الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٢

(وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) (٢ : ٢١٩) سؤالان اثنان في كل القرآن (ما ذا يُنْفِقُونَ) لا ثالث لهما ، وجواب الثاني واضح لا مرية فيه ، أن مادة الإنفاق هي العفو : الزائد عن الحاجة المتعودة ، دون تبذير ولا إسراف ولا كنز.

ولكن في الأول بعض الغموض ، حيث الظاهر البادي من الجواب هو التحول عنه الى امر آخر غير مسئول ، ولكنه إجابة ضمنية عن السؤال ب «ما أنفقتم من خير ـ وما تفعلوا من خير» ثم اصلية لم يسألوها وهي أحرى بالسؤال ، فان مادة الإنفاق وكيفيته مسرودة في القرآن وهم بها عارفون ، فلتذكر هنا كمعروف لديهم بصيغة تشمل كلا المادة والكيفية.

ف (ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) هو المال الحلال حيث الحرام ليس خيرا ، والمحبوب عند المنفق : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (٣ : ٩٢) والمنفق لوجه الله دون منّ ولا أذى ، والعفو الوسط بين الإفراط والتفريط ، الزائد خارجا عن ثالوث التبذير والإسراف والكنز.

فكلمة «خير» اجابة عما ذا ينفقون هي خير كلمة تشمل كل شروطات الإنفاق ، ثم يبقى المنفق عليهم ، المذكورون كأصل في الجواب ، وهم داخلون في «خير» حيث الإنفاق لغير المستحق ليس خيرا ، وعل (ما ذا يُنْفِقُونَ) ايضا تعني ماهية الإنفاق الطليقة بكل أبعادها مادة وكيفية وموردا (١).

إذا فخير الإنفاق يشمل مادته وحالته وكيفيته وقدره ومورده ، فلخير الإنفاق ـ إذا ـ أبعاد نفسية تزكية لها بجزاءه الأوفى : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٢٤٣ ـ اخرج ابن المنذر عن ابن حبان قال : ان عمرو بن الجموح سأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما ذا ننفق من أموالنا واين نضعها؟ فنزلت الآية ، وفيه اخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريح قال : سأل المؤمنون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اين يضعون أموالهم فنزلت الآية.

٢٦١

فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (٢ : ٢٧٢) وأخرى جماعية تزكية وترضية جماعية ، وثالثة رضوانا من الله.

ولأن نصابات الزكوة لم تقرر بعد وهي من الفرائض منذ العهد المكي ، لذلك (ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) من اي الأموال كان قدر المقدور ، هو المقدّر بالفعل حتى تحدد الزكاة بنصاباتها كما حددت في أواخر العهد المدني.

وحساسية السؤال المرهفة عن المسائل الشرعية هي من آيات الإيمان بالشرعة الإلهية ، ان يتحرى المسلم حكم الإسلام في كل صغيرة وكبيرة من الشؤون الحيوية لكي لا يحيد عن الحق المرام وحق المرام ، والقرآن يتنزل فيها بقول فصل مرشدا للكيفية الأخرى من الاسئولة ، ومجيبا بالأخرى الأجوبة التي تنفع الكتلة المؤمنة في الحياة الإيمانية الآمنة.

وللإنفاق دوره الهام ولا سيما في الظروف التي نشأت فيها دولة الإسلام ، محاطة بصعاب ومشاق من الحروب التي كانت تكتنفها وتفرض عليها ، ومن ناحية التضامن والتكافل بين أفراد الجماعة المؤمنة وإزالة الفوارق الشعورية بحيث يجد كل احد نفسه عضوا سليما من ذلك الهيكل الجماعي ، لا يحتجن دونه شيئا ولا يحتجز عنه شيئا ، وهو أمر له قيمته الكبرى في قيام الجماعة المؤمنة شعوريا ، كما لسد الحاجة قيمته في قيامها عمليا.

ويا ل «من خير» من خير الإيحاء العام الشامل لكل جنبات الخير في الإنفاق بمادته وكيفيته ومورده وقدره ، إيحاء يعالج تطويع النفوس للبذل ، ومن ثم مصرفه الخير.

«فللوالدين» وهم الرتبة الأولى في خير الإنفاق لأنهما دعامتان للأولاد إيجادا وإنجادا ، وواجب الإحسان إليهما يقتضي واجب الإنفاق دون سؤال منهما ، حيث السؤال مزرءة فإساءة إليهما.

٢٦٢

ثم «الأقربين» إليك بعدهما نسبا كالأولاد والإخوة والأخوات ، الأقرب منهم فالأقرب كما هو محدد في طبقات الميراث ، وكذلك سببا كالأزواج زوجة وزوجا ، ثم أولادهم ومن بعدهم من طبقات السبب ، ثم الأقربين في الأخوة والصداقة الإيمانية ، وكذلك الأقربين حاجة ، فلا يخص «الأقربين» فقط الطبقة الأولى نسبا وسببا بعد الوالدين ، وانما الأقرب فالأقرب نسبا وسببا وإيمانا وحاجة.

ثم «اليتامى» وهم المنقطعون عن آباءهم الكافلين لهم ، ام والمنقطعين عن الأمهات الكافلات حيث الآباء لا يتكفلون ام لا يستطيعون ، وبأحرى منهما اللّطامى وهم المنقطعون عنهما ، وهم الصغار والضعاف الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا. وقد تعم «اليتامى» كل منقطع عمن يكفله وهو بحاجة الى من يكفله ، على مراتبهم في اليتم والحاجة الى الإنفاق.

ثم «المساكين» وهم كل من أسكنه العدم عن حركات الحياة الضرورية ، سواء أكان فقيرا أفقره العدم ام لا ، فالمسكين يعم الفقير ولا عكس ، ولو كان المسكين هو الأسوء حالا من الفقير لكان التعبير الصالح «الفقير» حتى تشمل كل محتاج لا خصوص المجتاح.

ثم «ابن السبيل» وليس السبيل مما يشمل سبيل الشيطان ، انما هو سبيل الله ، ام السبيل المباحة غير المحظورة ، فابن سبيل الله لا كافل له الا سبيل الله ، فليعط في سبيل الله حين حالت دون ماله الحوائل ، فغالت عليه الغوائل ، وقد كانوا كثيرين في المهاجرين

المنقطعين عن أموالهم وعن كل مالهم ، تاركين وراءهم كل شيء الا إيمانهم الذي هجر بهم من جوّ الشرك الى جو الإيمان.

وانما لم يحلق التقسيم هنا كل الأقسام الثمانية المذكورين في آية

٢٦٣

الصدقات ، إذ لم تفرض الزكاة ـ بعد ـ كضريبة يأخذها منهم الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلا حاجة إذا للعاملين عليها إذ لا عامل عليها ، ولا الرقاب إذ لم تحصل بعد رقاب ام لم يقو المسلمون بعد على هكذا إنفاق يكفي الرقاب ام والمؤلفة قلوبهم ، فانما يحتصر الإنفاق في بداية العهد المدني على الأحوج فالأحوج وهم الخمس المذكورون في آية الإنفاق ـ هذه ـ.

وقد يستفاد «في سبيل الله» من «ابن السبيل» وبأحرى ، و «المساكين» تجمع «الفقراء والمساكين» فهذان اثنان مهما لم يصرح بهما بخصوصهما ، ثم (الْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَالْغارِمِينَ) تشملهم «في سبيل الله» المستفادة من «ابن السبيل» و (فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى) هنا مشمولة ل «في سبيل الله» في آية الصدقات ، وهكذا تتوافقان في موارد الزكاة مهما اختلفا في صيغة التعبير.

وهكذا يربط الإنفاق بين طوائف من الناس رابطة النسب والعصب ورابطة الرحمة والإنسانية الكبرى ، كل ذلك في إطار العقيدة ، وكلهم يتجاورون في هذه الآية ، متضامنين في رباط التكافل الاجتماعي الوثيق بين بني الإنسان في إطار العقيدة المتين بكل الأطوار.

وذلك الترتيب الرتيب في الإنفاق هو قضية الفطرة والعقلية الإنسانية والإيمانية ، فقد يشي بمنهج الإسلام الحكيم في حقل التربية المرابطة بين الأهلين وسواهم ، تلبية لفطرته وميوله الذاتية واستعداده ، دون احساس بالرهق ، او تكبّل بالسلاسل والأغلال جرا في المرتقى العال قفزة مكبتة ، فلا يعتسف به الطريق اعتسافا ، او يعصف به اعتصافا من فوق الآكام ، وانما صعودا ليّنا من نفسه واهليه والى كل المحاويج ، فقدماه على الأرض وبصره الى السماء ، ليحلق بإنفاقه وجوده على كل المحاويج بمراتبهم.

٢٦٤

وكل ذلك في نطاق «العفو» في الإنفاق ، دونما إقتار ولا إسراف ، كما يأتي في آية العفو واضرابها.

(وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) سواء أكان من خير المال ام خير الحال ، فالخير خير على اية حال والله به عليم ، وكفى به عليما وكفى به مجازيا كريما.

فلأن الله به عليم ، وكأنه هو الآخذ لما تنفق ، لأنه هو الذي امر ، فابتغ فيما تنفق أفضله ، دون منّ ولا أذى ولا رئاء الناس (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ).

وهكذا الله يصل بالقلوب الى الآفاق العليا في كل رفق وهوادة ، وفي غير معسفة ولا اصطناع.

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ٢١٦.

إنها أولى الآيات في فرض القتال بعد الإذن فيه في آية الحج : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٤٠).

«كتب» هنا وكلما كتب هي فرض قاطع لأمر دله ، و «كم» في «عليكم» هم كل المؤمنين ، فهل هم الحضور ـ فقط ـ وقت الخطاب لضرورة وقتية قضية هجمات المشركين واليهود والمسلمون قلة قليلة ، فلتكن القتال ـ إذا ـ فرضا على الأعيان دون إبقاء اللهم إلّا القاصرين؟.

والخطابات القرآنية الإيمانية هي من القضايا الحقيقية تحلّق على كافة

٢٦٥

المؤمنين في كل زمان ومكان ، وكما الإيمان لا مكان له خاصا ولا زمان ، فالفرائض ـ وهي كلها من قضايا الإيمان ـ ليست لتختص بمؤمنين خصوص دون آخرين إلّا بمخصصات حسب النصوص.

فالقتال كما الصلاة وما أشبه هي فرض على كتلة الإيمان مهما اختلف فرض عن فرض في كونه كفائيا ام على الأعيان ، وطبيعة القتال هي انها امر ثانوي وليس اوليا كالصلاة ، فلا قتال إلّا ضد المهاجمين على المؤمنين دفعا لكيدهم ام صدا لميدهم ، وليكن المناضلون منهم قدر الحاجة في دفعهم وصدهم ، فالعدة والعدة الكافية هي المفروضة عليهم في معارك الشرف والكرامة ، (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ... يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ..) (٩ : ١٢٢ ـ ١٢٣.

نرى الجمع بين إيجاب الفرض على المجموعة وسلبه عن الكل كالأعيان ، مما يدل على تكليف هذه المجموعة بتطبيق الفرض قدر الكفاية من عدّتهم كما في عدّتهم.

والكره هو ما يناله الإنسان من ذاته وهو يعافه فطريا او عقليا او شرعيا ، كما الكرة مشقة تناله من خارج فيما يحمل عليه بإكراه وهو ايضا راجح الى الكره ، إذ ما لم يكره امرا ليس ليحمل عليه بإكراه ، ولأنه لا إكراه في الدين فلا كره فيه اللهم الا امرا تشريعيا ، بل قد يكره المفروض عليه كرها لمشقة اماهيه تجعله يكرهه في نفس ذاته مهما طبقه لأمر ربه.

وترى كيف يكره المؤمنون امر ربهم وحبه ، ام ولأقل تقدير عدم كرهه هو قضية الإيمان؟ (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) هنا هي حال الأمر وظرفه كما هو قضية الحال في مشاق التكاليف كلها ، ولذلك سميت تكاليف حيث يؤتى بها بأمر الله رغم

٢٦٦

الكلفة فيها لعبئها في نفس الذات ، والقتال هي بالطبع الأولى لو خلي وطبعه هي أمر إمر لا يلائم الفطرة والعقلية الإنسانية ، لأن فيها هدر الأنفس والأموال ، اللهم إلّا لأمر أهم من الحياة وهو أمر الله الذي يحمل كل خير.

والإسلام يحسب حساب الفطرة الإنسانية ، فلا ينكر كره هذه الفريضة وأمثالها ، ولا يماري في الفطرة او يصادمها ، ولكنه يعالج الأمر الإمر من ناحية اخرى تلائم الفطرة ، ان يسلط عليها نورا خفية عنها ، وهي الخير المخبوء عنها ، المجهول لديها ، فعندئذ يفتح للفطرة نافذة جديدة جادة تطل منها على ذلك الأمر ، نافذة تهب منها ريح رخية وروح ندية ، تهون عندها كل كره ومشقة ، وينقلب أمرها إلى حبيبة مرضية تتهافت إليها جموع المؤمنين.

ومن ذلك القتال حيث يغلّب خيرها الخفي على كرهها الجلي فيصبح أمرها بأمر الله ووعده فطرة ثانية تنسي الأولى ، فتراه يتفانى متسابقا في جبهات القتال ضد الأعداء الألداء.

فلما تعرّف القتال بإحدى الحسينين ، حسنى قتل العدو او الشهادة ، وانهما احسن من القعود عن النضال ، فالفطرة المؤمنة تعشقها بطبيعة الحال ، مهما كان المؤمنون درجات في ذلك المجال ، ولكي تنضبط الفطرة الإنسانية بضباط الإيمان ورباطه تأتي هذه الضابطة نبراسا ينير عليها دروب الفضائل ، ومتراسا يكرس به طاقاته للنضال في خضم المعارك بكل ألوانها وقضاياها ورزاياها :

(وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وليست هذه الضابطة تجهيلا للفطرة في اصل الانجذاب الى كل خير والابتعاد عن كل شرّ ، بل هي تجهيل بالنسبة لمصاديق عدة للخير والشر ، حيث الإنسان أيا كان لا يحيط علما بكل خير وكل شر ، لا بفطرته ولا عقليته ولا طاقات اخرى فردية وجماعية ، فلا بد إذا من نبراس من

٢٦٧

وحي السماء يبين خطأ الأرض في مصاديق من الخير والشر.

فهذه اللمسة الحنونة الربانية للفطرة والعقلية والحسية الإنسانية تفتح امامها عالما آخر وراء المحسوس الملموس ، فترتّب الحاضر والغائب على غير ما تظنه وتتمناه ، تبيينا لها انها لا تحيط علما بكل خير وكل شر ، في حين يراد منها الدخول في السلم كافة من بابه الواسعة ، دون الضيقة الخاطئة في حدودها المحدودة ، فلا تستشعر النفس الإنسانية حقيقة الإسلام لله إلّا حين تستيقن ان الخيرة انما هي فيما يختارها الله لأنه الله العليم الحكيم الرحيم ، فيستسلم لأمره واثقا بوعوده دون خوف عما يستقبله من مخاوف ولا حزن على ما مضى ، إلّا رجاء واثقا ان يحقق له ربه ما أمضى.

و «عسى» هنا كما في غيرها ، هي من الله ترديد في جوّه لمن عساه يجهل كما هنا ف «ارض عن الله بما قدر وان كان خلاف هواك» (١) ، وكل إنسان يجد في تجاربه الخاصة مكروهات هي في الحق خيرات ، وخيرات هي في الحق مكروهات ، ما يطمئنه ان ليس كل ما يراه خيرا خيرا ، ولا كل ما يراه شرا شرا ، فلا بد ـ إذا ـ من التسليم المطلق لأمر الله فانه خير على أية حال.

ولقد وردت في القتال آيات وعلى ضوءها روايات تجعلها أحيا من كل حياة ، يجب على من يستحب الحياة ان يدق دروبها حفاظا على بيضة الإسلام ، وحيادا وحائطه على صالح المسلمين في كافة الحقول الحيوية التي هي قضية الإيمان والتسليم لله.

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٢٤٤ ـ اخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : كنت رديف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال : يا ابن عباس ارض ... فانه ثبت في كتاب الله ، قلت يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأين وقد قرأت القرآن؟ قال : (عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

٢٦٨

فحين يسأل الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : علمني عملا يعدل الجهاد ، يقول : لا أجده حتى تستطيع إذا خرج المجاهد ان تدخل مسجدا فتقوم ولا تفتر وتصوم ولا تفطر ، قال : لا أستطيع ذاك (١).

__________________

(١) المصدر ـ اخرج البخاري والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال جاء رجل إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : علمني ... قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : لا أستطيع ...

وفيه اخرج الترمذي وحسّنه والنسائي وابن حبان عن ابن عباس ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : ألا أخبركم بخير الناس منزلا قالوا بلى يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : رجل أخذ برأس فرسه في سبيل الله حتى يموت او يقتل ، ألا أخبركم بالذي يليه؟ قال بلى ، قال : امرء معتزل في شعب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعتزل شرور الناس ، ألا أخبركم بشر الناس؟ قالوا : بلى قال : الذي يسأل بالله ولا يعطي.

وفيه اخرج الطبراني عن فضالة بن عبيد سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول : الإسلام ثلاثة سفلى وعليا وغرفة ، فأما السفلى فالإسلام دخل فيه عامة المسلمين فلا تسأل أحدا منهم إلّا قال : أنا مسلم واما العليا فتفاضل اعمالهم بعض المسلمين أفضل من بعض واما الغرفة العليا فالجهاد في سبيل الله لا ينالها الا أفضلهم.

وفيه اخرج مسلم وابو داود والنسائي والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق.

وفيه اخرج احمد والطبراني والحاكم وصححه عن معاذ بن أنس ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعث سرية فأتته امرأة فقالت يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنك بعثت هذه السرية وان زوجي خرج فيها وقد كنت أصوم بصيامه وأتعبد بعبادته فدلني على عمل ابلغ به عمله؟ قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : تصلين فلا تقعدين وتصومين فلا تفطرين وتذكرين فلا تفترين ، قالت : وأطيق ذلك يا رسول الله؟ قال : ولو طوّقت ذلك والذي نفسي بيده ما بلغت العشير من عمله.

وفيه اخرج الطبراني عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول : إذا خرج الغازي في سبيل الله جعلت ذنوبه جسرا على باب بيته فإذا خلف خلف ذنوبه كلها فلم يبق عليه منها جناح بعوضة وتكفل الله له بأربع بان يخلفه فيما يخلف من اهل ومال وأي ميتة مات بها ـ

٢٦٩

وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لا يجمع الله في جوف رجل غبارا في سبيل الله ودخان جهنم ..» (١) ، والقتال تعم الدفاعية ، والهجومية التي تعني الدفاع عن المستضعفين ، فللدفاع مرحلتان ، اولى هي دفع المهاجمين على المسلمين فعليهم ان يدافعوا عن أنفسهم ، وثانية هي دفعهم عن غيرنا من المستضعفين.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ

__________________

ـ ادخله الجنة فان رد رده سالما بما له من اجر او غنيمة ولا تغرب شمس إلا غربت بذنوبه.

وفيه اخرج احمد عن أبي امامة قال : خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سرية من سراياه فمر رجل بغار فيه شيء من ماء فحدث نفسه بان يقيم في ذلك الماء فيتقوت مما كان فيه من ماء ويصيب مما حوله من البقل ويتخلى من الدنيا فذكر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة او روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة.

(١) المصدر اخرج احمد عن أبي الدرداء قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ... ومن اغبرت قدماه في سبيل الله حرم الله سائر جسده على النار ...

وفيه اخرج ابو داود وابن ماجة عن أبي امامة ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : من لم يغز ولم يجهز غازيا او يخلف غازيا في اهله بخير اصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة ، وفي اخرى : قبل الموت.

وفيه اخرج البزار عن أبي عباس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حجة خير من أربعين غزوة وغزوة خير من أربعين حجة ، يقول : إذا حج الرجل حجة الإسلام فغزوة خير له من أربعين حجة وحجة الإسلام خير من أربعين غزوة أقول : حجة الإسلام المفروضة عينا خير من أربعين غزوة كفائية ، اللهم الا غزوة لا كفاية فيها بين الغازين فتتقدم ـ إذا ـ على حجة الإسلام فضلا عن سواها.

٢٧٠

يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ٢١٧ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ٢١٨.

(الشَّهْرِ الْحَرامِ) هو جنسه الشامل ل (أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (٩ : ٣٦) والحرم الأربعة هي : رجب ـ شوال ـ ذو القعدة وذو الحجة ، (قِتالٍ فِيهِ) هو المسؤل عنه عن الشهر الحرام ، وتنكيره يعني الشمول لكل قتال من كل مقاتل فيه ، بادئا وسواه ، مدافعا وسواه ، ولكن الدفاع فيه كما في الحرم وعند المسجد الحرام مسموح فيه ، ضرورة الحفاظ على الحرمات الإسلامية ولا سيما في الحرم والشهر الحرام : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ..). (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ..) (٢ : ١٩٢ و ١٩٤).

فلا يحل إحلال شعائر الله ومنها الحرم ، ولا الشهر الحرام (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ ..) (٥ : ٢) وكل من الحرم والشهر الحرام له حرمته فضلا عن اجتماعهما ، وهذه الحرمة كانت هي السنة المستمرة المحلقة على المشركين كما الموحدين ، فقد يلزم هؤلاء بما التزموه مهما لم يكونوا مسلمين او موحدين.

فالقتال محرم في الحرم وفي الشهر الحرام على القبيلين ، والسؤال (عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) ، يعمهم فسواء أكان القتال هجوميا ، أم دفاعيا اعتداء بالمثل

٢٧١

والعدو في الحال غير مقاتل ، لا يحل للمسلم (قِتالٍ فِيهِ) اللهم الا اعتداء بالمثل حال قتالهم فيه (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) و «لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يغزو في الشهر الحرام إلا ان يغزى» (١) ، وهنا (قُلْ قِتالٌ فِيهِ) تمحور قتال المشركين فيه بادئين ، كما ان «كبير وصد وكفر ولا يزالون يقاتلونكم» هي شهود اربعة عليه ، مهما تضمنت القتال الهجومية منا أمّا شابه من دون الدفاع ، ولكنها لا تعدوا عن الفسق مهما كان كبيرا ، دون كفر وصدّ أما شابه.

وقد يعني «يسألونك» المشركين مع المسلمين ف «ان المشركين صدوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وردوه عن المسجد الحرام في شهر حرام ففتح الله على نبيه في شهر حرام من العام المقبل فعاب المشركون على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) القتال في شهر حرام فقال الله : (قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) «من القتال فيه» (٢) تعريضا بهم حيث قاتلوه وصدوه وأخرجوه عنه ، ولكنما

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٦ : ٣١ روى جابر قال : لم يكن ...

(٢) الدر المنثور ١ : ٢٥٠ ـ اخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : ان المشركين ... وان محمدا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعث سرية فلقوا عمرو بن الحضرمي وهو مقبل من الطائف آخر ليلة من جمادى واوّل ليلة من رجب وان اصحاب محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كانوا يظنون ان تلك الليلة من جمادى وكانت اوّل رجب ولم يشعروا فقتله رجل منهم وأخذوا ما كان معه وان المشركين أرسلوا يعيرونه بذلك فقال الله : سألونك عن الشهر الحرام ... وإخراج اهل المسجد الحرام منه اكبر من الذي أصاب اصحاب محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والشرك أشد منه.

وفيه اخرج ابن جرير من طريق السدى ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعث سرية وكانوا سبعة نفر عليهم عبد الله بن جحش الأسدي وفيهم عمار بن ياسر وابو ياسر وابو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان السلمي حليف لبني نوفل وسهيل بن بيضاء ـ

٢٧٢

ـ وعامر بن فهيرة وواقد بن عبد الله اليربوعي حليف لعمر بن الخطاب وكتب مع ابن جحش كتابا وامره ان لا يقرأه حتى ينزل ملل فلما نزل ببطن ملل فتح الكتاب فإذا فيه أن يسر حتى تنزل بطن نخلة فقال لأصحابه من كان يريد الموت فليمض وليوص فإني موص وماض لأمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فسار وتخلف عنه سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان أضلا راحلة لهما وسار ابن جحش إلى بطن نخلة فإذا هم بالحكم بن كيسان وعبد الله بن المغيرة وعمرو الحضرمي فاقتتلوا فأسروا الحكم بن كيسان وعبد الله بن المغيرة وانقلب المغيرة وقتل عمر والحضرمي قتله واقد بن عبد الله فكانت اوّل غنيمة غنمها أصحاب محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلما رجعوا الى المدينة بالأسيرين وما غنموا من الأموال قال المشركون : محمد يزعم انه يتبع طاعة الله وهو اوّل من استحل الشهر الحرام فانزل الله : يسألونك ... وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين اكبر من القتل في الشهر الحرام حين كفرتم بالله وصددتم عنه محمدا والفتنة وهي الشرك أعظم عند الله من القتل في الشهر الحرام فذلك قوله : وصد عن سبيل الله وكفر به.

أقول : وفي نفس القصة بصورة أخرى اخرج البيهقي في الدلائل من طريق الزهري عن عروة ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعث سرية من المسلمين ـ الى ان قال ـ : فركب وفد من كفار قريش حتى قدموا على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقالوا : أتحل القتال في الشهر الحرام فأنزل الله عزّ وجلّ : يسألونك ... فبلغنا ان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عقل ابن الحضرمي وحرم الشهر الحرام كما كان يحرمه حتى انزل الله عزّ وجلّ : براءة من الله ورسوله.

وفيه عن عروة في القصة ... فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان وهرب المغيرة فأعجزهم واستاقوا العير فقدموا بها على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال لهم : والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام فأوقف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الأسيرين والعير فلم يأخذ منها شيئا فلما قال لهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما قال سقط في أيديهم وظنوا ان قد هلكوا وعنفهم إخوانهم من المسلمين وقالت قريش حين بلغهم أمره : قد سفل محمد الدم الحرام وأخذ المال وأسر الرجال واستحل الشهر الحرام فأنزل الله في ذلك الآية فلما نزل ذلك أخذ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) العير وفدي الأسيرين فقال المسلمون يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أتطمع ان يكون لنا غزوة فأنزل الله : ان الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله ، وكانوا ثمانية وأميرهم التاسع عبد الله بن جحش.

٢٧٣

الاعتداء بالمثل ولا سيما حالة القتال لا يحمل حمل هذه العتابات فانه حق مشروع.

وأيا كان السائل عن الشهر الحرام قتال فيه ، ف (قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ..) جوابه ، فللمسلم تحذيرا عن القتال المتعمد فيه هجوميا دون دفاع ، والذي حصل ما كان عن امر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولا عن عمد للمقاتلين حيث اخطأوا في الشهر الحرام وهم ماضون في امر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ف (أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

وللمشركين تعريض وتنديد بما فعلوا وافتعلوا في الشهر الحرام صدا عن سبيل الله وكفرا بالله والمسجد الحرام وإخراج أهله أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ، وقد فعلوا كل ذلك فكيف يعترضون على قتلة خاطئة من مسلم ويعربدون في ابواق دعاياتهم ضد رسول الإسلام والمسلمين.

وقد تلمح (قُلْ قِتالٌ فِيهِ) بديلا عن (قِتالٍ فِيهِ) ان الثاني يختلف عن الأول ، وإلّا كان معرفا بما ذكر قبل ، إذا ف (قُلْ قِتالٌ فِيهِ) يعني قتال المشركين ضد المسلمين الذي تصدق فيه هذه المواصفات ، واما (قِتالٍ فِيهِ) سؤالا من المشركين عمن قتله المسلمون خطأ ، فالآية التالية تكفل الجواب عنه : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا .. أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ) فان قتالهم كان في سبيل الله بأمر من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مهما اخطأوا في وقته المصادف لأول يوم من رجب وهم ظانون انه آخر يوم من الربيع الثاني.

فأين قتال من قتال مهما كانا في الشهر الحرام ، والمشركون يستعظمون قتلة من المسلمين خطأ ويخلقون جوا ضد الرسالة الإسلامية أنها تخالف حرمة الشهر الحرام ، وهم أنفسهم يستحلونه كأبشع تحليل بكل إدغال وتدجيل وتضليل.

٢٧٤

وهذه هي الشيمة الشنيعة للكافرين ، تفتيشا عن أية مزرءة صغيرة خاطئة أمّاهيه من المسلمين ، ثم يتجاهلون عما هم فاعلون من الجرائم البشعة المتواصلة المتعمّدة ضدهم دون رعاية لهم إلّا ولا ذمة.

وهكذا انطلقت أبواق الدعاية المشركة ضد هذه الرسالة السامية بشتى الأساليب الماكرة التي راجت في البيئة العربية ، مظهرة رسول الرحمة وأصحابه بمظهر المعتدي الذي يدوس القدسية المشتركة وهي حرمة الشهر الحرام ، فنزلت الآية قاطعة كل قالة غائلة ، فقبض الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الأسيرين والغنيمة قائلا : والله ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام ... لقد كانت قالة المشركين كلمة حق يراد بها الباطل ، وكم لها من نظير يواجهها الإسلام بكل حجة صارمة ، ومنها هنا (قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ..) تعريضا عريضا على المتسائلين من المشركين ، عرضا لدركات سبع من معارضاتهم وعرقلاتهم ضد الإسلام والمسلمين :

١ (قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) بدء فيه بهجمة همجة على أهل الحرم.

٢ (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) سبيل الحج والعمرة وكل تعبد في الحرم الآمن.

٣ (وَكُفْرٌ بِهِ) بالله وبسبيل الله ، لأنه قتال في سبيل الشرك نقمة على المؤمنين بالله.

٤ (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وكفر بالمسجد الحرام الذي يحترمه المشرك والموحد.

٥ (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) من قتل الخطأ الذي حصل من المسلمين ، ومن قتالهم في الشهر الحرام ، حيث القصد من قتالهم ضد اهله إخراجهم عنه بكل إحراج ، تخلية له عن الموحدين ، إخلاء ـ فقط ـ لأنفسهم المشركين.

٢٧٥

٦ (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) فتنة الإحراج الإخراج عن الحرم ، وعن الدين.

٧ (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا ..).

وهم بهذه الدركات السبع الجهنيمة ضد الإسلام والمسلمين في الحرم والشهر الحرام ينتقدون المسلمين أن قتلوا واحدا منهم في سريّة حيث اخطأوا الشهر الحرام ، واين قتال من قتال ، لقد فتنوا المسلمين طوال العهد المكي فتكا بهم وهتكا للحرم والشهر الحرام وصدا عن سبيل الله ، وافتعلوا كل افتعالة وفعلة ضدهم ، فسقطت بذلك حجتهم في التحرز بحرمة البيت الحرام والشهر الحرام ، واتضح موقف المسلمين ـ المشرّف ـ في دفع هؤلاء المتهتكين المعتدين على الحرمات ، الذين يتخذون منها ستارا لفضائحهم حين يريدون ، وينتهكون قداستها حين يريدون ، وكان على المسلمين أن يقاتلوهم مهما ثقفوا لأنهم باغون معتدون ، لا يرقبون في مؤمن إلّا ولا ذمة ، ولا يتحرجون أمام قداسة ، ولكنهم امة مرحومة رحيمة.

اجل ـ لقد كانت منهم قالة غيلة قالة ـ كلمة حق يراد بها الباطل فكسحتها الآية المجيبة ، ومسحت عن جبين المسلمين غبار التهمة الوقحة ، وأزالت ستارهم ـ أولاء الأنكاد ـ الذي كانوا به متسترين ، حيث كانوا يحتمون خلفه لتشويه موقف الجماعة المسلمة وإظهارها بمظهر المعتدي وهم المعتدى عليهم! رغم أنهم هم المعتدون على طول الخط الإسلامي السامي (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا ..)!

وفي رجعة اخرى حول دركاتهم السبع مسائل عدة :

١ هل ان حرمة القتال في الشهر الحرام منسوخة ب (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) كما قيل؟ وليس هذا إلّا قيل الكليل ، حيث الآية نفسها

٢٧٦

تطارده : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٩ : ٥)! ، ثم القتال فيه دفاعا واعتداء بالمثل هي قضية الدفاع عن حرمات إسلامية متفوقة على حرمة الحرم والمسجد الحرام ، وقضية آيات الدفاع والاعتداء بالمثل.

٢ ما هو الرجحان هنا في بدل الاشتمال ، حيث الشهر الحرام يشمل زمنا على قتال فيه ، دون «يسألونك عن القتال ـ او ـ قتال في الشهر الحرام»؟

علّه تقديم الكل لتنجيز الجزء ، فالشهر الحرام محرم في أمور عدة ومنها (قِتالٍ فِيهِ) فشاكلة السؤال هذه مما يضخم أمر (قِتالٍ فِيهِ) ويكبره أكثر من إفراده بالذكر.

٣ (قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ..) وقد قدمنا وجه التنكير فيه كما الأول ، وأن «كبير وصد وكفر وفتنة» انما هو في قتال المشركين فيه ضد المسلمين ، دون قتال خاطئ من بعض المسلمين واحدا من للمشركين.

٤ وذلك «كبير» كعصيان لمسلم ، وكبير ككفر لكافر ، فانه تهتك للشهر الحرام ، المحرم بين الفريقين.

٥ (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) حيث الشهر الحرام هو زمن الحج والعمرة ، فرجب لعمرة فضلي ، وشوال وذو القعدة وذو الحجة بعمرة التمتع ، وهما من سبل الله الهامة كما بينت في آيات الحج.

٦ (وَكُفْرٌ بِهِ) كفر بالله صدا عن سبيل الله عنادا لأهل الله ، وذلك خاص بالمشركين بالله ، دون قتال المسلمين ذودا عن حرمات الله مهما اخطأوا أحيانا حيث يخطئون الشهر الحرام ، ثم كفر بسبيل الله وهو الرسول ، وهو الحج ، وهو كل ما يصدّ عن القتال في الشهر الحرام.

٢٧٧

٧ (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وكفر بالمسجد الحرام ، نكرانا لحرمته كما الشهر الحرام ، وحذف الجار هنا في العطف دليل السماح فيه فلا يصغى الى قالة اهل الأدب من عدم السماح فيه فانه خلاف الأدب حيث يناحر ادب القرآن والأدب مع منزل القرآن ومنزله.

٨ (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) وتراه مم هو اكبر؟ علّه يعني اكبر من قتال المسلم فيه خطأ في الشهر الحرام ، ام ومن قتال المشركين ضدهم حيث يعني إخراج اهله منه ، لأنه إخراج للموحدين الآهلين للمقام عنده إحياء لشعائر الله فيه ، ففي إحراجهم بالقتال فإخراجهم إخراج لشعائر التوحيد في مثابة الموحدين ، وذلك اكبر من قتالهم فيه لأنه فتنة.

٩ (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) لأنها قتل للأرواح المؤمنة ارتدادا عن الإيمان ، وهو اكبر وأشد من قتل الأجساد ، فكل فتنة عقائدية ام سياسية او اقتصادية او حربية تعني إحراج المسلمين فإخراجهم عن الدين ، إنها ـ ككل ـ اكبر من القتل.

١٠ (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ ..) مقاتلة متواصلة تهدف ارتدادكم عن دينكم ، وهذه هي الفتنة الكبرى التي تفوق كل كبيرة ، وهذه العاشرة من خلفيات قتال فيه هي اكبر من أصل القتال وفصله.

ذلك هو الكفر الماقت بهدفه الشرير البائت ، يتربص دوما بالمؤمنين كل دوائر السوء بغية ارتدادهم عن دينهم حسب المستطاع.

وذلك هو الخطر الهاجم على الكتلة المؤمنة على طول الخط ، بكل أحابيله وأباطيله : فتنة المؤمنين عن دينهم بوصفها الهدف الثابت البائت لهؤلاء الأنكاد ، هدف لا يتغير كأصل لأعداء الجماعة المسلمة مهما اختلف ألوانه ووسائله ، في حرب شعواء عشواء ، علمية ـ عقائدية ـ أخلاقية ـ سياسية ـ اقتصادية أماهيه.

٢٧٨

ولأن إسلام يخالف أهواءهم الجهنمية الماردة ، فوجوده الحق في الأرض هو في الحق بذاته غيظ غليظ يرعب أعداءه ، فلقوته ومتانته يخشونه ، فهو وذاته حرب بما فيه من حق أبلج ومن نظام سليم ومنهج قويم ، وهو بكل جوانبه حرب على الباطل وأصحابه ، فلذلك هم يرصدون لأهله كل المراصد ويتربصون بهم كل دوائر السوء ، فمهما تنوعت وسائل قتالهم ضدهم فالهدف يظل ثابتا مجمعا عليه فيما بينهم.

كلما انكسر في أيديهم سلاح انتضوا سلاحا آخر ، وكلما سقط في أيديهم من ناحية هاجموهم من أخرى ، والخبر الصادق من العليم الخبير ، الناقد البصير ، قائم صارخ في هذه الاذاعة القرآنية ، يحذر الجماعة المسلمة من الاستسلام أمام مكائدهم ، داعيا الى الصبر والدفاع المتواصل ، وإلّا فخسارة الدنيا والآخرة.

(... وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)

الارتداد قد يكون بعد تبين الهدى فأنحسه : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ. فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ. ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) (٤٧ : ٢٥ ـ ٢٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٥ : ٥٤)

في آيتنا يناط حبط اعمال المرتد وخلوده في النار بموته وهو كافر ، واما إذا تاب ورجع الى الحق فلا ، وفي الثانية يناط الحبوط بالارتداد بعد تبين الهدى دون

٢٧٩

ذكر للخلود وفي الثالثة انه لا يحبهم الله فهو ببعضهم فهل ان شرط الحبوط والخلود في النار هو الارتداد على بينة والموت كافرا أما ذا؟ آيتنا علها آكد من الثانية في شريطة التبين فان جو الارتداد فيه هو جو الضغط بمختلف الفتن ومنها القتال فهنا حبط الأعمال وخلود النار حين «يمت (وَهُوَ كافِرٌ) فأما إذا رجع فلا ، سواء أكان المرتد فطريا او مليا.

واما الذين ارتدوا على ادبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى ، لا لشيء إلّا ان (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) طوعا للذين كرهوا ما أنزل الله ، فليس حبوط اعمالهم ومن جرّاءه خلودهم في النار ، ليس مشروطا بالموت حال الكفر ، سواء أكان المرتد فطريا او مليّا.

فقد يناط شرط الموت وهو كافر للحبوط والخلود بالارتداد تحت ضغوط الفتن ، وأمّا الارتداد دون ضغوط فهو مهدد بالحبوط والنار على اية حال ، إلّا إذا آمن ايمانا صادقا.

ومن الفارق بينهما ان الثاني ارتداد مضل مخل بإيمان البسطاء ، وليس كذلك الأول إلّا إذا مات كافرا.

واما الارتداد عن إيمان غير ركيز ، وهو الإيمان التقليدي الذي ليس على بينة وتبين من الهدى ، فقد لا يسمى ارتدادا إلّا عن ظاهر الإقرار باللسان ام والتسليم بالأركان ولما يدخل الإيمان في قلبه ، فقد لا يكون هنا حبط وخلود في النار ان كان قاصرا في ترك الإيمان لا يهتدي الى الحق سبيلا ، فضلا عن ان يرجع مؤمنا صالحا بعد ارتداده عن الإسلام ، وقد يهديه الله إن كان شكه بطبيعة حاله دون تشكك وعناد ، ثم لا يهدى الكافر المقصر ، والمرتد عن إيمانه عامدا ، إلّا إذا تاب وأصلح :

(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ

٢٨٠