الذين هم أحق بردهن في ذلك.

ذلك ، اضافة الى انه ظاهر بلوغ الأجل لهن ، وإنما فسر بلوغ الأجل في الآية السالفة بقرينة قاطعة لولاها لكان كما هنا.

والعضل هو المنع والضيق ـ علّه فقط ـ في مورد النكاح في قبيل الأنثى ، فلقد كانت عادة جاهلية حمقاء عضل الأزواج عن زواج جديد بعد مضي العادة ، وكأنهم ـ بعد ـ أحق بهن من غيرهم ، فكانوا يعضلونهن بشتى الحيل والمحاولات غيرة عليهن ألا يوطئ فراشهم بآخرين ، وكما كان الأولياء وسواهم يعزلونهن أن يرجعن الى النكاح الأول ، مما يقرّب شمول الخطاب في (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) لأهالي الأزواج الأول عزلا لهن عن جديد العقد بهن.

ترى لماذا ـ إذا ـ أزواجهن؟ ولم يتزوجن بعد بهم ، ونكاح الزوج كما سلف هو وطئه ، فهل كانوا يعضلونهن عن الوطء بعد الزواج؟!.

لأن «أزواجهن» ـ وهم قرناءهن ـ تعم الأزواج الأول والآخرين ، فصيغة الأزواج للأولين اعتبارا بالماضي ، وللآخرين باعتبار المستقبل ، وقد ورد في شأن نزولها كلا الموردين ثانيهما منع الأولين من الزواج بهن بعد العدة بل وهو الشأن الأكثر لنزول الآية (١).

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٢٨٦ ـ اخرج وكيع والبخاري وعبد بن حميد وابو داود والترمذي والنسائي وابن ـ

٧٦

إذا (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) نهي ـ عن عضلهن ـ طليق ، فسواء أكان من قبل الأزواج الأولين او أهليهم ، او الآخرين او أهليهم ، مهما كانوا أوليائهن حيث الولاية ـ إذا ـ ساقطة عمن كان من الأولياء فضلا عمن سواهم ممن يرى من شأنه عضلا في ذلك الحقل.

ذلك! مهما اختص ضمير الجمع الأول في «طلقتم» بالأزواج الأول حيث العضل لم يكن يختص بهم في واقع الحال ، فليشمل الحظر عنه كل عاضل كضابطة ، ولكنه يشمل كل مطلّق يحق له تطليقهن زوجا او حاكما شرعيا او زوجة أم سواهم.

__________________

ـ ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم والبيهقي من طرق عن معقل بن يسار قال : كانت لي أخت فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة فهوتها وهواه ثم خطبها مع الخطاب فقلت له يا لكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها ثم جئت تخطبها والله لا ترجع إليك ابدا وكان رجلا لا بأس به وكانت المرأة تريد ان ترجع إليه فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله تعالى : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ) قال ففيّ نزلت هذه الآية فكفّرت عن يميني وأنكحتها إياه ـ وفي لفظ ـ فلما سمعها معقل قال : سمع لربي وطاعة ثم دعاه فقال : «أزوجك وأكرمك».

وفيه اخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال : نزلت هذه الآية في امرأة من مزينة طلقها زوجها وأبينت منه فعضلها أخوها معقل بن يسار يضارها خيفة أن ترجع إلى زوجها الاوّل ، وأخرجه مثل في معناه ابن جرير عن ابن جريح وعن أبي إسحاق الهمداني ، وفيه اخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي قال : نزلت هذه الآية في جابر بن عبد الله الأنصاري كانت له ابنة عم فطلقها زوجها تطليقة وانقضت عدتها فأراد مراجعتها فأبى جابر فقال : طلقت بنت عمنا ثم تريد ان تنكحها الثانية وكانت المرأة تريد زوجها فأنزل الله الآية.

وفي تفسير البرهان ٣ : ٢٢٤ ، القمي في الآية : اي لا تحبسوهن ان ينكحهن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ، يعني إذا رضيت المرأة بالتزويج بالحلال.

٧٧

لأنهن ملكن انفسهن ببلوغ آجالهن ، ولا يحق لأحد عضلهن عن زواج مرضي لهن ولأزواجهن (إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) ومن الآخرين أوليائهن (١) الذين كانت بأيديهم عقدة النكاح ـ كما في آيتها ـ كالآباء والأجداد ، فقد انقطعت ولايتهم في زواجهن بعد الأول ، كما انقطع الحق عن أزواجهن ، فهن مسرّحات عن أية ولاية عليهن دون إبقاء ، فالولاية الثابتة هنا منفية ، وغير الثابتة كما تزعم لغير الآباء منهية.

فمهما اختصت (وَإِذا طَلَّقْتُمُ) بالأزواج الأول ، فلا تختص (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) بهم لمكان الإطلاق هنا دونما هناك ، ولمحة صارحة من «أزواجهن» الصادق على المطلّقين أولا ، ثم على الأزواج الجدد بضمنهم ، بل ولا تختص (إِذا طَلَّقْتُمُ) ايضا بأزواجهن ، لشمولها كل مطلّق من حكام الشرع فيما يحق ان يطلقوا دون رضى الأزواج ، ام برضاهم ، وكذلك الزوجات واهلوهن فيما يحق لهم الطلاق ، ثم (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) طليقة حليقة على المطلقين وسواهم ممن يرى لنفسه العضل أيا كان ، ولو عنت ـ فقط ـ الأزواج لكان صحيح التعبير وفصيحه «وإذا طلقتم أزواجكم».

إذا (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) نهي عن كل عضل من كل عاضل عن أن ينكحن أزواجهن ، سواء أكان العاضل هو المطلق ام سواه.

إذا فلا عضل ـ إطلاقا ـ عليهن عن زواج صالح بتراض بينهما

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٢٨٧ ـ اخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال : «نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة او طلقتين فتقضي عدتها ثم يبدو له تزويجها وان يراجعها وتريد المرأة ذلك فيمنعها أولياءها من ذلك فنهى الله ان يمنعوها» وفيه اخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك في الآية قال : إذا رضيت الصداق قال : طلق رجل امرأته فندم وندمت فأراد أن يراجعها فأبى وليها فنزلت هذه الآية ، وفيه اخرج ابن المنذر عن أبي جعفر قال : إن الولي في القرآن يقول الله : (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ).

٧٨

اللهم إلّا في غير تراض فإنه زواج منكر ، وواجب النهي عن المنكر يقتضي عضلهن عن منكر الزواج ، أيا كان الناهي وبأيّ كان الزواج.

(فَلا تَعْضُلُوهُنَ ... ، إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) اما إذا لم يتراضوا ام تراضوا بغير المعروف فقد يجوز عضلهن بل يجب نهيا عن منكر الزواج.

والتراضي بالمعروف يعم معروف الصداق ومعروف الحقوق المتقابلة وهي الأهم في حقل الزواج.

«ذلك» العظيم العظيم من أمهات أحكام الزوجين نكاحا وفراقا (يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وهذه عبارة أخرى عن (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) علم الإيمان بالله واليوم الاخر فالعلم بمواعظ الله في حدوده المسرورة في الذكر الحكيم.

وقد يعني الإفراد في «ذلك» المخاطب الأول للقرآن وهو رسول القرآن ، ثم (ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ) انتقال إلى سائر المخاطبين في تنازل التعبير عن الزكي الواجب والواجب الزكي بأزكى (ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ) في البيئة الزوجية ، حيث يرجع صالح الأزواج وصالحهن إليكم في الدنيا والآخرة (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما يصلحكم وما يفسدكم (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

تلحيقة :

قد تلمح جملات عدة ألّا ولاية على المطلقة في زواجها الثاني سواء بالأول ام سواه ، منها : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) فانها طليقة عن إذن الولي ، فلو بقيت ولايته فهناك لا يجوز إلّا بإذن الولي ، ولا يكفي ـ فقط ـ ان يظنا اقامة حدود الله.

٧٩

ومنها (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ ...) الشامل للأولياء ، بل هم القدر المعلوم إذ كان لهم العزل فان بأيديهم عقدة النكاح كما في آيته.

ومنها كما تأتي في المتوفى عنها زوجها (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) الظاهرة في أن فعل النكاح هنا هو فعلهن دون شرط الولاية عليهن لأحد.

إذا فالطلاق والموت يقطعان الولاية للأولياء على المطلقة والمتوفى عنها زوجها ، مدخولا بها وسواها وأيا كان الطلاق والوفاة وأيان.

ولولا آية (عُقْدَةَ النِّكاحِ) الآتية لما كانت لأحد ولاية على النساء في النكاح.

(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ

٨٠