الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٤

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٦

بدأكم ولا خيرة لكم ولا حول ولا قوة ، لصغاركم حولا وقوة بعدم المكنة الذاتية ، ثم أقدركم وقواكم فكلفكم بما كلفكم ، (يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) كما كنتم ، على مكنتكم هنا ، إذ لا تقدرون يوم الرجوع على شيء إلّا ما كسبتم قبله (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) فلها ما كسبت وعليها ما اكتسبت (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) نقيرا ولا فتيلا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً

٣٦١

إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤) آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ

٣٦٢

مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٢٨٦)

آية الدّين هي أطول آية في الذكر الحكيم مما يدل على طول ذي الطول في حقل الدّين حفاظا على الأموال ألّا تهدر ، لأنها من خير الوسائل للحفاظ على الدين والدينين.

فواجب الحفاظ على الأموال هو من النواميس الخمسة في شرعة الله ، فإنه خير وسيلة ظاهرية يتوسل بها للحفاظ على الأربعة الأخرى : نفسا ودينا وعقلا وعرضا ، مهما كان الأهم منها هو الدّين ثم الأربعة الأخرى حيث تستخدم للحفاظ على ناموس الدين.

وهذه الآية تحمل أبوابا فقهية ثلاثا هي الدين والتجارة والرهن ، والنقط الأساسية والمحاور الرئيسية من فروعها ، وهي في الحق تكملة للدروس السابقة في حقل التصرفات المالية سلبية وإيجابية ، في المعاملات الربوية ، والإنفاقات المجانية ، أم ببديل عديل كالقرض الحسن ، مما قد يخيّل إلى البسطاء أن الأصل

٣٦٣

في الأموال أن تهدر ولا تتقدر بأي قدر.

فهنا تتجلى صياغة قانونية رزينة مكينة بتأكيدات عدة للحفاظ على الأموال في حقل التداين ، أيا كان الدائن والمدين والدين ، رغم ما تقدم من واجب التبذل وراجحه في سبيل الله ، إنفاقا دون منّ ولا أذى ولا رئاء الناس ، وحرمة الأكل بالباطل ومن أنحسه الربا.

هنا عشرة كاملة من التأكيد ـ أو يزيد ـ في الحفاظ على الدّين ، كتابة وشهادة : تلقيا وإلقاء ، مما يدل على بالغ الأهمية في شرعة الله للحفاظ على الأموال ، تقديرا لها دون تهدير ، كما لا إسراف فيها ولا تبذير ، فإنما المال وسيلة لإصلاح الحال على أية حال ، دون تدجيل ولا إدغال.

ولقد حذّر العقلاء أن يؤتوا السفهاء أموالهم التي جعل الله لهم قياما : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (٤ : ٥).

ولم يسمح أن يؤتى مال اليتيم إياه حتى إيناس الرشد منه : (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ...) (٤ : ٦).

فقد يعتبر غير الرشيد في ماله سفيها مهما كان بالغا للنكاح ، فاليتامى سفهاء في بعدين ، والبالغون غير الراشدين سفهاء في بعد واحد ، ولا يسمح لغير الرشيد أن يتصرف في ماله نفسه فضلا عما سواه.

ومن الرشد بالنسبة للأموال الوثيقة عند التداين كيلا تهدر بنكران أو نسيان أو موت دون وصية أمّاهيه من فلتات الأموال في مختلف الأحوال.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ...).

٣٦٤

التداين هو التعامل بالدين ، فلا يشمل (تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ) ولذلك قوبلت ـ أخيرا ـ بالتداين.

ولأن التداين هو التعامل بالدين بين اثنين ، الشامل لنسيئة الجانبين وهو باطل بالمرة ، لذلك قيد هنا «بدين» فإن وحدته دليل وحدة الدين ، سواء أكان بيع العين بالدين وهو النسيئة السلم أم بيع الدين بالعين وهو السلف وقد يروى عن الرسول (ص) قوله : «من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم» (١) ومثله السلف في الأجل فهما ـ فقط ـ داخلان في نطاق آية الدين ، بعد ما خرجت التجارة الحاضرة والنسيئة من الجانبين وهو بيع الكالي بالكالي.

ولماذا «تداينتم» أولا ، الشامل لدينين بين اثنين ، ثم خروجا له «بدين»؟ علّه للتأشير إلى هذين النوعين : إدانة واستدانة ، والتعبير الصالح عنهما ككل ليس إلّا «تداينتم» فقد تسلف وأخرى تستسلف.

فلو كان النص «دنتم» بدلا عن «تداينتم» لم يشمل إلّا الإسلاف ، وبقي الاستسلاف خارجا عن نطاق الآية.

وترى القرض ـ في غير مبايعة أماهيه من سائر المعاملات ـ داخل في نطاق «تداينتم»؟.

طبعا نعم! إذ قد يدين المؤمن وقد يستدين وهما المداينة ، دون أن تكون ضمن معاملة ، مهما شملت المداينة التي هي ضمن معاملة أخرى كالتجارة والإجارة وما أشبه.

وهنا (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) تفرض أن تكون المداينة بدين ـ أيا كان ـ إلى

__________________

(١) آيات الأحكام للجصاص ١ : ٥٧٥ وقد رواه جماعة من السلف.

٣٦٥

أجل مسمّى ، لا دون أجل ، ولا أجل مهمل ، أم أجل مخوّل إلى المستدين ، فإن في ذلك الإمهال المهمل إهمالا للمال وإفسادا للحال والمآل.

إذا فلا تداين إلّا إلى أجل مسمّى كما لا تداين إلّا بدين دون دينين ، ولو لم يكن الأجل المسمى شرطا في صحة الدين لكان ذكره مهملا ، أم إن الدين دون أجل مسمى لا تجب فيه الكتابة الشهادة ، وهو أحوج إليهما قضية الإهمال في الإمهال ، فلا يصح تداين إلّا إلى أجل مسمى ومنه الصداق المؤجل ، مهما كان طبع الصداق أنه معجل كما توحي له آياته ككل.

وهنا «فاكتبوه» وهي بطبيعة الحال كتابة تفيد المتداينين ، فإنها مسكة للدائن في أصل الدين وقدره وأجله ، ومسكة للمدين ألّا يستعجل قبل حلول الأجل ، ولا يستزاد عن الأصل ، إذا فحقوق كلّ من الداين والمدين محفوظة بالكتابة ، لا يعتريها نقص ولا نقض ولا تعجيل عما أجّل ، ولا تأجيل عما عجّل ، وقد يروى عن النبي (ص) قوله بحق الدين «ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم ... ورجل له على رجل دين ولم يشهد عليه» (١).

وهل ان كتابة الدين واجبة لمكان الأمر ، ثم وتكراره المؤكد مرات عشر أو تزيد؟.

وليست الكتابة إلّا للحفاظ على حق الدين ، وقد تكفي عنها الثقة الكاملة بالمدين ، وقد تكون أوثق من الكتابة!.

ولكنما النص غير المعلل بهذه الحكمة لا يقبل هكذا تحميل ، ثم ومهما

__________________

(١) آيات الأحكام للجصاص ١ : ٥٧٢ رواه مرفوعا عنه (ص) وصدره : رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ورجل أعطى ماله سفيها وقد قال الله : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) ، وفيه روى جرير عن الضحاك : إن ذهب حقه لم يوجر وإن دعا عليه لم يجب لأنه ترك حق الله وأمره.

٣٦٦

كانت الثقة بالمدين كاملا أم وأكمل من الكتابة ، ليست لتفيد بعد الموت حيث لا سند ولا وثيقة وقد مات محور الثقة ، ثم النسيان لأصل الدين أو قدره أو أجله لا تجبره أية ثقة ، فلذلك نجد الحث في النص عدة وعدة للحفاظ على ما لا تحافظ عليه الثقة قبل الموت وبعده.

ذلك! ولكن (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ ...) مما يبرهن على كفاية الثقة الكاملة ، ولكنها إنما تكفي حالة الحياة والذكر ، اللهم إلّا أن يكفي ذكر الدين عند المدين في مذكّرته ، ذكرا للدين قبل الموت للدين وبعده للوارث.

(فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ ...).

وترى الكاتب بالعدل بينكم هو غير المخاطبين ب «فاكتبوه»؟ وكتابة واحدة تكفي عما يرام!.

ولكن «فاكتبوه» أمر بكلا الدائن والمدين ، أن يكتب الأوّل ما له والآخر ما عليه ، ذكرا في مذكرته عنده ، ثم (لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) كتابة مشتركة بينهما ، فيها ما لهما وعليهما ، «ليكتب بالعدل ـ كاتب بالعدل» عدلا في الكاتب وعدلا في الكتابة أن يكتب عدلا لأصل الدين ومقرراته بينهما ، وصراحا في الدين بمخلفاته ، دون أن يتسرب إليه احتمال إبطال حق له على أية حال.

فذلك «العدل» يجب أن يحافظ على حق من له الحق ومن عليه الحق دون إبقاء لأي احتمال قد يبطل حقا أو يرخيه.

ذلك فليكن الكاتب بالعدل فقيها في الكتابة العادلة (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ) كتابة عن علم عادل وعدل عالم (كَما عَلَّمَهُ اللهُ) الكتابة وعدلها ، لا كما تهواه نفسه.

٣٦٧

وهل تجب الكتابة على الكاتب بالعدل كما تجب على المتداينين؟ ظاهر الأمر هو الوجوب مهما كان كفائيا في الكاتب وعينيّا عليهما ، إلّا أن له الأجرة إن طلبها ، حيث الوجوب الكفائي ليس لزامه عدم الأجرة كما في سائر المكاسب والتجارات والأعمال لمختلف العمال.

ثم (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) وهو المدين ، والإملال هو الإلقاء على الكاتب ليكتب كما يقول ، (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) من أصل الدين وأجله وكيفية ردّه إلى صاحبه.

فالأصل المفروض في هذه الكتابة الثانية هو إملال المدين ، إملالا للدين على الكاتب إقرارا لما كتب وإملال التوقيع تصديقا لما كتب وكتبه الكاتب بما أملل ، ولماذا الإملال فقط على الذي عليه الحق؟ لأن عليه كتابة الوثيقة دون الذي له الحق ، فهو الذي يملل على كاتب العدل اعترافه بالدين ومقداره وشرطه وأجله ، خيفة الغبن عليه إن أملل الدائن ، فقد يزيد في الدين أو يقرب الأجل ، أو يذكر شروطا لصالحه شخصه ، والمدين ـ وهو في موقف الحاجة والضعف ـ قد لا يملك معه إعلان المعارضة رغبة في الحصول على الدين ، إذا (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) ولكن (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً ...).

(فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ).

هنا (وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) بديل عن كتابته هو وعن إملاله كتابة الكاتب بالعدل ، ولأنه لا ولاية إلّا على القاصر فليكن هذه الثلاثة قصورا يتطلب الولي بالعدل ، إذا فكيف يستدين القاصر دون ولى ثم على وليه أن يملل بديلا عنه؟.

«وليّه» اللامح في ثابت الولاية ، دليل أنه استدان بإذن وليه وعلى

٣٦٨

رعايته ، فليملل وليه بالعدل كما أذن له.

فالسفيه الذي لا يؤمن على إملاله ـ إذ لا يحسن تدبير أموره ـ هو بحاجة إلى (وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) حفاظا على حقه كمدين ، فلا يملل زائدا على ما عليه.

والضعيف الذي ليس سفيها خفيف العقل ، ولكنه خفيف الهمة أم خفيف المعرفة في الإملال لصغر أو جنون أو ما أشبه ، هو أيضا بحاجة إلى (وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ).

والذي لا يستطيع أن يملل على رشده في العقلية والمعرفة ، لا يستطيع إذ لا يعرف الكتابة ، أم هو مريض لا يسطع عليها على معرفته كالأبكم أو معقود اللسان ، هو الثالث في هذا الحقل في الحاجة إلى (وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ).

فالأمر الذي لا بد منه هو إملال الدين بالعدل ، فإن استطاعه الذي عليه الحق فهو عليه ، وإلّا (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ).

(وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ...) وترى الشهادة هنا تختص بمن يملل وليه بالعدل تكملة للثقة بذلك الإملال؟ و (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً ...) تعمم الشهادة لكل تداين ، مهما كانت فيما يملل الولي بالعدل أهم وأقوم.

ثم (مِنْ رِجالِكُمْ) تشرط الإيمان في هذه الشهادة ، ومن ثم (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) تشترط الثقة وهي أعم من العدالة.

(فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ).

وهذا النص يختص هذه الشهادة برجلين مرضيين ، ثم (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) وأما «أربع نساء» فلا ، حيث ان وحدة البديل دليل اختصاص البديل بما اختص.

٣٦٩

وهل يكفي يمين عن شاهد أو يمينان عن شاهدين؟ الظاهر لا ، لحصر الآية الشهادة هنا في رجلين أو رجل وامرأتين ، ثم وليس اليمين شاهدا ، فإذا لم تقبل شهادة النساء ، فاليمين أحرى بعدم القبول ، والرواية القائلة بقبول اليمين مردودة بمخالفة الآية.

(أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى).

أترى الضلال هنا النسيان؟ وليست الأنثى أنسى من الذكر ولا الذكر أذكر من الأنثى! ثم الضلال يقابل بالنسيان : (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) أم هو ضلال العصيان؟ ولا يناسبه (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ)! قد يعني الضلال هنا كلا النسيان والعصيان ، حيث الأنثى هي أنسى من الذكر وأعصى مهما كانت (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) فإن عوامل التقوى فيها أضعف ، وبواعث النسيان والعصيان فيها أقوى ، فإذا انضمت الأخرى إلى الأولى فقد تذكر إحداهما الأخرى ، فتصبحان كذكر واحد (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) ولا يجوز تذكير شاهد الآخر إلّا في امرأتين حيث هما بديلتان عن رجل ، فكأنه ذكّر نفسه.

ثم وأسباب النسيان والتناسي في النساء عدة قد تشملها كلها (أَنْ تَضِلَّ) :

كقلة الخبرة بموضوع التعامل ، مما يجعلها لا تستوعب كل دقائقه وملابساته ، ومن ثم لا يكون من الوضوح في عقلها بحيث تؤدي عنه شهادة دقيقة عند الاقتضاء ، فتذكرها الأخرى ، تعاونا تجعلهما ـ على وثاقتهما ـ كرجل واحد مرضي في الشهادة ، ذكرا لكل الملابسات في حقل التداين.

وكالانفعالية المتغلبة على العقلية في قبيل الأنثى ، وهي صالحة لوظيفة الأمومة للطفولة الضعيفة ، فعليها أن تكون شديدة التأثر وسريعة التلبية لحاجيات

٣٧٠

الطفولة ، وذلك من فضل الله وعطفه على الأمومة والطفولة حفاظا على الحيوية التربوية الصالحة.

والشهادة بحاجة إلى تجرد صالح من كل الانفعالات ، والطبيعة المنفعلة هي كماهيه في كل الحقول دون اختصاص بالطفولة ، ووجود امرأتين مكان واحدة ضمانة عن تفلتات الانفعالات والانحيازات غير العادلة.

ذلك! ومن ثم التأكيد الأكيد على كلا الكتابة والشهداء :

(وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) أولا لتلقي الشهادة ، وثانيا لإلقائها حين الحاجة إليها ، فكما أن كتابة العدل واجبة على أهلها كفائيا ، كذلك الشهادة بطرفيها ، بفارق أن إلقاءها عيني وتلقيها كفائي.

(وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ) فصغير الدّين وكبيره سيان في فرضي الكتابة والشهادة.

(ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا).

«ذلكم» الكتابة المزدوجة (أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) من تركها (وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) فكل من الكتابة والشهادة تؤيد زميلتها ، وتزيل الريبة في الحق بأصله وملحقاته.

ذلك ، فإن لم تكن ريبة فلا حاجة إلى كتابة وشهادة ، اللهم إلّا حفاظا على الدين بموت المدين ، وقد تكفي فيه كتابة.

وكل ذلك (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ...) فلا كتابة في (تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ) وإنما الشهادة قضية الأمر : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) وتراها مفروضة في كل صغيرة وكبيرة؟ وهي غير

٣٧١

ميسورة بطبيعة الحال حتى في الكبيرة!.

طبعا هي في تجارة كبيرة ، حفاظا عن الريبة بعدها ، وصدا عن دعوى كلّ من المتعاملين نكران المعاملة عن بكرتها ، أم نكران تسليم أو تسلم لعوض أو معوض.

وترى حين تكون «تجارة» خبرا للمداينة المستفادة من «تداينتم» فهل إنّ التجارة الحاضرة مداينة حتى تستثنى منها؟.

كلّا! وإنما هي استثناء منقطع ، يقطع حكم الكتابة والشهادة بهذا النمط في غير المداينة ، قطعا لإثباتهما في كل مداينة دونما استثناء ، وهذا مما يؤكد استجرار ذلك الحكم الحكيم في كل مداينة ، ضمن معاملة أخرى أم بصورة مستقلة كقرض وسواه.

فالكتابة والشهادة هما على أية حال لا تعنيان إلّا الحفاظ على الحقوق والأموال إذا : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) وقد تعنى «لا يضار» كلا الفاعل والمفعول ، حيث تنهى الكاتب والشهيد عن الإضرار بمن كتب له أو عليه ، كما تنهى المتداينين والمتبايعين عن الإضرار بكاتب أو شهيد ، (وَإِنْ تَفْعَلُوا) مضارة ، من أي الطرفين (فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) : خروجا بكم عن طاعة الله إلى معصيته ، والمضارة هنا تعم المادية والمعنوية والعملية ، فلا مضارة في ذلك الحقل الأمين الذي يحافظ على مصالح المسلمين.

(وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

إن العلم الحق هو الذي يعلمنا الله إياه ، ولكن تقوى الله تزيدنا علما ، كما أن طغوى الله تزيدنا جهلا ، ومهما كان (يُعَلِّمُكُمُ اللهُ) معطوفا على (وَاتَّقُوا اللهَ) دون أن تفرّع عليها ، إلّا أن نفس العطف هنا مما يعطف (يُعَلِّمُكُمُ اللهُ)

٣٧٢

ب (وَاتَّقُوا اللهَ) برباط أكثر مما لم تتق الله ، وكما قال الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٨ : ٢٩) وقد قال رسول الله (ص): «من عمل بما علم ورثه علم ما لم يعلم» (١).

هذا وقد تكون الواو هنا حالية : (وَاتَّقُوا اللهَ) الحال أنه (يُعَلِّمُكُمُ اللهُ) فاتقوه فيما يعلمكم فلا تجاهلوا ولا تخالفوه فيما علمكم.

أم وللاستئناف (وَاتَّقُوا اللهَ وَ) على أية حال (يُعَلِّمُكُمُ اللهُ) فيما تتقونه أم لا تتقونه ، ولكن التقوى تزيدكم علما وفرقانا ، فلإن الله علمكم ما تتقونه فاتقوه ، ثم يعلمكم مزيدا إن تتقوه.

ولأن تقوى الله ليست إلّا عن علم بشرعة الله ، فليست هي التي تعلمنا شرعة الله ، بل تزدادنا معرفة بالله وبخفايا أسرار الشرعة أصولا وفروعا : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً. ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) (٦٥ : ٥) ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥٧ : ٢٨).

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) (٣٩ : ٢٢).

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٣٧٢ ـ أخرج أبو نعيم في الحلية عن أنس قال قال رسول الله (ص) : ... وفيه أخرج الترمذي عن يزيد بن سلمة أنه قال يا رسول الله (ص) إني سمعت منك حديثا كثيرا أخاف أن ينسيني أوّله آخره فحدثني بكلمة تكون جماعا ، قال : اتق الله فيما تعلم ، وفيه أخرج الطبراني في الأوسط عن جابر قال قال رسول الله (ص) من معادن التقوى تعلمّك إلى ما علمت ما لم تعلم والنقص والتقصير فيما علمت قلة الزيادة فيه وإنما يزهد الرجل في علم ما لم يعلم قلة الانتفاع بما قد علم.

٣٧٣

إذا فتقوى الله بادئة بالعلم بشرعة الله ، ثم العمل بها حسب المستطاع ، ثم الله يجعل لنا فرقانا ونورا ويسرا ويشرح صدورنا للإسلام!.

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) ٢٨٣.

«رهان» جمع رهن وهو من المحبوس بدلا عن الدين وأصله الدوام فإنه يديم مال الإنسان بمثله ويستوثقه.

ثم (وَإِنْ كُنْتُمْ) هي من فروع التداين بدين إلى أجل مسمى ، لا و (تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها) إذا (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) هي بديلة عن الكتابة ، من أموال منقولة وغير منقولة ، فالشهادة إذا ثابتة اللهم إلّا ألّا تجدوها كالكتابة (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) تنوب عنها كما نابت عن الكتابة :

ففي حقل الدين كتابة وشهادة ، ثم رهان مقبوضة بديلة عن الشهادة والكتابة ، مهما ذكرت بدليتها عن الكتابة ولم تذكر هي عن الشهادة ، فإن اضطرارية البديل تحلق على فقدان الشهادة.

إذا فمشروعية «رهان مقبوضة» لا تعدوا فقدان الكتابة أو الشهادة إلى حاضرها ، ثم هذه الأمانة تؤدى عند الاطمئنان ، سواء أكان دون كتابة شهادة ، أم بعد التداين ، فليس من الواجب في التداين «رهان مقبوضة» ولا من المسموح قبوله إلّا بديلا عن الكتابة أو الشهادة غير الموجودة ، كما ولا يجوز التصرف في «رهان مقبوضة» حيث التصرف في الأمانة خيانة فيها ، اللهم إلّا إذا رضى صاحبها دون اشتراط في أصل الدين.

ومن شرط الرهان أن تكون مقبوضة لنص الآية ، ف «لا رهن إلا

٣٧٤

مقبوضا» (١) حيث القصد هو الاطمئنان ، وقد يصدق القبض بقبض سند الرهانة ، وقد يشكل حيث الكتابة حاصلة قبل ، ورهان مقبوضة هي بديلة عن الشهادة ، ولا تفيد كتابة بعد كتابة ، ولكن :

(فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) حيث القصد من رهان مقبوضة هو الاطمئنان ، فلا رهان عند الاطمئنان ، وتكفي كتابة الدين عما بعد الموت ، فلا تعني الكتابة والشهادة ، ورهان مقبوضة بديلها ، إلّا الاطمئنان ، قضية واجب الحفاظ على الأموال على أية حال ، ولا تسقط الكتابة عند الأمان حيث يقسطه الموت والكتابة تثبته ، والشهادة أثبت ، وليس الأمن مما ينوب عن كتابة وشهادة ، حيث لا يؤمن بدونهما الارتياب بنسيان أو تشكك في قدر الدين أو أجله.

ثم (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) في إبقاء الأمانة عنده عند الاطمئنان ، أم والتصرف فيها ، حيث الأمانة تؤدّى عند الطلب ككل ، وهي تؤدى عند الاطمئنان في الدين.

ثم وفي وجه آخر يعنى مع الأول (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) في التداين «فلا شهادة ولا رهان مقبوضة» بل ولا كتابة إلّا حفاظا على الحق بعد موت من عليه الحق ، وقد تكفي الكتابة عنده ، ولكنه ضعيف لا حجة فيه حيث الأمن ليس سياجا على الارتياب.

(فَإِنْ أَمِنَ ... فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ) وهو المدين «أمانته» وهو الدين (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) فلا ينكره أو ينقص منه.

إذا فالأمان ـ في حقل الدين ـ من أيّ كان ، ينسخ وجوب الكتابة والإملال والشهادة والرهان المقبوضة.

__________________

(١) هي موثقة محمد بن قيس كما في التهذيب ٢ : ١٦٦.

٣٧٥

وقد يربو الأمان كل هذه الوثائق ، فهي أوثق منها كلها ، ويبقى الأمان بعد موت من عليه الحق وتكفي عنه كتابة ما في هذا البين ، تكون وثيقة تثبته لدى الوارث.

ذلك! فتأويل آية الدين عن ظاهر الوجوب المؤكد إلى الرجحان شين ، حيث (فَإِنْ أَمِنَ) تبين موقف الوجوب وحكمته ، والأصل الواجب هو الحفاظ على الأموال بأية وسيلة مشروعة عاقلة ، وليس من المشروع اشتراط التصرف في رهان مقبوضة اللهم إلّا أن يسمح فيه صاحبه دون مشارطة فإنها ربا لمكان الزيادة على الدين فيه.

إذا فلا دور للرهن المتعود بيننا شرعيا ، أن تقرض مالا وتأخذ بديله رهنا ، اللهم إلّا إذا انحصر الاطمئنان بالرهان ، ثم لا يجوز التصرف فيه بمشارطة ، إلّا بإذن بدائي من صاحبه ، ثم لا يجوز إبقاء الرهان عنده حين يأمن كأصل ، أم يأمن بوثاق أخرى.

ثم (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) هنا قد تشهد؟؟؟؟ سقوط الشهادة بالأمن (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) حيث القلب هو الآمر الناهي بالنسبة لكل فعل جانحي أم جارحي ، وكتمان الشهادة بالقال صادر عن كتمانها بالقلب ، فإنما الآثم هو القلب وليس اللسان إلّا آلة إذاعة عما في القلب ، إذا (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) حين يقلب الحق إلى الباطل.

مسائل عدة حول (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) :

١ لا دور لرهان مقبوضة كأصل لأنها مختصة بأصحابها ، فلا يكلفون بإقباضها إلّا عند حاجتهم إلى ديون غير مأمونة ، فحين تنوب عنها وثائق أخرى ومستندات أحرى فلما ذا ـ إذا ـ رهان مقبوضة.

٣٧٦

٢ إذا اختص الأمان بالرهان ، أم لم يرض الدائن إلّا بها ، فلا يحل ـ إذا ـ أن يتصرف فيها إلّا بإذن صاحبها ، شرط ألّا يشارطه في أصل الدين ، وألّا يتبناه فيه ، فإنه من أبرز مصاديق الربا.

ثم ولا تختص الرهان بفقد الكاتب سفرا ، بل تعم فقد الأمان مهما حضرت كتابة وشهادة في سفرا وحضر ، فإن الرهان هي آمن الأمان ، ولا سيما في هذا الزمان الكلب الذي لا تفيد فيه كتابة الدين وشهادته ، وقد يتكلف الداين صرف ردح بعيد من الزمان وقدر من المال قد يربوا أصل الدين ثم ولمّا يحصل على حقه إذا (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) هي الأصل في الأمان ، ولكنها تكتب ويشهد عليها حفاظا على الحقين ، وإزالة للارتياب من البين.

٣ شرط القبض في الرهان يخرج الأموال المشاعة حيث لا يمكن قبضها ، اللهم إلّا بقبض مستنداتها ، وهي لا تنوب عن أصل الرهان ، وتكفى كتابة أصل الدين عن سند الرهان.

٤ إذا أمن الدائن مديونه لم يحل له إبقاء الرهان عنده ، اللهم إلّا إذا رضي به صاحبه دون مشارطة ، كما لا يحل أخذ عند الأمان ، فإنه محدود بغير حالة الأمان.

٥ يجوز للراهن التصرف في رهنه ما لم يخرجه عن قبض المرتهن ، أو يسقطه عما يقابل دينه ، لأنه ـ بعد ـ ماله إذ لم يبعه ، ولم يخرجه عن ملكه ، فإنما هو وثيقة ، تجوز فيها التصرفات غير المنافية لكونها وثيقة.

٦ لا يجوز للمرتهن التصرف في الرهن إلّا بإذن الراهن ، دون أن يكون شرطا يقابل الدين ، ويجوز له كل تصرف فيه للحفاظ عليه كسقي الدابة وعلفها ، وله حق النفقة من الراهن ، ولا تجوز له التصرفات غير المغيرة له إلّا بإذنه لأنه ملكه ولم ينتقل إلى المرتهن حتى يعامله كأنه ملكه ، لا انتقال العين ولا

٣٧٧

انتقال المنفعة ، وإنما هو أمانة مضمونة وثيقة لدينه.

٧ يجوز للمرتهن اشتراط بيع الرهن عند حلول أجل الدين ، بل قد يجب استيفاء لحقه ، حيث المنع مانع له من الانتفاع من البديل كالأصيل ، فلا مال له رغم أن له المال.

هذا ـ ولكنه ـ يبيعه أمينا ، أو يمتلكه أمينا.

٨ إذا لم يشترط البيع عند حلول الأجل ، تطلّب حقه عنده ، فإن أجّل أو ماطل جاز له بيعه ، أو رهنه عند ثالث للحصول على حقه ، شرط الحفاظ على حق الراهن.

٩ لا يجوز للراهن بيع رهنه قبل رد الدين ، أم إجازة المرتهن ، أو ائتمانه الراهن ، حيث الرهن في هذه الثلاثة وثيقة لازمة عند المرتهن ، له حق إبقاءه عنده حتى يستوفي دينه عينا أو ائتمانا.

١٠ لأن الرهن أمانة عند المرتهن فلا يضمن بتلف أو نقص إلّا بتقصير أو تفريط ، إذ (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) وكما في صحيح جميل «عن رجل رهن عند رجل رهنا فضاع الرهن فهو من مال الراهن ويرتجع المرتهن عليه بماله» (١).

ولكن الآية قد لا تشمل إلّا الأمانة المجردة دون الرهان الوثيقة ، فالمرتهن محسن إلى نفسه في الرهان ، دون الراهن ، والصحيح معارض بالمثل (٢)

__________________

(١) الفقيه باب الرهن تحت الرقم (١).

(٢) هنا روايات متعارضة في الضمان وعدمه وكلها مطلقة تشمل صورة التفريط وسواها ، مهما كان مورد البعض منها التفريط دون تقييد للضمان بالتفريط.

فمن الأخبار الثانية خبر محمد بن قيس عن الصادق عن الباقر عليهما السلام : قضى أمير ـ

٣٧٨

فالحكم هو الضمان على الأشبه.

١١ نكرر هنا شرط القبض في الرهان وهو نصّ الآية ، والموثق على ضوءها متنا ، وحسب الرواة سندا أن «لا رهن إلا مقبوضا» (١) ولا وجه فيها للتقية لأنها توافق نص الآية ، مهما وافقت أيضا فتوى المعظم من العامة (٢).

١٢ (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) حسب النص مختصة بالدين ، فلا رهان ـ إذا ـ للعين ، وإنما الشهادة عند عدم الأمن في (تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ).

١٣ عقد الرهن لازم من قبل الراهن حتى أداء دينه ، وجائز من قبل المرتهن إذ ينحل إذ ينحل إذا أمن الراهن.

ذلك هو الحكم الأمين المتين في حقل الحفاظ على الأموال ، وهكذا تنكشف حكمة هذه الإجراءات كلها ، ويقتنع المتعاملون بضرورة هذا التشريع ودقة أهدافه وصحة إجراءاته ، فإنها ـ ككلّ ـ الصحة والدقة والثقة والطمأنينة ، دونما تساهل في أمر الدّين كما لا يتساهل في أمر الدّين ، فإنه رأس الزاوية في مخمسة النواميس : دينا وعقلا وعرضا ونفسا ومالا ، والشرائع الإلهية تتبنى الحفاظ عليها على درجاتها في كافة الأحكام.

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ

__________________

ـ المؤمنين (ع) في الرهن إذا كان أكثر من مال المرتهن فهلك أن يؤدي الفضل إلى صاحب الرهن وإن كان أقل من ماله فهلك الرهن أدى إلى صاحبه فضل ماله وإن كان الرهن يسوى ما رهنه فليس عليه شيء(الفقيه باب الرهن تحت رقم ٢١) ومثله موثق ابن بكر عن الصادق (ع) (الكافي ٥ : ٢٣٤ والتهذيب ٢ : ١٦٤).

١) هي موثقة عن أبي جعفر عليهما السلام كما في قلائد الدرر ٢ : ٢٨٥.

(٢) ومن الغريب ذهاب حملة من أصحابنا كالشيخ في الخلاف وابن إدريس ومال إليه في المختلف والمسالك ، ومن العامة مالك ، إلى عدم اشتراط القبض ، وهم محجوجون بنص الكتاب والسنة.

٣٧٩

يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ٢٨٤.

هذه تلحيقة حقيقية بالذكر بعد ما ذكر طوال السورة من براهين الأصول الثلاثة وفروع كالصلاة والزكاة والقصاص والصوم والحج والجهاد والحيض والطلاق والعدة والصداق والخلع والإيلاء والبيع والربا والرضاع والإنفاق والمداينة أمّاهيه من أحكام فرعية تحلّق على أعمال الجوانح والجوارح ، وهنا (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) تحلق ملكه وملكه تعالى على كل الكائنات عن بكرتها ، ظاهرها وخافيها بكل ما فيها ، ثم الأنفس المكلفة بما كلفت (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) من صالح وطالح «أو تخفوه» منها (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) وقد تختص المحاسبة بالسيئات : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً) (٦٥ : ٨) كما وأن «فيغفر ... ويعذب» دليل الإختصاص حيث الحسنات لا غفر فيها ولا عذاب.

ولكن المحاسبة هنا تعم العسير واليسير حيث الطالحات لا تنحصر في العسير : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ. فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً. وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) (٨٤ : ١٣).

و (ما فِي أَنْفُسِكُمْ) من الطالحات قد تعم سوء العقيدة والنية والعزيمة وسائر الطوية ، وإبداءها يعم التحدث عنها والعملية الناتجة عنها ، فهو إذا ثالوث السوء ، كما خير ما في أنفسكم أيضا ثلاثة ، ولكن «في» قد تلمح بأن «ما» هي من الملكات النفسية دون الخواطر الطارئة من النيات السيئة التي لا يخلو منها إلّا القليل.

فهنا (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) تعني ـ على القدر المعلوم ـ النية المرتكنة الطالحة غير البادية ، ف (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وليست النية عملا وليس ترك

٣٨٠