الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٤

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٦

آيات خمس تبتدء بهامة الطلاق ، محلّقة على قسم كبير من أحكامه الرئيسية ، أحكام صارمة لا قبل لها ولا محيد عنها معبرة عنها بحدود الله ، فكما للنكاح حدود كذلك للطلاق حدود لا يتعدى عنها ولا يعتدى عليها ، لصلتها العريقة بآصرة الزوجية سلبا وإيجابا ، وهي حجر الإساس في كل الأواصر الجماعية.

(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ٢٢٨.

ترى «المطلّقات» هنا هي من العمومات المطلقات الشاملة لكافة المطلّقات ، ثم وتستفاد تخصيصاتها والتقييدات من سائر الآيات؟ وذلك من تخصيص الأكثر وتقييده وهو غير فصيح ولا صحيح!.

«المطلقات» هنا محفوفة ـ في الحق ـ بكافة القيود المطلوبة ، قرينة بها ، لحدّ لا تطلقها في إطلاقها ، فلا ينتظم لها اطلاق ولا عموم حتى يستهجن فيها تخصيص الأكثر ، إذ لا تخصيص فيها لا اقل ولا أكثر.

ذلك ، لأنها بعد الطلاق في جو الإيلاء ، المخصوص بالمدخول بهن الدائمات رجعيات وبائنات ، ثم (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) تخصهن بذوات الأقراء فلا تشمل الصغيرات واليائسات المسترابات موطوءات وغير موطوءات ، بل ولا الحاملات إذ لا يحضن في الأكثرية المطلقة ، وقد صرحت بعددهن ـ إلّا الصغيرات ـ آية الطلاق : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) (٦٥ : ٤) وكما صرحت آية الأحزاب ألّا عدة لغير المدخول بهن : (إِذا نَكَحْتُمُ

٢١

الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها ...) (٣٣ : ٤٩).

ثم (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) تعم تربص الرجوع إلى حضن الزوجة الأولى حيث يحق للزوج الرجوع إليها خلال (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) وتربص الزوجية الأخرى عرضا ام زواجا ، عقدا ام ووطئا ، مهما بان البون بين التربصين ، ففي الأول عليهن عرض انفسهن على أزواجهن كما كن قبل الطلاق بل وأكثر وأشهى وأبدى (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) فهو تربص ايجابي لحظوة الجنس ، وفي الثاني محرم عليهن العرض لزواج آخر فضلا عن ان يتزوجن ، فهو تربص سلبي ، فهن على اية حال (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ...) تكلّفا ايجابيا وسلبيا يتحدان في الرغبة الأنثوية إلى الجنس ، عرضا لها لأزواجهن في غير البائنات ، وإعراضا عنها لغيرهم في عرض واحد ، فعليهن ـ إذا ـ في قروءهن جذب الأوّلين ودفع الآخرين إلى انقضاء القروء ، ثم لا تربّص حيث يأتي لهن دور الحرية الكاملة في التحري عن زواج جديد.

فلأن التربص هنا هو بين «إلى وعن» لم يأت «لأنفسهن» الخاصة بالأول ، ولا «عن انفسهن» وهي للثاني ، وانما «بأنفسهن» وهي عوان بينهما ، وضبطا لأنفسهن فيهما ، ثم والباء هنا سببية تعني ان واجب التربص ليس ضغطا من غير أنفسهن ، خوفة من الناس ، بل بأنفسهن كأصول في ذلك التربص ، حيث يرضنها بالتقوى ويرفضنها عن الطغوى.

ام وهي مصاحبة كما هي سببية ، تربصا مصاحبا لأنفسهن ، ممازجا لها خليطا بها ، وهي هي أسباب التربص ومبادئها بما أمر الله ، دونما مصاحبة او سببية أخرى ، وذلك هو خالص التربص وناصعه.

و «انفسهن» هنا تلمح لرغبة الجنس ، الدافقة إلى استمرارية الحظوة

٢٢

الجنسية ، ضبطا لها عن هدرها ووضعها في غير حلّها ومحلّها ، إمساكا بزمامها مع كل توفّز وتحفّز وتحفّظ إلا عن زوجها الأول فإنه تربص بصورة أخرى هي أحرى ، مهما كانت الصورة الثانية هي أشد وأنكى.

ولماذا «يتربصن» خبرا بديلا عن «ليتربصن» إنشاء آمرا؟ إنه حيث الإنشاء بصيغة الخبر هو آكد إيجابا للتربص وكأنه واقع بمجرد الأمر فيخبر عن واقعه قبل وقوعه بصيغة الخبر.

ثم وعلّه للتأشير إلى أن واجب التربص هو واقعه ، لا وقصده المقتضي لاطلاعها على الطلاق وواجب تربص الأقراء.

فإن حصل دون قصد ولا اطلاع بواقع الطلاق فقد حصل المقصود ، حيث الأصل في ذلك التربص عدم زواج آخر ، وهو أقوى حصولا بتخيل أنها غير مطلقة ، وان حصل بقصد واطلاع فبانفسهن ، قاصدة للتربص ، خارجة عن كل تأنث وتأنس ، أللهم تربصا إلى أزواجهن وعن سواهم ، وفي تقديم الفاعل هنا مبتدء تأكيد لواجب التربص ليس في تأخيره ، ثم وحصر لذلك التربص في تلكم المطلّقات ، فلا تربص هكذا في المتوفى عنهن أزواجهن فانه (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) ولا في غيرهن ، بين واجب التربص عليهن وغير واجبه.

وترى ما هو القرء وما هي القروء ليقفن على حدها دون تشكّك وتبعثر في واجب العدة؟ أهو الطهر ـ حيث أصله الجمع ـ فإنه حالة جمع الدم لمن تحيض وقد وردت به روايات وبه الشهرة المطلقة بين فقهاءنا؟.

ومعناه الآخر الحيض ، وهو أكثر استعمالا ، وهو المجموع من الدم سائلا بعد جمعه ، وهو نتيجة الجمع حالة الطهر ، والقصد من العدة هو تطهير الرحم

٢٣

واستبراؤه من النطفة (١) وليس إلّا بالحيض وبه روايات (٢) وشهرة بين إخواننا

__________________

(١) كما في حديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما رواه ابو سعيد الخدري انه قال في سبايا أوطاس : ا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرء بحيضة (آيات الأحكام للجصاص ١ : ٤٢٢).

(٢) كما في الدر المنثور ١ : ٢٧٤ ـ اخرج الشافعي وعبد الرزاق وعبد بن حميد والبيهقي عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) انه قال : «تحل لزوجها الرجعة عليها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة وتحل للأزواج».

أقول : حتى تغتسل هي الوقت الأفضل لحل الوقاع وقبله حل الزواج.

وفي التهذيب ٣ : ٢٨٤ والاستبصار ٣ : ٣٢٩ في الموثق عن القداح عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن أبيه (عليهما السلام) قال قال علي (عليه السلام): إذا طلق الرجل المرأة فهو أحق بها ما لم تغتسل من الثالثة ، وفيهما عن محمد بن مسلم في الصحيح عن أبي جعفر (عليهما السلام) في الرجل يطلق امرأته تطليقة على طهر من غير جماع ويدعها حتى تدخل في قرءها الثالث ويحضر غسلها ثم يراجعها ويشهد على رجعتها ، قال : «هو أملك بها ما لم تحل لها الصلاة» أقول : حل الصلاة هو عند طهرها عن حيضها ، فإن قدرت ان تغتسل والا فتتيمم ، فلا يعني حل الصلاة إلا أصله ان شرائطها حاصلة ومنها غسلها وطهارة ملابسها وما أشبه.

وفي الوسائل ١٥ : ٤٢٥ صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : عدة التي تحيض ويستقيم حيضها ثلاثة قروء وهي ثلاث حيض ، ورواه عن أبي بصير عنه (عليه السلام) مثله (التهذيب ٨ : ١٢٦ و ٤٣٥ والاستبصار ٣ : ٣٣٠.

وفيه عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال : سألته عن المطلقة كم عدتها؟ فقال : «ثلاث حيض تعتد أول تطليقة» ورواه علي بن جعفر في كتابه.

وفيه (٤٢٩) عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن أبيه قال قال علي (عليه السلام): «إذا طلق الرجل المرأة فهو أحق بها ما لم تغتسل من الثالثة» وفيه ان عليا (عليه السلام) قال في حديث لمطلقة : فزوجك أحق ببضعك ما لم تغسلي فرجك. أقول : يعني ما لم تطهري من حيضك وهي الحيضة الثالثة.

وفيه (٤٣٠) عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليهما السلام) في الرجل يطلق امرأة تطليقة على طهر من غير جماع يدعها حتى تدخل في قرءها الثالث ويحضر غسلها ثم يراجعها ويشهد على رجعتها؟ قال : هو أملك بها ما لم تحل لها الصلاة.

٢٤

وقلة بين أصحابنا!.

أم هو الجمع بين الطهر والحيض متلاحقين ، فالطاهرة التي لا ترى الدم ليست ذات قرء ، وكذا التي تراه مستمرا ليست ذات قروء ، مهما لم يكن الدم بعد العشرة حيضا ، وهذان متعاملان في استبراء الرحم ، كلّ يزامل الآخر متجاوبا معه في هامة تنقية الرحم واستبرائه.

أم هو الجمع ـ ككلّ ـ وهنا هو الجمع بين الجمعين : الطهر والحيض ، فالطهر جمع ، والحيض جمع ، والجمع بينهما جمع ، وما أحسنه تعبيرا عن جمع الجمعين بالقروء ، فكل قرء هو جمع بين طهر وحيض فالقروء ـ إذا ـ ثلاثة جموع من هذه ، أولها طهر الطلاق وآخرها الخروج عن الحيض الثالث.

فكما الطهر قرء اعتبارا بجمع الدم حالته ، كذلك وبأحرى الحيض قرء فانه نفس الجمع ، مهما اختلف جمع عن جمع ، فالأول جمع إلى إتمام ، والثاني جمع إلى النفاد.

وعلى اية حال فليس يصح ذكر اللفظة المشتركة بين معنيين وعناية أحدهما دون قرينة كما هنا ، بل ولا مع قرينة معيّنة حين تكون لكلّ لغة خاصة : «الأطهار ـ الحيض» فضلا عن قرينة منفصلة تأتي في لفظ من السنة معارضا بضده ، وبعد ردح بعيد من زمن الوحي ، كالروايات الواردة عن الصادقين (عليهما السلام) أنهما الأطهار او الحيض.

فقضية الفصاحة البليغة ، ولا سيما في القمة القرآنية ان يعنى من «ثلاثة قروء» ثلاثة من جموع القرئين ، ثلاثة أطهار وثلاث حيض ، فالثانية تستلزم الأولى ، ولا تستلزمها الأولى ، حيث الأطهار الثلاثة تكفيها حيضتان ، والحيض الثلاث لا تكفيها إلا الأطهار الثلاثة ، مهما كانت الطهارة الأولى هي طهر غير المواقعة ، بكل أيامها ام لحظة اخيرة منها يصح ان يقع الطلاق فيها.

٢٥

فالأحاديث القائلة انها الأطهار (١) لا تلائم «ثلاثة قروء» حيث الكافي منها لتمام العدة طهران بمسمى طهر قبلهما فيه الطلاق ، فهما ـ إذا ـ اثنان فأين «ثلاثة قروء» اضافة إلى ان القرء يعنيهما في إطلاقه.

ولا تصلحها وتصححها آية (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) بحجة أنه شهران وأيام من الثالث ، حيث الأشهر الثلاثة هي ظرف للحج ككل ، منذ اليوم الأول لذي القعدة حتى آخر يوم من ذي الحجة ، فلا تعني اقتسام الحج إلى كل هذه الأشهر بأيامها تماما.

وثم إذا عنت «أشهر» هناك شهرين وأياما بدليل ـ فليس هو دليلا على عناية قرئين من «قروء» دون دليل! فانه من تفسير آية دون قرينة بتفسير أخرى بقرينة تحضها ، وحين تكون عدة هذه المطلقات حيضتين فما هو الفارق بينهن وبين الإماء والمنقطعات وكما يروى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) : «طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان».

لذلك كله ولموافقة الكتاب ـ كأصل ـ ترجّح أخبار الحيض الثلاث على

__________________

(١) الوسائل ١٥ : ٤٢٤ باب ان الأقراء في العدة هي الاطهار عن زرارة عن أبي جعفر (عليهما السلام) قال: القرء ما بين الحيضتين. وفيه عنه (عليه السلام) قال : الأقراء هي الاطهار ، وفيه عن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث عن القرء : انما القرء الطهر الذي يقرء فيه الدم فيجمعه فإذا جاء الحيض دفعه ، وفيه عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): والقرء جمع الدم بين الحيضتين ، وفيه (٤٢٦) باب ان المعتدة بالأقراء تخرج من العدة إذا دخلت في الحيضة الثالثة أحاديث عدة : إذا رأت الدم من الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها ولا سبيل له عليها وانما القرء ما بين الحيضتين.

أقول : إذا كان القرء بين الحيضتين فثلاثة قروء هي ثلاثة أطهار كلّ بين حيضتين ، وهنا تزيد العدة عن الحيض الثلاث بطهر كامل بعد الثالثة ، فالطهر الاول بين حيضتين هو بعد طهر الطلاق ، فالثاني بعد الحيض الثاني والثالث بعد الثالث ، فهذا على اقل تقدير تسعة وثلاثون يوما.

٢٦

الأطهار ، ولا دور فيها للتقية ، حيث القول بالحيض ليس شهرة مطبقة مطلقة بين إخواننا (١) ، ولا مورد للتقية في المسألة المختلف فيها بينهم ، ثم الأصل هو الكتاب المصرّح بجمع الحيض والأطهار ، او الحيض الشاملة للأطهار ، مهما أجمع أصحابنا بخلافه وأجمع إخواننا بوفاقه ، أم عكس الأمر ، فما دامت دلالة الكتاب صريحة أو ظاهرة ، فلا دور لسائر الحجج رواية وشهرة واجماعا او مخالفة لسائر المذاهب الفقهية الإسلامية!.

ومن ثم «قروء» جمع كثرة دون «أقرء أو أقراء» جمعي قلة ، تلمح صارحة صارخة إلى أنها اكثر من ثلاثة في مصاديقها ، فلا تناسب إلا الجمع بين الحيض والأطهار ، وهو صادق في ثلاث حيض بطهريها فيما بينها ، وقبلهما شطر من الطهر الأول وقع فيه الطلاق ما صدق أنها في طهر غير المواقعة ، ولكن الأحوط كما يأتي ثلاثة أطهار كاملة مع ثلاثة حيض كاملة.

ثم القرء لا يطلق على مطلق الطهر ، وهو يطلق مطبقا على مطلق الحيض كما قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «دعي الصلاة ايام أقراءك» (٢).

كما وبديل (ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) عن (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) للمسترابة دليل على ثلاث

__________________

(١) فقد ذهب إلى انها الأطهار جماعة من إخواننا منهم الشافعي وروي عن ابن عمر وزيد وعائشة والفقهاء السبعة ومالك وربيعة واحمد ، وقال علي (عليه السلام) وعمرو بن مسعود هي الحيض وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى وابن شبرمة وإسحاق.

(٢) وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لفاطمة بنت أبي حبيش : فإذا أقبل قروءك فدعى الصلاة وإذا أدبر فاغتسلي وصلي ما بين القرء إلى القرء ، وعن عائشة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : طلاق الامة ثنتان وقرءها حيضتان ، وعن أبي عمر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : تطليق الامة تطليقتان وعدتها حيضتان.(آيات الأحكام للجصاص ١ : ٤٣٢).

وفي الوسائل ١٥ : ٤٢٢ عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : لا ينبغي للمطلقة أن تخرج إلا بإذن زوجها حتى تنقضي عدتها ثلاثة قروء او ثلاثة أشهر لم تحض.

٢٧

حيض ، قضية تطابق البدل للمبدل منه ، ولو كانت القروء حيضتين لكان البدل شهرين فان لكل شهر حيضة (١).

إذا فثلاثة قروء هي الجمع بين ثلاث حيض بأطهارها الثلاثة ، مهما يكتفى من طهرها الأول بمسمّاه ، وهو السر في التعبير عن «قروء» في أحاديثنا بالحيض الثلاث ، حيث تضم الأطهار الثلاثة ، فلو كان النص «ثلاثة أطهار» لكانت العدة حيضتين ، ولو كان «ثلاث حيض» لم يدخل الطهر الأول من الثلاث في نطاق العدة وهو داخل قطعا لاشتراط صحة الطلاق بكونه في الطهر الذي لم يواقعها فيه ، ف (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) هي الصيغة المتعينة لكامل العدة.

وأقلها حينئذ تسعة وعشرون يوما بردح من طهر الطلاق ما صدق انها في طهر ، وهو عند الآخرين ستة وعشرون يوما بذلك الردح ، والفاصل بينهما ثلاثة ايام هي الحيضة الثالثة.

وإذا كان القرء هو الطهر بين حيضتين زادت على العدة ـ لأقل تقدير ـ عشرة ايام فهي تسعة وثلاثون يوما ولكن ثلاثة قروء بعد الطلاق تخرج الطهر بعد الحيض السابق على الطلاق ، ولا يصح عناية مطلق الطهر من القرء ، بل هو الحيض او الطهر بين حيضتين او هما معا فلا مجال لاحتمال ستة وعشرين يوما ، فانها خارجة عن حدّ القروء بكل التفاسير الثلاثة.

واحتمال الحد الأعلى يلائم تفسير القروء بالحيض والأطهار (٢) فهو الأحوط

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٥ : ٤١٠ عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) انه قال في المرءة يطلقها زوجها وهي تحيض في كل ثلاثة أشهر حيضة؟ فقال : إذا انقضت ثلاثة أشهر انقضت عدتها يحسب لها لكل شهر حيضة. وفيه (٤١١) عن زرارة عن أحدهما قال : «اي الأمرين سبق إليها فقد انقضت عدتها وإن مرت ثلاثة اقراء فقد انقضت عدتها» أقول : الأقراء ـ جمع قلة ـ هي الحيض الثلاث وبضمنها الاطهار ، والقروء هي المجموعة منهما.

(٢) حيث الجمع الأصلح لجمع الجمعين هو ثلاثة أطهار مع ثلاث حيض ، ويبقى طهر الطلاق كأنه ـ

٢٨

وان كان الأقوى هو الأوسط واحتمال الأقل ساقط على أية حال لأنه ليس قروء على اية حال ، هذا ولو عني ثلاث حيض بطهرين لقيل : ثلاث حيض فان الطهرين هما لزام الحيض الثلاث ، وطهر غير المواقعة هو شرط الطلاق بدليل خاص ، فالأقوى ـ إذا ـ هو الأول بانحساب الأيام المتبقية من الطهر غير المواقعة ثم تكفي ايام بعد الحيضة الثالثة ، فالقروء إذا ـ لأقل تقدير ـ هي تسعة وثلاثون يوما!.

ذلك! (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ) أعم من الأجنّة والنطف ودم الحيض ، فان عنايته ككل بخصوصه تتطلب صيغته الخاصة به.

فقد تكتم المطلقة حبلها رغبة عن زوجها إلى زوج جديد ، والحاقا لولدها به مزيدا في وصال وبعدا عن فصال ، حيث الكتمان يعجل انقضاء عدتها والحمل يؤجل (١).

ام تكتم حيضها الأخير او انقطاعه رغبة في تطويل الأمد وتأجيله رجاء رجوع الزوج إليها ، ام تكتم طهارتها عنه وقد طهرت لنفس الرغبة ، او تكتم بقاء العدة رغبة في زواج آخر برجل آخر ، ام به بصداق آخر ، وكل ذلك تفويت لحق الزوج الأول ، اللهم إلا احتياطا فيما يجوز فرارا عن الضرار.

وكل هذه تشملها (ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ) من الأجنة ، ام دم الحيض المجتمع في الرحم حالة الطهر ، او السائل حالة الحيض ، فكل هذه لا يَحِلُّ

__________________

ـ خارج عن الحد وهو داخل ، لأنه غير محدد بزمن خاص ، حيث يتراوح بين شهر إلى لحظة.

(١) نور الثقلين ١ : ٢٢١ في تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله : «والمطلقات ولا يحل لهن ...» يعني لا يحل لها ان تكتم الحمل إذا طلقت وهي حبلى والزوج لا يعلم بالحمل فلا يحل لها ان تكتم حملها وهو أحق بها في ذلك الحمل ما لم تضع.

٢٩

لَهُنَّ) لأنها مما خلق الله في أرحامهن كأمانات لأزواجهن.

ولأن هذه الأمور هي مما لا يعلم إلا من قبلها ، وقد تفسد الأنسال والأبضاع بكتمانها ، لذلك يهدّدن فيها كأن كتمانها كفر بالله واليوم الآخر (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، ففترة العدة هي فترة الاستعداد ، إما للرجوع إلى الزوجية الأولى ، او إنشاء زوجية جديدة ، لذلك يستجيش منهن شعور الإيمان بالله واليوم الآخر في هذه الفترة الممتحنة ، حفاظا على أمانات الزوجية ، ورعاية لحدود الله ، ولأن ذلك الكتمان محرم رعاية لحرمة حق الأزواج في الحمل وفي الرجوع ، فقد يجوز لهن كتمان البقاء في العدة إذا كان الرجوع ضرارا ام لعدم الإصلاح ، فإذا أراد الرجوع الذي ليس من حقه تقول تورية صالحة لقد انقضت العدة بالطهر بعد الحيضة الأخيرة ، فرارا عن الضرار.

وانها فترة معقولة يختبر فيها الزوجان عواطفهما بعد الفرقة وكما يؤمران بشأنها وينهيان حتى ينهيانها بإحسان :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً. فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) (٦٥ : ١ ـ ٢)

فقد يظل في قلوبهما ظلّ من ودّ قد يستعاد ، وعاطفة قد تستجاش ، او معان أخرى من عطف الزوجية غلبت عليها نزوة او فظوة ، فإذا سكن الغضب وهدأ النصب ، فقد تستصغر تلك الأسباب العاجلة في هذه الفترة الآجلة ، فتستأنف الحياة جديدة جادة ، فلما ذا ـ إذا ـ إحراجهن فإخراجهن من بيوتهن ،

٣٠

ولماذا كتمانهن ما خلق الله في أرحامهن فصلا عن عود الوصل ، ام وصلا بآخر قبل تمام الفصل الأول؟ ، وترى إذا طلقها في طهر غير المواقعة ثم راجعها ولم يطأها ثم طلقها فهل عليها تربص القروء؟ وهي مشمولة لما تنفي عدتها : (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها ...) (٣٣ : ٤٩)!.

أم عليها نفس التربص حيث مسها بعد النكاح وقبل الطلاق ، و «ثم طلقتموهن» تعني الطلاق بعد النكاح وهو الطلاق الأول ، وان يمسها قبل الطلاق وهو في المفروض لم يمسها قبل الطلاق الثاني ، وعموم «يتربصن ...» شامل لكل مطلقة سوى الصغيرة واليائسة فلا قروء لهما ، وسوى الحامل والمتوفى عنها زوجها حيث الأصل فيهما هو الوضع وتمام الأربعة أشهر وعشرا ، ثم الباقية باقية تحت العموم في فرض تربص القروء.

فالحيلة الشرعية هنا غيلة وويلة على شرعة الله ان تتزوج المطلقة ثانية ـ دون دخول بعدها وقد دخل بها بعد نكاحها ـ ولم تمض بعد قروءها.

وهل تبدء القروء من الطلاق الأول او الأخير؟ فيه وجهان أحوطهما منذ الطلاق الأخير ، حيث القروء ليست الا للحفاظ على المياه ، ف «المطلقات» قد تشمل هذه المطلقة وان لم يدخل بها قبل طلاقها الأخير.

(وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً)

والبعل في الأصل هو السيد العالي القائم بنفسه على سواه ، ولذلك سمي كل شجر او زرع لا يسقى ، والنخل الراسخة في الماء مستغنية عن السقي ، وماء السماء ، كل ذلك يسمى بعلا لنفس المعنى ، وهكذا الأزواج حيث (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) ـ (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) ومن قوّاميتهم ودرجتهم أنهم (أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) التربص العدّي ، شرط الإصلاح في

٣١

حضن الزوجية الأليفة ، فهو إزالة الفساد الزوجي الذي من أجله حصل الطلاق ، فالرد لأجل قضاء العدد حتى تحرم أبدا ، وبأحرى للاعتداء عليها والمضارة ، ذلك الرد مردود في شرعة القرآن ، مسدود على البعولة المضارين أو الذين لا يعنون إصلاحا.

وتراهم أحق ممن؟ وهو الأولوية في الحق ، أمن سائر الرجال الذين يريدون الزواج بها؟ ولا حق لهم قبل انقضاء عدتهن! ام منهن انفسهن؟ ولا حق لهن في الرجعة إليهم!.

قد يعني «أحق» هنا ما يعنيه «خير» انسلاخا عن التفضيل ، أم تنازلا إلى زعم أن غيره فضيل ، فإن كان حق لغير بعولتهن فبعولتهن أحق بردهن.

أم يعني انهم أحق منهن خلاف ما يخيّل إلى الناس قبل هذا التنبيه ، أن الحق هنا مشترك بينهما على سواء ، كما كان مشتركا في عقد النكاح ، ولكنهم أحق منهن لأنهم بعولة ، كما هم أحق منهن في الطلاق.

أم يعني أن لهن حقا في الرجعة لاشتراكهن معهم في حياة الزوجية ، ولذلك يحق لهن عرض أنفسهن عليهم في العدة الرجعية ، ولكنهم أحق منهن ، فلا حق لهن استقلالا بجنبهم ، بل هو لهم استقلالا بجنبهن شرط إرادة الإصلاح ، فلا يحق لهن ـ إذا ـ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن صدا عن حق الرجوع لبعولتهن ، كما أنهم أحق منهن ردا لهن في العدة البائنة خلعا ومباراة ، فمهما كان لهن استرداد ما وهبن من مهورهن فانقلابا للبائنة إلى الرجعية ، لكنهم أحق بردهن في ذلك كما في أصل الرجعية ، فلا استخدام لضمير «ردهن» حيث الراجع يعني ما يعنيه المرجع من المطلقات الدائمات رجعيات وبائنات.

ثم هم أحق بردهن ـ فقط ـ في ذلك التربص ، وأما بعده فهن أحق منهم

٣٢

إذ يملكن أنفسهن كما كن قبل الزواج ، ثم هم وسائر الخطّاب على سواء بالنسبة لهن في الزواج الآخر بعد انقضاء العدة.

وكما يعني أن لسائر الرجال حق أن يتزوجوا بهن مهما كان شرطه انقضاء عدتهن ، ولكن (بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ ...) وحتى إذا كتمن وتزوجن فظاهر الحال للأزواج الجدد انهم ازواج ، ولكن (بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ) منهم ، فان عرفوا واقع الحال وهن في عدتهن ردوهن إلى زواجهم ، كما وهن ـ إذا ـ محرمات أبديا على هؤلاء الجدد لمكان النكاح في العدة ف (بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) على أية حال ، وقد تردّ «بردهن» حق سائر الرجال إذ لا ردّ منهم لهن إلى زوجية اللهم إلّا زوجية أخرى بعناية الرد هنا ردا إلى اصل الزوجية وهو بعيد إلا ضمن سائر الرد المقصود ككل في «بردهن».

والرد هنا رد إلى حالة الزوجية قبل الطلاق ، مهما كانت المطلقة رجعيا زوجة ، إلا أن بين الحالتين بونا بينا ، فإن في تربصهن أمام الانقطاع المطلق بانقضاء التربص إبطالا لحق الرجوع ، وبردهن في ذلك يبطل الانقطاع مطلقا اللهم إلا لطلاق آخر ، و «في ذلك» تعني في ذلك التربص البعيد زمنا فانه يكفي لرجوع البعولة إلى عقولهم وحالتهم العادية فيردوهن.

وصيغة الرد هنا دليل ان حالة العدة هي البرزخ العوان بين كونها زوجة وأجنبية ، فهي زوجة إذ يجوز له الرجوع إليها دون عقد جديد ولا رضى منها ، وهي أجنبية إذ لا يجوز الرجوع إليها بعد انقضاء عدتها إلّا بعقد جديد ، وقد يعني ذلك البرزخ المستفيضة «المطلقة رجعيا زوجة» (١) ففي العقد الجديد وكذا الأول لا احقية في البين ، بل الحق بينهما هو المراضاة منهما على سواء.

__________________

(١) كما في الوسائل الباب ١ من اقسام الطلاق والباب ١٣ منها الحديث ٦ والباب ٢٠ منها الحديث ١١ والباب ١٨ و ٢٠ و ٢١ من أبواب العدو.

٣٣

ولكنما الردّ الرجعة ليس إلّا نقضا لأثر الطلاق ، فكما الطلاق بيد من أخذ بالساق ، كذلك نقضه في العدة هو بيد من أخذ بالساق شرط إرادة الإصلاح ، فهو إذا لمصلحة الزوجين دونما استقلال للزوج باستغلال الرد لغير الإصلاح.

والرد هنا هو بصيغة أخرى إمساك في آية الطلاق (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) وآية أخرى من البقرة : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ (٢٣١)) ، فأحقية البعولة بردهن في ذلك مشروطة بالإصلاح والمعروف ، واما استمرار الحالة السابقة أم إساءة إليها في الرد أم إبطالا لحق الزواج بها إلّا بمحلل ، فلا أحقية لهم فيها ، بل لا حق لهم ، حتى وان رضين ذلك الرد المسيء لغير المعروف ، فضلا عما سواه فلا حق لهم في الرجوع إليهن غصبا عليهن.

فان لم يريدوه ، ام كان القصد من ردهن الإعنات وإعادة تقييدهن في حياة محفوفة بالأشواك ، انتقاما منها ، ام قهرا عليها لتتنازل عن حقوقها ، او استكبارا واستنكافا ان ينكحهن أزواجا غيرهم ، فما هم ـ إذا ـ بأحق بردهن في ذلك ، ولهن التمتع من ردهن بأية وسيلة مشروعة ، حتى الكتمان الذي لا يفوّت حقا لبعولتهن مثل كتمان الأجنّة ، اللهم إلّا كتمانا يقصد ـ فقط ـ من وراءه عدم ردهن ، ثم لما وضعن حملهن يعلنّ لهم أنه لهم ، وليس لهم رد الوليد بحجة عدم الزواج ، وعدم ورود تهمة الزنا.

٣٤

وقد يرجع ضمير الجمع في «أرادوا» إلى كلا الزوجين ويساعده الإعتبار ، فإن المقصود هنا هو إصلاح عشرة الزوجية المشتركة بينهما ، فان أراد البعل إصلاحا من قبل نفسه ردا على ما أفسد فطلق ، ثم لا إصلاح من قبلها فقد لا يصلح هذا الرجوع ، كما إذا أرادت هي الإصلاح وهو لا يريده ، فلا يصلح ـ إذا ـ الرجوع بأحرى ، أم يريد الإصلاح او تريده معه ولكنه غير مستطاع ، فكذلك الأمر حيث القصد من ارادة الإصلاح واقعه الممكن.

هذا! ولكن «إصلاحا» منكرا قد تكتفي في صالح ردهن بإصلاح مّا هو في الأصل من البعولة ، تحولا عما سبب الطلاق من فساد إلى إصلاح ، رجوعا إلى الحالة الممكنة من عشرة الزوجية حيث لا خوف من ترك حدود الله.

فلا يشترط ـ إذا ـ في سماح الرد الإصلاح المطلق منهما او من أحدهما ، بل هو مطلق الإصلاح الصادق عليه «إصلاحا» والأصل فيه هنا هو الزوج ، فانه السبب للطلاق ، دون الزوجة أم هي مع الزوج حيث الطلاق فيهما بائن خلعا او مباراة فلا ردّ فيهما إلا برد الفدية.

وعلى أية حال لا بد من سماح الرجوع من إصلاح مّا ممن أفسد ، وهو هنا الزوج ، مهما كان إصلاحا لحالة الزوجة المتوترة من طلاقها.

أجل ، لم يجعل الله لبعولتهن حق الضرار في ردهن وإمساكهن ، والحكم بسماح رجوعهم إليهن دون إصلاح ـ فضلا عن الضرار ـ حكم بسماح الضرار في حقل الزوجية ، ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام ، ومن الغريب في فقهنا الإفتاء بجواز الرجوع لغير الإصلاح ام للإضرار ، مهما حرم ، فصلا بين حكمه الوضعي عن التكليفي ، وهما مثلان في الحاجة إلى حجة شرعية ، والقرآن يصرح بعدم حق الرجوع في غير ارادة الإصلاح! ثم الرد والإمساك أمران

٣٥

قصديان ان يقصد بهما الرجوع إلى علقة الزوجية ، كما قصد بصيغة الزواج أصلها في البداية ، فكما الصيغة الخاوية عن قصدها ليست سائغة للعلقة الأولى ، كذلك الردّ الخاوي عن نية الرجوع إليها بعد تزلزلها ، بفارق ان النكاح لا يتحقق إلا بصيغتها بشروطها ، والرجوع متحقق بأية ظاهرة تدل عليه لفظة او فعلة من نظرة او قبلة او لمسة وبأحرى وطئة ، كل هذه شريطة القصد بها إلى رجعة العلقة إلى حالتها الأولى.

فالصحيح في ان غشياته إياها رجعة (١) مأول بقصدها ، فإن وطئها دون قصد كانت زنا ، ولكن القصد مما لا يعلم إلّا من قبله ، فنفس الوطي دون ثابت القصد محمول على الرجوع لظاهر الصحة في فعل المؤمن ، والإنسان على نفسه بصيرة ، فإن ظهر أنه لم يقصد الرجوع بوطئه فلا رجوع كما انه لا رجوع بقصده في الإضرار ام غير الإصلاح.

ذلك ـ كما أن الصحيح (٢) في إنكار الطلاق قبل انقضاء العدة أنه رجعة محمول على ظاهر قصد الرجعة بإنكاره ، فإن ظهر نسيانه الطلاق ، أم مضارّته بنكران الطلاق ، أم أي أمر آخر سوى الرجوع المصلح ، لم يكن الإنكار رجعة.

__________________

(١) هو الصحيح عن الحسن بن محبوب عن محمد بن القاسم قال قال ابو عبد الله (عليه السلام) من غشى امرأته بعد انقضاء العدة جلد الحد وإن غشيها قبل انقضاء العدة كان غشيانه إياها رجعة. (الفقيه باب ما يجب به التعزير والحد رقم ١٨) أقول : ان ادعى انه اخطأ انقضا والعدة ظنا انه فيها وقصد الرجوع درء عنه الحد للشبهة ، كما انه ان ثبت ان غشيانه في العدة لم يكن بقصد الرجوع ام كان بقصد الإضرار ام دون قصد الإصلاح حدّ عليه ، فالصحيح في قسميه مخصص.

(٢) هو صحيح أبي ولاد عن أبي عبد الله (عليه السلام) سألته عن امرأة ادعت على زوجها انها طلقها تطليقة طلاق العدة طلاقا صحيحا يعني على طهر من غير جماع واشهد لها شهودا على ذلك ثم أنكر الزوج بعد ذلك؟ فقال : إن كان إنكار الطلاق قبل انقضاء العدة فإن إنكاره للطلاق رجعة لها وان أنكر الطلاق بعد انقضاء العدة فان على الإمام ان يفرق بينهما بعد شهادة الشهود بعد ما تستحلف ان إنكاره للطلاق بعد انقضاء العدة وهو خاطب من الخطاب (الكافي ٦ : ٧٤).

٣٦

وهل الرجوع بحاجة إلى اشهاد؟ ولا يتيسر في الأغلبية المطلقة إشهاد على الرجوع ، ولا سيما الرجوع الذي لا يصح فيه الإشهاد كغشيانها بمقدماته!.

أم هو بحاجة إلى إشهاد (١) ويكفيه ان يدعي هو الرجوع عند عدلين ، ولم تكن هناك ظواهر لعدم الرجوع ، فكما أن الطلاق بحاجة إلى إشهاد حفاظا على الأنساب والمواريث وانسراحا للمطلقة في زواج آخر ، كذلك الرجوع ، ولكي تثبت حقوق الزوجية من جديد ، فقد يعلم الناس بالطلاق ولا علم لهم بالرجعة فتثور شكوك وتقال أقاويل؟.

ذلك ، ولكن العقد ـ إذا ـ أحرى في واجب الإشهاد ، ثم الرجوع هو الآخر لسابق العقد ، ونفس ظاهرة الرجوع كاف لقطع الأقاويل ، ولا يحمل الشهود أكثر مما يحمله سائر الناس ، إذ لا يعرف الشهود الرجعة إلّا بقوله او فعله ، وهما بمعلم سائر الناس.

وأما آية الطلاق : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) فقد لا تعني إلا الإشهاد على المفارقة وهي

__________________

ـ أقول : إنكاره في العدة محمول على ندمه عما فعل ، وكفى بالندم بظاهر الإنكار توبة ورجوعا.

(١) ومما يؤيده ما رواه في الكافي عن بريد الكناسي قال سألت أبا جعفر (عليهما السلام) عن طلاق الحبلى ـ الى ان قال ـ : قلت : فان طلقها ثانية واشهد ثم راجعها واشهد على وعد رجعتها ومسها .. أقول : ولكن لا يدل على اكثر من رجحان الإشهاد على الرجعة ومنه ما رواه في الكافي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليهما السلام) في الحديث عن طلاق السنة ـ الى ان قال ـ وان أراد ان يراجعها اشهد على رجعتها قبل ان تمضي أقراؤها فتكون عنده على التطليقة الماضية. أقول : اشهد أعم من الوجوب وسواه لا سيما بجنب سائر الوجوه في عدم وجوبه.

ومنه صحيحة عبد الحميد محمد بن مسلم سألا أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل طلق امرأته واشهد على الرجعة ولم يجامع ثم طلق في طهر آخر على السنة أثبتت التطليقة الثانية بغير جماع؟ قال : «نعم إذا هو اشهد على الرجعة ولم يجامع كانت الطلقة ثابتة» (التهذيب ٣ : ٢٦٢ والاستبصار ٣ : ٢٨١) أقول : وتدل على واجب الاشهاد الأحاديث الآتية.

٣٧

الطلاق ، ومما يقيده بالطلاق ان آيات النكاح كلها خلو عن واجب الإشهاد ، رغم ان بداية النكاح أحرى بالإشهاد من الرجعة إليه ، ولكن يبقى رجحان الإشهاد هنا ـ كما الإشهاد في النكاح ـ باديا من ذكر الإشهاد بعد الإمساك والمفارقة كليهما (١) : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ...).

«وانما الشهود لمكان الميراث» (٢) ونفس العشرة الزوجية الكاملة في العدة شهادة صالحة لمن اطلع على الرجوع ، مهما كان إشهاد ذوى عدل أصلح وأفلح ، ولا سيما عند اختلافهما وان ادعت بقاء العدة او مضيها فالقول قولها إذ لا يعرفان إلّا من قبلها ، إلّا إذا كانت دعواها فيما لا يحتمل عاديا صدقها ، ف «العدة والحيض للنساء إذا ادعت صدقت» (٣) تختص بما يصح تصديقها في العادة المستمرة ، فالمتهمة تستخبر حالها بنسوة موثوق بهن (٤).

__________________

(١) ومما يدل عليه صحيح الفاضلين عن أبي جعفر (عليهما السلام) قال : ان الطلاق لا يكون بغير شهود وان الرجعة بغير شهود رجعة ولكن يشهد بعد فهو أفضل.(الكافي ٦ : ٧٣ والتهذيب ٣ : ٢٦١) وعن الحلبي في الصحيح او الحسن عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الذي يراجع ولم يشهد؟ قال : «يشهد أحب إلي ولا أرى بالذي صنع بأسا» (الكافي ٦ : ٧٢ والتهذيب ٣ : ٢٦١).

(٢) كما في صحيح محمد بن مسلم : «وانما جعل الشهود لمكان الميراث» (المصدر).

(٣) هو صحيح زرارة او حسنة (الكافي ٦ : ١٠١ والتهذيب ١ : ١١٣) وفي صحيح آخر عن أبي جعفر (عليهما السلام) قال : العدة والحيض للنساء إذا ادعت صدّقت.(الوسائل ب ٤٧ من أبواب الحيض ح ١) والتهذيب ٨ : ١٦٥ ح ٥٧٥ والاستبصار ٣ : ٣٥٦ ، وفي التهذيب ١ : ٣٩٨ بسند آخر واللفظ فيه : العدة والحيض إلى النساء.

وروى الطبرسي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ...) قال : قد فوض الله إلى النساء ثلاثة أشياء : الحيض والطهر والحمل.

(٤) امير المؤمنين (عليه السلام) انه قال : «في امرأة ادعت أنها حاضت في شهر واحد ثلاث حيض انه كلغو النسوة من بطانتها هل كان حيضها فيما مضى على ما ادعت فإن شهدت صدقت والا فهي كاذبة» (التهذيب ١ : ٣٩٨ والاستبصار ١ : ١٤٨ والفقيه ١ : ٥٥).

٣٨

هذا ـ ولكن الأشبه وجوب الإشهاد على الرجعة لظاهر آية الطلاق ومستفيض الأحاديث ، ويكفي فيه قوله : راجعتها ، عند عدلين ، وإن راجعها قبل بما راجعها ، فليس الإشهاد لتصحيح الرجوع ، وانما هو لضبط الطلقات والحفاظ على المواريث ، رغم ان اصل النكاح لا يجب فيه الإشهاد ، ولكنه امر باهر كما تقتضيه طبيعة الحال.

(... وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ٢٢٨.

ضمير الجمع في «لهن» راجع إلى الزوجات على أية حال مطلقات رجعيات أم بائنات ، ام غير مطلقات ، مهما عني من المرجع في موقفه خصوص الرجعيات ، فهو استخدام للمرجع الخاص بعموم الراجع العام ، ومن لطيف الأمر أن «المطلقات» نفسها كانت عامة خصصت بما احتفت به من قرائن ، ثم تبقى غير المطلقات معنيّات باستخدام أم بأولوية قطعية لأنهن أحرى من المطلقات في الحقوق المشتركة.

وهذه ضابطة ثابتة في مماثلة الحقوق الحقة بين الزوجين في زواج وطلاق وحالة العدة ، ففي مثلث الحالات (لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) دونما زيادة لكلّ على الآخر ، قضية المماثلة العادلة الطليقة.

وقد تكون الواو في (وَلِلرِّجالِ ...) حالية ـ مع العطف ـ تعني أن درجة الرجال عليهن في ميزات الرجولة وقواماتها على الأنوثة حيث (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ...) أن هذه الدرجة لا تحول دون مساوات حقوق الزوجين أمام قانون العدل ، بل والدرجات العلمية والإيمانية ايضا ليست بالتي تفضل حامليها على فاقديها في التسوية بين الحقوق ، كما وان «درجة» مفردة قد تعني درجة واحدة هي ـ فقط ـ الرجولة بمزيد واجباتها أمام الأنوثة ، فان درجات العقلية

٣٩

الزائدة ، والقوة البدنية أمّاهيه ، تزيد في الوظائف الواجبة ، لا أن تنقص عنها ولا سيما أمام الأنوثة الناقصة عنها ، المحتاجة إلى تحقيق واجبات الرجولة بحقها ، فكلما كانت الطاقات والمعطيات اكثر ، فالواجبات اكثر والمحظورات أحظر وأحذر!. ف «درجة» هذه ليست درجة أخروية ، ولا دنيوية تتطلب للرجال فضلا عليهن في الأولى أو الأخرى ، وإنما هي درجة في إصلاح أكثر إن تخلفوا عنه فمذنبون ، وإن أدّوه فهم عاملون بعبء واجبهم كما هنّ.

فليست «درجة» هنا هرجة مرجة محرجة لقبيل الأنثى من فرعنة الرجال ونمردتهم سنادا إلى «درجة» بل وليست أية درجة مكتسبة صالحة بالتي تهرج وتحرج موقف غير صاحب الدرجة ، فضلا عن «درجة» الرجولة غير المكتسبة ، وبأحرى في حقل الحقوق المماثلة حسب نص الآية ، بل وتلك الدرجة تقتضي إيفاء الرجال حقهن أكثر مما عليهن لهم ولأنهم اقدر على ذلك منهن!.

كما وأن الدرجات الأخرى مكتسبة وسواها تقتضي وفاء أكثر بواجبات الشرعة فانها وسائل أوفر وأوفى يرجى لمن هي له أن يتدرج بها إلى مرضات الله أوفر وأوفى.

فالدرجة درجتان ، أولاهما ما يتدرج بها إلى فضيلة وأخراهما نفس الفضيلة المتدرج إليها ، وهي درجة في الأخرى تتطلب ثوابا اكثر ممن لا يحملها وأحرى.

والرجولة من قبيل الأولى ، والوفاء بواجباتها في حقل الزوجية هي من الثانية ، وهما ليستا لتفضّلا الرجال على النساء في حقل الحقوق المتجاوبة بينهما ، فقد تعني من «درجة» قدرات الرجولة ، فتعني درجة القوامية وهي الحراسة عليهن بسند القوة الدرجة.

وعلى أية حال ، مهما كانت الواو حالا او غير حال لا تختلف الحال في

٤٠