الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٤

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٦

٣ (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) و «خير» هنا وهناك تعني خير الإنفاق نية وكيفية وفي مادته ، ثم (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) وعد بالوفاء ولكنه أضعاف كثيرة أقلها سبعمائة ضعف كما تقدمت في آية الأضعاف ، ثم وذلك الوفاء هو في مثلث النشآت : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى).

فليس فقط (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) بل هو تنازل في حدّ الوفاء ، ام «لا تظلمون» فيما وعدتم وهو ضعف العذاب ، مهما كان الإنفاق لغير المسلم ، اللهم إلا من يتقوى به ضد الإسلام ، ولمن ننفق كأفضل موارده حتى نكسب أفضل الوفاء؟ :

(لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣)).

«للفقراء» وهم الذين أفقرهم العدم وهم أسوء حالا من المساكين ، وهم في خماسية الارجحية على سائر الفقراء :

١ (الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) حصرا لكل حركاتهم وبركاتهم في سبيل الله ، جهادا وسواه والمؤمن كل حياته جهاد ، وكل مواقفه حراسة على شرعة الله ، ومراسة للدفاع عن حرمات الله ، كأهل الصفّة الذين ظلوا في مسجد الرسول حرسا لبيوت الرسول ، لا يخلص إليها من دونهم عدو ، حصرا لحياتهم وكل فعالياتهم في سبيل الله وهؤلاء كانوا أضياف الإسلام (١) ، وهكذا

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٢٥٨ ـ أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الحق الى اهل الصفة فادعهم ، قال : واهل الصفة أضياف الإسلام لا يلوون على اهل ولا مال إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها.

٣٠١

كل هؤلاء الأكارم ـ على مر الزمن ـ الذين يعيشون في سبيل الله حياتهم ، حيث النص عام يحلق على كل المحصرين في سبيل الله.

٢ (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) للحصول على حاجياتهم المعيشية ، فان المحصر في سبيل الله الذي يستطيع ضربا في الأرض لضرب من الحاجة المعيشية ، هو أخف وطأة من أولئك الذين لا يستطيعون ضربا في الأرض.

٣ (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) حيث هم متجملون كما الأغنياء ، وهم متحملون الفقر لا كسائر الفقراء فيحسبهم الجاهل بأحوالهم أغنياء من التعفف ، حيث لا يظهر منهم ظاهر الفقر والحاجة لتعففهم عن اظهار الحاجة ، بل وعن ظهورها ، فلا يتفطن إلى واقع حالهم إلا ذوو البصيرة النافذة ، دون الجاهل غير المتفطن بخفي الحال ، ما لم تظهر بظاهر جال.

٤ (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) أنت يا رسول الهدى ومن نحى نحوك من أهل البصيرة ، حيث السيما الظاهرة تنبئ لأهل الفراسة عن الحالة الخفية غير الظاهرة ، فذو الحس المرهف والبصيرة المفتوحة يدرك ما وراء التجمل من عبء

__________________

ـ وفيه أخرج ابو نعيم في الحلية عن فضالة بن عبيد قال كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا صلى بالناس يخر رجال من قيامهم في صلاتهم لما بهم من الخصاصة وهم اهل الصفة حتى يقول الاعراب ان هؤلاء مجانين ، وفيه عن أبي هريرة قال كان من اهل الصفة سبعون رجلا ليس لواحد منهم رداء وفيه اخرج أبو نعيم عن الحسن قال : بنيت صفة لضعفاء المسلمين فجعل المسلمون يوغلون إليها استطاعوا من خير وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يأتيهم فيقول : السلام عليكم يا أهل الصفة فيقولون وعليك السلام يا رسول الله فيقول : كيف أصبحتم فيقولون بخير يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول : أنتم اليوم خير أم يوم يفدى على أحدكم ويراح عليه بأخرى ويفدو في حلة ويراح في أخرى فقالوا : نحن يومئذ خير يعطينا الله فنشكر فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بل أنتم اليوم خير.

٣٠٢

التحمل ، حيث المشاعر النفسية تبدوا على سيماهم وهم يدارونها في حياء وتعفف لأن.

(لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) وهل الإلحاف هو الإلحاح والإصرار في السئوال؟ وهو يناسب السئوال دون الإلحاح! فأين ـ إذا ـ التعفف؟ وكيف يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف؟ وكيف لا يعرفون إلّا بسيماهم!.

أصل الإلحاف من اللحاف وهو ما يتغطى به ، يقال : ألحفته فالتحف ، فهم ـ إذا ـ لا يسألون الناس إلحافا على فقرهم كيلا يبدو ، فلا يسألون لا إلحاحا ولا دونه سئوال ، فهم ليسوا ليعرفوا بالسئوال ، وانما بسيماهم ، وذلك مدح مديح لمن لا يسأل على فقره ، وترى السئوال مذموم حتى عند الضرورة التي قد تسمح بالسرقة قدرها؟.

كلّا (١) ولكن ذلك التعفف لا يخلي الفقير يضطر الى سئوال ،

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٢٥٩ ـ أخرج ابن أبي شيبة وابو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن حبان عن سمرة بن جندب ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ان المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه فمن شاء أبقى على وجهه ومن شاء ترك إلا ان يسأل ذا سلطان او في أمر لا يجد منه بدا.

وفيه أخرج البيهقي عن ابن عباس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من سأل الناس في غير فاقة نزلت به او عيال لا يطيقهم جاء يوم القيامة بوجه ليس عليه لحم وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) من فتح على نفسه باب مسألة من غير فاقة نزلت به او عيال لا يطيقهم فتح الله عليه باب فاقة من حيث لا يحتسب ، وفيه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من سأل شيئا وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم قالوا يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما يغنيه؟ قال : ما يغذيه او يعيشه ، وفيه عن عوف بن مالك الأشجعي قال : كنا تسعة او ثمانية او سبعة فقال : الا تبايعون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقلنا : علام نبايعك؟ قال : ان تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا والصلوات الخمس وتطيعوا ولا تسألوا الناس فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فلا يسأل أحدا يناوله إياه.

٣٠٣

حيث الأغنياء ليسوا كلهم جهالا ولا اغبياء فمنهم اهل الفروسية والبصيرة ، يعرفونهم بسيماهم.

هذا ـ «ومن سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة كدوحا او خموشا او خدوشا في وجهه ...» (١) و «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم» (٢) و «من تكفل لي ان لا يسأل الناس شيئا اتكفل له بالجنة ...» (٣) ف «انما الغنى غنى القلب والفقر فقر القلب (٤) ، و «ان المسألة لا تصلح الا لثلاث : لذي فقر مدقع او لذي غرم مفظع او لذي دم موجع» (٥).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٢٩٠ عن المجمع عن أبي جعفر (عليهما السلام) قال : الأيدي ثلاثة فيد الله العليا ويد المعطي التي تليها ويد السائل السفلى إلى يوم القيامة ومن سأل ... قيل وما غناءه؟ قال : خمسون درهما او عدلها من الذهب.

(٢) الدر المنثور ١ : ٣٥٩ ـ أخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم والنسائي عن ابن عمر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : لا تزال ...

(٣) الدر المنثور ١ : ٢٦٠ ـ اخرج احمد وابو داود والنسائي وابن ماجة عن ثوبان قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

(٤) وفيه اخرج ابن حبان عن أبي ذر قال قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يا أبا ذر ترى كثرة المال هو الغنى؟ قلت : نعم يا رسول الله ، قال : افترى قلة المال هو الفقر؟ قلت : نعم يا رسول الله ، قال : انما الغنى غنى القلب والفقر فقر القلب ، وفيه اخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الزهد عن سعد بن أبي وقاص قال : أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل فقال يا رسول الله اوصني وأوجز فقال : عليك بالإياس مما في ايدي الناس وإياك والطمع فانه فقر حاضر وإياك وما يعتذر منه.

(٥) وفيه اخرج احمد وابو داود والترمذي وحسنة والنسائي والبيهقي عن انس ان رجلا من الأنصار أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسأله فقال : اما في بيتك شيئ؟ قال : بلى حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه وقعب نشرب فيه من الماء ، قال : ائتني بهما فأتاه بهما فأخذهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيده فقال : من يشتري هذين؟ قال رجل : انا آخذهما بدرهم قال ـ

٣٠٤

وهذه الخماسية الخميصة للفقراء أخمص من فقرهم ، واغنى من غنى الأغنياء ، هذه تجعل الإنفاق إليهم في أعلى القمم.

وتلك هي صورة عميقة الإيحاء يرسمها ذلك النص الجلي العلي على اختصاره ، ترسم كل الملامح والسمات لتلك الوجوه المضيئة بإشراقه الإيمان ، المليئة من الاستحياء على بأسها وبؤسها في حاجيات الحياة المعيشية ، وكأنك تراها من خلال هذه الجملات الجميلة.

وهم أولاء أفضل من ينفق لهم ، وأحرى من تخفي لهم صدقاتهم ، حفاظا على كرامتهم، (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) :

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢٧٤).

هنا تتقدم «سرا» على «علانية» تأشيرا لتقدّمه عليها كأصل إلّا ما خرج بالدليل ، فان في انفاق السر حفاظا على صالح النية ، وعلى كرامة الفقير ، مهما كان انفاق العلانية تشجيعا لسائر الناس في الإنفاق ، ولكن (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً ...).

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي

__________________

ـ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : من يزيد على درهم ، مرتين او ثلاثا؟ قال رجل : انا آخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين فأعطاهما للأنصاري وقال : اشتر بأحدهما طعاما فانبذه الى أهلك واشتر بالآخر قدوما فأتني به فأتاه فشد فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عودا بيده ثم قال : اذهب فاحتطب وبع فلا أرينك خمسة عشر يوما ففعل فجاءه وقد أصاب عشرة دارهم فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا خير لك من ان تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة ان المسألة لا تصلح الا لثلاث.

٣٠٥

يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (٢٨١)

٣٠٦

الآيات الاولى في هذا الشطر تحمل حملة عنيفة مفزعة وتهديدة رعيبة مقرعة على الربا والمرابين ، لا نجدها على أية كبيرة عملية أم وعقيدية ، اللهم إلّا على تولية اعداء الدين وتولّيهم ، فإنها خطر حاسم على كافة النواميس فرديا وجماعيّا ، تتساقط متضائلة عندها الأموال والأنفس والأعراض والعقول والعقائد وكل الحلوم المؤمنة حيث يسيطر عدو الدين على الدين والدينين.

والربا قد تكون من أنحس مصاديق الاكل بالباطل حيث الباطل يقابل الحق ، وهو يعم الأكل بالسعي ، قدر الحاجة كما في الأموال المشتركة ، والأكل قدر السعي كما في الأموال الخاصة ، والأكل دون سعي حيث يكل او يقل ، كما في الانفاقات المستحقة واجبة أو مستحبة ، والأكل دون سعي بلا كلّ أو قل ، وإنما رغبة للساعي وإمضاء من الله كما في تركة المورث امّا شابه.

فكل هذه الأربعة من الأكل هي من الأكل بحق وليس باطلا مهما كان دون سعي ، ولا تعارضه آية النجم (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) فإنها تثبت أن له سعيه فله أن ينفق من سعيه ما يشاء حسب المقرر في شرعة الحق ، قرضا حسنا أو هبة أو عارية أو صدقة أو نفقة ، فلما حلّ للساعي أن ينفق يحل لغير الساعي أن يقبل الإنفاق ، بل قد يجب حينما يجب الإنفاق أم هو ضرورة معيشية للمنفق عليه.

كما وقد تختص قاعدة السعي بأخذ الأموال دون رضى من أصحابها الخصوص ، أو دون مبرر في الأموال المشتركة العامة ، أو أنها كأبرز الموارد من أكل المال بالحق وكما في آية التجارة عن تراض : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) إذا ف (إِلَّا ما سَعى) في حقل المال ، لا تعني كل الحق في أكل المال ، بل هو أحق الحق ، ورأس الزاوية في الاكل بالحق ، وليست آية السعي تخص المساعي المالية حتى تصرح أو تلمح

٣٠٧

باختصاص الحل في السعى ، بل هو يعم كل حق بسعي ودون سعي.

وأخيرا فالنصوص المتواترة كتابا وسنة في حل الاكل دون سعي في موارده تخصص قاعدة السعي ـ ان دلت على الاختصاص ـ بما سوى مواردها ، مع العلم أن البطال القادر على السعي ليس له من بيت المال شيء ، اللهم إلّا ميراثا من قريب.

والربا خطر على كل الحقول الاقتصادية هدما لبناء الموازنة العادلة بين المساعي والأموال ، واختلاق معادي في جعل الشطر الإنساني الموحّد شطرين متناحرين متنافرين ، فهنا غني هارع قارع ، وبجنبه فقير مدقع ضارع.

وهنا عرض عريض لشحّ الربا وقذارتها ودنسها بأثريتها وفرديتها النحسة النجسة ، بعد عرض لعطاء الصدقة وسماحتها وطهارتها وزكاتها في تعاونها وتكافلها.

ولم يبلغ الإسلام من تفظيع أمر الجاهلية ما بلغه من تفظيع أمر الربا ، ولا بلغ من التهديد في اللفظ والمعنى ما بلغه من التهديد في أمر الربا ، وقد وردت أحاديث متواترة تغليظا في حرمتها (١).

لقد كانت للربا في الجاهلية الأولى مفازعها بمفاسدها وشرورها ، إلّا أن الجوانب الأشنع قبحا من وجهها الكالح القبيح ما كانت بادية مثل ما بدت في الجاهلية المتحضّرة ، ولا كانت البثور والدمامل مكشوفة في الجاهلية الأولى كما كشفت في الجاهلية الثانية.

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٣٦٤ ـ أخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن عبد الله بن مسعود عن النبي (ص) قال : الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم.

٣٠٨

فقد يدرك الذين يريدون التدبر في حكمة الله في شرعته وكمال منهجه ودقة نظامه ، ويدركون اليوم ما لم يكن يدركه الذين واجهوا هذه النصوص زمن الوحي القرآني ، وأمامهم اليوم من واقع العالم المرير الشرير ما يصدق كل كلمة كلمة من التهديدة الكاملة ضد الربا تصديقا حيا مباشرا معاشرا خلفيّتها النكدة ، فحكم الربا ـ بحكمة منعها وأذان الحرب من الله ورسوله فيها ـ إنها من الملاحم القرآنية.

فالبشرية الضالة المضللة التي تأكل الربا وتؤكلها تنصبّ عليها البلايا الساحقة والرزايا الماحقة من جراء النظام الربوي في أخلاقها وصحتها ودينها وكل اقتصادها ، فتتلقّى ـ حقا ـ حربا من الله ورسوله : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ...)!.

لقد شاعت اليوم الاشتراكية والشيوعية وحلّقت على شطر عظيم من البشرية ، كما شاعت الرأسمالية ، وهما وليدان غير شرعيين لأكل المال بالباطل ، الذي يمثله ـ كأكثر تمثيل ـ الربا الطاغية الداعرة الدائرة البائرة ، المبيدة بين المجتمعات والأفراد.

وهنا بين والد وما ولد من ثالوث النظام الربوي بولديه الرأسمالية والشيوعية ، نظام وسط هو الإسلام ، القاضي على ثالوث الظلم والفساد بنظامه الاقتصادي العادل المعدّل للبشرية.

وهما لا يلتقيان في تصور ولا في أساس ولا في واقع ، كما لا يتوافقان في نتيجة.

فمن الجوانب السلبية في الإقتصاد الإسلامي الخطر البالغ عن أكل المال بالباطل وإيكاله في مثلث :

٣٠٩

الأموال الشخصية ببعديها : ١ لك أو ٢ لمن سواك ، ٣ والأموال المشتركة ، فإن شرعة الإسلام هي شرعة الكدح والسعي دون أية بطالة أو بتالة : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

فكما السرقة وسائر الخيانات المالية هي من أكل المال بالباطل ، كذلك الربا ـ بل هي أنحس ـ وبخس المكيال أمّا شابه ، مهما اختلف أكل عن أكل ، من باطل ككلّ ، أم باطل نسبي ، ومن الاوّل الربا إذ ليس فيها أي حق أو سعي يستحق به آكلها ما يأكله ، كما من الثاني أن تبيع بأغلى من واقع الثمن غير المختلق ، فتربح زيادة عن سعيك ، وهكذا في كل تجارة وإجارة تجرّ بها إليك أكثر مما سعيت ، فإنها تتشارك في أنها أكل للمال بالباطل ، مطبقا أم جزئيا ، وكل ذلك ربى مهما اختلفت دركاتها ، فالأولى هي الربا الاصيلة التي تستأصل الإقتصاد عن توازنه العادل بأسره ، والثانية هي الربا الفرعية ، وقد لعنها رسول الله (ص) بأسرها آكلا وموكلا وشاهدا وكاتبا وهم سواء (١) ، كما وبشر صيارفة الربا بالنار(٢).

فالذي يبيعك ما يسوى خمسين بمائة إنما خسرّك هنا مرة ، ولكن الذي يربيك مثلا في مأة الف بألفين شهريا ، لا يدعك أبدا ترتاح بلقمة عيش وبلغته ، فإنه يستأصل تدريجيّا كل مالك ومالك من طاقة فتصبح صفرا فيهما وقد أصبح هو على جهدك وسعيك وله مئات الآلاف.

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٣٦٧ ـ أخرج مسلم والبيهقي عن جابر بن عبد الله قال لعن رسول الله (ص) آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه وقال : هم سواء.

(٢) المصدر أخرج الطبراني عن القاسم بن عبد الواحد الوراق قال : رأيت عبد الله بن أبي في السوق فقال : يا معشر الصيارفة أبشروا ، قالوا : بشرك الله بالجنة بما تبشرنا؟ قال قال رسول الله (ص) للصيارفة أبشروا بالنار.

٣١٠

وهنا في الوسط تغلى ـ بطبيعة الحال ـ الأسعار أكثر من حالتها العادية ، سواء في الأجور أو السلع ، ولكي يوفي المقترض بالربا ما عليه من الربا بجانب ما يضطر إليه في عيشته اليومية.

وإن العاملين بالربا هم ضريبة مستقيمة لآكليها ، ثم وجميع المستهلكين يؤدون ضريبة غير مباشرة للمرابين ، فان أصحاب الصناعات والتجار لا يدفعون الربا إلّا من جيوب المستهلكين بجنب ما يدفعونه من كدّهم أنفسهم ، فهم ـ إذا ـ وبطبيعة الحال يزيدون في أثمان السلع الاستهلاكية فيتوزع عبؤها على كل أهل الأرض لتدخل في النهاية في جيوب المرابين ، والاستعمار ـ في الأغلب ـ هو نهاية الديون ، كما الحروب هي من الاستعمار!.

ولأن المقترض بالربا فقير لا يكفيه عمله إمرارا لمعيشته ، يصبح بكل كدّه في جزره ومده أفقر مما كان وأعيا في الأكثرية الساحقة ، كما يصبح الوسطاء بينهم وبين المرابين فقراء من عبء العيشة المثقلة عليهم من التضخّم الكاذب للأسعار ، في حين تتكاثر أموال المرابين على طول الخط فيصبح المجتمع المرابي في مثلث لا ضلع له ضليعا له طوله وطوله إلّا آكل الربا ، ثم محقا للآخرين مهما اختلف العمال بالربا والمشترون ، فالمرابي يربح على طول الخط ، والعامل المقترض بين رابح وخاسر ، وربحه يقتسم بين ما يدفع للمرابي وما يصرفه في حاجياته الضرورية كافية وسواها ، ثم المتعاملون الآخرون يحملون أعباء الغلاء في الأسعار ، والنتيجة أن المال كله يختص بجموع المرابين.

ثم إن المستدين بالربا بين أمرين في رأس ماله هذا ، إما أن يستمر في دفع الربا فخسارة دائبة إضافة إلى دائب المتعاملين معه ، أم يحاول في الحصول على مال يرجع رأس ماله إلى صاحبه فهو أخسر للمتعاملين ، فإن عليه أن يربح أضعاف حقه حتى يحصل على عوائد مثلثة الزوايا ، صرفا في حاجياته ودفعا للربا وجمعا لمثل رأس ماله.

٣١١

هذا! وقد يقترض الفقير لإمرار معيشته اليومية دونما عمل فيه لعجز أم قصور فيما اقترض ، فهو السحيق المحيق منذ يقترض ، قد يضطر أن يفدي بكل ماله من مسكن وملبس أم وعرض وما شابه.

هنا تجتمع الثروات الضخمة عند المرابين ويخلو الجانب الآخر من المال ، كما تغلو الأسعار وفاء لعبء الربا من جانب هؤلاء الفقراء المعدمين ، فهذه الرأسمالية الظالمة ومن ثم الشيوعية ، هما وليدتان غير شرعيتين للنظام الربوي أكثر من كل أقسام الأكل بالباطل!.

ومن ناحية أخرى تدحر الربا أصالة العمل والكدح وحرمته إلى أصالة نفسها التي هي بصيغة أخرى أصالة البطالة ، كما ويعدم المعروف بأسره عن المجتمع ، فلا عطف على الفقراء في قرض حسن ، اللهم إلّا موتا آخر بعمل كادح قادح لا يحصل عامله على بلغة عيشه (١).

__________________

(١) في الوسائل ١٢ : ٤٢٤ محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن هشام بن الحكم أنه سأل أبا عبد الله (ع) عن تحريم الربا! فقال : «إنه لو كان الربا حلالا لترك الناس التجارات وما يحتاجون إليه فحرم الربا لتنفر الناس من الحرام إلى الحلال وإلى التجارات من البيع والشراء فيبقى ذلك بينهم في القرض».

وفيه عنه بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (ع) قال : «إنما حرم الله الربا كيلا يمتنعوا من صنائع المعروف» أقول : لأن المرابي إضافة إلى اقترافه منكر الربا ليس ليقرض ماله قرضا حسنا فضلا عن إنفاقه في سبيل الله ، فالمعروف أعم منهما.

وفيه عنه بإسناده عن محمد بن سنان أن على بن موسى الرضا عليهما السلام كتب إليه فيما كتب من واجب مسائله : وعلة تحريم الربا لما نهى الله عز وجل عنه ولما فيه من فساد الأموال لأن الإنسان إذا اشترى الدرهم بالدرهمين كان ثمن الدرهم درهما وثمن الآخر باطلا ، فبيع الربا وشراءه وكس على كل حال على المشتري وعلى البائع فحرم الله عز وجل على العباد الربا لعلة فساد الأموال كما حظر على السفيه أن يدفع إليه ماله لما يتخوف عليه من فساده حتى يؤنس منه رشده ، فلهذه العلة حرم الله عز وجل الربا ، وبيع الدرهم بالدرهمين.

٣١٢

لا تجد أي باطل في الإقتصاد الإسلامي في مثلثه : تحصيلا ، وصرفا لمصالحك الشخصية ، وإعطاء لآخرين ، حيث الزوايا الثلاث فيه محصورة بسياجات عاقلة عادلة وفاضلة ، لا يستطيع صاحب المال أن يتخلف عنها ، فلا تحصل طبقية ظالمة عارمة بين من يطبّقون ذلك العدل في الإقتصاد.

فلا دور هنا للبطالة بكل صورها ، اللهم إلّا قصورا عن أي عمل مستطاع تحصل به ضرورة المعاش ، فمن وهبه الله سعة ، عليه أن يفيض منها على من قدر عليه رزقه دون منّ ولا أذى ولا نظرة جزاء إلّا مرضات الله.

فكما لا يسمح الإسلام أن تكون كلّا على غيرك إلّا بضرورة ، كذلك لا يسمح لك أن تختص بواسع رزقك ـ دون إنفاق له ـ إلّا قدر الضرورة : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) (٢ : ٢١٩) وهو الزائد عن الحاجة المتعودة ، وذلك غاية الإنفاق ونهايته التي تقتضيها ضرورة المعاش للقاصرين ، فإذا كنز ـ إذ هو غير محتاج إليه ـ فبشره بعذاب أليم!.

فالمال في الإقتصاد الإسلامي دولة بين كل المسلمين ، دون الأغنياء المترفين (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) (٥٩ : ٧) ولا نصيب من الأموال الخاصة أو العامة إلّا قدر السعي والحاجة ثم الباقي الذي تحصل عليه بسعي أكثر وعمل أوفر ، عليك أن تنفقه في سبيل الله قدر الحاجة في الحقل الإسلامي فردية وجماعية ، شعبية أو حكومية.

__________________

ـ وعلة تحريم الربا بعد البينة لما فيه من الاستخفاف بالحرام المحرم وهي كبيرة بعد البيان وتحريم الله عز وجل لها لم يكن استخفافا منه بالمحرم الحرام والاستخفاف بذلك دخول في الكفر وعلة تحريم الربا بالنسيئة لعلة ذهاب المعروف وتلف الأموال ورغبة الناس في الربح وتركهم القرض والقرض صنائع المعروف ولما في ذلك من الفساد والظلم وفناء الأموال أقول : ورواه في عيون الأخبار وفي العلل بأسانيد متصلة.

٣١٣

وإن أوّل ما يتهدم بالربا من بنايات المجتمع الإنساني ـ قبل تهدم الأركان الاقتصادية ـ هو العطف والخلق الإنسانية ، وكل قواعد التصور الإيماني ، انتفاعا عارما من كدح الآخرين والمرابي مرتاح في قصر الرعونة والترح ، لا يراعي للكادحين الفقراء وسواهم إلّا ولا ذمة ، ولا يراقب فيهم عهدا ولا حرمة ، راجعة إليهم حصيلة البشرية ككل ودون إبقاء إلّا عملا دائبا بلقمة مريرة بين موت وحياة ، يشربون دمائهم بكل امتصاص ، ويرون دموعهم قائلين لا مساس ، أم قد يحظون حظوة من بؤس الجياع دونما احتراس.

وهم أولاء لا يملكون ـ فقط ـ المال وحده ، وخيوط الثروة العالمية وحدها ، بل ويمتلكون بدولة المال بينهم دولة الحال بالسلطة الزمنية ، بل والروحية المختلفة ، ساخرين من حكاية الأديان والأخلاق وسائر المبادي والمثل الإنسانية والإيمانية ، باذلين أموالهم بكل ابتذال في مستنقعات آسنة من الملذات والشهوات ، جارفين معهم سائر الناس إلى حيونات رذيلة ، صادين عن كل فضيلة.

ومن أعظم الكوارث في الجاهلية الثانية المتحضرة استخدام كل وسائل الإعلام الحديثة لإنشاء عقلية دخيلة شاملة بين جماهير المستضعفين ، الذين يأكل هؤلاء عظامهم ولحومهم ، ويشربون عرقهم ودماءهم في ظل النظام الربوي ، قيلة عارمة تجعلهم يعترفون أن هذا النظام هو الوحيد الصالح للنمو الاقتصادي ، وأن من بركاته هذه الحضارة الغربية المتقدمة ، وأن من يريدون إبطاله هم جماعة خياليون لا رصيد لهم في صالح الحياة!.

وقد يقال إن رأس المال في الربا هو العمل المتبلور المتمثل في النقود ، فكما العمل له أجرة ، كذلك ما يمثله إذ هو حصيلته.

كما أنك تسعى وتحصل على مال تشتري به دارا ولك أن تؤجرها ، فإنهما

٣١٤

في كونهما تبلورا للسعي لا فرق بينهما؟!.

ولكن الأجر ليس إلّا للسعي نفسه ، دون أجرته ، فهل تأخذ أجرة على الأجرة التي عندك حتى تأخذها عمن سواك إذا أقرضته ، دون أي عمل منك في الحالتين؟.

ومن الفارق بين المثالين ، أن لمثل الدار منفعة دون سعي فلها ـ إذا ـ مقابل ، وليس لأصل النقود منفعة دون سعي ، وليس الحاصل من سعي الساعي في مالك إلّا من سعيه مهما ساعده مالك ، واصالة السعي تقتضي اختصاص الفائدة بالساعي.

ثم إن سكن الدار منفعة بلا ضرر إضافة إلى أنها دون سعي من المستأجر ، ولكن النقود قد تنتفع بها وقد تتضرر وهي قد تنفع ولا تضر ، فحين يتحمل المستدين نفعا خالصا ما دام عنده المال فقد بطل سعيه حين لا ينتفع ، وقلّ حين ينتفع ، لا لشيء إلّا لأن عنده لك مال ليس بنفسه ينفع إلّا أن يتحرك ، فليست المنفعة إلّا للسعي ، مهما شارك الساعي فيها صاحب المال عند المضاربة ، ولكنها ليست فقط مشاركة في المنفعة بل وفي الضرر أيضا.

فما المضاربة إلّا مشاركة سعيين ، حيّ هو للعامل وميت هو مالك والمنافع والمضار فيهما مشتركة ، وحين لا ضرر ولا نفع فهما شريكان في عدم النفع والضرر ، ثم والنصيب الأوفر في المنافع هو للعامل ، لأن عمله حيّ وذاك ميت هو يحييه ، وأن عملك الميت مال زائد عن حاجياتك الضرورية وعمله الحي حاجة ضرورية ، وأن عملك الميت ليس لينتج عوائد دون ضم لعمله الحي ، وعمله الحي ينتج دون عملك الميت مهما كان أقل إنتاجا ، إذا فله النصيب الأوفر من منافع السعي كالشريكين المختلفين في السعي ، فعيشة البطالة ممنوعة في الإقتصاد الإسلامي على أية حال ، اللهم إلّا للقاصرين عن السعي الوافي للمعيشة ، فلا

٣١٥

نصيب لصاحب مرّة قوى من بيت مال المسلمين زكوة وسواها ، إنما هم الفقراء والمساكين حالا ومالا ، دون هؤلاء البطالين الذين يتركون المساعي المحللة فيأخذون الربا أو الصدقات والزكوات أمّن سائر حقوق الله ، لا لشيء إلّا خيالات مختلقة كأن لهم حقوقا في بيت مال المسلمين.

فلا حظّ إلّا للساعي قدر سعيه ، أو القاصر ـ على هامشه ـ قدر قصوره ، سواء أكان السعي فكريا علميا أو عمليا ، فإنما هو السعي النافع لإدارة شؤون الحياة ، الذي يبذل بإزائه المال و (أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

هناك في آية مكية نجد أول حظر من الربا : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) (٣٠ : ٣٩).

ثم في مدنية يغلظ النهي : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٣ : ١٣٠) وفي ثالثة تذم الذين هادوا بأخذهم الربا : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً. وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٤ : ١٦١).

ومن ثم آية البقرة هذه وهي آخر ما نزلت بشأن الربا كما وأنها من أخريات ما نزل من القرآن كله ، نجدها كأغلظ ما يكون تحريما مهددا بحرب من الله ورسوله ، ما يربوا على عشرات من الآيات التي تهدد بشأن اكبر الكبائر ، كما وهي أشمل من الأولين نطاقا وإطلاقا ، وقد تكون المدينة الأخرى قبلها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) (٣ : ١٣٠) فإنها تنهى عن مضاعفات الربا.

٣١٦

فما قلة ذكرها في الذكر الحكيم مما يقلل من محظورها ، حيث العبرة بصيغة التعبير دون عديده.

في الأولين ـ فقط ـ تنديد بالمؤمنين الذين يأكلون الربا ، وهنا تنديد بكل هؤلاء الذين يأكلونها ، تقديما لمستحليها الكافرين ، وتنديلا بآكليها من المؤمنين ، تحليقا في حرمتها على كل العالمين دونما إبقاء ، كما وأن آيات حرمة أكل المال بالباطل تشمل الربا كأصل كما تشمل غيرها ، ولا سيما المهددة بقتل الأنفس في حقل الأكل بالباطل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (٤ : ٣٠).

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا ...).

ف «الذين» تشمل كتلتي الكفر والإيمان ، وكما يدل عليه (قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا ...) و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا ...).

وكما «الربا» الطليقة هنا تشمل الربا الخالصة وهي التي تؤخذ دون مقابل من سعي وسلعة كربا القرض ، والربا النسبية وهي الزيادة على الحق المستحق كربا المعاملة ، أو الزائد علي سعي ، كالعامل الذي يأخذ أكثر من مستوى سعيه ، وصاحب العمل الذي يأخذ من عمل العامل أكثر من أجره ، وكل من البائع والمشتري الذي يأخذ أكثر من مستحقّه ، والمستحلّ المستغلّ من الأموال العامة أكثر من سعيه أو مستحقه أمن ذا من آكل ما ليس له إذ لا يقابله سعى واستحقاق ، اللهم إلّا العجزة والقصّر العاجزون عن سعي يكفيهم لضرورة المعاش حيث يأكلون من بيت المال دونما تدجيل ولا إدغال.

٣١٧

فصيغة الربا ـ وهي لغويا الانتفاخ والزيادة ـ (١) تعم كل هذه وتلك مهما اختلفت دركاتها.

فكل انتفاخ لمال أو عمل أمّا شابه ، يخيّل إلى الناظر حقيقة الواقع وواقع الحقيقة ، لتستلب به زيادة عن الحق ، تشمله الربا فإنها زيادة عن الحق في كل الأعراف السليمة فضلا عن المسلمة ، مهما اختلفت ربا عن ربا.

فالذي يقرض مالا له بفائدة مستمرة ودون عمل منه ، هو أربى المرابين ، ثم وأرباهم من يأكل الربا أضعافا مضاعفة ، انتفاعا من الربا كانتفاعه من رأس مالها ، فهو ربا على ربا ، ثم ربا المعاملة في آية معاوضة.

ثم الذي يعمل أو يعمل له ويأخذ زيادة ـ يسيرة أو كثيرة ـ عن استحقاقه في عمله وسعيه هو أدنى المرابين مهما اختلفت دركاتهم.

هنا مثلث الآيات تتجاوب في حرمة أكل كل زيادة عن السعي ، فآية الاكل بالباطل تمنع عن أكل كل باطل ، وآية السعي تحصره في السعي قدره العادل ، وآية الربا تمنع كذلك عن كل زيادة عن الاستحقاق العاقل.

وليست الزيادة الممنوعة محصورة في المساحة عملا أو سلعة أماهيه ، أم زيادة الثقل أو العدد ، إنما هي ـ ككل ـ زيادة السعر عن العادل المعتدل.

فخلاف ما يقال أن منا من سمن لا يبدّل بأكثر منه من لبنه لاتحاد الأصل ، نقول لا تجوز المبادلة بينهما إلّا بسوي السعر ، فقد يسوى منّ من الدهن عشرين منا من اللبن فلا ربا في هذه الزيادة وزنا ، بل وإذا تساويا وزنا

__________________

(١) فالانتفاخ مقدمة للزيادة ، فكما الانتفاخ تظاهر بما ليست له حقيقة ولا واقع ، ثم يستجلب به زيادة حق ليست بحق كذلك الربا ككل ، انتفاخا لرأس المال ليؤكل من منافعه دون عمل ، أو انتفاخا للعمل حتى يؤخذ عليه أجر أكثر ، أو انتفاخا لسلعة حتى تبدل بثمن أكثر وهكذا.

٣١٨

فأخذ السمن بديلا عن قدره من اللبن هو الاكل بالباطل عشرين ضعفا.

ثم ولا تختص الربا المعاملية بالبيع ، حيث تعم كل المعاملات الربوية ، ولا بالمكيل والموزون ، بل والمعدود وما أشبه من غيرهما كالأراضي ، وبالأحرى لا تختص بربا القرض.

فقد تأتي الربا في كافة المعاملات قرضا وسواه ، نسيئة أو نقدا ، فإن الربا ـ كما تدل لغويا ـ هي الزيادة ، اعني الزيادة عن المستحق ، مهما كانت ربا القرض من أربى الربا ، ثم ربا البيع وسائر المعاملات ، ولا تعني مقارنة البيع بالربا أنها في غير البيع حيث يعنى منه الصحيح العدل الذي ليس فيه ربا.

ومهما اختصت آية الربا بربا القرض أم والبيع بمناسبة مورد نزولها ، فليست لتختص بمواردها السابقة ، بل هي تحلّق بطليق لفظها على كل زيادة عن المستحق ، مهما كان الأذان بحرب من الله ورسوله يختص بقسم منها.

(لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ).

وقد يعني من القيام كل قيام في الحياة ، في الأولى والأخرى ، واختصاص الروايات بالأخرى ليس ليختصه بها فإن طليق القيام يشملهما ، لا سيما وأن الأخرى هي حصيلة الأولى ، فقيام المتخبط في الأخرى ليس إلّا ظهورا لقيام متخبط في الأولى ، وقد يروى عن رسول الله (ص) قوله «يأتي آكل الربا يوم القيامة مختبلا يجر شقيه» ثم قرء الآية (١).

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٣٦٥ ـ أخرج الأصبهاني في ترغيبه عن انس قال قال رسول الله (ص) إياك والذنوب التي لا تغفر ، الغلول فمن غل شيئا أتى به يوم القيامة وأكل الربا ..

وفي نور الثقلين ١ : ٢٩١ علي بن إبراهيم حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن هشام عن أبي عبد الله (ع) قال قال رسول الله (ص): «لما أسرى بي إلى السماء رأيت قوما يريد أحدهم أن ـ

٣١٩

وكما يروى تخبطه يوم الدنيا في وجه خاص عن الإمام الصادق (ع): «آكل الربا لا يخرج من الدنيا حتى يتخبطه الشيطان» (١).

وأما تخبطه في الأولى ككل ما دام يأكل الربا فمنه تخبّطه في تمثيل البيع بالربا بل وجعلها أصلا له : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) دونما عقلية إنسانية تميز بينهما ، ولا عقلية شرعية تجعل بينهما بونا بعيدا.

فإنه تخبّط في حقل الإقتصاد ، وتخبط في الضمير الإنساني ، وتخبط في عشرة الناس مرابين وسواهم ، تخلفا لا شعوريا عن مرسوم الحياة الإنسانية السليمة.

فقد نرى صورة ذلك التخبط واقعة بذاتها في حياة المرابين بأذان حرب من الله ورسوله ، حيث تخبط البشرية المرابية كالممسوس في عقابيل النظام المتخبط الربوي ، ثم تتورط في حروب متخبطة من جراء الشمولية الربوية من فرديتها إلى جماعيتها شعبية وحكومية.

إنهم لا يقومون في الحياة ولا يتحركون أية حراك إلّا قيام الممسوس المضطرب القلق المتخبط الذي لا ينال استقرارا ولا طمأنيته ولا راحة ولا ينيلها مجتمعه ، بل ينيلهم كلّ تخلّف وتأرجف لكفّات الموازين والقيم.

فالمشابهة بينهم وبين الذي يتخبّطه الشيطان من المس هو في الرؤية المتخلفة للحقايق والعمل المتخلف من جرّائها ، بفارق أن مسّ الشيطان قد يزيل العقل فلا تكليف ، وآكل الربا قد تزول عقليته الإنسانية بما فعل ، والامتناع بالاختيار لا

__________________

ـ يقوم فلا يقدر أن يقوم من عظم بطنه فقلت : من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلّا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس».

(١) نور الثقلين عن تفسير العياشي عن شهاب بن عبد ربه قال سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : ...

٣٢٠