الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٤

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٦

سائر الجماعة المؤمنة المطّلعة على أمرها ، والمستطلعة لأمرها ، إيحاء بواجب التضامن في الحفاظ على الكرامات ، ومعارضة الجاهليات.

وقد كان الجناح في زواجهن قبل الحول محلقا على الجماعة التي تعيش فيها المتوفى عنهن أزواجهن ، و «لا جناح» تجتثّ كل جناح عما فعلن في انفسهن من معروف ، عن كل الجماعة العائشة هي فيهم.

إذا فالأمة المسلمة متضامنة متضامة في سلبيات الإسلام كما في إيجابياته ، ففي سلبياته للطقوس الجاهلية يفرض عليهم التجاوب السلبي العام ، وفي إيجابياته التجاوب الإيجابي العام ، لكيلا يبقى المؤمن الملتزم بشرعة الحق في عزلة وزاوية في جوه الذي يعيشه ، مترسبا في مجتمعه او بعضهم طقوس الجاهلية ، دون تجاوب معه في سبيله إلى تحقيق الإسلام التام.

وفي جملة جميلة (تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ)!

(وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) ٢٤١.

ذلك متاع المتوفى عنهن أزواجهن رجعيات وسواهن ، «وللمطلقات» كما لهن (مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) محلقا على كل المطلقات ، رجعيات وبائنات ـ وحتى المبارئات ـ ، مدخولات وغير مدخولات ، المفروض لهن فريضة وغير المفروضات ، وإنما «للمطلقات» بصورة طليقة.

وقيلة القائل ان إطلاقها منسوخ بالتي قبلها : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ)

إنها غيلة وويلة ، فكيف تنسخ اللاحقة بالتي سبقتها وهو خلاف الفصيح والصحيح في ترتيب التنزيل؟.

١٤١

والآية السالفة إنما تفرض النصف من المفروض في حقل المفروض الأول وهو الصداق ، وهذه تفرض مفروضا ثانيا لا يعارض الأول ، فذلك صداق وهذا متاع وهما حسب النصين مفروضان (١) لا ينوب أحدهما الآخر.

ومما يؤكده أن المتاع مخصوص بالمطلقات ، فلا نجده بعد المهر لغيرهن ، اللهم إلّا «متاعا إلى الحول غير إخراج للمتوفى عنهن أزواجهن».

وهنا (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) مما يزيد دلالة على فرض المتاع عن (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) (٢).

فذلك المتاع ليس ـ فقط ـ صدقاتهن ، بل هو فرض فوق فرض ، هدية الفراق ، كما كان من المتعوّد هدية النكاح ، فهما متاعان بالمعروف خارجان عن الصدقات.

ومن متاع المطلقات بالمعروف التمتع بهن في الرجعيات وهو الرجوع إليهن بذلك التمتع ، ولكنه معنى هامشي بالنسبة لطليق «المطلقات» لأنه مختص بالرجعيات ، ثم ولا تمتّع الرجعيات بمتاع الطلاق ، لأنه تأكّد من الطلاق ،

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٣١٠ ـ أخرج البيهقي عن جابر بن عبد الله قال لما طلق حفص بن المغيرة امرأته فاطمة أتت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لزوجها متعها ، قال : لا أجد ما أمتعها ، قال : فانه لا بد من المتاع متعها ولو نصف صاع من تمر ، وفيه اخرج ابن المنذر عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال : لكل مؤمنة طلقت حرة او امة متعة وقرأ : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ).

(٢) المصدر أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال : لما نزل قوله (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) قال ـ

١٤٢

و (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) وفترة الرجعة هي فترة رجاء الرجوع ، ومتاع المطلقة مما يبعّد الرجوع ، وإنما لهن متاع الزوجة في هذه الفترة ، ثم لهن متاع الطلاق إذا بلغن أجلهن (١).

__________________

ـ رجل : إن أحسنت فعلت وان لم أرد ذلك لم افعل فأنزل الله (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) وفي الكافي وتفسير العياشي سئل الصادق (عليه السلام) عن الرجل يطلق امرأته يمتعها؟ قال : نعم ، أما يحب ان يكون من المحسنين؟ أما يحب ان يكون من المتقين؟.

(١) نور الثقلين ١ : ٢٤٠ في الكافي احمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي عن عبد الكريم عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : متاعها بعد ما تنقضي عدتها على الموسع قدره وعلى المقتر قدره وكيف يتمتعها وهي في عدتها ترجوه ويرجوها ويحدث الله عز وجل بينهما ما يشاء ، قال : إذا كان الرجل موسعا عليه متع امرأته بالعبد والامة والمقتر يمتع بالحنطة والزبيب والثوب والدراهم وان الحسن بن علي (عليهما السلام) متع امرأة له بأمة ولم يطلق امرأة إلّا متعها.

١٤٣

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ

١٤٤

أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ

١٤٥

آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ

١٤٦

وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢٥٤)

بما ان القرآن دعوة للحياة الدائمة المتجددة عبر الأجيال ، دون حياة محدودة مغلقة في صفحة عابرة غابرة من التاريخ ، لذلك نرى آياته البينات تلتقط لنا من ماضينا لحاضرنا ومستقبلنا فان تاريخ الإنسان سلسلة موصولة متشابهة ، فلندرس من كل غابر لحاضر ، ولكي نكون كأنّنا عشنا الدهر كله بكل تجاربه ، فنصبح على أهبة واستعداد للمضي في طريق الحياة الملتوية الشائكة الطويلة ، عارفين كل هابط وصاعد ، وكل قمة وسفوح ، فنفلح بما ندرسه من غابر الزمن لحاضره ، تحضيرا لتجارب التاريخ ، فتحذرا عن مهاويه ومخازيه.

فالقصص القرآنية تعرض لنا بهذه الوفرة والغزارة مهام الأحداث في تاريخ الأمم الغابرة لنكون على خبرة من أشباهها في العصور الحاضرة ، وكثير منها هي من أحداث الأمة الاسرائيلية ، بما علم الله أن اجيالا من امة الإسلام ستمر بالتي مر فيها بنو إسرائيل ، وتقف من دينها وعقيدتها مواقف مشابهة بمواقفهم ، فعرض علينا مغالق الطريق ومزالقها مصورة في تاريخهم لتكون لنا عظة وعبرة ، قبل الهبوط في تلك المزالق او اللجاج فيها على مدار الطريق.

توجيهات وجيهات حية تنبض بكل مظاهر الحياة ، مشيرة الى معالم الطريق وعوالم الحريق.

١٤٧

ومن التجارب المعروضة هنا تجربة الفرار عن الموت ، من ألوف خرجوا من ديارهم حذر الموت دون تعريف لهم ، في عرض خاطف كخطف الحياة والموت :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) ٢٤٣.

أترى (الَّذِينَ خَرَجُوا ...) مثل يمثّل به هنا لموت التأخر عن شؤون الحياة ونشاطاتها ، وحياة التقدم في شئونها ، لأن واقع الموت هنا والحياة بعدها مرة أخرى مما تحيله: (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) (٤٤ : ٥٦) و (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) وأحييتنا اثنتين (٤٠ : ١١) ، وقد سميت حياة التقدم في مبتغياتها حياة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) (٨ : ٢٤) ـ «أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها» (٦ : ١٢٢)؟ ثم ولا تناسب الموت بالفرار عنه ثم الحياة آية القتال التالية؟.

و (الَّذِينَ خَرَجُوا ...) دون أداة التمثيل كما في سائر الأمثال القرآنية ، لا تناسب المثل! وإتيان الحياة بمعنى نضارتها في مجالات أخرى بقرائنها ، ليس ليختصها بها في هذا المجال دون قرينة! والآيات المستشهد بها لا تحيل موتين وحياتين في الدنيا ، وقد أثبتهما آيات عدة ، وإنما هي عرض كضابطة للحياة الدنيا أنها واحدة يموت الأحياء عنها الى البرزخ ، فهي تقبل الاستثناء وكما استثنيت بآياتنا ونظائرها ك (فَأَماتَهُ اللهُ ... ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ ...)!.

وما تلك الطنطنة الغوغاء إلا من متفرنجين سموا أنفسهم مفسرين ،

١٤٨

ينكرون خوارق العادات ، مؤولين لها ـ خلاف نصوصها القرآنية ـ بعاديات! خائضين في تيه التأويلات الباردة في آيات الله البينات ليحيدوا عنها خوارق العادات ، وهي هي بنفسها في قمة الخوارق ، وقد تحمل فيما حملت إنباءات عن خوارق اخرى في تاريخ الرسالات.

وليست الآيات المحيلة الرجوع الى الحياة الدنيا للأموات ك : (لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) (٦ : ٢٨) إلّا في الذين حظوا حظوهم من حياة التكليف قدر المقدر لهم ، ثم هم يطلبون الرجوع الى مزيد ، دون الذين لم يحظوا حيث أميتوا محنة وابتلاء ، ثم رجعوا لتكملة العدّة ، او الذين يرجعون وليس لهم تكملة كالراجعين يوم الرجعة من الذين محضوا الكفر محضا ، فإنهم لا يحظون برجوعهم إلا مزيد الكفر ، مهما حظى الذين محضوا الإيمان محضا مزيد الإيمان!.

ثم وترتيب القرآن خلاف تنزيله مما قد يوهن امر الرباط بين الآيات كما يطلبه الرابطون بينها كما يحبون ، ولكن الرباط في ترتيب التأليف حاصل من العليم الحكيم الذي رتبها بذلك التأليف الأليف ، مهما كان عميقا عريقا يحتاج الى تفكير.

فهنا تنديد بالفرار حذر الموت ، لامحا للتنديد بالفرار عن الجهاد حذر القتل ، وكلاهما من الفرار عن الموت.

فليست رباطات الآيات باهرة إلا لمن يذّكر فيها ، وليست هي قريبة قرب سائر الرباطات في سائر المؤلفات ، وانما هي رباطات وطيدة عريقة قريبة او غريبة لا بد من إمعان النظر فيها.

ثم ان هذا القرآن قد روعي في تأليفه ما يهتدي به المهتدون في كل طائفة طائفة من آياته الكريمة ، دون تفصيلات وتبويبات كما في سائر المؤلفات ، ولكي

١٤٩

يتعرف المتحري عن الحق المرام حقّه في كل نظرة الى آيات ، مستدلا بها على مجموعة مختصرة غير مختصرة من معارفه ، ثم إذا اهتدى وأراد المزيد يزيد في تلاوته مزيدا ومزيدا : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ).

أجل ولكل مقال مجال ولكل مجال مقال ، لا بد للمفسر او المستفسر لآي الذكر الحكيم ان يتعرف الى مجال كل مقال ، والى مقال كل مجال ، ليعرف الحال كما هي ، دون تحميل على القرآن ما يرتإيه من قال ، فانه تفسير للقرآن عن قاله ومجاله ، وليس تفسيرا لقاله بمجاله.

ولقد وردت روايات مستفيضة (١) بحق ذلك الموت الجماعي ثم الإحياء من طريق الفريقين ، ما لا مجال لردها تفسيرا لهذه الآية ، حيث توافقها في معناها ومغزاها ، اللهم إلا ما تحمل جزئيات لا تحملها الآية او لا تتحملها.

هنا (خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ... حَذَرَ الْمَوْتِ) يلمح بان باعث الموت كان في ديارهم مثل الطاعون كما في مستفيض الأحاديث ، ورغم ان حذر الموت والفرار منه طبيعة الحال لكلّ حيّ ، ومأمور به لكل مكلف ، ولكن قد يستثنى واجب الفرار من الموت بما هو واجب كالجهاد ، ولذلك أصبح الفرار من الزحف حذر الموت من كبائر المعاصي.

ام بما هو واقع لا ينفعه الفرار ـ مهما كان هناك علاج آخر او لم يكن ـ كمثل الطاعون الماكن في بعض البلاد ، فالمبتلى بالطاعون لا يفيده الفرار من

__________________

(١) ففي الاحتجاج عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال (عليه السلام) أحي الله قوما خرجوا من أوطانهم هاربين من الطاعون لا يحصى عددهم فأماتهم الله دهرا طويلا حتى بليت عظامهم وتقطعت أوصالهم وصاروا ترابا فبعث الله في وقت أحب ان يرى خلقه نبيا يقال له حزقيل فدعاهم فاجتمعت أبدانهم ورجعت فيها أرواحهم وقاموا كهيئة يوم ماتوا لا يفتقدون في اعدادهم رجلا فعاشوا بعد ذلك دهرا طويلا.

١٥٠

بلده إذا أمكن منه الطاعون ، فليفر ـ إذا فر ـ من نفسه.

وهنا (حَذَرَ الْمَوْتِ) قد يلمح بأنهم ابتلوا بسبب الموت ومنه الطاعون ، ثم خرجوا من ديارهم حذر الموت بالطاعون ، فما ذا يفيدهم ـ إذا ـ الخروج من ديارهم.

هذا إذا كان التنديد هنا بخروجهم ومعهم سبب الموت ، وقد يعنيه ما يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «إذا وقع الطاعون بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فان الموت في أعناقكم وإذا كان بأرض فلا تدخلوها فانه يحرق القلوب» (١).

وأما إذا كان التنديد بواقع الخروج حين قدر الموت بسببه وهم لا يعلمون ، وإنما يخرجون خوفة الابتلاء به ، فهو ـ إذا ـ بيان أن أجل الله لا يؤخر بالفرار ولا يعجل بالفرار.

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٣١٢ ـ أخرج سيف في الفتوح عن شرحبيل بن حسنة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

وفيه اخرج أحمد والبخاري ومسلم وابو داود والنسائي عن عبد الرحمن بن عوف سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في الطاعون : «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه».

وفيه عن عائشة قالت قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تفنى امتي إلا بالطعن والطاعون ، قلت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : هذا الطعن قد عرفنا فما الطاعون؟ قال : غدة كغدة البعير ، المقيم بها كالشهيد والفار منه كالفار من الزحف.

وفيه عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الفار من الطاعون كالفار من الزحف والصابر فيه كالصابر في الزحف.

أقول : «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه» في الحديث الاوّل دليل واجب التحرز عن الموت وواجب الفرار عنه ما أمكن ، فالتنديد بفرار من فر ليس إلا فيما لا ينفع الفراد إذا أمكن سبب الموت في الإنسان فما ذا يفيده الفرار عن بلده إلى سواه.

١٥١

ثم الرؤية هنا هي رؤية العلم البصيرة ، لا رؤية البصر ، حيث القصة سابقة بآلاف من السنين ، فإنما هي رؤية بالوحي الصارم ، التي هي أثبت من رؤية البصر ، فالبصر قد يخطأ ولا يخطأ الوحي ، وقد تلمح «إلى» هنا الى سابق الوقعة دون حاضره وإن بصورته ، حيث الرؤية متعدية بنفسها للناظر بالبصر ك «رأيتهم» ولكن «رأيت إلى» لامحة إلى مرئي بعيد عن البصر قريب إلى البصيرة.

وفد تعني «ألم تر» ـ بجنب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى هامش رسالته ـ كل من يصح خطابه ، وليكونوا نابهين به وان الله يبعث من في القبور ، وقد يبعث قبل الأخرى جماعة في الأولى كيوم الرجعة.

فواقع الإحياء هنا دليل واقعه فيهما وبأحرى ، حيث السبب فيهما أقوى ، ولا سيما في الأخرى ، ثم (وَهُمْ أُلُوفٌ) وهي جمع كثرة تلمح أنهم كانوا فوق عشرة آلاف ، وقد تكون هي جمع إلف كما هي جمع ألف ، فقد كان كلّ إلفا لحياته ، ماسكا لها بكل حوله وقوته ، ثم كلّ إلف بصاحبه ، فقد اجتمعت فيهم قدرات ثلاث هي من أهم اسباب الفرار من الموت : الكثرة ، والألفة بمعنييها ، ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، وليعلموا أن وعد الله حق ، وأنه غير مغلوب على أمره (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

(فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) وهو قول تكويني إرادة ماضية لإماتتهم ، ثم أخرى لإحيائهم (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) ، وهنا (ثُمَّ أَحْياهُمْ) ك «موتوا» تدلنا ان إحياءهم لم يكن من نبيّ كحزقيل أمن شابه ، كخارقة ربانية هي من فعل النبي تدليلا على نبوته ، فانما هو فعل الله مهما كان قرينة قولة او اشارة من نبي الله ، فلتؤول الروايات القائلة ان حزقيال ام سواه أحياهم.

١٥٢

فقد يكون القصد من إحيائهم ثم إماتتهم إظهار حجة رسالية ، بجنب ما قصد فيه إلى تصحيح التصور عن الموت والحياة وأسبابهما الظاهرة ، وحقيقتهما المضمرة ، ورد الأمر النهائي فيهما الى ساحة الربوبية ، والمضي في حمل المسئوليات الحيوية دونما هلع لا جزع ، فالمقدر كائن لا محالة ، والموت والحياة هما بيد الله القادر المتعال.

فلا الحذر من الموت المقدر المحتوم يجدي ، ولا الفزع والهلع يزيدان في حياة ، او يردان قضاء مبرما.

انه ليس ليعني حرمة الفرار عن الموت بأسبابه الظاهرية ، فانه واجب كل حيّ ، وفطري لكل حي ، وانما يعني التنديد بمن يفرون عن الزحف ، او لا يشاركون في النضال حذر الموت ، فحين يفرض التعرض للموت بغية إحياء الكتلة المؤمنة ، والحياة الآمنة ، فهنا التخلف عنه فرارا عن الموت إدغال وضلال.

كما أن التعرض للموت دونما أمر أهم هو ضلال وإدغال ، وحتى المناضل الذي يتهاون في خط النار ، ولا يحافظ على نفسه ، ولا يناضل بقوة وصلابة هو ايضا ضال.

وترى ان موتهم الجماعي كان بنفس السبب الذي خرجوا من ديارهم حذره ، ام بسبب آخر لم يكونوا يحتسبون؟ قد تلمح (فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا) انه كان بغير ذلك السبب ، كلمحة ثانية من (ثُمَّ أَحْياهُمْ) إذ لم يكن هناك سبب ظاهر لحياتهم بعد موتهم ، ومهما كان ظاهر السبب الذي فروا منه سببا ، ولكن الموت الجماعي بما «قال (لَهُمُ اللهُ مُوتُوا) يلحّق بسببه الظاهر سببا ربانيا خفيا يموّتهم ثم يحييهم ، مهما كان الله المسبب للثاني هو المسبب للأول.

وقد تلمح (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) أنّ في إحياءهم فضلا عليهم

١٥٣

أن عاشوا ردحا منتفعين بعيشتهم نابهين ، مهما كانت الأكثرية منهم غافلين (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ).

وقد يحتمل انهم لم يروا بموتهم ما يراه الأموات من حقائق الأمور ، وإلا فقد بطل التكليف بعد الموت لمكان المشاهدة للحقائق المكلف بها ، فلا ابتلاء ـ إذا ـ في التكليف!.

كما تلمح ان في إماتتهم الملتحقة بإحيائهم فضلا ، تدليلا على الموت والحياة أنما هما بيده مهما كانت لهما اسباب ظاهرة ، ودلالة ثانية هي القصوى : إمكانية الحياة بعد الموت بسناد القدرة ، وواقعها يوم القيامة وما أشبه بسناد الفضل ، بل والعدل.

وحين يكون الموت بأمر الله ، لا حول عنه إلا بحول الله ، فلما ذا التقاعس عن الجهاد في سبيل الله حذر الموت الذي يكتبه الله في بيوتكم كما يكتبه عند النضال! :

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ٢٤٤.

«قاتلوا ...» فلا يمنعكم عن القتال في سبيل الله حذر الموت ، ولا تقولوا قيلات الجهال جهارا أو في أنفسكم ، ك (طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٣ : ١٥٤).

(قاتِلُوا ... وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) قيلاتكم «عليم» طوياتكم ونياتكم ، «قاتلوا» صارمين دونما تزعزع ولا تلكّع خوف الموت وحذر الموت ،

١٥٤

ف (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ...) (٤ : ٧٨).

وقد تتحمل (وَقاتِلُوا ...) هنا ان تكون خطابا لمن أحياهم الله بعد ما أماتهم ـ بجنب المسلمين ـ شكرا لما فضّل الله ، وإدخالا لهم في خضم المعارك التي فيها الموت ، لكي لا يفروا من الموت حال تحقيقهم لأمر الله.

و (فِي سَبِيلِ اللهِ) ليست فحسب ظرفا للقتال ، بل وهي حال للمقاتل : قاتلوا حالكونكم في سبيل الله ـ في سبيل الله ، فما لم يكن المؤمن في سبيل الله في كل حل وتر حال ، لم يكن قتاله في سبيل الله!.

ثم تأكيدا لواجب القتال في سبيل الله أخذ يستقرضهم قرضا حسنا في صيغة السؤال الاستفهام الاستعلام ، استفحاما للمتثاقلين ، سؤال التنديد بهم والتأكيد للمؤمنين :

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ٢٤٥.

وليس القرض هنا وفيما أشبهه يعني ـ فقط ـ قرض المال ، فإنه من أدناه ، بل هو كل قرض من نفس ومال في سبيل الله على أية حال.

فالقرض لغويا هو القص والقطع ، مقابل الفرض وهو الوصل ، وعدم ذكر المقرض هنا دليل العموم في فرض القرض كسائر الفرض ، ف (قَرْضاً حَسَناً) يحلق على كل حسنة (١) ف : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً

__________________

(١) ومما يدل على هذا التحليق ما في نور الثقلين ١ : ٢٤٣ عن الكافي متصلا عن حمران بن أعين عن أبي جعفر (عليهما السلام) قال قلت : فهل للمؤمن فضل على المسلم في شيئ من الفضائل والأحكام والحدود وغير ذلك؟ فقال : لا ـ هما يجريان في ذلك مجرى واحد ولكن للمؤمن فضل على المسلم في أعمالهما وما يتقربان به الى الله عز وجل ، قلت : أليس الله عز وجل يقول : من جاء ـ

١٥٥

فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) (٥٧ : ١١) ـ (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ) (٥٧ : ١٨) ـ (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) (٦٤ : ١٧) ـ (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) (٧٢ : ٢٠) ـ (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ...) (٥ : ١٢).

وهكذا نرى إقراض الله قرضا حسنا طليقا دون تعلق خاص بمتعلق خاص في كافة المحاور ، قرينا بإقام الصلاة وإيتاء الزكوة والإيمان بالرسل وتعزيزهم والتصديق بما يصدّق من شرعة الحق ، مما يدل على طليق متعلقاته ، من إقراض المتعلقات الآفاقية والأنفسية ، مالا وأولادا وأهلين ، أم حالا من نفس وعلم وعقلية صادقة.

فالقرض متعد بنفسه ، فالإقراص متعد إلى مفعولين ، وقد ذكر في هذه الآيات مفعول واحد هو الله (يُقْرِضُ اللهَ) و (قَرْضاً حَسَناً) مفعول مطلق نوعي يبين نوعية القرض انها «حسنا» كما يليق بساحة الربوبية ، ثم المفعول الثاني محذوف يعم كل نفس ونفيس يمكن إقراضه الله قرضا حسنا.

ففي حقل القتال في سبيل الله ـ كما هنا ـ يعني القرض الحسن قرض النفس شخصيا ، وأنفس الأولاد والأهلين الذين يؤهلون للقتال.

__________________

ـ بالحسنة فله عشر أمثالها ، وزعمت انهم مجتمعون على الصلاة والزكاة والصوم والحج مع المؤمن؟ قال : أليس قد قال الله عز وجل (فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) فالمؤمنون هم الذين يضاعف الله عز وجل حسناتهم لكل حسنة سبعين ضعفا ، فهذا أفضل المؤمن ويزيد الله في حسناته على قدر صحة ايمانه أضعافا كثيرة ويفعل الله بالمؤمنين ما يشاء من الخير.

١٥٦

ثم قرض الأموال والتخطيطات الحربية ممن لا يستطيعون حضور خط النار.

فالقرض بالنسبة للأنفس يعم التضحية في سبيل الله قتلا وموتا ، والكد في سبيل الله صرفا لطاقات ، ثم لما سوى الأنفس من أموال وبنين استئصالا لها في هذه السبيل ، أم صرفا منها كإقراض المال المعروف بالقرض الحسن ، واستعمال الأولاد والأهلين في المصالح الإسلامية دون مقابل.

إذا ف (قَرْضاً حَسَناً) يعم كل تجاف وتنازل عما جعلنا الله فيه مستخلفين دون اختصاص بشيء خاص.

وهكذا يكون المؤمن مقرضا ربه قرضا حسنا في كل حقل كما يتطلبه ويناسبه ، دونما ضنّة ، وانما بكل سماح وحنان ، في أمان وغير أمان.

والنقطة الرئيسية في كل إقراض ان يكون قرضا حسنا ، المعبر عنه بسبيل الله ، دون سائر السبل المتسارع إليها ، المتصارع فيها ، كسبيل التفوق على الزملاء وسواهم ، او سبيل تفتح البلاد والتوسعية الخيانية بين العباد ، إنما «حسنا ـ في سبيل الله» كما يرضاه الله ، تحليقا لشرعة الله على بلاده في عباده ، لا فرضا لرئاسة وقيادة لحظوة نفسانية وعلوّ في الأرض ف (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً) (٢٨ : ٨٣).

اجل (وَاللهُ يَقْبِضُ) الأنفس والأحوال والأموال «ويبصط» لا سواه ، فليكن الإقراض لله (قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) في الأخرى ، ام وفي الأولى (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى).

وكما القبض هنا يعني مقابل البصط (١) كذلك القبض الأخذ ، إذا فهو

__________________

(١) تفسير البرهان ١ : ٢٣٤ ـ بسند متصل عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية يعني : يعطي ويمنع.

١٥٧

الأخذ قرضا حسنا وهو الذي يضيق ويوسع.

ولماذا هنا «قرضا» بعد (يُقْرِضُ اللهَ) دون «اقراضا»؟ علّه لأن «قرضا» يعني الشيء المقروض واتصافه ب «حسنا» يميزه عن كل مقروض غير حسن مادة ونية وكيفية.

فالذي يقرض الله مالا أما شابه وهو غير حسن ولا مستحسن وهو غير محبوب ، لم يكن بذلك المحبوب : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (٣ : ٩٢).

كما الذي ينفق رئاء الناس أو بمنّ وأذى ، فهكذا الأمر ، والحسن عند الله يحلق على كل أبعاد القرض دون إبقاء.

فترى ان الله هنا كيف يعبر عن ذلك الاقراض ب (يُقْرِضُ اللهَ) كأنه المحتاج وليس به : استجاشة للضمائر المؤمنة المطمئنة بالله ، الواثقة بوعد الله ، الراجية ثواب الله : (فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) فمضاعفة الله مضاعفة ربانية منقطعة النظير ، فضلا عن ان تكون «كثيرة» ، ف «ان الكثير من الله لا يحصى وليس له منتهى» (١).

وهكذا تستجيب لله النفوس المؤمنة ، مختجلة من صيغة التعبير ، قائلة : «يا نبي الله الا ارى ربنا يستقرضنا مما أعطانا لأنفسنا وان لي ارضين إحداهما بالعالية والأخرى بالسافلة واني قد جعلت خيرهما صدقة ، وكان النبي (صلى الله

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٢٤٣ في كتاب معاني الأخبار متصلا عن أيوب الخزاز قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : لما نزلت هذه الآية على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : اللهم زدني فأنزل الله (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ ...) فعلم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الكثير من الله لا يحصى وليس له منتهى.

١٥٨

عليه وآله وسلم) يقول : كم من عذق مدلل لأبي الدحداح في الجنة» (١)

فيا خجلتاه من عطف ربنا ولطفه بنا أن يعيرنا كل ما لدينا من انفس وأموال وبنين ثم يستغرضنا ما هبانا ، ثم يعدنا أضعافا كثيرة! فما أعطفه بنا وألطفه! وما ألعننا إن لم نجب داعي الله فيما يصلح لنا أنفسنا حيث يصلحنا في أولانا وأخرانا!.

وكما الله هو الذي يستقرضنا ويعدنا أضعافا كثيرة ، كذلك (اللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) فليس إقراضه قرضا حسنا مما هبانا بالذي يقبض فيما كنا من أنفس وأموال ، ولا الضنة بها بالتي تبصطها ، فكما هو المشرع ، كذلك هو المكون ، فلا مجال لخوف والفقر والضنك بالاقراض ، ولا دور لتركه في البصط ، ثم (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) بكل لديهم ، وكل مالهم وعليهم ، فأين تفرون ، وبأي حديث بعد الله وآياته تؤمنون؟!.

ذلك! وإلى تجربة أخرى من تاريخ الرسالات نبراسا لهذه الرسالة الأخيرة ، ومراسا للقتال في سبيل الله بقيادة عليمة جسيمة ، هنا رؤية ثانية الى الغابرين :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) ٢٤٦.

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٣١٢ ـ اخرج عبد الرزاق وابن جرير عن زيد بن اسلم قال : لما نزلت هذه الآية جاء ابو الدحداح إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال يا نبي الله : ... وفيه عن أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في القصة فأعطاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اليتامى الذين في حجره.

١٥٩

الملأ جماعة مجتمعة على رأي ، تملأ العيون رواء ومنظرا ، والنفوس بهاء وجلالا ومعبرا ، ولأن التعاون والإمداد هما قضية الوحدة في رأيهم فقد يأتي الملاء بمعنى المعاونة وطول المدة ، سواء أكان ملأ الحق ، أم ملأ الباطل ك (أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) وهو إطالة المدة ابتلاء بطول العصيان ، وأعلى الملأ هم الملأ الأعلى في كل خير للملإ (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ) (٣٧ : ٨).

وهذه الآية نظرة عريقة تستجر حصالاتها كتجربات لهذه الأمة الأخيرة ، يؤمر بها رسولها وكأنه ينظر الى واقع الحادثة وحاضرها : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ ...).

ولأن القصد هنا ـ كأصل ـ هو اصل الحادثة ، دون اي فصل له او وصل ، لا يؤتى هنا بذكر لاسم الملاء ، اكتفاء بسمته بوصمته ، لكي تتحذر فلا تهدر هذه الأمة في فرض القتال.

ذلك! ف «اسمعوا ما أتلوا عليكم من كتاب الله المنزل على نبيه المرسل لتتعظوا فإنه والله عظة لكم فانتفعوا بمواعظ الله وانزجروا عن معاصي الله ، فقد وعظكم بغيركم فقال لنبيه : «ألم تر ...» ايها الناس إن لكم في هذه الآيات عبرة لتعلموا ان الله جعل الخلافة والأمر من بعد الأنبياء في أعقابكم ، وأنه فضل طالوت وقدمه على الجماعة باصطفائه إياه وزاده بسطة في العلم والجسم فهل يجدون الله اصطفى بني أمية على بني هاشم وزاد معاوية عليّ بسطة في العلم والجسم»؟ (١)

هنا ـ وبعد أن أجملت القصة عن اسم النبي المسئول هنا وسمة الملإ السائل ـ ليس علينا ولا لنا أن نفتش عن هذا وذلك ، حيث القصد هنا أصل

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٢٤٤ في كتاب الاحتجاج للطبرسي من كلام امير المؤمنين (عليه السلام): اسمعوا ...

١٦٠