الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٤

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٦

مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤) وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥) لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ

٨١

لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧) (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٢٤٢)

آية الرضاعة ـ الأولى ، لا نظير لها إلّا ثانية في الطلاق بشأن المطلقات (... فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦)).

وبينهما عموم مطلق فان آيتنا أعم موردا من آية الطلاق ، فهي تعم غير المطلقة متوفى عنها زوجها ام هو حي ، وكيفما كانت الاتصالات والانفصالات ، فلا بد للفراخ الزغب الذين هم من نتاجات الزوجين ، لا بد لهم من ضمان

٨٢

الحياة الأمينة المتينة ، فلا تزعزعها زعزة الحياة بينهما في وفاق او فراق ، فهنا ضمانات دقيقة رفيقة للفراخ من قبل الوالدين ، ابتداء بحق الوالدات لهن وعليهن ، وانتهاء الى الرعاية الوالدية من المولود لهم ، وكل ذلك بالمعروف حقا على المتقين :

(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ ...)

هنا «الوالدات» دون الأمهات ، لكي تختص باللاتي ولدنهم ، دون الجدات وهن والدات الوالدات ولسن والدات لهم بأنفسهن ، ودون الأمهات الرضاعية ، فالأمهات تشملهن كلهن.

ثم «الوالدات» هنا مبدئيا هن أعم من المطلقات وسواهن ، المتوفى عنهن أزواجهن وسواهن ، مهما كانت المطلقات أحرى مصبّا لهذه التوصيات ، حيث العلقة تخف حينذاك ولا سيما إذا تزوجن بآخرين ، ثم الأرامل هن عوان بينهن وسواهن.

إذا ف (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ) لذوات الأزواج تأكيد لهن بحق الرزق والكسوة أكثر من غير الوالدات ، ولغيرهن استمرار لذلك الحق ، رغم الزعم أنهن لا حقّ لهن بانقطاع الزوجية ، فالوالدية صلة عريقة لا تنفصل بفاصل الموت والطلاق ، ولا يذهب حقها هدرا بانهدار الزوج.

وترى «يرضعن» إخبار؟ والواقع لا يصدقه فإن منهن من لا يرضعن لا سيما المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن!.

أم هو إنشاء بصيغة الإخبار لمحة لامعة الي أكيد الفرض في ذلك الإرضاع؟ و (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) تعليق لذلك الإرضاع ب «من أراد»

٨٣

أيّا كان ، فأين ـ إذا ـ الفرض! ، قد يعلق الفرض على فعل الغير كرد السلام المفروض بالسلام الراجح وما أشبه.

ثم (لِمَنْ أَرادَ) لا يختص الفرض إلّا ب (أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) وأما أصل الرضاعة فباق في نص الفرض : «يرضعن» فليس عليهن إتمام الرضاعة (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) فإنما الحد الواجب عليهن ـ لولا محظور ـ واحد وعشرون شهرا (١) لنص ثان : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) حيث الحمل المتعوّد تسعة أشهر ، فالفصال المتعوّد ـ إذا ـ باقي الثلاثين وهو واحد وعشرون لمن ولد لتسعة أشهر ، و (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) لمن ولد لستة أشهر ، وعوان بينهما لمن ولد عوانا بينهما ، فإن (حَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) ضابطة ثابتة لزمن الحمل والفصال معا ، ثم (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) دون «منتهى عامين» مما يؤكد أن واجب الرضاعة هو بين واحد وعشرين شهرا وحولين كاملين.

وقد ورد في حديث معراج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «ثم انطلق بي فإذا انا بنساء تنهش ثديهن الحيات فقلت ما بال هؤلاء؟ فقيل : هؤلاء اللواتي يمنعن أولادهن ألبانهن» (٢).

__________________

(١) في رواية عبد الوهاب بن الصباح قال : «قال ابو عبد الله (عليه السلام) الفرض في الرضاع أحد وعشرون شهرا فما نقص من أحد وعشرين شهرا فقد نقص المرضع فان أراد ان يتم الرضاعة فحولين كاملين» (التهذيب ٣ : ٢٢٧) وعن سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «الرضاع أحد وعشرون شهرا فما نقص فهو جور على الصبي» (التهذيب ٦ : ٤٠).

واما الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «ليس للمرأة ان تأخذ في رضاع ولدها اكثر من حولين كاملين فإن أراد الفصال قبل ذلك عن تراض منهما فهو حسن» (التهذيب ٣ : ٢٧٧) فمحمول على ما قبل احد وعشرين شهرا ، ام وقبل حولين اعتبارا بأقصى الحق في حولين.

(٢) الدر المنثور ١ : ٢٨٧ ـ أخرج الحاكم وصححه عن أبي أمامة سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : ثم انطلق بي ... أقول : يعني جبرئيل (عليه السلام).

٨٤

ولأن ارضاعهن في الفترة المقررة واجب ، فيجب حملهن عليه باجرة المثل ، وحديث لا يجبر المرأة على إرضاع الولد (١) محمول على عدم الأجرة او ما دونها ، إذا فللوالدات إتمام الرضاعة (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) وليس لهن نقصها وهو الأقل من واحد وعشرين.

ولماذا فرض الإرضاع على الوالدات ، وهو مفروض عليهن فطريا وعاطفيا؟ حيث هما قد تفسدان لتخلّف أحيانا ولخلافات زوجية أخرى كما في المطلقات ، وهنّ المصبّ القاطع لهذه الآيات ، مهما كانت مطلقات بالنسبة لغير المطلّقات ، وقد صرحت بالمتوفى عنهن أزواجهن.

ومن هم المعنيون بمن (أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ؟) أهن الوالدات أنفسهن؟ وكيف يعلق فرض الإرضاع على إرادتهن أنفسهن مهما علق ـ أحيانا ـ على فعل الغير! أم هو أزواجهن؟ ومنهن المتوفى عنهن أزواجهن! ثم وإرادة الأزواج لا تفرض إتمام الرضاعة دون شرط! أم وهم الوارث؟ وليس مفروض هذا الفرض خصوص المتوفى عنهن أزواجهن!.

قد تعني «من» هنا كل هؤلاء ، ف (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) لهن إن أردن إتمام الرضاعة ، فلا يحق لزوج ولا وارث فصال قبل الإتمام ، وهما لأزواجهن حين يطلبون الإتمام بأجر ، كما هما للوارث : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) الرزق والكسوة بالمعروف خلال (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ).

وأصل الحق في إرادة الإرضاع هو للوالدات ، فلا يسلب بأي وجه ، بطلاق أو موت ، فإن لهن حق الحضانة في (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) إلّا بسبب مسرود هنا وفي آية الطلاق.

__________________

(١) وهو حديث سليمان المنقري قال : سئل ابو عبد الله عن الرضاع قال : «لا يجبر ... ويجبر ام الولد» (الفقيه ٦ : ٤١).

٨٥

فإرضاع الوالدات هو في أصله من إتمام الرضاعة كمالا نفسيا وصحيا ، وهو في كيفية الصالح من إتمامها كذلك (١) ، وهو في كمه قدرا وزمنا (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) من إتمامها ، وعلّ (أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) تعني هذا المثلث بكل زواياه وحواياه.

أترى إن أردن إتمام الرضاعة حولين كاملين ولم يرده المولود له ، هل عليه أجرة الثلاثة الزائدة إن طلبت؟ طبعا لا ، اللهم إلّا أن يريد ذلك فعليه أجرة الزائد.

ذلك ، وبأحرى ألّا تجب عليه الأجرة على الزائد من (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) ، ولا حملها عليه بأجرة ، فإن (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) مربوطة فقط ب (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) دون ما زاد عليهما.

ومما تلمح له وصف حولين بكاملين ، أنّ الناقص عنهما هو حدّ الفرض ، فقد يصدق على واحد وعشرين شهرا حولان ، ولكنهما غير كاملين ، فهما كاملين أربع وعشرون شهرا وهي تمام الرضاعة : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ).

ولأن تمام الرضاعة هو (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) فالرضاعة بعدها ليست واجبة ولا راجحة ، ولا رصيد لها في أحكام الرضاعة أبدا ، ولأن (حَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) فالحولان الكاملان هما أقصى الرضاعة ف «لا رضاع بعد فصال» (٢) و «لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين» (٣) و «لا يحرم من

__________________

(١) في الفقيه ٦ : ٤٠ عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال امير المؤمنين (عليه السلام): «ما من لبن يرضع به الصبي أعظم عليه بركة من لبن امه» وفي عيون الاخبار قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ليس للصبي لبن خير من لبن امه.

(٢) الدر المنثور ١ : ٣٨٨ ـ أخرج الطيالسي والبيهقي عن جابر قال قال رسول الله (صلى الله عليه ـ

٨٦

الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام» (١).

ثم الولد بين الأبوين في حضانة ، والأم أحق به في فترة الرضاعة بعد الطلاق ، وهي أحق ممن سواها بعد موت الوالد (٢).

وهل للمرضعة أن تطلب اجرة على الرضاعة المفروضة عليها؟ والفرض ينافي الأجر كما في تجهيز الميت وإصلاح أموال اليتامى وأحوالهم!.

(وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)

قد نقول : نعم وإن لم تطلب أجرة ، ولا فحسب الأجرة بل (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)!.

ام لا ، حيث الرزق الكسوة لم يقيّدا بالطلب ، وليسا هما دائما قدر الأجرة ، بل قد يزيدان عليها ، ولكن الرزق والكسوة للوالدات هما لأنهن والدات ، والأولاد في فترة الرضاعة في حضانتهن ، وهن سواء في ذلك ان كن

__________________

ـ وآله وسلم): لا رضاع بعد فصال ولا يتم بعد احتلام ، وفيه اخرج عبد الرزاق في المصنف وابن عدي عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يتم بعد حلم ولا رضاع بعد فصال ولا صمت يوم الى الليل ولا وصال في الصيام ولا نذر في معصية ولا نفقة في معصية ولا يمين في قطيعة رحم ولا تعرّب بعد الهجرة ولا هجرة بعد الفتح ولا يمين لزوجة مع زوج ولا يمين لولد مع والد ولا يمين لمملوك مع سيده ولا طلاق قبل نكاح ولا عتق قبل ملك.

(٣) المصدر اخرج ابن عدي والدارقطني والبيهقي عن ابن عباس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ...

(١) اخرج الترمذي وصححه عن ام سلمة قالت قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

(٢) في نور الثقلين ١ : ٢٢٧ في الفقيه روى العباس بن عامر القضبائي عن داود بن الحصين عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : ما دام الولد في الرضاع فهو بين الأبوين بالسوية فإذا فطم فالأب أحق به من الأم فإذا مات الأب فالأم أحق به من العصبة.

٨٧

مطلقات ام لا ، ومتوفى عنهن أزواجهن أم أحياء ما دمن حاضنات ، ثم لهن حق الرضاعة إن طلبنه : «فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن فإن تعاسرتم فسترضع له أخرى».

صحيح أن هذه الآية خاصة بحقل الطلاق ، ولكن «أجورهن» صريحة في استحقاق أجر للمرضعات ، إلا أن يعفون كما هو المتعوّد في غير المطلقات ، ثم الطلاق قضيته أن يطلبن أجورهن للرضاعة ، فلا منافاة ـ إذا ـ بين واجب الإرضاع عليهن وأجرة يطلبنها من المولود لهم على أية حال. وكما لا تنافي «إن أرضعن» واجب الإرضاع عليهن ، حيث يسمح لهن ألا يرضعن إذا لم يؤتين أجورهن بمعروف حين يطلبنها.

فكما «الوالدات» هنا تعمهن على أية حال ، فكذلك واجب الرزق والكسوة ، وحتى الأجرة على الرضاعة ، لا يختص شيء منها بحال دون حال ، مهما انصبت هذه الواجبات في مصب الفراق بموت أو طلاق ، أكثر منها في غيرها.

ولماذا «المولود له» هنا بديلا عن الوالد رغم أن هناك «الوالدات»؟ ألأن الأولاد يختصون بالآباء؟ والوالد لا يخصص الولد به لمكان «الوالدات»! فالاختصاص منفي ب «الوالدات»!.

ولكن «الوالدات» لا تدل على أكثر من أنهن أوعية مؤقتة للأولاد كما الوالد فإنه عامل لتلك الولادة ، فلا يدلان على من هو أحق بالأولاد.

أم هم حقه فقط لأنهم ـ فقط ـ من نطفته وهن أوعية لها والنطفة انما هي لصاحبها؟.

و (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) نص على اشتراكية النطف في كافة

٨٨

الأولاد ذكورا وإناثا ، فكما الوالد والد لنطفته كذلك الوالدة والدة لنطفتها.

إذا ف «المولود له» إشارة الى ميزة أخرى في نسبة الأولاد إلى الآباء ، فإنهم لهم أكثر مما هم لهن ، سواء في أصل الإيلاد ، أم بعد الولادة ، قضية قوامية الرجال على النساء ، ومن قضاياها النفقات الواجبة عليهم لهن وللأولاد.

فالولد مهما كان مولودا لهما ، إلّا أنه مولود له أكثر من كونه مولودا لها ، لأنه يتبعه في أكثر الأحكام العرفية والشرعية ، فعليه أكثر مما عليها تجاه الأولاد ، كما هم له أكثر مما لهن في معظم الأحكام ، وكما لا تعني «الوالد» ما عنته «المولود له» كذلك لا تعني «الآباء» ولا «الأزواج» ما تعنيه «المولود له» حيث الآباء تعم المولود له والجدود ، والأزواج تخص حالة الزواج ، فإنهم ليسوا أزواجا بعد الفراق البائن ولا بعد الموت ، لجواز زواجهن بعد هذا او ذاك.

فكما انه «المولود له» في معظم الأحكام والأحوال ، كذلك عليه (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) مع اجرة الرضاعة إن طلبن.

و «رزقهن» لا تختص بالمأكل حيث الرزق ـ وهو ما يعيش به الإنسان ـ تعم كل حاجيات الإنسان مسكنا ومأكلا ومشربا وملبسا وما أشبه ، وقد يعني تخصيص «كسوتهن» من بينها ، الصد عن احتمال عدم شمول الرزق لها ، وحين تكون «كسوتهن» من «رزقهن» فبأحرى مسكنهن ، حيث السكنى لا غنى عنها كأصل أصيل من حاجيات الحياة ، ومن معروف رزقهن وكسوتهن قدر الوسع فيها حيث الإعسار والإحراج فيهما منكر:

(لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها)

هنا في الرزق والكسوة بالمعروف وفي كل المجالات كضابطة ثابتة ، ومنها

٨٩

إرضاع الأمهات أولادهن ، فانه واجب عليهن في وسعهن مالا وحالا ، كما الأجرة على المولود له ، فلا يكلف الوالدان بحق الولد وبحق بعضهما البعض إلّا الوسع ، فإن لم يستطيع المولود له على دفع أجرة الرضاعة ، او قدرها العادل ، فلا يكلف إلّا وسعه ، وعلى الوالدة القيام بواجب الوالدية ، كما إذا لم تستطع الوالدة ان ترضع ولدها لا تكلف إلّا وسعها ، فواجب كلّ منهما محدد بقدر القدرة والاستطاعة دون حد خاص على اية حال.

وضابطة الوسع كشريعة اصيلة من صحة التكليف كما تنفي تكليف العسر كذلك تثبت تكليف الوسع واليسر ، فكلّ يكلّف قدر وسعه ، كما انه لا يكلف قدر عسره ، وهما درجات عدة بين المكلفين ، فقد يكون تكليف مّا وسعا لبعض وغير وسع لآخر ، فكل من الوسع وغير الوسع يقدر حسب إمكانية المكلف.

(لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ...)

حرمة المضارة قاعدة صارمة في كل الحقول الجماعية ، وبأحرى في حقل الأسرة وآصرة الوالدية والزوجية ، ف «لا تضار ... ولا يضار ...» تمنع عن المضارة هنا منعا باتا ، فالولد بين الوالدين يجب ان يكون سببا للمحابة والموادة دون المضارة.

ثم «بولدها وبولده» هنا تعم واقع الولد أم مترقبه ، فكما لا يجوز ان تستغل الأم عطف الأب على ابنه اثقالا على كاهله بمطالبة زائدة لحضانته ، ولا أن يستغل الأب عواطف الأم وحنانها ولهفتها على ولدها اثقالا عليها أن ترضعه بلا أجرام دون أجرة المثل ، ام يؤذيها بشأن حضانتها (١).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٢٢٧ في الكافي عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : إذا طلق الرجل المرأة وهي حبلى أنفق عليها حتى تضع حملها وإذا وضعته أعطاها أجرها ولا يضارها إلّا ـ

٩٠

كذلك لا يجوز لكلّ استغلال الولد الحاضر في ترك المواقعة ، او عزله او انعزالها لكي لا تحبل (١) ولا يجوز منع كلّ الآخر عن رؤية الولد ولقاءه مهما كان في حضانة الأم أم لم يكن ، حيث الولد لهما على طول الخط ، مهما اختلف واجب كلّ تجاهه ، فهما شريكان في حبه والإحسان إليه ولقاءه صغيرا او كبيرا ، فكل مضارة بالولد ، نشوزا عن حقوق الزوجية او الوالدية محرم في شرعة الله دون إبقاء.

هذا ـ ومن المضارة الممنوعة بالولد ان يحاول كلّ الإضرار بالولد تجاوبا ضارا بينهما ، وذلك أشد محظورا وأشجى ، ان تصبح المضارة بين الوالدين سببا للإضرار بالرضيع المسكين الذي لا حول له ولا حيلة.

__________________

ـ ان يجد من هو أرخص اجرا منها فان هي رضيت بذلك الأجر فهي أحق بابنها حتى تفطمه.

وفيه عن الكافي عن الحلبي في الصحيح عن أبي عبد الله قال : الحبلى المطلقة ينفق عليها حتى تضع حملها وهي أحق بولدها ان ترضعه بما تقبله امرأة اخرى ان الله عز وجل يقول : لا تضار ...

(١) نور الثقلين ١ : ٢٢٧ في الكافي بسند متصل عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «سألته عن قول الله عز وجل : لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده» فقال : كانت المراضع مما يدفع إحداهن الرجل إذا أراد الجماع تقول : لا أدعك إني أخاف ان أحبل فأقتل ولدي هذا الذي أرضعه وكان الرجل تدعوه المرأة فيقول : إني أخاف ان أجامعك فأقتل ولدي فيدعها فلا يجامعها فنهى الله عن ذلك ان يضار الرجل المرأة والمرأة الرجل. ورواه مثله القمي عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حماد عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام).

وفيه عن المجمع وروي عن السيدين الباقر والصادق (عليهما السلام) لا تضار والدة بان يترك جماعها خوف الحمل لأجل ولدها المرتضع ولا مولود له بولده اي لا تمنع نفسها من الأب خوف الحمل فيضر ذلك بالأب. أقول : لا تضار ولا يضار حسب هذه الرواية مبنية على المجهول وحسب الاولى على المعلوم وكلاهما جائز.

وفي تفسير البرهان ١ : ٢٢٥ عن العياشي عن جميل بن دراج قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الآية قال : الجماع.

٩١

إذا فالباء هنا سببية وتعدية مهما كان الفعل متعديا بنفسه ، حيث السببية تكفي سماحا لاتيان الباء.

مضارة بسبب الولد ، وإضرارا متعاملا منهما بالولد ، فلا الولد سبب للمضارة ولا مورد لها ، سواء الموجود او المرتقب وجوده ، وسواء الرضيع وسواه ، وما أخصره تعبيرا وأجمعه معنى ، وكما هو السائد في كل القرآن الحكيم!.

وهل يسقط واجب الرزق والكسوة وحرمة المضارة بالولد إذا مات المولود له؟ كلّا!.

(وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ)

الذي كان على المولود له من واجب النفقة المستطاعة ، وأجرة الرضاعة ، ومحرم المضارة ، وعلى الوالدة من واجب الإرضاع مهما كان باجرة وحرمة المضارة.

فالوارث أيا كان يكلّف بتكليف المورث في حق الولد والمرضعة والمولود له ، حيث يعم وارثها إلى وارثه كما يعم الوارثين فان عليهما ما على الوالدين فعلى وارث الوالد ما كان عليه بحقهما (١) ، وعلى وارث الوالدة ما كان عليها بحقهما ، مهما كان عبء وارثها أقل من عبء وارثه ، وليس من صحيح

__________________

(١) تفسير البرهان ١ : ٢٢٥ عن الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجل مات وترك امرأته ومعها منه ولد فالتقته على خادم لها فأرضعته ثم جاءت تطلب رضاع الغلام من الوصي فلها اجر مثلها وليس للوصي ان يخرجه من حجرها حتى يدرك ويدفع إليه ماله.

وفيه عن العياشي عن أبي الصباح قال : سئل ابو عبد الله (عليه السلام) عن قول الله (عَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) قال : لا ينبغي للوارث ايضا ان يضار المرأة فيقول : لا أدع ولدها يأتيها ويضار ولدها ان كان لهم عنده شيء ولا ينبغي ان يعثر عليه.

٩٢

الاحتمال شمول الوارث الطفل فانه غير مكلف ، ثم و «مثل ذلك» لا يشمله إذ لم يكن محكوما عليه بحكم من ذي قبل ، ولا وارث الطفل فان بموت الطفل ـ وهو الموضوع للتكاليف السابقة ـ تزول كل هذه التكاليف ، ولا من يرثه إن مات ، فإنه الوالدان وقد ذكر ما عليهما ، وهو سائر ورثته إن مات ، فان ذلك إذا على والديه ، ثم التقدير خلاف الصحيح والفصيح.

فهل إن اجرة رضاع الصبي تحسب ـ بعد ـ من نصيبه؟ (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) تفرضها على سائر الورثة ، أن عليهم له وللوالدة مثل ما على الوالدين!.

كلّا! بل «ان أجر رضاع الصبي مما يرث من أبيه وأمه» (١) كما ان رزق أمه وكسوتها ليسا إلا في مال الإرث دون احتساب له من نصيب الرضيع ولا من نصيب الأم ان كان لها نصيب ، كل ذلك قضية الإطلاق في (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) حيث تفرض كل ما كان على الأبوين على وارث الأبوين ثم المرضعة والرضيع خارجان عما على الوارث بالنسبة لهما من واجب النفقة والرضاعة.

إذا فعلى وارث المولود له مثل ما عليه ، وعلى وارث الوالدة مثل ما عليها ، فليفتش وارثها عن ضئر يناسب بأجر من ماله ، دونما احتساب من مال الرضيع ولا درهما.

(فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما ...)

الفصال عن الرضاعة فصالان ، مسموح دون حاجة إلى تراض وتشاور ، وهو عند ختام المفروض منه : واحد وعشرين عاما ، وممنوع وهو قبل الختام ،

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٢٢٨ في الفقيه وقضى امير المؤمنين (عليه السلام) في رجل توفى وترك نصيبا واسترضع له : «إن اجر ...».

٩٣

ففي تركها لرضاعه بأجرة صالحة جناح ، وفي تركه إياها دون أجرة مطلوبة جناح ، (فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما) تنازلا منها عن حق الرضاع ، وتوافقا منه في ذلك «وتشاور» في (تَراضٍ مِنْهُما) ما يرجع الى صالح الرضيع وصالحهما (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما).

وأما ان تستبد هي بالفصال والأجرة حاضرة فجناح ، حيث (الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ.)

أو أن يستبد هو بذلك الفصال بترك الأجرة المستطاعة فجناح حيث (عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ، وكذلك استبدادهما في ذلك الفصال دون تراض وتشاور ، ثم يزول الجناح عن الوالدين بتراض في فصاله وتشاور ، يراعى فيه صالح الرضيع أو أي صالح يصح فيه ذلك الفصال ، فقد يتراضيان دون تشاور ، ففيه جناح حيث التراضي دون تشاور لا يعتمد عليها كصالح للولد.

ولأن (عَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) فقد ينوب تراضيه وتشاوره مع الوالدة أو الوالد مناب المورث ، ولا بد في كل تراض وتشاور الحفاظ على صالح الرضيع ، دون مضارة به في ذلك ، ولا مضارة بأحد الوالدين ، فالمراضات والمشاورة بينهما إذا حملت المضارة بالرضيع كانت جناحا لا تسمح بذلك الفصال.

فحين يضر به لبن الضئر صحيّا او روحيّا وما أشبه «فان اللبن يعدى» (١) فالتراضي بتشاور وسواه في فصاله جناح ، كما انه إذا أضر به لبن

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٢٢٩ في الخصال فيما علم امير المؤمنين (عليه السلام) أصحابه : وتوقوا على أولادكم من لبن البغي من النساء والمجنونة فان اللبن يعدى.

٩٤

الوالدة فالفصال فرض بتراض عن تشاور ام دون تراض عن تشاور ، فانما القاعدة في هذا المثلث صالح الرضيع في فصاله ووصاله ، ولا يسمح للوالدين او الوارث او أحدهما تراض وتشاور في فصال او وصال ليس لصالح الرضيع ، وذلك ضمان لأن تكون للرضيع ناصحة راعية واعية ، والأولى أمه إن صلحت وإلّا فمرضعة أخرى ، فيا لها من رحمة بالغة ونعمة سابغة ربانية بحق الرضيع ، في واجب التراضي والتشاور لصالحه في المجلس النيابي العائلي ، ينوب عنه الوالدان اللذان هما بطبيعة الحال الوالدية لا يرضيان إلّا صالحه ، ثم يؤكد صالحه مرة أخرى «عن تراض وتشاور» وقد حرم من ذي قبل المضارة به!.

(وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ٢٣٣.

إرادة الاسترضاع تعم إرضاع الوالدة والضئر ، فبالنسبة للوالدة لا حاجة الى تراض وتشاور لأنه حقها الواجب عليها ، ثم «لا جناح عليكم (إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ).

وبالنسبة للضئر إذا كان عن تراض وتشاور فلا جناح عليهما ، وفي غيرهما فهو جناح عليهما إذا كانا مقصرين او أحدهما (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) (٦٥ : ٦).

فقد نفي الجناح أولا بالنسبة للفصال إذا كان بتراض وتشاور ، ثم نفيه ثانيا بالنسبة للوصال للوالدة او الضئر ، (إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) تسليما بالمعروف وإيتاء بالمعروف ، وهو بالنسبة للوالدات (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ولغيرهن اجرة الرضاعة العادلة.

وقد يشعر «ما آتيتم» بسابق الإرضاع من الوالدة ، وإلا فصالح التعبير

٩٥

«إذا آتيتموهن أجورهن بالمعروف» فالتسليم والإيتاء بالمعروف للوالدات يختلفان حسب اختلاف حالاتهن.

وقد تعني «ما آتيتم» واجب الإيتاء كأنه واقع ، ولكنه يجب أن يسلّم بالمعروف ، دون ان تتسلم المرضعة تطلبا منها ، او يسلمه إياها بغير المعروف كما او كيفا.

فلهن قبل الطلاق أجرة الرضاعة إضافة إلى النفقة ، وهكذا الأمر في العدة الرجعية ، ومن ثم فنفقة الحضانة قدر الحاجة ، دون نفقة الزوجية.

وأما الضئور فليس لهن إلا أجرة الرضاعة حسب التقدير العادل ، وفي كل هذه الأحوال : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لا تخفى عنه خافية.

كلام على ضوء التراضي والتشاور بحق الرضيع.

لأن ذلك التراضي والتشاور لا يعني إلا صالح الرضيع في فصاله ، فلا بد لهما من معرفة بصالحه صحيا وتربويا ، والا فكيف يسند في مقدراته الصالحة الى تراض وتشاور من المجاهيل ، فان كانا عارفين او أحدهما ، وإلّا فليستمدا او أحدهما بمن يعرف صالح الصحة والتربية بحق الرضيع ، وليس فحسب الوالدان عليهما هامة المسئولية بحق الرضيع بل و (عَلَى الْوارِثِ) لهما أو أحدهما «مثل ذلك» لكي لا يضيع الرضيع بضياع المسئولين الأولين بحقه في حق الرضاعة والحضانة.

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) ٢٣٤.

٩٦

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ) تعم المطلق زوجه بعدة رجعية وسواه ، كما ان «أزواجا» تعم هذه المطلقات فان المطلقة رجعيا زوجة.

كما وان «أزواجا» تعم المنقطعات وغير المدخول بهن والصغيرات ، فلا يشترط في عدة الوفاة إلا كونهن أزواجا حالة الوفاة مهما كن من رجعيات المطلقات ولمّا تتم آجالهن(١).

فلكلّ عدة أجلها من طلاق ووفات ، وإذا اجتمعت عدتان فالأجلان يتداخلان فيما اشتركا ، ويبقى الأطول أجلا مؤجلا إلى أجله كما في عدة الوفاة للمطلقات حاملات وغير حاملات ، فليس وضع الحمل أجلا قاطعا إلّا للمطلقات حيث ذكرن فيهن (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) (٦٥ : ٤) فإن للمطلقات أحد أجلين ثانيهما وضع الحمل ، وأما أولات الأحمال المتوفى عنهن أزواجهن فعليهن أجلان اثنان قرن بعض ، فلا ينقضي

__________________

(١) عن محمد بن أذينة عن زرارة في الصحيح قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) ما عدة المتعة إذا مات عنها الذي يتمتع بها؟ قال : اربعة أشهر وعشرا ، قال : ثم قال يا زرارة كل النكاح إذا مات الزوج فعلى المرأة حرة كانت او امة وعلى اي وجه كان النكاح منه متعة او تزويجا او ملك يمين فالعدة اربعة أشهر وعشرا وعدة المطلقة ثلاثة أشهر ... أقول : وقد وردت بشأن المتعة المتوفى عنها زوجها وغير المدخول بها معتبرة عدة كما في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) في الرجل يموت وتحته امرأة لم يدخل بها؟ قال : لها نصف المهر ولها الميراث كاملا وعليها العدة كاملة(الكافي ٦ : ١١٨).

وفي نور الثقلين ١ : ٢٣٠ صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سألته عن المرأة الحبلى يموت زوجها فتضع وتزوج قبل أن تمضي لها اربعة أشهر وعشرا؟ فقال : «ان كان دخل بها فرق بينهما ثم لم تحل له ابدا واعتدت بما بقي عليها من الاول واستقبلت عدة اخرى من الاخيرة ثلاثة قروء وان لم يكن دخل بها فرق بينهما واعتدت بما بقي عليها من الاول وهو خاطب من الخطاب» ورواه مثله محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليهما السلام).

٩٧

أجلهن إلّا بانقضائهما ، فان ولدن قبل أربعة أشهر وعشرا تربصن تتمة الأجل الثاني ، وإن مضى أجل الوفاة ولما يلدن تربصن الأجل الأول ، ومختلف الحديث في انقضاء عدة الحامل المتوفى عنها زوجها بان يضعن حملهن معروض على القرآن (١) وحتى لو لم تكن آية الحاملات في حقل المطلقات لكان بينها وبين آيتنا هذه عموم من وجه ، تتلاقيان في الحامل المتوفى عنها زوجها والنتيجة إذا أقصى الأجلين ، دون تقييد لها بآية أولات الأحمال.

ثم إن عدة الوفاة تلازمها مهما كانت هناك عدة اخرى ام لم تكن ، حرمة للوفاة ، فلذلك لم يفرق فيها بين الأزواج المختلفات في عددهن كالدائمات والمنقطعات والإماء واللاتي لم تكن لهن عدات كاليائسات والصغيرات وغير المدخولات ، فان عدة الوفاة تشملهن أجمع بإطلاق «أزواجا» ومتظافر الروايات.

__________________

(١) الحديث المعارض هو ما رواه ابو داود باسناده الى سبيعة بنت الحرث الأسلمية كانت سعد بن خولة فتوفى عنها في حجة الوداع وهي حامل فولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر فلما طهرت من دمها تجملت للخطّاب فقال لها بعض الناس : ما أنت بناكح حتى تمر عليك اربعة أشهر وعشر ، قالت سبيعة : «فسألت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي فأمرني بالتزويج إن بدا لي» (تفسير الفخر الرازي ٦ : ١٢٧).

ثم الموافق للآية منه وموثقة سماعة قال قال المتوفى عنها زوجها الحامل أجلها آخر الأجلين إذا كانت حبلى فتمت لها اربعة أشهر وعشرا ولم تضع فان عدتها الى ان تضع وان كانت تضع حملها قبل أن يتم لها اربعة أشهر وعشرا تعتد بعد ما تضع تمام اربعة أشهر وعشرا وذلك ابعد الأجلين. (الكافي ٦ : ١١٣ والتهذيب ٢ : ٢٩١) وفي نفس المصدر موثق عبد الله بن سنان قال : «المتوفى عنها زوجها عدتها آخر الأجلين» وفي الكافي ٦ : ١١٤ عن محمد بن قيس في الصحيح عن أبي جعفر (عليهما السلام) قال : «قضى امير المؤمنين (عليه السلام) في امرأة توفى زوجها وهي حبلى فولدت قبل ان تنقضي اربعة أشهر وعشرا فتزوجت فقضى أن يخلي عنها ثم لا يخطبها حتى ينقضي آخر الأجلين فإن شاء اولياء المرأة أنكحوها وإن شاءوا أمسكوها فان أمسكوها ردوا عليه ماله».

٩٨

واما الحاملات المطلقات ف (أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) كما غير الحاملات منهن أجلهن هو الثاني : ثلاثة قروء ام ثلاثة أشهر ما لم يكنّ من المتوفى عنهن أزواجهن حالة العدة.

وترى (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) تعنيها وعشرة أيام كما تقوّلوها كثيرا؟ وذكورة عشرا تقتضي عشر ليال وتكفيها تسعة ايام! فكيف يخالف نص القرآن بنصوص من فتيا وروايات؟ (١) ولا يشترط في هذه الأربعة أشهر ان تحيض ابدا فضلا عن الحيضة في كل شهر مرة ، حيث العدة هنا زمانية وهي تعم من لا تحيض الى من تحيض ، وترى إن مات الزوج في أوساط الشهر دون اوّله او آخره فما هو الحساب؟ الشهر المكسور يحسب من أيامه بحساب ، ثم بعده كل شهر شهر حتى تكمل العدة؟.

ام يحسب من يوم الموت الى نفس اليوم من كل شهر شهرا ثم تزاد عشر ليال وهذا أضبط وحسابه اثبت.

ويقدر الشهر هنا ـ كما في كل الأحكام ـ قمريا وهو بين (٢٩) يوما و (٣٠) ويحسب المكسور حسب شهره.

__________________

(١) قد ادعي اتفاق الفتاوى على ان انقضاء عدة الوفاة بتمام اليوم العاشر من اربعة أشهر وعشرا ويدل عليه رواية زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : المتوفى عنها زوجها لا تطيب ولا تزين حتى تنقضي عدتها اربعة أشهر وعشرة ايام ، ولكنها خلاف نص الآية فانتهاء عدتها بانتهاء الليلة العاشرة لمكان «عشرا» دون «عشرة».

ثم أقول : قد وردت عدة الوفاة بلفظ الآية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مستفيضة أخرجها في الدر المنثور عن جماعة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ولفظة ، اني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول على المنبر : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر ان تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا.

٩٩

وهل يشترط في ذلك التربص علم الزوج بوفات زوجها ، فإذا مضت اربعة أشهر وعشرا ام زمن منها وهي غير عالمة وفاته لم تعتدّ من عدتها إلّا ما علمت؟ ولا إشارة هنا بشريطة علمها!.

واللمحة المتخيّلة من «يتربصن» ألّا يصدق التربص الانتظار إلّا عن علم بسببه ، تطاردها «يتربصن» في المطلقات ، وشرط العلم بالطلاق فاقد فيهن بالضرورة.

ذلك ولكن قد تعلم شريطة العلم بضرورة وجوب الحداد عليها حالة العدة وهو لا واقع له إلّا بتقصد لا يحصل إلا بالعلم بالوفاة.

وقد يقال : إن واجب الحداد مشروط بالعلم بالوفاة فلا يحقّق شرط العلم ، ولكن «لأن عليها ان تحد» (١) فواجب العلم بالوفاة وارد كتقدمه للحداد.

__________________

(١) صحيحة احمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضا (عليه السلام) قال : سأله صفوان بن يحيى وانا حاضر عن رجل طلق امرأته وهو غائب فمضت أشهر؟ فقال : إذا قامت البينة انه طلقها منذ كذا وكذا وكانت عدتها قد انقضت فقد حلت للأزواج ، قال : فالمتوفى عنها زوجها؟ قال : «هذه ليست مثل تلك هذه تعتد من يوم يبلغها الخبر لأن عليها ان تحد» (الكافي ٦ : ١٥٩) وصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) في الرجل يموت وتحته امرأة وهو غائب؟ قال : تعتد من يوم يبلغها وفاته (المصدر ١١٢) وفي صحيح منصور سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول في المرأة يموت زوجها او يطلقها وهو غائب؟ قال : «ان كانت مسير ايام فمن يوم يموت زوجها تعتد وان كان من بعد فمن يوم يأتيها الخبر لأنها لا بد ان تحد» (التهذيب ٣ : ٢٩٥ والاستبصار ٣ : ٣٥٦).

أقول : ويعارضها صحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قلت له : امرأة بلغها نعي زوجها بعد سنة أو نحو ذلك؟ فقال : إن كانت حبلى فأجلها ان تضع حملها وان كانت ليست بحبلى فقد مضت عدتها إذا أقامت لها البينة انه مات في يوم كذا وكذا وان لم يكن لها بينة فلتعتد من ـ

١٠٠