الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٤

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٦

ومع أن عقدة النكاح هي بأيد ثلاث ، فلما ذا التعبير عنها فقط بالذي بيده عقدة النكاح؟ علّه لأن عقد النكاح لوليها أقوى منها ، وكذلك الزوج فان بيده النكاح عقدا وفكا ، فهما ـ إذا ـ أقوى منها في هذه العقدة ، ثم لا تعبير أصلح منه لذلك الشمول والإشارة إلى انهما أهم الأضلاع الثلاثة لمثلث العقدة.

وطالما الزوج أقوى من الولي في هذه العقدة ، ولكن الولي هنا أقوى في دلالة الآية ، حيث السياق يقرر أنه الولي ، فان مصبها العفو عن النصف الأول والثاني طارىء على هامشه إطلاقا من (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ).

إذا فالاستثناء الراجع إلى (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) له بعدان اثنان ، منفي هو (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا ...) وليها ، ومثبت هو عفو الزوج عن النصف الثاني المعفو عنه ، (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) كضابطة لا زائدة ولا ناقصة ، إلّا أن يعفون أو الولي عن ذلك النصف فناقصة ، أو يعفو الزوج فزائدة.

وهكذا يستقيم الإطلاق في (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) أن تعني العفوين من الجانبين ، ثم (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) فعلى كلّ ان يستمر بذلك الفضل بعد الطلاق ، سماحا من الزوج في دفع تمام الصداق ، وسماحا من الزوجة ووليها عن نصف الصداق ، تنازلا فضيلا بينهما ، دليلا على استمرارية الحب والوداد بعد الطلاق كما كان قبله ، فلم يتم ـ إذا ـ بالطلاق إلا فراق حلّ الجنس بمقدماته دون سائر الفراق ، ف (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)!.

إذا ف «من بيده عقدة النكاح» برهان صارم لا مرد له على ولاية ولي البنت على نكاحها إذا كان النكاح الأول وهي بعد بكر ، وأما في سائر النكاح فسائر الآيات تطلقها مسرّحة في زواج ترضاه كما مضت بالنسبة لكل المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن ثيبات (١) وأبكارا.

__________________

(١) في الصحيح عن عبد الله بن الصلت قال : سألت أبا الحسن (عليه السلام) وعن البكر إذا بلغت ـ

١٢١

وهل ان ولاية البكر مختصة بأبيها كما يروى (١) ام هي بينهما كأخرى (٢)

__________________

ـ مبلغ النساء ألها مع امر أبيها امر؟ ليس لها مع أبيها امر ما لم تتثيب الكافي ٥ : ٣٩٤ والتهذيب ٣ : ٢٢١) ورواه مثله الحلبي في الصحيح عن الصادق (عليه السلام) (الوسائل أبواب عقد النكاح ب ٣ ح ١١).

(١) كصحيحة عبد الله بن الصلت عن أبي الحسن (عليه السلام) قال : سألته عن الجارية إذا بلغت مبلغ النساء ألها مع أبيها أمر؟ قال : لا(الكافي ٥ : ٣٩٤ والتذهيب ٣ : ٢٢١) ونحوها صحيحة محمد بن مسلم بزيادة قوله : يستأمرها كل احد ما عدا الأب (الكافي ٥ : ٣٩٢).

وموثقة عبيد بن زرارة قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) الجارية يريد أبوها ان يزوجها من رجل ويريد جدها ان يزوجها من رجل؟ فقال (عليه السلام) الجد اولى بذلك ما لم يكن مضارا إن لم يكن الأب زوجها قبله ويجوز عليها تزويج الأب والجد(الكافي ٥ : ٣٩٥)

وصحيحة عبد الله بن الصلت قال سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الجارية الصغيرة يزوجها أبوها ألها امر إذا بلغت؟ قال : لا ، وزاد في الكافي : ليس لها مع أبيها امر(الكافي ٥ : ٣٩٤ والتهذيب ٣ : ٢٢١)

ومنها ما رواه المشايخ الثلاثة عن محمد بن إسماعيل بن بزيع قال : سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن الصبية يزوجها أبوها ثم يموت وهي صغيرة فتكبر قبل ان يدخل بها زوجها أيجوز عليها التزويج او الأمر إليها؟ قال : يجوز عليها تزويج أبيها(الكافي ٥ : ٣٩٤ والتهذيب ٣ : ٢٢١ والفقيه ٤١٢).

ورواية علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى (عليه السلام) قال : سألته عن الرجل يصلح له ان يزوج ابنته بغير اذنها؟ قال : نعم ، ليس للولد مع الوالد أمر الا ان تكون امرأة قد دخل بها قبل ذلك فتلك لا يجوز نكاحها إلا ان تستأمر(الوسائل ب ٩ ح ٨ من النكاح).

(٢) كرواية أبي مريم عن الصادق (عليه السلام) قال : الجارية البكر التي لها أب لا تتزوج إلا بإذن أبيها(الكافي ٥ : ٣٩١ ـ ٣٩٢) وصحيح محمد بن مسلم قال : سألت أبا جعفر (عليهما السلام) عن الصبي يزوج الصبية؟ قال : إذا كان أبواهما اللذان زوجاهما فنعم جائز ولكن لهما الخيار إذا أدركا فان رضيا بذلك فان المهر على الأب ...(التهذيب ٣ : ٢٢٢ والاستبصار ٣ : ٢٤٦).

وصحيحة منصور بن حازم عن الصادق (عليه السلام) تستأمر البكر وغيرها ولا تنكح إلا بأمرها(التهذيب ٣ : ٢٢١) ..

١٢٢

ام لها الولاية دون أبيها كثالثة (١) أوسطها هو الوسط العدل ، فان ثبوت ولاية الأب بالآية لا يعني سقوط ولاية البنت على نفسها ، بل هي اولى بنفسها من أبيها ، وليست ولاية الأب إلا لصالحها ، وليس من صالحها عدم ولايتها لنفسها ، فإنها التي تتزوج ولا بد عليها من عيشة مريحة في زواجها.

وقد تلمح باشتراك الولاية بينهما (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) فان استقلال الولاية لكل في عقدة النكاح يقتضي استقلال الولي في العفو عن الصداق ، فكيف لها ان تعفوا إن لم تملك نفسها ، وكيف له ان يعفو ان لم يملك أمرها؟!.

وهل يختص عفو الذي بيده عقدة النكاح ببعض النصف أم هو كعفوهن؟ ظاهر الإطلاق اضافة الى السياق هو الإطلاق ، مهما كانت رعاية حالها وصالحها شرطا في جواز عفو وليها ، فحين لا يصلح لها العفو إطلاقا فلا عفو لوليها كما لا ولاية له عليها في نكاحها إن لم يكن لصالحها ، وإذا كان العفو عن البعض او الكل من صالحها فالولاية ثابتة في حقل المصلحة كيفما كانت.

ثم (وَأَنْ تَعْفُوا ...) لا تختص بمورد الصداق مهما نزلت هنا بشأنه حيث العفو بصورة طليقة إذا كان صالحا يؤمر به لأنه أقرب للتقوى (٢).

__________________

(١) كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليهما السلام) قال : المرأة التي ملكت نفسها غير السفيهة ولا المولّى عليها ان تزويجها بغير ولي جائز(الكافي ٥ : ٣٩١ والتهذيب ٣ : ٢٢٠ والاستبصار ٣ : ٢٣٢).

(٢) كما في نور الثقلين ١ : ٢٣٥ عن الكافي متصلا عن نجية العطار قال : سافرت مع أبي جعفر (عليهما السلام) إلى مكة فأمر غلامه بشيء فخالفه الى غيره فقال ابو جعفر (عليهما السلام): والله لأضربنك يا غلام ، قال : فلم أر ضربة فقلت : جعلت فداك إنك حلفت لتضربن غلامك فلم أر ضربته؟ قال : أليس الله عز وجل يقول : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)؟.

١٢٣

كما (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) هي في وجه أعم من موردها خطاب لكافة المؤمنين ، وكما يروى عن الإمام علي (عليه السلام): «يأتي على الناس زمان عضوض يعض المرء فيه على ما في يديه ولم يؤمر بذلك قال الله سبحانه : (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) تنهد فيه الأشرار وتستذل الأخيار ويبايع المضطرين وقد نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن بيع المضطرين» (١).

وترى (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) تخص ولايته في النكاح بغير المدخول بهن ثيبات وأبكارا حيث هن المورد لها لمكان (ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ) حيث تشمل الثيبات من قبل؟.

الظاهر نعم ، ولكن (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) في المتوفى عنهن أزواجهن ، و (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ) في المطلقات ، هما يخصان الولاية بالنكاح الأول وهو بطبيعة الحال خاص بالأبكار ، فلا ولاية إلّا عليهن شرط رعاية المصلحة في أمرهن ، حيث الولاية عليهن ـ كما على غيرهن في أبواب الولايات ـ لا تعني إلا صالح المولى عليه ، دون التأمر الخاوي عن صالحه.

فحين يتبين أن الولي لا يعني في عضل بنته عن النكاح صالحها ، ام يعني ـ فقط ـ صالحه وإن فسدت ، أم ويعني الإضرار بها ، فهنالك تسقط ولايته عليها وهي مالكة أمرها.

ولما يبلغ الحنان بين الزوجين وفاقا وفراقا الى ذلك الحدّ القمة ، مما يجعل الفراق كأنه وفاق فبأحرى أن يدسّ في جوه وخضمّ البحث عنه حديث عن

__________________

(١) نهج البلاغة عنه (عليه السلام) وفي نور الثقلين ١ : ٢٣٥ عن الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) وعن عيون الأخبار عن الرضا (عليه السلام) مثله.

١٢٤

الصلاة التي هي قمة الصلات بالله ، الذي لا فراق بيننا وبينه على أية حال ، في أي حلّ وتر حال ، ثم يكفّى البحث عن حنان الزوجين :

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) ٢٣٨.

«الصلوات» هنا هي المفروضات ككل بما فيها صلاة الجمعة وهي من أوجبها ، و «الوسطى» هنا تخرج غير اليومية من المفروضات لأنها لا وقت لها محددا حتى تحل محلّا له وسط ام أول وآخر ، إذا فصلاة الآيات والأموات خارجة ، ام هي معنية بالصلوات دون حساب الوسطى ، فالوسطى إنما هي بين اليومية بما فيها الجمعة ، والصلوات هي كل الفرائض.

ولماذا «حافظوا» دون «احفظوا» وقد ذكرت المحافظة في ثلاث أخرى : (هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) (٦ : ٩٢) و ٢٣ : ٩ و ٣٤ : ٢٠) فما ذا تعني مربع المحافظة على الصلوات ككلّ؟

إنها حفظ بين جانبين ، هما العبد ـ في صلواته ـ والمعبود ، فكلما حفظ العبد حرمة المعبود في صلاته حفظه المعبود على علّاته : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (٢ : ١٥٢) (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (٢ : ٤٠) وكما يروى «احفظ الله يحفظك» ومن حفظه معيته الرحيمة في الدارين : (وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ) (٥ : ١٢) ، ثم هما المصلي وصلاته ، فكلّما حفظت صلاتك تحفظك صلاتك : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) (٢٩ : ٤٥) حفظا قدر ما تحفظها ، وكما تحفظك من البلايا كما تحفظها : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) (٢ : ٤٥) ، وكما تحفظك شافعة لك في الأولى بعد الأخرى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) (٢ : ١١٠).

١٢٥

فعلى قدر ما تحفظ الصلاة يحفظك الله بالصلاة وفيه مزيد أقله (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (٦ : ١٦٠).

والمحافظة على الصلوات ، تعني الصّلوات ظاهرا وباطنا وإلى جنبها مقدماتها وأوقاتها واتجاهاتها القبلية والقلبية ، فكل شروطات الصلاة مقدمات وذاتيات ، هي عن بكرتها مطوية في (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) دون إبقاء (١).

(وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) وهذا تخصيص في المحافظة بعد تعميم ، حيث الوسطى هي الفضلى بينها بطبيعة الحال ، فمطوية بأحرى في «الصلوات» المأمور بالمحافظة عليها.

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٢٩٤ عن عبادة بن صامت قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : خمس الصلوات كتبهن الله تبارك وتعالى على العباد فمن جاء بهن ولم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن ـ وفي لفظ ـ من أحسن وضوئهن وصلاتهن لوقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله تبارك وتعالى عهد أن يغفر له ومن لم يفعل فليس له على الله عهد إن شاء غفر له وإن شاء عذبه.

وفيه (٢٩٥) ـ اخرج احمد وابن حبان والطبراني عن عبد الله بن عمرو عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه ذكر الصلاة يوما فقال : من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة وكان يوم القيامة مع فرعون وهامان وأبي بن خلف. وفيه (٢٩٥) أخرج الطبراني في الأوسط عن انس بن مالك قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من صلى الصلوات لوقتها وأسبغ لها وضوءها وأتم لها قيامها وخشوعها وركوعها وسجودها خرجت وهي بيضاء مسفرة تقول حفظك الله كما حفظتني ومن صلى لغير وقتها ولم يسبغ لها وضوءها ولم يتم لها خشوعها ولا ركوعها ولا سجودها خرجت وهي سوداء مظلمة تقول ضيعك الله كما ضيعتني حتى إذا كانت حيث شاء الله لفت كما يلفت الثوب الخلق ثم يضرب بها وجهه.

وفيه (٢٩٩) أخرج الطبراني عن أبي الدرداء سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : أعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فإنه يراك واعدد نفسك في الموتى وإياك ودعوة المظلوم ..

١٢٦

ولأن الآية مدنية نزلت بعد نزول الفرائض الخمس في العهد المكي كما بيناه في آية قرآن الفجر ، فصلواتها تعني الخمس بما فيها الجمعة بديلة الظهر يومها ، فما هي الوسطى بينها؟.

فهل أجمل عنها على فرضها الأحرى تأكيدا للمحافظة على الخمس وهي بينها؟ وهذه حيلة في التكليف ليس الله تعالى بشأنه بحاجة إليها ، كما التكليف بالمجهول تكليف جهول سبحانه وتعالى عن مثله! ، وخفاء ليلة القدر بين ليال ليس فيه تكليف بالمجهول ، أو المقصود هو كل الصلوات الخمس لأن كلّا وسطى إذا لم تبين لها أولى وأخرى حتى تختص الوسطى بواحدة منها؟ والصلاة الوسطى هي الوسطى بينها فكيف تكون هي كلها!.

إذا فالوسطى هنا مقصودة معنية بآيتها ، معلومة بها أم وبآيات أخرى ، علينا التدبر فيها مخصا عنها.

ولنعرف أولا أن الوسطى ليست من حيث الفضيلة حيث الفضلى هي المأمور بها في (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) ، وكيف يؤكد على الوسطى في الفضيلة دون العليا اللهم الا تقديما للمفضول على الفاضل!.

ولا الوسطى من حيث الركعات ، فكذلك الأمر ، حيث ان طبيعة الحال في مزيد الركعات مزيد المثوبات ، فان الصلاة التي هي عمود الدين وعماده ليست إلا الركعات ، فمزيدها ـ إذا ـ بغض النظر عن سائر المرجحات ـ مزيد في الفضيلة.

إذا فلتكن هي الوسطى من حيث الأوقات المقررة للصلوات ، والوسطى ـ إذا ـ هي عنوان مشير لها يميزها عن سائر الصلوات ، دون ان تكون هي الفضلى لكونها الوسطى كوصف واقع لها ، بل كعنوان مشير إليها كما في

١٢٧

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) فهل هي الوسطى الليلية؟ ولا وسطى لها فان فرضها العشاءان!.

ام هي الوسطى بين النهارية الثلاث وهي الظهيرة؟ (١) وليست هي الوسطى المطلقة ، وتقييد الوسطى بالنهارية بحاجة الى قرينة هي هنا منفية!.

أم هي الوسطى المطلقة بين الليلية والنهارية وهي قرآن الفجر (٢) ، فقبلها العشاءان وبعدها الظهران ، فقرآن الفجر هي الوسطى المطلقة بين الخمس ، كما وقتها الفجر وسط بين الليل والنهار ، وشاهد لوسطاها ثان آية الإسراء (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) (١٧ : ٧٨).

فتخصيص (قُرْآنَ الْفَجْرِ) ـ وهي صلاة الفجر ـ بين الفرائض الخمس مما يفضلها على سواها ، إذا فهي الصلاة الفضلى التي يحق لها ان يؤكد في الحفاظ عليها بينها ، هنا (قُرْآنَ الْفَجْرِ) وفي آيتنا (الصَّلاةِ الْوُسْطى).

فلأن قرآن الفجر هي الفضلى لتعاقب ملائكة الليل والنهار في شهودها : (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) وهي الوسطى المطلقة بين الفرائض الليلية والنهارية ، وأنها أحمزها قياما عن نيام في خضمّه وألذّه لحد سمي نوم الفجر العسيلة ، وقد اقسم الله فيما أقسم بالفجر ، ومدح فيمن مدح (الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) والصلاة خير استغفار ، وانها بعد النوم بداية الأعمال ، وبادية الخير خير من مستمره لأنها أحمز منه وهو مفتاحه ، فهي هي الصلاة الوسطى في درجة أولى (٣) ، ولأن الظهيرة هي الوسطى النهارية ، وهي الأحمز بعد قرآن الفجر

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٣٠١ ـ أخرج عبد بن حميد عن مكحول ان رجلا أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسأله عن الصلاة الوسطى فقال : هي اوّل صلاة تأتيك بعد صلاة الفجر ، وفيه ـ

١٢٨

فانها في خضمّ الأشغال النهارية ، وفي رمضاء الحر صيفيا وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلي بالهاجرة وكانت أثقل الصلوات على أصحابه ولربما لم يكن وراءه فيها إلا الصف والصفان فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): لقد هممت أن أحرق على قوم ـ لا يشهدون الصلاة ـ بيوتهم فنزلت آية الصلاة الوسطى (١) وهي صلاة بين بردي الفجر والعصر.

ولأنها هي صلاة الجمعة يومها والجمعة تجمع الى وسطى الظهيرة كونها الوسطى بين أيام الأسبوع لأنها ركنها وقلبها ، حيث تعني الوسطى فيما تعني : القلب ، والجمعة هي قلب الأسبوع.

إذا فهي الوسطى بعد قرآن الفجر ، ام هي في جمعتها (٢) أفضل وأحرى

__________________

ـ اخرج أحمد والبخاري في تاريخه وأبو داود وابن جرير والطحاوي والروياني وابو يعلى والطبراني والبيهقي من طريق الزبرقان عن عروة بن الزبير عن زيد بن ثابت ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يصلي الظهر بالهاجرة وكانت أثقل الصلاة على أصحابه فنزلت (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) قال : لأن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين ، وفيه اخرج المنذر من طرق أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال : الصلاة الوسطى هي الظهر. وفي نور الثقلين ١ : ٢٣٦ في الكافي متصلا.

(٢) الدر المنثور ١ : ٢٩٩ ـ أخرج مسلم والترمذي والبيهقي عن جندب بن سفيان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : من صلى الصبح فهو في ذمة الله فلا تخفروا الله في ذمته ، وفيه قال مالك في الموطأ بلغني عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس كانا يقولون الصلاة الوسطى صلاة الصبح ، أخرجه البيهقي في سننه.

(٢) نور الثقلين ١ : ٢٣٦ فيي الكافي متصلا عن زرارة عن أبي جعفر (عليهما السلام) في حديث : وقال الله تعالى : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ـ وهي صلاة الظهر وهي اوّل صلاة صلاها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي وسط النهار ووسط صلاتين بالنهار صلاة الغداة وصلاة العصر ، قال : ونزلت هذه الآية يوم الجمعة ورسول الله (صلى الله عليه وآله ـ

١٢٩

واما العشاء باعتبار أنها الوسطى الليلية ، دمجا لصلاة الفجر في الليلية ، فهو خارج عن طور الشرعة ، حيث قررت الفجر خارج الليل في الصلوات ، وهي ممتدة الى قبيل طلوع الشمس (١).

ثم لا نجد مبررا لكون صلاة العصر هي الوسطى (٢) اللهم الا اعتبارا

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٢٩٩ ـ أخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وابن ماجة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما حبوا ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ثم انطلق معي برجال معهم حزم من خطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار. وفيه اخرج الطبراني عن أبي الدرداء سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : اعبد الله كأنك تراه فإن لم تراه فإنه يراك واعدد نفسك في الموتى وإياك ودعوة المظلوم فانها تستجاب ومن استطاع منكم ان يشهد الصلاتين العشاء والصبح ولو حبوا فليفعل.

(٢) الدر المنثور ١ : ٢٩٤ ـ اخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن فضالة الزهراني قال : علمني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حافظ على الصلوات الخمس فقلت ان هذه ساعات لي فيها اشتغال فمرني بأمر جامع إذا انا فعلته اجزأ عني فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) حافظ على العصرين وما كانت من لغتنا فقلت وما العصران؟ قال : صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها.

وفيه (٢٩٩) عن ابن عمر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : إن الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله ، ورواه مثله الشافعي عن نوفل بن معاوية عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وفيه عن بريدة قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله. وعن أبي الدرداء مثله عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بزيادة «متعمدا» وفيه أخرج مسلم والنسائي والبيهقي عن أبي بصرة الغفاري قال : صلى بنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) العصر بالمخمص ثم قال : ان هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها فمن حافظ عليها كان له اجرة مرتين ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد والشاهد النجم.

ورواه مثله عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ابو أيوب ، وفيه عن حفصة قالت إني سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر ، وفيه ـ

١٣٠

من الفجر فان فيها جماع المسلمين في حشود كبيرة ، وقد اختصت سورة من القرآن بفرض الجمعة ، كما اختصت أخرى بالحج.

إذا فأفضل الوسطى هي الجمعة ، ثم الفجر ثم الظهيرة ، فان كلّا وسطى وقتيا مهما كانت درجات ، والفجر هي الفضلى بين اليومية ثم الظهيرة ، وقبلهما الجمعة.

وهكذا نتعرف الى مرادات الله ، تدبرا في آيات الله ، وتنمرا في الله.

وأما أن فرض المغرب هي الوسطى لأن آية الإسراء ابتدأت بدلوك الشمس وانتهت الى قرآن الفجر ، فالوسطى وقتيا هي المغرب ، فقد يطاردها قرآن الفجر فيها ، حيث الوسطى الوقتية هي الفضلى ، وقرآن الفجر فيها هي الفضلى فهي هي الوسطى (١).

ثم وما ذكر دلوك الشمس هنا أولا دليلا على ان الظهر هو الوقت الأول للفرائض ، حتى تناط به وسطى المغرب ، إضافة الى ان دلوك الشمس يجمع الظهرين كما بيناه في آيته.

__________________

ـ وسلم) في سفر فقنت فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتركها على حالها في السفر والحضر وأضاف للمقيم ركعتين وانما وضعت الركعتان اللتان أضافها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الجمعة وللمقيم لمكان الخطبتين مع الإمام فمن صلى الجمعة في غير جماعة فليصلها اربع ركعات كصلاة الظهر في سائر الأيام.

وفيه عن العياشي عن زرارة ومحمد بن مسلم انهما سألا أبا جعفر (عليهما السلام) عن الآية قال : صلاة الظهر.

وفيه عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : الصلاة الوسطى هي الوسطى من صلاة النهار وهي الظهر وانما يحافظ أصحابنا على الزوال من أجلها.

(١) الدر المنثور ١ : ٣٠٠ ـ اخرج الطبراني في الأوسط عن عائشة قالت قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل الصلاة صلاة المغرب ومن صلى بعدها ركعتين بنى الله له بيتا في الجنة.

١٣١

ببداية الفجر ونهاية العشاء فالعصر ـ إذا ـ هي الوسطى؟ وهذه خارجة عن الوسطى النهارية فانها الظهيرة ، وعن الوسطى المطلقة فانها الفجر! مهما وردت في فضلها أحاديث عدة كما يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال يوم الخندق : «شغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا» ـ «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر» (١) فانه (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كان يشغله عن الصلاة شيء!.

(وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) قياما لله في الصلوة سكوتا (٢) دون نطق الا بها

__________________

ـ أخرج الدياميطي في كتاب الصلاة الوسطى من طريق الحسن البصري عن علي (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : صلاة الوسطى صلاة العصر ، واخرج مثله عن ابن مسعود عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وفيه عن سمرة ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : صلاة الوسطى صلاة العصر.

وفي نور الثقلين ١ : ٢٣٨ في كتاب العلل باسناده إلى الحسن بن عبد الله عن آبائه عن جده الحسن بن علي (عليهم السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حديث طويل يقول فيه وقد سأله بعض اليهود عن مسائل : وأما الصلاة العصر فهي الساعة التي أكل آدم فيها من الشجرة فأخرجه الله من الجنة فأمر الله عز وجل ذريته بهذه الصلاة إلى يوم القيامة واختارها لأمتي ، فهي أحب الصلوات إلى الله عز وجل واوصاني أن احفظها من بين الصلوات.

(١) تفسير الفخر الرازي ٦ : ١٥٠ روى عن علي (عليه السلام) ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال يوم الخندق ... رواه البخاري ومسلم وسائر الائمة ، والثاني في صحيح مسلم ، وفي الدر المنثور أخرجه عن عدة طرق عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

(٢) الدر المنثور ١ : ٣٠٦ ـ أخرج ابن جرير من طريق السدي عن مرة عن ابن مسعود قال : كنا نقوم في الصلاة فنتكلم ويساور الرجل صاحبه ويخبره ويردون عليه إذا سلّم حتى أتيت انا فسلمت فلم يردوا عليّ السلام فاشتد ذلك عليّ فلما قضى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صلاته قال : «انه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أنا أمرنا أن نقوم قانتين لا نتكلم في الصلاة والقنوت السكوت» أقول : لأن طاعة الله في الصلاة هي السكوت عن غير ألفاظ الصلاة ، لا ان السكوت هو معنى القنوت لغويا.

١٣٢

ف «ان في الصلاة شغلا» (١) ف «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس»(٢).

ثم ولا فعل إلا لها ، وقياما لله في كل جنبات الحياة «قانتين» : لازمين طاعته في كل هذه القيامات ، فلا طاعة إلّا قياما فيها ، ولا قيام إلّا طاعة لله.

والقنوت قسمان تشريعي وهو طبعا اختياري كما أمرنا هنا وما أشبه ،

__________________

ـ وفيه أخرج ابن جرير من طريق كلثوم ابن المصطلق عن ابن مسعود قال : إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان عوّدني أن يرد علي السلام في الصلاة فأتيته ذات يوم فسلمت فلم يرد عليّ وقال : إن الله يحدث في أمره ما شاء وانه قد أحدث لكم في الصلاة ، لا يتكلم أحد إلا بذكر الله وما ينبغي من تسبيح وتمجيد (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) ، وفيه أخرج عبد بن حميد وأبو يعلى من طريق المسيب عن ابن مسعود قال : كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة فمررت برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسلمت عليه فلم يرد علي فوقع في نفسي أنه نزل فيّ شيء فلما قضى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صلاته قال : وعليك السلام ايها المسلم ورحمة الله ، إن الله يحدث في أمره ما يشاء فإذا كنتم في الصلاة فاقنتوا ولا تتكلموا.

(١) المصدر أخرج البخاري ومسلم وابو داود والنسائي وابن ماجة عن ابن مسعود قال : كنا نسلم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في الصلاة فيرد علينا فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا فقلنا يا رسول الله : كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا؟ فقال : «ان في الصلاة شغلا» وفيه أخرج ابو داود والترمذي وحسنة عن صهيب قال مررت برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يصلي فسلمت عليه فرد عليّ إشارة.

(٢) المصدر (٣٠٦) أخرج ابن أبي شيبة واحمد ومسلم وابو داود والنسائي عن معاوية بن الحكم السلمي قال : بينا أنا أصلي مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ عطس رجل من القوم فقلت : يرحمك الله ، فرماني القوم بأبصارهم فقلت وا ثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلى فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني سكتّ فلما صلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فبأبي وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شمتني ثم قال : إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيئ من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن.

١٣٣

وتكويني بشعور اختيارا ودونه : (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) (٢ : ١١٦) كما (لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) (٣٠ : ٢٦).

ومن القنوت في الصلاة هو المعروف عندها في الركعة الثانية قبل الركوع وكما يروى(١).

وقيام الصلاة لله أن تقيمها كما أمر الله وتستطيع من أركانها وفرائضها الظاهرية والباطنية ، وذلك في حالة الأمان والاطمئنان ، دون حالة الخوف اللّاأمان :

(فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) ٢٣٩.

(فَإِنْ خِفْتُمْ) عدوا ام بأسا في اقامة الصلاة فلا يسقط منها إلّا ما يتطلب الوقوف ، «فرجالا» راجلين «او ركبانا» وفي كلّ تسقط واجبات من قيام وركوع وسجود وتشهد إلّا في أذكارها ، فإن لكلّ ذكرا حاله في الصلاة هي واجبة عند الإمكان.

__________________

(١) المصدر (٣٠٧) أخرج الطبراني في الأوسط والدارقطني والبيهقي عن البراء بن عازب قال كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يصلي مكتوبة إلا قنت فيها ، وفيه أخرج الحرث بن أبي أمامة والطبراني في الأوسط عن عائشة قالت كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقنت في الفجر قبل الركعة وقال : إنما اقنت بكم لتدعوا ربكم وتسألوه حوائجكم.

وفيه اخرج ابن أبي شيبة وابو داود والترمذي وحسنة والنسائي وابن ماجة والطبراني والبيهقي عن الحسن بن علي (عليهما السلام) قال : علمني جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلمات أقولهن في قنوت الوتر : اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك وانه لا يذل من واليت ـ زاد الطبراني والبيهقي ـ ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت.

١٣٤

(فَإِذا أَمِنْتُمْ) مما خفتم (فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ) بالهيئات الواجبة في الصلاة ذاكرين الله (كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) من كيفية الصلاة وأذكارها وسائر كيفيات العبادات وأذكارها.

أجل و «لا تترك الصلاة بحال» مهما اختلفت حالاتها حسب مختلف الأحوال ، وذلك يوحي بأهميتها البالغة ، وأنها عدة في المخاوف فلا تترك فيها مهما ترك البعض من مظاهرها ، فقد يؤديها المناضل في ميادين الحرب والسلاح بيده ، والخطر هاجم عليه ، وهي سلاح له روحي ، وجنة له أفضل من كل الدروع ، يؤديها فيتصل بربه أحوج ما يكون للاتصال به ، وأقرب ما يكون إليه والمخافة تحلق عليه.

ثم هنا (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) وفي آية النساء (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) فهنا إجمال عن (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) في (فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) وهناك تفصيل تعم التقصير من الصلاة على أية حال عند الخوف مهما كان المصلي واقفا ، والى قول فصل عن صلاة الخوف وصلاة المسافر على ضوء آية النساء في محله ، ولا تجد في القرآن كله آية تتحدث عن صلاة المسافر ، اللهم إلا هنا وفي النساء حيث يتحدث عن صلاة الخوف ، وإنما يلحّق صلاة المسافر في غير ما خوف بصلاة الخوف تلحيق التأويل ، وقد حدّد السفر بمسيرة يوم بأغلب السير والغالب على المسير ، مما يلحّقها سفرا ، بها خوفا ، بفارق أن هنا تعبا نفسيا وفي مسيرة يوم تعب بدني.

وقد تختص (فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) بخوف أشد لا يسمح بالوقوف حالة الصلاة ، و (أَنْ تَقْصُرُوا ...) تعم كل مراحل الخوف ، فيقدر قصر الصلاة بقدره ضرورة الحفاظ على النفس ، فإن الضرورات تبيح المحظورات.

١٣٥

وقد سميت صلاة الخوف صلاة المسايغة كما يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال : «صلاة المسايغة ركعة ، أي وجه كان الرجل يجزئ عنه فان فعل لم يعده»(١).

ومن أقصر الصلاة في أخوف المخاوف الإيماء حالة المشي بديلا عن الركوع والسجود ، حفاظا على كامل الأذكار إذ لا خوف فيها ، فانما هو في معظم افعال الصلاة ، وقد صلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الأحزاب إيماء (٢).

وصلاة الخوف تعم كل خوف كما هنا (فَإِنْ خِفْتُمْ) دونما اختصاص بالحرب (٣) ومن الخوف خوف المرض ، ام خوف قوات الوقت إن صبر في الحرب ، فهو يصلي مشتغلا بالحرب راجلا او راكبا ، فإنما يسمح في ترك واجبات للصلاة ، عند الخوف المقتضي لتركها ، مقدّرا في الترك قدر المقتضي حالة الخوف.

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٣٠٨ ـ أخرج البزار عن ابن عمر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

(٢) نور الثقلين ١ : ٢٣٩ عن المجمع ويروى أن عليا (عليه السلام) صلى ليلة الهرير خمس صلوات بالإيماء وقيل بالتكبير وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صلى يوم الأحزاب إيماء.

وفيه عن الفقيه روى عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن الصادق (عليه السلام) في صلاة الزحف قال : تكبير وتهليل يقول الله عز وجل : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً).

(٣) المصدر عن الفقيه روى عن أبي بصير انه قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : ان كنت في ارض مخوفة فخشيت لصا او سبعا فصل الفريضة وأنت على دابتك.

وفيه عن الكافي متصلا عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) كيف يصلي وما يقول إذا خاف من سبع او لص كيف يصلي؟ قال : يكبر ويؤمي إيماء برأسه.

١٣٦

ولأن «ان خفتم» طليقة في الآية فهي تشمل كل المخاوف على كل النواميس الخمسة ، دينا وعقلا ونفسا وعرضا ومالا ، لأن الحفاظ عليها واجب في شرعة الله.

ولا فحسب خاصة النواميس للمصلي ، بل ولمن وجب الحفاظ على نواميسه ، جمعا بين فرض الصلاة وسائر الفرض في الحفاظ على فعل الواجبات وترك المحرمات ، واما المكروهات او المستحبات ، فضلا عن المباحات ـ فلا.

إذا ف (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ ... وَقُومُوا ...) تخصّص بغير موارد العذر والخوف ، والتخصيص ايضا خاص بأفعال الصلاة دون الأذكار والنيات والطويات واجبة وراجحة ، حيث الخوف لا يقصر من الصلاة إلّا الأفعال ، اتجاها الى القبلة وقياما وركوعا وسجودا وقعودا.

وتجب الحفاظ على أفعال الصلاة قدر المقدور على أية حال ، كلا او بعضا ، أم بديلا عنها كالإيماء للركوع والسجود وهو أخفض من الركوع ، ثم لا إيماء للقيام والقعود ، فان الضرورات تقدر بقدرها ، وما لا يدرك كله لا يترك كله.

وليس القصر من الصلاة قصرا عن الإيماءات والأذكار والنيات ، اللهم إلا في حالة الوقوف حيث تقصر من الركعات لحدّ قد تبقى ركعة واحدة بواجباتها.

والخوف الذي يسمح للقصر من الصلاة هو المحلّق على كل وقت الصلاة ، فان رجى زواله آخر الوقت لم يجز أي قصر ، اللهم إلا عند الإياس فليقصر ، ثم إذا تبين زوال الخوف والوقت باق فليصلّ كما قال الله : (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) وهذا ما دام الوقت باقيا ، ثم لا قضاء خارج الوقت لصلوة الخوف فانه حقق تكليفه في الوقت دونما تقصير عن واجبه.

١٣٧

وكما الخوف يسمح او يفرض القصر من الصلاة ، كذلك القصر من مقدماتها ومقارناتها وشروطها ، ففاقد الطهورين خوفا يصلي دون طهور ، ولابس الملابس المحظورة في الصلاة يصلي معها ان لم يقصر في تبديلها الى غير المحظورة ، وهكذا الأمر كضابطة تحكم بإقام الصلاة على أية حال ، إذ لا تترك الصلاة بحال ، مهما تقصر منها أو من واجبات لها عند الضرورات.

ومن لطيف الأمر هنا القفزة المفاجئة من أحكام الزواج والطلاق الى الصلوات والصلاة الوسطى ، ليعرف المؤمن ان عليه الصلة المعروفة المرضية بخلق الله على ضوء صلته بالله فان الخلق عيال الله فأحب الخلق إلى الله من أدخل على خلقه سرورا.

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ٢٤٠.

«يتوفون» قد تعني ما تعنيه (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) فان الأزواج من الأقربين ، فهن إذا من ضمن الموصى لهم تشملهن آية الوصية (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ).

كما و «وصية» حين تعني فرض الوصية على الذين يتوفون ، شاهد ثان على ان «يتوفون» تعني حاضر الموت دون واقعه.

و «أزواجا» هنا تعم الدائميات والمنقطعات ، والرجعيات من المطلقات ك «أزواجا» في آية العدة : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ...) وهن كلهن غير مقيدات بشرط الدخول.

أترى (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) هنا هي عدة الوفاة الأولى ، المنسوخة بآية العدة

١٣٨

الأولى ، إذ كانت عدة الوفاة في الجاهلية حولا؟.

(وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) : ـ بتطلّب او إحراج ـ لا تفرض إلّا متاعا لهن خلال الحول ، محرّمة إخراجهن فيه ، مسموحا لهن الخروج إن أردنه خلاله ، فلا صراحة فيها ولا إشارة إلى عدة الوفاة! فقد نسخت الآية الأولى عدة الحول الجاهلية ، وأقرت الثانية متاعها إلى الحول غير إخراج (فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) زواجا بعد العدة المقررة وغير زواج مما يحل لهن ، بعد انسراحهن عن عدة الوفاة.

فالرواية القائلة انها منسوخة (١) هي نفسها منسوخة ، إلّا ان تعني من النسخ نسخ عدة الحول فحسب دون متاعه ، ولكنها لا تعم إلى متاع الحول عدة الحول حتى تنسخ تخصيصا.

إذا فنسخها بآية العدة مرفوض ، لا سيما وأن تأخر المنسوخ عن الناسخ في التأليف رغم تقدمه في التنزيل ، إنه من سوء الترتيب ، اللهم إلّا إذا كانا في سورتين ، لا في سورة واحدة وبهذا الفصل القريب ، فانه غريب عن كتاب البيان والتبيان!.

وتراها بعد منسوخة بآيات الفرائض إذ قررت للأزواج ثمنا أو ربعا؟ هي منسوخة بها ان كانت «وصية» تعني وصية الله وحكمه ، وفصيح التعبير عنه (يُوصِيكُمُ اللهُ) كما في آية الميراث.

وقد تدل «وصية» بنصبها على فاعلها المحذوف ك «فليوصوا وصية» وأما «أوصيهم وصية» فخلاف الفصيح.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٢٤ عن العياشي عن ابن أبي عمير عن معاوية بن عمار قال سألته عن هذه الآية قال : منسوخة نسختها آية (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) ونسختها آيات الميراث.

١٣٩

إذا فهذه الآية تصبح من فروع آية الوصية للوالدين والأقربين ، حيث الأزواج هن من الأقربين سببا ، فلئلا يفلتن عن أنظار ضيقة تختص «الأقربين» بأقارب النسب ، يفرض هنا عليهم الوصية لهن (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) وذلك مخصوص بقدر الثلث ، والزائد عنه بحاجة إلى إمضاء الورثة.

فلا نسخ في هذه الآية لا عدة ولا ميراثا ، اللهم إلا تخصيصا ل (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) بالثلث كما خصصت آية الوصية للوالدين والأقربين بها ، بسند آيات الفرائض ، والسنة المقررّة الوصية في نطاق الثلث.

وكون (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) ميراثهن في الجاهلية لا يقتضي نسخه إلّا كميراث وهو التخصيص ، فكما (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) كذلك (وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) فالعدة فريضة عليها (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) و (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) حق لها بالوصية المكتوبة على الزوج.

وقد تعني «وصية» أنها وصية ثابتة في الثلث ، أوصى بها الزوج ام لم يوص لها ، ومما يشهد لعموم الوصية ترك الفاعل ، ف «أوصي وصية» الى «ليوصوا وصية» هما المعنيان من «وصية» ولو كان المعني أحدهما لجيء بلفظه الخاص أمنا عن الالتباس.

وقد يشير تعريف «الحول» إلى الحول المتداول في الجاهلية ، فالإسلام مقرره بمكتوب الوصية وواقعها وان لم يوص ، ونسخه كميراث ، ولا سيما ميراثا فوق الميراث المقرر لهن في آيات الفرائض ، ثم (فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ ...) تنفي الجناح المزعوم في الجاهلية بحظرها عن الخروج والزواج خلال الحول (وَاللهُ عَزِيزٌ) في تدبيره وتقديره «حكيم» في حكمه.

وقد تعني «كم» في (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) إضافة إلى الورثة الموصى عليهم

١٤٠