الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٤

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٦

(تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) ٢٥٢.

«تلك» العظيمة العزيمة (آياتُ اللهِ) تكوينية وتشريعية (نَتْلُوها عَلَيْكَ) يا حامل الرسالة الأخيرة ، وحامل الرسالات كلها «بالحق» آيات بالحق ، نتلوها عليك بالحق ، بسبب الهدف الحق ، ومصاحبة الحق ، ولكي تهدي العالمين الى صالح الحياة الإيمانية بمكافحة دائبة ضد الظلم والطغيان ، جهادا دائبا في فسيح الزمان ووسيع المكان ، حفاظا على صالح الحياة طردا لفاسدها (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) بهذه الرسالة السامية ، التي تحقق كل الرسالات الإلهية.

(تِلْكَ آياتُ اللهِ) عبرة لاولي الألباب عبر الزمان والمكان ما عاش إنس او جان ، لا سيما آية الدفع ، ولكي تصغي إليها آذان صاغية من هذه الأمة المرحومة ، فتعيش كل حياتها دفاعا عن الحق ، فلا تتأسن الحياة وتتعفن بالتكاسل والتخاذل من هؤلاء الذين حمّلوا راية الصلاح والإصلاح ، ولا يظنوا ان الإصلاح انما هو بيد صاحب الأمر ، وأما الذين قبله فليس لهم أمر إلا السكوت والخنوع أمام السلطات الكافرة.

ومن دفع الله الناس بعضهم ببعض ان يدفع بعض الناس ببعض الى صالح الحياة الجماعية وكما تعنيه آية السخري : (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٤٣ : ٣٢).

فإن في تسخير الفاقد لشيء الواجد له اكتمالا لنفسه فيما فقده وإكمالا لغيره فيما يحتاجه ، ان في ذلك تجاوبا في الحصول على حاجيات الحياة ، إذ لا

__________________

ـ ابن عساكر ـ ويصرف عن اهل الأرض البلاء والغرق.

وفيه اخرج الخلال في كتاب كرامات الأولياء عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال : ان الله ليدفع عن القرية بسبعة مؤمنين يكونون فيها.

١٨١

يتمكن اي أحد مهما بلغ من القوة والعبقرية أن يكون مستغنيا في الحياة عن سواه ، مستقلا فيها ، اللهم الا مستغلا ومستغلا تكافئا في مختلف الحاجيات الحيوية.

هذا ـ ولكن الدفع هنا معدّى ب «الى» المقدرة ، وفي الأولين ب «عن» : دفعا عن المحاظير ، او دفعا إلى المصلح ، الجامعان للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، مهما شمل النهي إخفاق أثر المنكر بواقع المعروف من الصالحين كما في ثاني المحتملين الأولين.

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) ٢٥٣.

الصلة البارزة بين هذه الآية وما قبلها قد تكون ب (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) إذ قد تخيّل ان الرسل على سواء في فضائل الرسالة وأنت منهم ، ولكنه لا ، بل : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ...) في الفضائل الذاتية علمية وروحية معرفية ، في الفضائل الدعائية وما حملوه من شرعة الله ، فليسوا هم على سواء لأنهم ـ ككل ـ رسل الله ، بل فيهم تفاضل كما في سائر الناس ، وكل ذلك بما فضل الله ، تفضيلا فضيلا بحكمة بارعة ربانية دونما فوضى جزاف ، ف :

«تلك» البعيدون عن الآفاق البشرية في كل الأبعاد الروحية والعملية بسناد وحي العصمة عصمة الوحي.

(تِلْكَ الرُّسُلُ) كل الرسل ، تحليقا على كافة رجالات الرسالات ، بازغة

١٨٢

من آدم (عليه السلام) وخاتمة الى خاتم الرسل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وبينهما متوسطون ـ (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) ضابطة اجمالية في ذلك التفضيل الفضيل دونما ذكر لمادة الفضيلة إلا لمحة انها في فضائل الرسالة ، ولا ذكر لمن حملها ، وانما كل ما هنا (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) ليذهب إلى خلد السامعين كل مذهب في مفضّل بفضله.

ثم يذكر امثلة ثلاثة لذلك التفضيل ، منها مثالان في موسى والمسيح (عليهما السلام) ، كلّ يحمل فضيلة واحدة على من يفقدها ، فموسى (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) ـ : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) دونما وسيط ملك الوحي ، مهما كان يحمله وسيط نار النور في الشجرة إما هيه ، والمسيح (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) من بينة الولادة العجيبة وتكلمه في المهد صبيا ، ثم البينات الرسالية الأخرى كما الرسولية ، وهو منقطع النظير في هذه المجموعة بين كل بشير ونذير.

ثم المثال الأجل الأمثل والأفضل ، الذي لا يدانى ، ولا يساوى او يسامى في حقل الرسالة الإلهية ، من لا تحمل فضائله هذه القصيرات من الكلمات ، من «كلم الله ـ و ـ البينات» : (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) لا درجة واحدة كموسى والمسيح واضرابهما (عليهم السلام) ولا على بعض دون بعض ، وكما لإبراهيم فضل عليهما في غير ما ذكر لهما ، بل (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ) على الكل دون إبقاء «درجات» في كل الأبعاد الرسولية والرسالية مادة ومدة ، عدة وعدة ، فضائل ذاتية ورسالية وكتابية وفي الشرعة القرآنية ف (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) تجمع بعض التفضيل ـ كتفضيل لبعض على بعض ، كما في المذكورين وغيرهما الى كل التفضيل على الكل كما هنا (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) وليس درجة كما فيهما ، او على بعض كما هما ، وانما «رفع» رفعا شاملا لم يعبر عنه

١٨٣

بتفضيل «بعضهم» الخاص بواحد منهم «درجات» دون «على بعضهم درجات». ألا وذلك البعض هو :

(أَوَّلُ الْعابِدِينَ) : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) (٤٣ : ٨١) ، إذا فكل المرسلين هم في الرتبة التالية لأول العابدين ، و (رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (٢١ : ١٠٧) ولا نجد هذه الرحمة العالمية في الذكر الحكيم لمن سواه من المرسلين! (١) لا فحسب بل هو أفضل الخلق أجمعين وكما قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «ما خلق الله خلقا أفضل مني ولا أكرم عليه مني» فقال علي (عليه السلام): أفأنت أفضل ام جبرئيل؟ فقال : يا علي ان الله تعالى فضل أنبياءه المرسلين والفضل بعدي لك يا علي وللائمة من بعدك وان الملائكة لخدامنا وخدام محبينا ... (٢) ورسولا الى النبيين أجمعين : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ : أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٣ : ٨١) وكما يروى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «آدم ومن دونه تحت لوائى»

__________________

(١) في إنجيل القديس برنابا الحوارى (٤٣ : ١٣ ـ ٣١) يقول : ١٣ الحق أقول ان كل نبي متى جاء إنما يحمل لأمة واحدة فقط علامة رحمة الله (١٤) ولذلك لم يتجاوز كلامهم الشعب الذي أرسلوا اليه (١٥) ولكن رسول الله متى جاء يعطيه الله ما هو بمثابة خاتم بيده (١٦) فيحمل خلاصا ورحمة لأمم الأرض الذين يقبلون تعليمه (١٧) وسيأتي بقوة على الظالمين (١٩) ويبيد الأصنام بحيث يخزي الشيطان (١٩) لأنه هكذا وعد الله ابراهيم قائلا : انظر فإني بنسلك أبارك كل قبائل الأرض وكما حطمت يا ابراهيم الأصنام تحطيما هكذا سيفعل نسلك ... (٣١) صدقوني لأني أقول لكم الحق : «ان العهد صنع بإسماعيل لا بإسحاق».

(٢) نور الثقلين ١ : ٢٥٤ في عيون الأخبار باسناده الى علي بن موسى (عليهما السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

١٨٤

و «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» ، وأطهر المطهرين : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٢٢ : ٢٢) ، وان كتابة خالد مهيمن لما بين يديه فهو كذلك مهيمن على الرسل بين يديه (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) (٥ : ٤٨).

وأنه خاتم النبيين ، لا يصدّق نبي إلّا بختمه وتصديقه كما لا يبعث نبي ولا رسول بعده : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) (٣٣ : ٤٠).

وان معجزته الخالدة تفوق معجزاتهم في كمها وكيفها ، فأما كمها فقرابة ألفين ومأتين في القرآن نفسه إذ تحدى بسورة من مثله واقصر سورة منه وهي الكوثر تحمل آيات ثلاث ، فكل ثلاث معجزة خارقة ، ثم وكيفها انه دائم دوام شرعته الى يوم القيامة غير فاشل في حجته ولا منسوخ ، بل يزداد بهورا وظهورا على تقدم العقل والعلم.

ولئن كلم الله موسى تكليما في حجاب النور النار من الشجرة المباركة على الطور ، فقد كلم الله محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) بلا اي حجاب عند السدرة المنتهى (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى. فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى).

ولئن لم يستطع موسى ان يرى ربه بقمة المعرفة إذ قال : (لَنْ تَرانِي) فقد رآه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) عند السدرة بنور اليقين : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) ـ (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى).

وقد يروى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في معترك الآراء فيمن هو أفضل ـ قوله : «ألا وانا حبيب الله ولا فخر وانا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر وأنا اوّل شافع وأنا اوّل مشفع يوم القيامة ولا فخر وأنا اوّل من يحرك

١٨٥

حلقة الجنة فيفتح لي فأدخلها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر ، وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر» (١).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): انا سيد ولد آدم ولا فخر ، و «لا يدخل الجنة احد من النبيين حتى أدخلها انا ، وقال : انا أول الناس خروجا إذا بعثوا وانا خطيبهم إذا وفدوا وانا مبشرهم إذا أيسوا لواء الحمد بيدي وانا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر» (٢).

ولقد تطامن عيسى ابن مريم صاحب البينات والمؤيد بروح القدس أمام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وكما ينقله عنه القديس برنابا الحواري في انجيله بكل تبجيله : ومع أني لست مستحقا أن أحل سير حذائه قد نلت نعمة ورحمة من الله لأراه (٢) فأجاب حينئذ الكاهن مع الوالي والملك قائلين : لا تزعج نفسك يا يسوع قدوس الله فإنّ هذه الفتنة لا تحدث في زمننا مرة اخرى (٣) لأننا سنكتب إلى مجلس الشيوخ الروماني المقدس بإصدار أمر ملكي أن لا احد يدعوك فيما بعد الله او ابن الله (٤) فقال حينئذ يسوع ان كلامكم لا يعزيني لأنه يأتي ظلام حيث ترجون النور (٥) ولكن يعوزني في مجيء الرسول الذي سيبيد كل رأى كاذب فيّ وسيمتد دينه ويعم العالم بأسره لأنه هكذا وعد

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٦ : ١٩٧ عن ابن عباس قال جلس ناس من الصحابة يتذاكرون فسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حديثهم فقال بعضهم عجبا ان الله اتخذ ابراهيم خليلا وقال آخر : ماذا بأعجب من كلام موسى كلمة تكليما ، وقال آخر : فعيسى كلمة الله وروحه وقال آخر : آدم اصطفاه الله ، فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال : قد سمعت كلامكم وحجتكم إن ابراهيم خليل الله وهو كذلك وآدم اصطفاه الله وهو كذلك ، ألا وانا حبيب الله ...

(٢) تفسير الفخر الرازي ٦ : ١٩٧.

١٨٦

الله أبانا إبراهيم (٦) وان ما يعزيني هو أن لا نهاية لدينه لأن الله سيحفظه صحيحا (٧) أجاب الكاهن : أيأتي رسل آخرون بعد مجيء رسول الله (٨) فأجاب يسوع لا يأتي بعده أنبياء صادقون مرسلون من الله (٩) ولكن يأتي عدد غفير من الأنبياء الكذبة وهو ما يحزنني (١٠) لأن الشيطان سيثيرهم بحكم الله العادل فيتسترون بدعوى انجيلي ...

(١٣) فقال الكاهن ماذا يسمى مسيّا وما هي العلامة التي تعلن مجيئه (١٤) أجاب يسوع ان اسم مسيا عجيب لأن الله نفسه سماه لما خلق نفسه ووضعها في بهاء سماوي (١٥) قال الله : اصبر يا محمد لأني لأجلك أريد أن اخلق الجنة والعالم وجما غفيرا من الخلائق التي أهبها لك حتى أن من يباركك يكون مباركا ، ومن يلعنك يكون ملعونا (١٦) ومتى أرسلتك إلى العالم أجعلك رسولي للخلاص وتكون كلمتك صادقة حتى ان السماء والأرض تهنان ولكن إيمانك لا يهن ابدا (١٧) ان اسمه المبارك «محمّد» (١٨) حينئذ رفع الجمهور أصواتهم قائلين : يا الله أرسل لنا رسولك (٩٧ : ١ ـ ١٨) (١)

ذلك ، وكثير أمثاله ، كما يقول موسى الذي كلمه الله تكليما : «هذه بركة باركها موسى رجل الله بني إسرائيل عند موته (١) وقال : الله من سيناء جاء ، تجلى من ساعير ، تلعلع من جبل فاران وورد مع آلاف المقدسين ، من يمينه ظهرت الشريعة النارية» (التثنية ٣٣ : ١ ـ ٢).

فهذه ظهورات ثلاث ربانية رسالية ، من سيناء موسى ومن ساعير عيسى ومن فاران محمد صلوات الله عليهم أجمعين ، وفي الأخيرة ميزة التلعلع تشريفا له بآلاف المقدسين ، وان شريعته نارية قوية أقوى من كل شرعة إلهية (٢).

__________________

(١ ، ٢). لاطلاع اكثر راجع كتابنا «رسول الإسلام في الكتب السماوية».

١٨٧

اجل فقد (رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) على من كلم الله وأوتي البينات وأيد بروح القدس ، حيث أوتي ما أوتينا وأتوا وزيادة خالدة تحلق على كافة الدرجات الرسولية والرسالية ، بهيمنة عالية متعالية عليها ، لحدّ يعبر عنه بالرسول دون سائر الرسل ، كأنه هو الرسول فقط ، ويعبر عن وحيه ب (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) حين يعبر عن سائر الوحي بالوصية : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ...)!.

ويعبر عنه بين الشهود الرساليين بشهيد الشهداء وبكتابه تبيانا لكل شيء : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (١٦ : ٨٩) ، كما وهو رسول إلى النبيين : (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ ...) (٣ : ٨١) ، وحين يقسم الله بعمر لا يقسم بينهم الا بعمره : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١٥ : ٧٢).

ذلك! وقد ارتسمت للبشرية في هذه الرسالة الطليقة ، الحقيقة بالخلود ، هندسة البناء لكل ما يتبناه ما طلعت الشمس وغربت ، إعلانا صارحا صارخا بذلك المنهج الواسع الذي يسع كل النشاطات البشرية ـ أماهيه ـ المقبلة ، إماما لها على طول خطها إلى يوم الدين ، (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ ...)

«لو» هنا تحيل مصلحيا تلك المشية التكوينية المسيرة لترك الاقتتال من بعد الرسل ، فالرسالة الإلهية هي رمز الوحدة الدينية القاضية على كل الخلافات الضارية ، المنتهية إلى الاقتتال.

فلو شعرت البشرية على ضوء البينات الرسالية ان الرسالة واحدة الاتجاه ،

١٨٨

لم تختلف في شرعة الله (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) ولم تترك هذه الشرعة الى سواها من مختلفات مختلقات ، ولكنها اختلفت فيها بعد ما شرعت إيمانا وكفرا ، ثم الذين أوتوه اختلفوا فيها بغيا بينهم ، فنشبت في هذه الخلافات والاختلافات اقتتالات : (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) كفرا بأصل الرسالة ، ام كفرا جانبيا بمادة الرسالة تحريفا لها وتجديفا ، ام صمودا على رسالة منسوخة بأخرى.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) بان يجعل لهم ـ ككل ـ شرعة واحدة ، ثم يحملهم عليها إزالة لاختيارهم ، ولكن الشرعة الواحدة قليلة الابتلاء : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً ... لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) (٥ : ٤٨).

وكما والشرعة المسيّر إليها فاقدة الابتلاء ، والدنيا هي دار التكليف والابتلاء : (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) من صالح العباد في اصل الشرعة وعديدها ، وفي عدم التسيير على ترك القتال.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ٢٥٤.

ان الإنفاق من رزق الله هو قضية الإيمان ، و (مِمَّا رَزَقْناكُمْ) تعم كلّما يمكن إنفاقه ويحل من مال او حال : إرشادا عقليا او علميا ، أم أي انفاق صالح دون افراط ولا تفريط.

(أَنْفِقُوا ... مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) وهو يوم انقطاع حياة التكليف موتا فرديا الى البرزخ ، ام موتا جماعيا الى القيامة الكبرى ، ثم (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) مهما كان كفر العقيدة كمن يكفر بالإيمان ، ام كفر العمل كمن لا ينفق من رزق الله.

١٨٩

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥) لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦) اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧))

الآية الأولى ـ التي تحمل الكرسي ـ هي فقط آية الكرسي ، فاسمها آية الكرسي حيث الكرسي سمتها البارزة المنقطعة النظير في آي الذكر الحكيم.

١٩٠

إنها «أعظم آية في كتاب الله» (١) و «سيد آي القرآن» (٢) اللهم إلا البسملة فانها جملة للسبع المثاني وهي عدل القرآن العظيم.

فآية الكرسي بعد البسملة هي سيدة القرآن وأعظمه وكما يروى عن نبي «القرآن سيد الكلام القرآن وسيد القرآن البقرة وسيد البقرة آية الكرسي ان فيها لخمسين كلمة في كل كلمة خمسون بركة» (٣) كما أن «لكل شيء ذروة وذروة القرآن آية الكرسي» (٤).

وهذا وذاك لا يعنيان من المفضل عليه حتى البسملة التي هي صورة مجملة وضاءة عن القرآن العظيم ، ثم وهي ربع القرآن (٥) والبسملة كله ، وكل امر

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٣٢٢ ـ اخرج جماعة عن ابن اسقع البكري ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سأله إنسان أي آية في القرآن أعظم فقال : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ...) حتى انقضت الآية ، وفيه اخرج الخطيب البغدادي في تاريخه عن أنس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أتدرون أيّ القرآن أعظم؟ قالوا : الله ورسوله اعلم ، قال : الله لا اله الا هو ... ، واخرج مثله الدارمي عن أيفع بن عبد الله الكلاعي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، واخرج ابن الانباري في المصاحف والبيهقي في الشعب عن علي بن أبي طالب قال : ... وذكر مثله.

(٢) المصدر اخرج سعيد بن منصور والحاكم والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : سورة البقرة فيها آية سيدة آي القرآن لا تقرء في بيت فيه شيطان إلّا خرج منه : آية الكرسي ، وفيه اخرج ابن الانباري في المصاحف والبيهقي في الشعب عن علي (عليه السلام) مثله.

(٣) مجمع البيان ١ : ٣٦٠ و ٣٦١ ، الاوّل عن علي (عليه السلام) سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول يا علي : سيد البشر آدم وسيد العرب محمد ولا فخر وسيد الكلام القرآن ...

(٤) تفسير العياشي عن عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه السلام).

(٥) الدر المنثور ١ : ٣٢٣ ـ اخرج احمد وابن الضريس والهروي في فضائله عن انس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لمن قال له : ليس عندي ما أتزوج ـ أليس معك آية الكرسي؟ ـ

١٩١

ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو ابتر واقطع ، فآية الكرسي كسائر الآي لا بد وان تبدء بالبسملة وإلّا فهي ابتر واقطع.

ولأنها «آية الكرسي» حسب ما تحويه آية وما تسميه الرواية ، ولا سيما المحددة لكلماته بخمسين كلمة وهي هيه ، فهي ـ إذا ـ آية واحدة دون الآيتين بعدها ، لا في اسمها وسمتها ، ولا في فضلها وسائر ميزاتها وأحكامها فرضا او نفلا ، خلافا لمتهافت الرواية (١) والفتوى (٢) ، وقد تكفيها نفس الآية الشاملة للكرسي ومتواترة الرواية المعبرة عنها ب «آية الكرسي» دون «آيات الكرسي» أنها ـ فقط ـ آية واحدة وليست ثلاث ، وكما حددت في حديث الرسول بخمسين كلمة وليست إلّا لها وحدها ، كما ونص أحيانا على آخرها (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (٣).

__________________

ـ قال : بلى قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : ربع القرآن فتزوج.

(١) نور الثقلين ١ : ٢٦٢ في روضة الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) وآخرها وهو العلي العظيم والحمد لله رب العالمين وآيتين بعدها.

أقول : آخرها وهو العلي العظيم ، دليل وحدتها ، ثم الباقية تخالف وحدتها فهي متهافتة ، او يقال والحمد لله رب العالمين هي دليل ختامها بالعظيم ، وآيتين بعدها تعني انهما ليستا منها.

(٢) في كتاب العروة الوثقى ووسيلة النجاة للسيدين العلمين اليزدي والاصبهاني رحمهما الله تعالى. والأحوط قراءة آية الكرسي الى (هُمْ فِيها خالِدُونَ) ولو أتى بغير الكيفية المذكورة سهوا أعاد ولو كان بترك آية من انا أنزلنا او آية من آية الكرسي.

أقول : ومن الغريب : «آية من آية الكرسي» وهي واحدة ، ثم لا حجة على هذا الاحتياط لزوما او ندبا ، فالقوي هو الاكتفاء بها وحدها.

(٣) في امالي الشيخ الطوسي رحمه الله باسناده عن أبي امامة الكاهلي انه سمع علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول : ما أرى رجلا أدرك عقله الإسلام او ولد في الإسلام يبيت ليلة سوادها ، قلت وما سوادها؟ قال : جميعها ـ حتى يقرء هذه الآية ـ فقرءها الى (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ ـ

١٩٢

وفي مستفيض الحديث انها تقرء للأفراح والأتراح ، من فرح الزواج وما أشبه (١) وترح المرض والعدو وهجمة الشياطين (٢).

ومن شأنها في الأفراح «ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما دنا ولاد فاطمة (عليها السلام) أمر ام سلمة وزينب بنت جحش أن تأتيا فاطمة فتقرءا عندها آية الكرسي وان ربكم الله وتعوذاها بالمعوذتين» (٣).

ويروى عن خليفته علي (عليه السلام) انه «قال : ما أرى رجلا أدرك عقله في الإسلام يبيت حتى يقرء هذه الآية ولو تعلمون ما فيها لما تركتموها على حال إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرش ولم يؤتها نبي قبلي ، فما بت ليلة منذ سمعت هذا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى أقرءها» (٤).

والكلمات الخمسون من آية الكرسي تشتمل على اربعة عشر من اسماء الله وصفاته ، عشرا ثبوتية (٥) وأربعا سلبية (٦) وبين الأولى الاسم الأعظم الظاهر

__________________

ـ الْعَظِيمُ) قال : فلو تعلمون ما هي ـ او قال ما فيها ـ ما تركتموها على حال ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : أعطيت ...

(١ ، ٤) نور الثقلين ١ : ٢٥٧ في كتاب الخصال فيما علم امير المؤمنين (عليه السلام) أصحابه : وإذا اشتكى أحدكم عينه فليقرء آية الكرسي وليضمر في نفسه انها تبرء فانه يعافى ان شاء الله وفيه ٢٥٦ في الخوائج والجرائح روى عن عبد الله بن يحيى الكاهلي قال قال ابو عبد الله (عليه السلام) إذا لقيت السبع ماذا تقول؟ قلت : لا أدري ، قال : إذا لقيته فاقرء في وجهه آية الكرسي وقل : عزمت عليك بعزيمة الله ورسوله وعزيمة سليمان بن داود وعزيمة علي امير المؤمنين والائمة من بعده (عليهم السلام) تنحت عن طريقنا ولم تؤذنا فانا لا نؤذيك.

(٣) الدر المنثور ١ : ٣٢٥ ـ اخرج ابن السخا في عمل اليوم والليلة من طريق علي بن الحسين عن أبيه عن امه فاطمة (عليهم السلام) ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما دنا ولادها ...

(٥) وهي : الله ـ هو ـ الحي ـ القيوم ـ له ... ـ من ذا الذي ... ـ يعلم ... ـ وسع ... ـ العلي العظيم.

١٩٣

«الله» والباطن «هو» والصفات الذاتية الثلاث : الحياة والعلم والقدرة ، فالأولى من الحي ، والأخريان منه والقيوم ، كما الوسطى من «يعلم» بعد «القيوم» حيث القيومية تجمع قوام العلم والقدرة ، كما العلم لزامه القدرة.

ومن صفات الفعل الملكية والمالكية المطلقتان ، المستفادتان من (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) حيث اللام تجمعهما ككل.

والشفاعة : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ).

وسعة قضاءه وتدبيره بعلمه وقدرته وحكمته : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ثم العلي العظيم.

وقد ذكر الله في القرآن كله (٢٦٩٧) مرة ، واقل منها بكثير «هو» ثم «الحي» خمس مرات و «القيوم» ثلاثا و «له في السماوات والأرض» وانحصار الشفاعة به وباذنه ، وسعة علمه المطلق مرات عدة ، وليس كرسيه إلّا هنا و «العلي» ثمان والعظيم خمس مرات.

وقد يكون «الله» هنا هو المبتدء لكل الأخبار التالية ، كما هو مبتد لكل ومبتدء وخبر واقعيا ، ف «الله» : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) «الله الحي» لا حي إلّا هو «الله القيوم» لا قيوم إلّا هو «الله لا تأخذه سنة ولا نوم» ليس إلّا هو «الله من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه» ليس إلّا هو «الله يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم» ليس إلّا هو «الله لا يحيطون بشيء من علمه الا بما شاء» ليس إلّا هو «الله وسع كرسيه السماوات والأرض» ليس إلّا هو «الله لا يؤده حفظهما» ليس إلّا هو «الله العلي» ليس إلّا هو «الله العظيم» ليس إلّا هو ، فان كل هذه من اختصاصات الربوبية الوحيدة المنحصرة بالله ، المنحسرة عما سواه.

__________________

(٦) وهي : لا اله الا هو ـ لا تأخذه سنة ـ ولا نوم ـ ولا يحيطون.

١٩٤

وقد يعني «الله» لأنه الله ف (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ولأنه «لا اله الا هو فهو» (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) ليس إلّا هو ولأنه (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) ف (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) وهكذا حتى (الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) كل سابقة بسابغة برهان دليل على لاحقتها.

و «الله» ـ كما فصلناه في فاتحة الكتاب ـ علم للذات المقدسة كما قرره الله ف (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)؟ (١٩ : ٦٥) وليس مشتقا من شيء كما هو ليس مشتقا من شيء ، وكما ان ذات الله باللامحدودية الحقيقية دليل واقعي على وحدته ، كذلك اسم «الله» دليل وضعي دلالي على وحدته إذ لا سمي له ، فقد أجمع لفظيا ومعنويا على أن (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).

ثم «هو» اسم مكنى مشار الى غائب (١) وهو هنا الهوية الغيبية المطلقة لا كسائر الغيّب الذين هم في الحق حضور وليس غيابهم إلا عن قصور ، إذا ف «لا هو الا هو» (٢) ، لست أقول إن الاسم الأعظم منحصر في / «الله ـ هو» فان هناك أسماء أخرى هي من الأعظم لفظيا كالرحمن ـ الرحيم ـ القيوم ـ العلي ـ العظيم اما شابه ، وأخرى عينيّة : ذاتية كالصفات الذاتية الثلاث ، ام سواها كالرسول الأعظم والمعصومين من آله الطاهرين.

ومن اللطيف الطريف ان لم يأت الاسم بلفظ الصفة في القرآن ولا مرة يتيمة ، ولكيلا يخيّل إلى سقاط الأفكار أنها زائدة على الذات المقدسة ، أم هي تختلف مع بعض.

__________________

(١) في توحيد الصدوق عن الباقر (عليه السلام) «هو» اسم مكنى ومشار إلى غائب فالهاء تنبيه عن معنى ثابت والواو اشارة إلى الغائب عن الحواس ، كما ان قولك هذا اشارة الى الشاهد عند الحواس ...

أقول : لتفصيل البحث راجع الى الفرقان ٣٠ سورة التوحيد.

(٢) في دعاء الامام علي (عليه السلام): يا هو يا من لا هو الا هو.

١٩٥

وحين يأتي ذكر الصفة فليس الا تنديدا مديدا بمن يصفونه الا عباد الله المخلصين ، فإنهم لا يصفونه إلا كما وصف نفسه ، اعتبارا بتحبير اللغات عن وحدة الذات.

ذلك ، واما أسماؤه الحسنى ـ الشاملة للذاتية والفعلية ، العينية والخارجية ـ نجدها في آيات عدة : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) (٧ : ١٨) (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (١٧ : ١١٠).

ولا يعني اسم الله ـ كصفته ـ لفظه ، إلّا تدليلا على واقع معناه الحق وهو العينية الإلهية كما في أسماء الذات ، وأفعاله كما في اسماء الفعل ، وكلها حسنى وأفضلها وأجمعها هو «الله ـ هو» حيث يجمعان الذات المقدسة ، وإليها صفات الذات وصفات الفعل.

وليس الخلاف في «هل ان اسماء الله من ذاته ام هي زائدة عليها»؟ حول لفظية الأسماء ، كما الخلاف في عبادة الاسم دون المسمى : إلحادا! او الاسم مع المسمى : شركا ، وان حق التوحيد هو عبادة الذات المتصفة بعينية الصفات وفعليتها ، دون زيادة لصفات على ذات ولا صفات الذات بعضها على بعض ، كما وصفات الفعل مخلوقة له كسائر الخلق (١).

وفصل القول وحقه في آية الكرسي انها جمعت جملة تفصيل ما في القرآن من توحيد الله في كونه : رحمانا ـ رحيما ـ حيا ـ قيوما ـ حكيما ـ خالقا ـ عليما ـ محييا ـ مميتا ـ ملكا ـ سلاما ـ مؤمنا ـ مهيمنا ـ عزيزا ـ جبارا ـ متكبرا ـ له العرش وله الأسماء الحسنى.

__________________

(١) يقول جم غفير من المتكلمين بزيادة صفات الذات على الذات ، وجمهور الفلاسفة بالعينية في الذات وهذه الصفات ، وآخرون يوحدون صفات الفعل مع الذات كصفات الذات ، وفرقة رابعة تنفي كل الصفات عن الذات خوفا من قولة الزيادة وجهلا بموقف الصفات.

١٩٦

ثم «الله» يكفى كمجمل البرهان على توحيد الذات والأفعال ، و (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) توحيدا للصفات مع الذات ، و (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) توحيدا لأفعاله ، وهكذا تكون آية الكرسي سيدة القرآن ، ورب موحد فاز بتوحيد الذات دون الأفعال والصفات ، ام وتوحيد الصفات دون الأفعال ، ومثلث التوحيد ـ عقيديا ـ هو ذروته وقمته أن (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) ولا مؤثر في الوجود إلا الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، مع الحفاظ على الإختيار ـ أمرا بين أمرين ـ في اختيارية الأفعال ، حيث اللااختيار في مقدمات لها وتقدمات لا ينافي الإختيار (١).

فتعدد صفات الذات واقعيا يعدّد الذات ، سواء أكان ذلك بتعدد الذات ان يحمل كلّ واحدة من الصفات ، ام بوحدة الذات بعديد الصفات ، حيث العروض تركّب وان واحدا فضلا عن عديد الصفات العارضة على الذات!.

بل قد يكون الموصوف الواحد بعديد الصفات الزائدة على الذات هو أضل سبيلا من عديد الذات بالصفات ، فهنا قد تكون كل ذات بصفتها واحدة دون عروض ولا يمانعه إلّا استحالة تعدد الذات ، وهناك الذات الواحدة مركبة مع الصفات وهي في نفسها خلو عن الصفات مفتقرة إليها ، فهي ابعد عن الحق وأضل سبيلا ، فلو كانت أسماؤه تعالى وصفاته متعددة الحقائق في حين انها عين الذات فذلك تناقض بيّن بين الذات والصفات!.

ولو أنها عارضة على الذات فنفس عروضها حدوث وإن كانت في أنفسها واحدة! ولو كانت مركبة مع الذات منذ الأزل فحدوث ـ ايضا ـ قضية التركب مع الأزل وهو تناقض بيّن!.

__________________

(١) البحار ٤ : ١٦١ ح ٦ عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث التوحيد للمفضل ... لم يقدروا على عمل ولا معالجة مما أحدث في أبدانهم المخلوقة إلا بربهم فمن زعم انه يقوى على عمل لم يرده الله عز وجل فقد زعم ان ارادته تغلب ارادة الله تبارك الله رب العالمين.

١٩٧

ولو كانت مركبة مع الذات بعد الأزل فحدوث مكرور!.

ولو كانت كل واحدة منها عارضة على ذات تخصها فتعدد الذات بعديد الصفات!.

ولو كانت هي عين بعضها البعض ولكنها عارضة على الذات منذ الأزل ام بعده فتركب وحدوث على أية حال.

فليست أسماؤه وصفاته الذاتية إلا تحبيرات اللغات تعبيرات عن ذات واحدة من جميع الجهات والحيثيات دونما اي تعدد من عارض ومعروض أما هو من عديد التعددات.

وتوحيد الأفعال هو لزام قيومية تعالى وهي قمة الاستقلال في القيام بذاته وعلى كل نفس ، فلو كان في الكون فاعل سواه باستقلال ، او شركة واقعية ، لم يكن هو قيوما على الإطلاق ، ولكنه قيوم لا فاعل ـ في الحق ـ إلّا هو ، اللهم الا فاعلا بحوله وقوته كما يناسب الاختيار في الفعل المختار.

وهكذا نجد الترتيب الرتيب بين توحيد الذات والصفات والأفعال في (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) وذلك ترتيب المعرفة التوحيدية ، ثم العبودية هي بعكس الترتيب ، بادئة من الأفعال الى الصفات الى الذات.

ثم (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تستغرق سلب الالوهية لغير الله ، وإيجابها لله ، فليس المقدر هنا ادبيا «كائنا او موجودا» لأنه يحيل وجود إله قبل او بعد ، ومستغرق السلب يحيل أية ألوهية استئصالا لإمكانيتها أيا كان وأيان.

فلو كان المقدر «كائنا» اختص السلب بالحال ، لا والماضي والاستقبال ، ولو عم مثلث الزمان لم ينف وجود إله قبل الزمان وبعد مضي الزمان ، ولكنه

١٩٨

يعم امكانية وجود إله أيا كان وأيان ، فانه واحد لا عن عدد ولا بتأويل عدد كما هو واحد لا بعدد (١) نفيا لامكانية أي عدد ، دون فعليته ام سابقته ولاحقته.

انه واحد فوق الوحدة العددية : «واحد لا بعدد» إذ لا يتعدد وكل واحد يتعدد او بالإمكان ان يتعدد.

وواحد لا عن عدد ، لم يكن عددا ثم تفرد كما في بعض الوحدات الامكانية.

وواحد لا بتأويل عدد ، أولا الى عدد سابق ثم تفرد ، ام أولا الى عدد لاحق وهو الآن موحّد ، فلا تعدد له زمنيا إذ هو خالق كل زمني وزمان ، ولا ذاتيا ، فواقع العدد وامكانيته مسلوبان عن ذاته وصفاته وأفعاله ، لا يتغير بانغيار المخلوقين ، كما لا يتحدد بتحديد المحدودين ، فهو سرمدي الواحدية بالأحدية الطليقة الحقيقة.

ف (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) كأول تلميذ لرسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم) على امير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة له توحيدية :

«أول الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كل صفة انها غير الموصوف ، وشهادة كل موصوف انه غير الصفة ، فمن وصف الله فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثناه ، ومن ثناه فقد جزأه ، ومن جزأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حده ، ومن حده فقد عده ...» (٢).

__________________

(١) ذلك مثلث التوحيد المذكور مكررا في الخطب التوحيدية للمعصومين (عليهم السلام).

(٢) من الخطبة الاولى في النهج حسب رواية الشريف الرضى رحمه الله تعالى.

١٩٩

وليست كلمة التوحيد ـ فقط ـ لفظة تقال ، فانما هي القول بها في مقال وحال وفعال في كافة الأحوال ، وهكذا تكون حصنا لمن دخلها ، حصنا لفطرته عن تفطّرها ، ولعقله عن جهله ، ولصدره عن ضيقه ، ولقلبه عن تقلبه ، وللّبه عن تحرفه ، ولفؤاده ان يتفأد إلا بنور المعرفة ، ولحواسه وأعضاءه إلا في خدمة الله وعبادته ، وعباده ، حيث تبدأ كلمة التوحيد من الفطرة الى العقل الى الصدر الى القلب الى اللب الى الفؤاد ، شاملة كل جوانب الروح وأعماقه ، ظاهرة في كل الحواس والأعضاء دون إبقاء ، فيصبح الموحد بكل كونه وكيانه داخلا في حظيرة التوحيد لحضرة الواحد الحق المتعال.

(الْحَيُّ الْقَيُّومُ)

«الحي» فلا حي ـ كما لا إله ـ الا هو : (هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (٤٠ : ٦٥) (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) (٢٠ : ١١١) (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) (٤٥ : ٥٨) وكل حي يموت بل هو ميت حال حياته.

«القيوم» فلا قيوم إلّا هو ، قيوما بذاته لذاته ولخلقه ، قائما على كل نفس بما كسبت وقائما بالقسط تكوينا وتشريعا.

و (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) هما يعنيان كل صفات الفعل الى صفات الذات : العلم والقدرة والحياة ، فهما ـ إذا ـ اجمع صفات الله ذاتية وفعلية.

ثم «الحي» هي كأصل من صفات الذات مهما كانت مصدرا لصفات الفعل حيث الميت ليس ليفيض الحياة ولكنه حي في ذاته قبل ان يخلق خلقا وبعد ما يفنون.

وهو من متشابهات الصفات حيث يشترك في التعبير عن الحيات بين الله وخلقه الأحياء ولكن اين حياة من حياة ، فان الله هو الحياة والخلق ليس في ذاته

٢٠٠