الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٤

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٦

وطبيعة الحال في المار فجأة على هكذا قرية ان تسبق بلسانه قولة العجاب ، قضية مشهد البلى والخواء دون ايّ بواء ، وقعا عنيفا في حسه وعقله لحد القول : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها).

ف (أَنَّى يُحْيِي ...) سؤال عن زمن الإحياء دون أصله : هل يحيي ، أم وصله : كيف يحي ، وانما سؤالا عن فصله ، أيان ذلك الإحياء.

ام انه تطلّب لذلك الإحياء كما قال إبراهيم : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) مهما اختلف كيف عن زمان.

فقد التمس لزمن مّا ـ كما يراه الله ـ أن يحيي هذه الله بعد موتها ، ليزداد عين اليقين إلى علم اليقين ، كما تطلّب إبراهيم كيفية الإحياء مزيدا لحق اليقين إلى علمه وعينه.

و «هذه» هنا ليست هي نفس القرية الخاوية ، فان صيغتها الصالحة : أنى يعمر الله هذه القرية بعد خرابها! ثم وليس من المرجو عاديا ولا سواه تعمير القرى الخربة إلا ممن قد يعمرها من أهليها ، ثم ولا صلة ل (فَأَماتَهُ اللهُ ...) بإظهاره القدرة لتعمير خراب القرية ، فانه امر متعوّد لمعمري البلاد الخربة دون حاجة لتصديقه الى خارقة الاماتة والاحياء بعدها!.

كما ليست هي الميتات المقبورة ، إذ ليست هي مما تحير وتعجب المار بها ، بل هي بالية الأجساد ، ونخرة العظام المكشوفة على ارض القرية الخاوية على عروشها ، وهنا ترتبط (فَأَماتَهُ اللهُ ...) بعجاب القرية الخاوية ، ولكي يرى الإحياء بعد الإماتة بأم عينيه.

وقد استجاب له ربه ومزيدا حيث أماته وحماره مثالا ذاتيا له يريه به عين ما سأل في ذاته ومتعلقاته :

٢٤١

(فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ).

وقيلة القائل أن الإماتة هنا هي الإسبات ، أن ظلوا في سبات كأصحاب الكهف ، إنه سبات من التفسير ، حيث الصيغة الصالحة له هي صيغته ، أم كما في اصحاب الكهف (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً).

ثم إذا جاز السبات مائة سنة في قدرة الله ـ كخارقة ـ فلم لا يجوز الموت ، وهما من مصدر واحد ، فلما ذا ذلك الاستيحاش من الموت المؤقت في الحياة الدنيا ، وهو واقع البرهان على الحياة بعد الموت المطلق؟!.

اجل (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ) ثم ماذا؟ (ثُمَّ بَعَثَهُ) دون أحياه ، حيث البعث هو الإحياء كما كان دون أن يتسنّه بفترة الموت بمضي المائة ، او تحسب من عمره ، ففي إماتته اراءة فجأتها كما راه في القرية الخاوية ، وفي مكوثه طيلة المائة إراءة ثانية هي أن طول أمد الموت ليس ليؤثر بعدا أم صعوبة في الإحياء ، وفي إنشاء العظام ثم كسوها لحما بمنظره ومرآه إراءة ثالثة لهوان أمره على الله كما أنشأها اوّل مرة (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ).

(قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)

وانه سؤال عضال ، إذ ليس ليعرف الميت زمن لبثه ، فقد يرى الزمن الطويل قصيرا لملابسة طارئة ، كما يرى اللحظة القصيرة طويلة لملابسة أخرى ، فانما سئل ليتبين عجزه عن العلم بزمن لبثه ، وليعرف ان طائل اللبث في الموت لا طائل تحته كعرقلة للحياة بعده ، إجابة ما عن «أنى» في احتمالتها الأولى ، فليس قرب زمن الموت وبعده ، وتمزّق الاجزاء وبقاءها وما أشبه ، مما يقرب الإحياء أو يبعده ، فإن الله هو العلي القدير.

ولماذا التردد بين (يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) علّه لأنه مات بداية النهار ثم فوجئ بالإحياء بعد الزوال فقال «يوما» تحسبا لأوله وغفلة عن آخره ، فلما

٢٤٢

انتبه ببقاء النهار قال (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ). (قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ) ومما يدلك على ذلك الطائل وتلك القدرة الخارقة انك ترى بونا بعيدا بين حمارك البالي وشرابك وطعامك وفي كل دليل على كلّ :

(فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) لم تأخذهما سنون ولا سنة ، بل ولا ساعة ، حيث لم يتغير لا طعامك «التين» ولا شرابك «العصير» وهما يتغيران بقصير الزمن ، وقد مضت مائة ولم يتسنه ، وهذا إذا كانت «يتسنه» من السنة ، ولكنها من «السنّ» : التغيير ، والهاء ـ إذا ـ للسكت ـ كما في : ماليه ـ سلطانيه ـ اقتده ـ ماهية ، أماهيه وهذا أصلح في أدب اللفظ حيث الهاء ـ ولا التاء ـ قد تشير إلى غير السنة ، وفي شمول المعنى ومناسبة الحال ، حيث التين والعصير ليسا مما تأخذهما السنة ، بل ويوم بما دونه يغيرهما.

إذا فقد تعني عدم التغير بتا مهما كان قليلا ، كأن لم يمض عليهما حتى يوم او بعض يوم فضلا عن سنة او مائة!.

ولماذا (لَمْ يَتَسَنَّهْ) مفردة وهناك «شرابك وطعامك»؟ الوجه أدبيا أنه راجع الى المعطوف عليه ، ثم المعطوف مشمول له بعطفه عليه ، وعلّه معنويا ، حيث كان تسارع الفساد الى شرابه أكثر من طعامه ، فتسنّه طعامه أولى من شرابه ، وقد تظافر الخبر على ان شرابه عصير او لبن ، وان طعامه تين طازج ، وما اسرع إليهما تسنها وتغيرا ولا سيما في فضاء فارغ مكشوف ، ومهب الأرياح واشراقة الشمس والغبار!.

ولماذا النظر الأول الى شرابه وطعامه لم يتسنه ، ولا يمت بصلة لتصديق انه لبث مائة عام؟ علّه لأنه قد يخيّل اليه ـ بطبيعة الحال ـ انه في نفسه لم يتسنه فكيف لبث مائة عام ، فأمر بالنظر الأول.

ثم ليظهر له بعين اليقين ذلك اللبث أمر بالنظر الثاني : (وَانْظُرْ إِلى

٢٤٣

حِمارِكَ ...) وقد تسنّه ، دليلا على لبثه بحماره ردحا بعيدا من الزمن.

ولقد أجمل عن إماتة حماره مع إماتته ، تحاشيا عن ذلك القرن المزري ، وأدبا بارعا لموقف ذلك النبي ، وقد علم موته ثم إحياءه من مطاوي الآيات (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ ... وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ ...)!

وإذا قدرنا تغير التين الطازج والعصير في فضاء فارغ لحد يوم ، فقد تضاعف أمد التسنّه لهما إلى / ٣٥٥٠٠ ضعفا.

وهنا الحجة البالغة لنا على ناكري طائل العمر لصاحب العصر والزمان إمام الانس والجان محمد بن الحسن المهدي القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف ، أن اقل المرجو من طائل عمره قياسا الى ذلك الطعام والشراب / ٣٥٥٠٠٠٠ سنة إن كان العمر الممكن في العادة مائة سنة ، واين هي من عمره الآن ١١٥١ سنة ، وتلك المقدّرة له (عليه السلام) قرابة ثلاثة آلاف اضعاف هذه الواقعة له حتى الآن.

ومن ثم إذا قايسنا لبث يونس في بطن الحوت : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ولا يلبث الحي في بطن الحوت ـ وهو له خناق مضاعف ـ إلا قرابة خمس دقائق ، وكل يوم / ٢٨٨ ضعفا لها ، فكل سنة تصبح / ١٠٤٢٤٠ ضعفا ، فهي حتى الآن ـ وقبل يوم يبعثون ببضعة الآفات من السنين ـ إذا قدرنا الفاصل بيننا وبين يونس ثلاثة آلاف ـ تصبح ٠٠٠ ، ٧٢٠ ، ٤١٢ ضعفا ، فإذا قدرنا عمره المتعود مائة سنة أصبح المرجو تقديرا لعمره الممكن حسب القرآن ٠٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٢٧٢ ، ٤١ ، واين قرابة أربعين ملياردا بذلك التقدير و ١١٥١ سنة تمضي حتى الآن من عمره الشريف.

ثم (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) وهو أقوى وأقوم من شرابك وطعامك بمئات الأضعاف وقد بليت عظامه ورمدت ، فقد أصيب حماره بما أصيب ، ولكن شرابه

٢٤٤

وطعامه لم يتسنه ، تباينا ظاهرا في المصير ، والجو نفس الجو والمسير نفس المسير ، تعرضا لمؤثرات جوية ، هي على شرابه وطعامه اكثر من الحمار بمئات المضاعفات.

ولماذا عرض ذلك التغاير المغير المثير؟ لكي يرى مختلف التقدير من العزيز القدير والزمن واحد ، والجو فارد ، وباعث التسنة فيهما على حد سواء وارد.

ثم ولكي يتبين له عيانا بعد بيان انه كان ميتا مائة سنة ، فانه لم يتبين له طول أمد اللبث بحياته بعد موته الا (يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) وقد بين له حماره ، وأمامه شرابه وطعامه لم يتسنه.

ذلك! (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) رسولية ورسالية أماهيه؟ والواو هنا عطف على محذوف معروف بالسياق كالذي سبق ، فهو آية لنفسه أولا وآية للناس ثانيا ، ولكن الأصل هنا هو كونه آية للناس ، لا آية لنفسه إذ كان على يقين بما أصبح له آية!.

ولقد كانت آية للناس قوية لدرجة اعتبروه ابن الله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) حيث أحياه الله بعد موته مائة عام ، وأحيا التوراة المفتقدة بيده ، فبهر اليهود لحد قالوا قولتهم الجاهلة القاحلة (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ)! كما وردت في روايات عدة.

(وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ) عظام حمارك في القدر المتيقن لمكان (لِنَجْعَلَكَ آيَةً) دون «لنجعلكم» وقيلة القائل انها عظامه مردودة ب (ثُمَّ بَعَثَهُ) الدالة على كامل البعث ، فكيف بقيت ـ إذا ـ عظامه غير منشرة ولا مكسوة لحما حتى ينظر إليها؟ وما هي الحاجة إلى ذلك وفي النظر الى حماره كفاية! ثم (يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) لا تساعد على ذلك النشز والكسو!.

٢٤٥

ذلك! رغم ما وردت به الرواية دون اية رعاية او دراية (١).

(كَيْفَ نُنْشِزُها) رفعا لها عن خفضها في رمادها البالية «ثم» بعد نشزها (نَكْسُوها لَحْماً) وكما نخلقكم في بطون أمهاتكم : (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ...) فقد كان نشزا عن خفض الأرض ، وخفض الرماد ، إلى عالية العظام بعد ما كانت نخزه!.

فقد أري الذي مر على قرية كيفية نشز العظام وكسو اللحوم ، كظاهرة مرئية ببصر العين ، لتزيده عين اليقين إلى علم اليقين.

وفي مثلث الأمر بالنظر هنا عبر : فبادىء النظر الى شرابه وطعامه يحيره كيف لبث مائة عام وكل منهما لم يتغير ، وثاني النظر إلى حماره النخر يحيّره كيف هكذا تغير ان لم تمض مائة سنة ، ثم وكيف لم يتغير شرابه وطعامه في ذلك الغير! وثالث النظر يوقفه على «كيف يحيي هذه الله بعد موتها» بعين البصر بعد ما كان واقفا عليه بالبصيرة النافذة.

نظرات ثلاث تحوي نظرات ثلاث من تلك الإماتة والإحياء (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ)!.

(فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) ما لم يكن يتبين لولا ما أراه الله ، مهما كان يعلم تلك الحقيقة الكبرى ، (قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

فهنا «اعلم» تأشيرا لاستمرارية علمه ، مهما انتقل من علم اليقين الى

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٢٦٩ في الاحتجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) حديث طويل وفيه يقول : وأمات الله ارميا النبي الذي نظر الى خراب بيت المقدس وما حوله حين غزاهم بخت نصر وقال : أنى يحيي ... ثم أحياه ونظر الى أعضائه كيف تلتئم وكيف تلبس اللحم والى مفاصله وعروقه كيف توصل فلما استوى قاعدا قال : (أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

٢٤٦

عين اليقين ، وليس «الآن اعلم» او «علمت».

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ٢٦٠.

هذه مرحلة ثالثة هي القمة في الإبقاء بالإحياء بعد الموت ، حيث تحمل سؤالا عن كيفية الإحياء وإجابة عنها ، حيث النص (كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) عناية الى كيفية فعله تعالى

«... والكيفية من فعل الله عز وجل متى لم يعلمها العالم لم يلحقه عيب ولا عرض في توحيده نقص» (١) دون (كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) سؤالا عن الكيفية الظاهرة لكل ناظر كما كان لعزير ، وليس الإستدراك في (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) إلا إعلانا صارخا للسامعين أن ليس سؤاله هذا نتيجة عدم الإيمان فانه «بلى» إيمانا صارما بعلم اليقين وعين اليقين ، فإنما يقصد إلى حق اليقين : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) اطمئنانا يتم فيه الإيمان ويطم قلب صاحب الإيمان (٢) ، وكأنه هو الذي أحيى الموتى عارفا حقيقة إحياءه ، اللهم إلّا ما يختص بالله سبحانه من علم الإحياء ـ التام ـ الذي قضيته القدرة التامة على

__________________

(١). في معاني الاخبار عن الصادق (عليه السلام) في الآية في حديث قال : وهذه آية متشابهة ومعناها انه سأل عن الكيفية! ...

(٢) نور الثقلين ١ : ٢٧٥ في محاسن البرقي عنه عن محمد بن عبد الحميد عن صفوان بن يحيى قال سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن قول الله لإبراهيم : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) أكان في قلبه شك؟ قال : لا ـ كان على يقين ولكنه أراد من الله الزيادة في يقينه ، وفيه ٢٨١ عن الكافي عن القمي عن محمد بن عيسى عن يونس عن الحسين بن الحكم قال : كتبت إلى العبد الصالح (عليه السلام) أخبره اني شاك وقد قال ابراهيم (عليه السلام): (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) وانا أحب ان تريني شيئا ، فكتب (عليه السلام) ان ابراهيم كان مؤمنا وأحب ان يزداد ايمانا وأنت شاك والشاك لا خير فيه.

٢٤٧

الإحياء ، حيث العلم المحيط بشيء يساوق القدرة عليه.

وقد تعني «بلى» ـ فيما عنت ـ ايمانه بخلّته لله ، المرجوة له من قبل الله ، وقد كان استجابته في احياء الموتى آية له بينة (١) ولكنه لا تلائم الآية مهما لا تعارضها ، حيث ان آية الخلة حسب الرواية هي احياء الموتى بطلبه ومرآه ، لا والكيفية المتطلبة هنا (كَيْفَ تُحْيِ).

هذا ـ وهو على اية حال لم يكن شكا من إبراهيم في أصل الإحياء ، فانما تطلب حق اليقين برؤية كيفية الإحياء ، فان واقع العلم بأفعال الله محجوب عن خلقه الا بعض من اصطفاه لهذه المنزلة الرفيعة ، إظهارا له من غيبه : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) (٧٢ : ٢٧) فقد ارتضى ابراهيم لإراءه غيبة في إحياء الموتى كما ارتضى سائر المصطفين لغيب الوحي ، ولكن ذلك الغيب ميزة لإبراهيم فيه عن سائر درجات الوحي ، فان (مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) لا يفي إلا الناحية الرسالية المتطلبة وحي الرسالة كأصل ، دون سائر الغيب ، اللهم إلا المرتضى الأعلم والأعلى رتبة في كل غيب بالإمكان إراءته لمرتضى.

فإذا أرى إبراهيمه الخليل كيف يحيي الموتى بما سأل ، فقد كان يري محمدة

__________________

(١). المصدر في عيون الأخبار متصلا عن علي بن محمد بن الجحم قال : حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا (عليه السلام) فقال له المأمون باين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أليس من قولك أن الأنبياء معصومون؟ قال : بلى ، قال : فما معنى قول الله عز وجل (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) ـ الى ان قال ـ : فأخبرني عن قول ابراهيم (عليه السلام): (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)؟ قال الرضا (عليه السلام) إن الله تعالى كان اوحى إلى ابراهيم أني متخذ من عبادي خليلا إن سألني إحياء الموتى أجبته ، فوقع في نفس ابراهيم (عليه السلام) انه ذلك الخليل فقال : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى ... قالَ فَخُذْ ...)

٢٤٨

الحبيب ذلك الكيف قبل ان يسأل ، وكما رفعه في معراجه الى القمة المعرفية المنقطعة النظير حيث (دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى).

فلنضرب الرواية المختلقة ـ الناسبة إليه الشك في إحياء الموتى ـ عرض الحائط ، ذودا عن ساحة الرسالة القدسية ، وتنزيها للخليل على هامش الحبيب (١).

ولقد ضمنت كيفية إحياء الموتى عجاب جمع الأجزاء المتفرقة كما كانت أول مرة ، فكما ان بعد الزمان هناك لم يكن بمبعد لاعادة الميت كما كان ، كذلك أبعاد المكان ام أية أبعاد ليست لها اي إبعاد لإحياء الموتى.

فحين تضل اجزاء في اجزاء ـ عنا ـ ليست لتضل عن مميت الأحياء ومحييها : (وَقالُوا أَإِذا (٢) ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ... قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (٣٢ : ١١) فقد زوّد إبراهيم في إحياء الموتى الى رؤية الكيفية لأصل الإحياء ، رؤية جمع الاجزاء التي ضلت بعضها الى بعض (٢).

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٣٣٥ ـ عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): نحن أحق بالشك من ابراهيم إذ قال : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ...) ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي الى ركن شديد ، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي»!.

(٢) نور الثقلين ١ : ٢٨٠ في روضة الكافي متصلا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : لما رأى ابراهيم (عليه السلام) ملكوت السماوات والأرض التفت فرأى جيفة على ساحل البحر نصفها في الماء ونصفها في البر تجيء سباع البحر فتأكل منها فتشد بعضها على بعض فيأكل بعضها بعضا وتجيء سباع البر فتأكل منها فيشد بعضها على بعض ويأكل بعضها بعضا فعند ذلك تعجب ابراهيم (عليه السلام) مما رأى وقال : رب ارني كيف تحيي الموتى؟ قال : كيف تخرج ما تناسل التي أكل بعضها بعضا ، (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) يعني حتى أرى هذا كما رأيت الأشياء كلها ، قال فخذ اربعة ...

٢٤٩

وتراه كان مشتبها بشبهة الآكل والمأكول كما تلمح الرواية؟ كلا! حيث الجواب (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ ...) ليس فيه خلطهن بعد تقطيعهن ، مهما تستفاد من ذلك الإحياء ـ ضمنيا ـ الإجابة الوافية عن الشبهة.

وقد يقرب أن تطلّبه هذا كان بمرأى نمرود بعد تدجيله في حجاجه ، لكي يريه إبراهيم ان القصد من إحياء الموتى هو ما يريد ربه لا ما افتعله نمرود وكثير مثله يفعلون مثله.

فقد تطلّبه في ذلك الموقف الحرج المرج بالنسبة لأهل الموقف ، لكي يريهم عدم وهن حجاجه ، وان انتقاله الى اخرى لم يكن إلا لغباوة نمرود وتجاهله عن حقيقة الأمر.

وقد يبعده ان ذلك المجال العجال ما كان يسع فسحة ذلك الإحياء ، إمالة للطير إليه ، ثم جعل أجزاءهن المتفرقة على كل جبل ، ثم دعوتهن ليأتينه سعيا ، اللهم إلّا لمن واجه واقع القصة على طولها وطولها! ولكن (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ ...) يبعده ثانية فان بابل ليست تحمل جبالا ، فقد كانت القصة بعد انتقاله الى سوريا الأردن.

او انه سأله تعالى تساءلا عنه من قومه ، ليروا بأم أعينهم كيف تحيى الموتى ، ولكن «تحيي» تمنع ان يكون هو السبب ، فإنما ذلك من هوامش السبب والأصل هو رؤية الملكوت.

وقد يجمع الى كل هذه أن إحياء الموتى بدعائه ثم دعوته كان من آيات رسالته ، تقوية للمؤمنين ، وحجة بالغة على الناكرين.

وعلى اية حال لم يكن هنا او هناك شك في إحياء الموتى حتى يطلب بعيانه بيانه وانتقال الى اليقين ، فهناك «أنى» سؤالا عن زمانه دون أصله ، وزمان

٢٥٠

الإحياء مجهول لدى الكل ، وهنا «كيف» سؤالا عن كيفية وليس الا بعد العلم بأصله ، والعلم بالكيفية محجوب عن الكل.

فقد زوّد سائل «أنى» برؤية العين لأصله بعد العلم به ، ثم سائل «كيف» برؤية الكيف فوق أنّاه وأصله ، وسائر النتائج إيجابية وسلبية انما هي طوارئ على إجابة الكيف ، وفي (وَإِذْ قالَ ...) تلميحة لطيفة ان المخاطب ب «الم تر ... او كالذي» عرف كل الثلاث كأنه حاضر لديها «الم تر ... إذ قال إبراهيم» سمعا لقاله ، ورؤية لحاله ، ومشاهدة للكيف الذي تطلبه ، دون سؤاله ، فقد حلق على ذلك المثلث البارع من مراتب العلم وزيادة هي من ميزات اوّل العابدين وآخر النبيين.

وترى ما هو موقف العاطف في (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ)؟ إنها تبرءه لساحة الخليل ألّا يؤمن بوعد الجليل ، فان (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) تشعر بإمكانية عدم إيمانه ، ولكن الواو تعطف الى محذوف معروف ، أنك بعد ما آمنت بالبينات (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) كما ترجوه وبه تطمئن؟ (قالَ بَلى) آمنت (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) بحق اليقين ، حظوة من حيطة علمية ب (كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) كما يمكن لغيرك يا رب ، فما ذلك السؤال إلا لسؤال التشوف إلى ملابسة سرّ الصنعة الإلهية ، وملامسة الملكوت : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)

إنه أمر وراء الإيمان بالبرهان والبرهان للإيمان ، إنه تطلّب لرؤية السر الرباني في كلمة التكوين كما يسمح لمثل الخليل من عطف الجليل ، فلا تحيله استحالة الحيطة على الملكوت ، فان لها مراحل تختص قمتها بالله تعالى ولا يحيطون به علما.

صحيح انه هو ـ فقط ـ عالم الغيب ولا يظهر على غيبه أحدا ، ولكن قد يستثنى من ارتضى (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) قد يظهره على غيب له دونما يختص بساحته تعالى.

٢٥١

(قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ...) هنا نتعرف إلى أبعاد (تُحْيِ الْمَوْتى) وانه لم يكن ـ فقط ـ لغرض رؤية أصل الإحياء ، بل وكذلك رؤية جمع مختلف الاجزاء من مختلف الأموات ، فلو ان كان القصد هو اصل الإحياء لكان يكفي من الطير واحد ثم الزائد زائد بائد ، إذ لا يتعلق بالزائد فائد ولا عائد ، وفصيح الاجابة وبليغها إنما هما في إجابة وفق السؤال.

فقد زود الخليل (عليه السلام) ـ إذا ـ بمزيد إراءة الملكوت لإحياء الموتى أصلا وفصلا ، وهو القول الفصل هنا في الإجابة عن (كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى).

كما وان في «الطير» ميزة عن غيرها في تلك الإراءة البارعة ، فكما الطير تطير أحياء ، كذلك نجعلها تطير أمواتا حيث (يَأْتِينَكَ سَعْياً) وذلك أبدع من تطاير اجزاء أية دابة.

ومما لا بد منه في «اربعة» ان تكون من صنوف أربعة ، ولكي تصبح في (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) متخالطة بعضها ببعض ، فيصبح إحياءهن ورجعهن الى ما كنّ أول مرة ، دليلا ناصعا على ان الخلط في خلط ليس ليخلّط على الله تمييز الأجزاء في الإحياء.

فقد تضل عنا أجزاء حيوان في مثله ، ثم يضلان في ثان ثم ثالث ثم رابع ، ولكنها ليست لتضل عن الله تعالى شأنه ، كيف وهي لا تضل عن ملك الموت فانه يتوفى الأرواح والأجساد دونما زلة ولا ضلة ، بإذن الله ، ثم ترجع كما كانت بإذن الله!.

(فَخُذْ ... فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ...) «صرهن» من صار يصور صورا (١) ، مال ، وحيث تعديت ب «إلى» فهي الإمالة ، وقد تأتي بمعنى

__________________

(١) في لسان العرب : رجل أصور : مائل مشتاق ، صرت إلى الشيئ : أملته ، في رأسه صور اي ـ

٢٥٢

القطع والفصل (١).

وقد يجوز ان تعني «صرهن» كلا الإمالة والقطع ، فهي في الأولى لازم وفي الثانية متعد ، وقد عني هنا منها الجمع ، ف «إليك» نص في الإمالة ، وبضمها القطع بمعناه الآخر ، فقد جمع فيها بين إمالة الطير الأربعة إليه ثم تقطيعها (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً).

فقد يستفاد تقطيع الطير هنا من «صرهن» ثم من (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) حيث الجزء لا يطلق على كل واحدة من الطير ، وانما أجزاؤها المجزءة بالتقطيع.

ولماذا الإمالة قبل التقطيع؟ انها لمعرفة شاملة بها حتى يعرفها بعد الدعوة انها هيه بأعيانها دون غيار ، كما وان في تلك الإمالة أنسا لها به (عليه السلام) لا ينسى بالإماتة ، ولولا ذلك الأنس لما أجابت دعاءه أن (يَأْتِينَكَ سَعْياً) فانما الناتج عن إحيائها ـ وهو فعل الله ـ أن تحيى فتطير حيثما شاءت ، دون جهة خاصة يعنيها ابراهيم الخليل (عليه السلام).

فقد تلمح (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) ان احياءهن لم يكن من فعل ابراهيم ، وكما انه تطلب من ربه (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) لا «أحيي الموتى».

__________________

ـ ميل ، وفي صفة مشيه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان فيه شيئ من صور اي ميل ـ اي إذا جد به السير لا خلقة ، وفي حديث عمر : نتعطف عليهم بالعلم قلوب لا تصورها الأرحام اي لا تميلها ، وفي حديث ابن عمر : إني لأدني الحائض مني وما بي إليها صورة أي ميل وشهوة تصورني إليها ، وفي حديث عكرمة : حملة العرش كلهم صور ، وهو جمع أصور وهو المائل العنق لثقل حمله.

(١) لسان العرب : وصرت الشيئ ايضا قطعته وفصلته ، قال العجاج : صرنا به الحكم وأعيا الحكما وفي حديث مجاهد : كره ان يصور شجرة مثمرة ، والصوّار القطيع من البقر.

٢٥٣

وكما تؤيده (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً) حيث الدعاء الموجه إليهن ـ كطير ـ لا الموجه إلى أجزائهن ، دليل أمره بدعائهن بعد إحياءهن ، فهن «يأتينك» دعاء «سعيا» حيث انسن بك من ذي قبل ، وترى «كل جبل» تعني كل جبل الدنيا؟ وهو تكليف بالعسير العسير ، دون ان يحوى يسيرا من الحكمة في هكذا عسير!.

إنها بطبيعة الحال هي الجبال المحيطة به في الأفق الذي كان يعيش فيه ، اربعة او عشرة أماهيه ، والاستدلال ب «جزء» هنا ان الجزء عشر في عرف القرآن ، مبني على تأكد العشرة من «كل جبل» وألا يأتي الجزء في سائر القرآن لغير العشر ، وقد أتى للسبع : (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) (١٥ : ٤٤) فهم ـ إذا ـ سبعة اصناف ، لكي تختص كل باب من السبعة بصنف منهم ، وكما أتى لجزء طليق يعم كل جزء من الكل: (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) (٤٣ : ١٥).

إذا فلا مجال للاستدلال بالجزء الأول على كونه العشر مهما ثبت ان الجبال هناك كانت عشرة ، فالروايات المنسوبة الى أئمة اهل البيت (عليهم السلام) ان «جزء» هي العشر بصورة مطلقة (١) ، إنها مختلقة لا يعنى منها إلا التجديل

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٢٨١ في الكافي متصلا عن عبد الرحمن بن سبابة قال : ان امرأة أوصت إليّ وقالت : ثلثي يقضى به ديني وجزء منه لفلان فسألت عن ذلك ابن أبي ليلى فقال : ما أرى لها شيئا ما ادري ما الجزء فسألت عنه أبا عبد الله (عليه السلام) بعد ذلك وخبرته كيف قالت المرأة وبما قال ابن أبي ليلى فقال : كذب ابن ابن ليلى لها عشر الثلث ان الله عز وجل امر ابراهيم (عليه السلام) فقال : اجعل على كل جبل منهن جزء وكانت الجبال يومئذ عشرة فالجزء هو العشر من الشيئ. ورواه عنه (عليه السلام) مثله معاوية بن عمار استدلالا بالآية ، وعن ابان بن تغلب قال قال ابو جعفر (عليهما السلام) الجزء واحد من عشرة لأن الجبال عشرة والطيور اربعة.

وفيه ٢٧٨ عن العياشي عن عبد الصمد قال : جمع لأبي جعفر المنصور القضاة فقال لهم : رجل ـ

٢٥٤

عليهم وتجهيلهم بأمثال هذه السنادات المدخولة اللهم الا بتأويل (١) (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) : «عزيز» فيما يريد ، غالبا على أمره أيا كان «حكيم» في تحقيق مراده ، دونما فوضى جزاف ، ثم «اعلم» هنا ليس علما عن جهل ، بل هو مزيد علم وكما أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) وهناك الله علّم ابراهيم علما بما أراه كيف يحيي الموتى.

وإذا يستجاب ابراهيم الخليل (عليه السلام) في (كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) فبأحرى ان يستجاب الائمة من اهل بيت الرسول (عليهم السلام) ، أن يحيى لهم بعض الموتى في مقام المقارعة (٢) وهم مجتازون علم الكيفية ، لأنهم

__________________

ـ أوصى بجزء من ماله فكم الجزء؟ فلم يعلموا كم الجزء وشكوا فيه فأبرد بريدا إلى صاحب المدينة ان يسأل جعفر بن محمد (عليهما السلام) رجل أوصى بجزء من ماله فكم الجزء فقد أشكل ذلك على القضاة فلم يعلموا كم الجزء فان هو أخبرك به والا فاحمله على البريد ووجهه إلي فأتى صاحب المدينة أبا عبد الله (عليه السلام) فقال له : إن أبا جعفر بعث إلي ان أسألك عن رجل اوصى بجزء من ماله وسأل من قبله من القضاة فلم يخبروه ما هو وقد كتب إلي إن فسرت ذلك له وإلا حملتك على البريد إليه فقال ابو عبد الله (عليه السلام) هذا في كتاب الله بين إن الله يقول ـ لما قال ابراهيم : رب أرني كيف تحيى الموتى ـ الى قوله ـ : كل جبل منهن جزء ، وكانت الطير اربعة والجبال عشرة يخرج الرجل لكل عشرة اجزاء جزء واحدا ...

(١) بأن يقال ان الجزء مهما كن طليقا لأي جزء حين لا يحدد ، ولكنه حدد في القرآن بالسبع والعشر فحين لا نجد سبيلا لتحديد الجزء في وصية وسواها فالمرجع هو القرآن وقضية الاحتياط في الوصية ان نأخذ باقل الجزئين.

(٢) نور الثقلين ١ : ٢٧٦ عن العيون في باب استسقاء المأمون بالرضا (عليه السلام) بعد جري كلام بين الرضا (عليه السلام) وبعض اهل النصب من حجّاب المأمون فغضب الحاجب عند ذلك فقال بابن موسى لقد عدوك طورك وتجاوزت قدرك ان بعث الله تعالى بمطر مقدّر وقته لا يتقدم ولا يتأخر جعلته آية تستطيل بها وصولة تصول بها ، كأنك جئت بمثل آية الخليل ابراهيم (عليه السلام) لما أخذ رؤوس الطير ودعا أعضاءها التي كان فرقها على الجبال تأتينه سعيا وتركبن ـ

٢٥٥

__________________

ـ على الرؤوس وخفقن وطرن بإذن الله عز وجل فان كنت صادقا فيما توهم فأحيى هذين وسلطهما عليّ فان ذلك يكون حينئذ آية معجزة فأما المطر المعتاد خلت أنت أحق بان يكون جاء بدعائك من غيرك الذي دعا كما دعوت وكان الحاجب أشار الى أسدين مصورين على مسند المأمون الذي كان مستندا اليه وكانا متقابلين على المسند فغضب علي بن موسى الرضا (عليه السلام) وصاح بالصورتين : دونكما الفاجر ، فافترساه ولا تبقيّا له عينا ولا أثرا فوثبت الصورتان وقد عادتا أسدين فتناولا الحاجب ورضاه وهشماه واكلاه ولحسا دمه والقوم ينظرون متحيرين مما يبصرون ، فلما فرغا أقبلا على الرضا (عليه السلام) وقالا : يا ولي الله في ارضه ماذا تأمرنا ان نفعل بهذا أنفعل به فعلنا هذا ـ يشيران إلى المأمون ـ فغشي على المأمون مما سمع منهما فقال الرضا (عليه السلام) قفا فوقفا ثم قال الرضا (عليه السلام) صبوا عليه ماء ورد وطيبوه ففعل ذلك به وعاد الأسدان يقولان:أتأذن لنا ان نلحقه بصاحبه الذي أفنيناه؟ قال : لا ـ فان لله عز وجل فيه تدبيرا هو ممضيه ، فقالا : ماذا تأمرنا؟ فقال : عودا إلى مقركما كما كنتما ، فعادا إلى المسند وصارا صورتين كما كانتا فقال المأمون : الحمد لله الذي كفاني شر حميد بن مهران يعني الرجل المفترس ، ثم قال للرضا (عليه السلام) يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الأمر لجدكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم لكم ولو شئت لنزلت عنه لك ، فقال الرضا (عليه السلام) لو شئت لما ناظرتك ولم أسألك فإن الله عز وجل قد أعطاني من طاعة ساير خلقه مثل ما رأيت من طاعة هاتين الصورتين ، الا جهال بني آدم فإنهم وإن خسروا حظوظهم فلله عز وجل فيه تدبير وقد امرني بترك الإعراض عليك واظهار ما أظهرته من العمل من تحت يدك كما امر يوسف بالعمل من تحت يد فرعون مصر ، قال : «فما زال المأمون ضئيلا الى ان قضى علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ما قضى».

وفيه ٢٨١ في الخرايج والجرايح وروى عن يونس بن ظبيان قال : كنت عند الصادق (عليه السلام) مع جماعة فقلت : «قول الله لإبراهيم (عليه السلام) (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ ...) أكانت أربعة من أجناس مختلفة او من جنس واحد؟ قال : تحبون أن أريكم مثله؟ قلنا : بلى ، قال : يا طاوس فإذا طاوس طار الى حضرته ثم قال يا غراب فإذا غراب بين يديه ثم قال يا بازي فإذا بازي بين يديه ثم قال يا حمامة فإذا حمامة بين يديه ثم امر بذبحها كلها وتقطيعها ونتف ريشها وان يخلط ذلك كله بعضه ببعض ثم أخذ برأس الطاوس فقال يا طاوس فرأيت لحمه وعظامه ـ

٢٥٦

يسأمون محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد خصتهم آية التطهير بخاصة الطهارة المطلقة المتميزة عن كل طهارة لأي طاهر من العالمين من الملائكة والجنة والناس أجمعين.

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً

__________________

ـ وريشه تتميز من غيرها حتى التصق ذلك كله برأسه وقام الطاوس بين يديه حيا ثم صاح بالغراب كذلك وبالبازي والحمامة كذلك فقامت كلها حيا بين يديه.

٢٥٧

لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ

٢٥٨

وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩) وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢٧٤)

٢٥٩

لقد دارت دروس ثلاثة مضت حول إنشاء تصورات إيمانية رصينة هي محطات أصيلة في خط هذه السورة الطويلة ، والدرس الآن ـ وقد حان حين اختتام السورة ـ يقيم قواعد صارمة للنظام الاقتصادي الإسلامي ، تتكفل التعاون والتكافل المتمثل في إنفاقات مفروضة وسواها ، زكوات وسواها ، رفضا كل الأنظمة الإفراطية والتفريطية بحق الفقراء البائسين ، رفعا لكيانهم في كل انفاق إلى مستقر عز ، جاعلا أيديهم مثلا ليد الله ، وكأن الله هو الذي يأخذ الصدقات.

فقد يراعي الله تعالى في الإنفاق على المعدمين رفعهم إلى مكانة أعلى من الواجدين ، وكأنهم هم الفقراء إليهم حيث يكسبون مرضات ربهم بما ينفقون ، دون منّ او أذى ، بل هو انفاق بكل تبجيل واحترام ، بعيدا كل البعد عن اي تخجيل واخترام.

فقد كان هناك الإنفاق قرينا بتخيل الفقر من وراءه ، ام قرينا بالنفاق ، فكان من يضن بالمال إلّا بربا ، او ينفقه كارها مرائيا ، ام يتبع ما ينفقه بمن او أذى ، او يقدم الرديء من ماله احتجازا للجيد منه ، وهذه الآيات تعالج كل بأس وبؤس وعرقلة مادية او معنوية في سبيل الإنفاق ، ولكي يجد البائس الفقير نفسه عزيزا غنيا حين ينفق عليه ويده هي العليا حين يأخذ الصدقات.

فقد يعالج القرآن نكبة الفقر ماديا ومعنويا باسلوبه الفريد في واجب الإنفاق وراجحه بصورة اديبة وسيرة ادبية فريدة ، كسرا لسورة الترف وثورته ، وجبرا لفورة الفقر وسترا لعورته ، تنديدا شديدا مديدا بالأغنياء المترفين البخلاء ، وكما نسمعه من امام المتقين على امير المؤمنين (عليه السلام): «وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه الا إدبارا والشر فيه إلا إقبالا والشيطان في هلاك الناس إلا طمعا ، فهذا أو ان قويت عدته وعمت مكيدته وأمكنت فريسته

٢٦٠