الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٢

الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٣ : ٨٦ ـ ٩١.

فمن ازداد كفرا بعد ارتداده عن الإيمان لن تقبل توبته وان تاب ، كمن ارتد ، ومات كافرا ، إلّا إذا كان إيمانا صادقا لا نفاقا ولا استهزاء ، واما المرتد عن الإيمان ـ أيا كان ـ فطريا أم سواه ، فقد تقبل توبته إن تاب ولم يزدد كفرا.

فليس الكفر بعد إسلام دون إيمان مهددا هنا وهناك ، انما هو الارتداد عن ايمان بعد البينات ، ثم تقبل توبة من لم يزدد كفرا أيّا كان ، ام وان ازداد إذا تم إيمانه بعده.

فإنما الارتداد المهدّد هو الكفر بعد الإيمان ، ضغطا أم عن هوى ، فإنه الافتراء الكذب على الله عمليّا كأن لم يكن الإيمان صالحا فارتد عنه إلى سواه ، وأما الارتداد عن الإسلام ولمّا يؤمن إذ لم تأته بينات صدقه فلا يهدّد هكذا بل ليس ارتدادا عن إيمان ، كما الكفر بعد الإيمان كرها وقلبه مطمئن بالإيمان : (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ. مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (١٦ : ١٠٥ ـ ١٠٧.

فكلما كانت بيّنات صدق الإيمان وقوته ومظاهره أكثر ، فالارتداد عنه أخطر مهما كان دركات ، بين من يرتد عن هوى دون ضغوط ، أو يرتد بضغوط

٢٨١

دون إكراه ، وأما الإيمان دون بينات ، أو الإسلام دون إيمان ولما تبينت له البينات ، فلا رصيد لهما في نفي ولا إثبات ، اللهم إلّا ظاهرة أحكام الإسلام ما هو مسلم ، ثم سلبها إذا رجع إلى ما كان ، دون حبوط لأعماله ولا خلود في النار ، فإنهما يختصان بالارتداد عن الإيمان ببينة كما هو ظاهر القرآن.

ترى إذا رجع المرتد الى إسلامه فهل يقبل منه على أية حال؟ قد يقال : لا إلّا إذا كان مليّا ، ولكن ظاهر الإطلاق من (فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ) أنه يقبل منه مطلقا (١) لا سيما نظرا الى آيات آل عمران.

وقد لا يمانع وجوب قتل المرتد فطريا دون استتابة او قبول توبة (٢) قبول توبته عند الله ، حيث القتل لا يدل على كفره بعد توبته كما قبلها ، وانما هو جزاء ارتداد عن فطرة كما يجازى كل محكوم بالقتل لا لكفره ، ولكن «الله (غَفُورٌ

__________________

(١) في الوسائل الباب ٩ من أبواب المرتد الحديث (٩) خبر الفضل بن يسار : ان رجلين من المسلمين كانا بالكوفة فأتى رجل أمير المؤمنين (عليه السلام) فشهد انه رآهما يصليان لصنم ، فقال : ويحك لعله بعض من يشتبه عليه أمره ، فأرسل رجلا فنظر إليهما وهما يصليان لصنم فأتى بهما فقال لهما : ارجعا فأبيا فخد لهما في الأرض خدا فأجج نارا وطرحهما فيه.

(٢) ففي موثق الساباطي كل مسلم بين مسلمين ارتد عن الإسلام وجحد محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) نبوته وكذبه فان دمه مباح لكل من سمع ذلك منه وامرأته بائنة منه يوم ارتد فلا تقربه ويقسم ماله على ورثته وتعتد امرأته عدة المتوفى عنها زوجها وعلى الامام ان يقتله ولا يستتيبه. وفي صحيح الحسين بن سعيد قال : قرأت بخط رجل الى أبي الحسن (عليه السلام) رجل ولد على الإسلام ثم كفر وأشرك وخرج عن الإسلام هل يستتاب او يقتل ولا يستتاب؟ فكتب (عليه السلام) يقتل. وفي مرفوع عثمان بن عيسى كتب عامل امير المؤمنين (عليه السلام) اليه اني أصبت قوما من المسلمين زنادقة وقوما من النصارى زنادقة فكتب أما ما كان من المسلمين ولد على الفطرت ثم تزندق فاضرب عنقه ولا تستتبه ، ومن لم يولد على الفطرت فاستتبه فان تاب وإلا فاضرب عنقه واما النصارى فما هم عليه أعظم من الزندقة(الوسائل أبواب الحدود على الترتيب ١ : ٣ و ٦ ـ ٥ : ٥).

٢٨٢

رَحِيمٌ) بالنسبة للذين كفروا بعد إيمانهم ، قد تشمل الغفر عن القتل ، ثم هو يختص بمن ارتد عن إيمان بعد بينات صدقه ، دون الإسلام فقط ، او الإيمان التقليدي دون بينات ، بل قد يختص عدم قبول التوبة بمن يعلم ألّا واقع لتوبته بل هي استهزاء بالإيمان وقبيله كما تدل عليه (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) بعد الإيمان مرة او مرات كما في آيتي آل عمران والنساء.

وأما المشتبه في ارتداده ، او المضغوط عليه او المستغفل أمن هو من غير عناد واستهزاء في ارتداده فقد تقبل توبته ، وآية النساء تتلو آية النفاق مما يدل على أن توبته وإيمانه كان نفاقا دون وفاق ، وقد قبل الله إيمان قوم يونس عند رؤية البأس إذ كان واقع الإيمان : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ. فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (١٠ : ٩٨) ، وعدم قبول الإيمان عند رؤية البأس ليس إلّا لعدم واقعه نوعيا : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) (٤٠ : ٨٥).

وحدّة الحد في المرتد عن فطرة هي حياطة على إيمان البسطاء وسلامة جو الإيمان ذودا عن الزعزعة ، وابتعادا لمن يهوى الارتداد عنه ، وذلك لا يمانع قبول توبته إذا تاب ، اللهم إلّا أن تكون توبة عند رؤية البأس ، إلّا أن تكون توبة نصوحا على بأسه كقوم يونس ، فمجال التوبة واسع وبابها مفتوح على طول خط الحياة ان كانت توبة.

فمغفرة الله ورحمته الطليقة تشمل كل من آمن ومات مؤمنا ، اللهم إلّا من ازداد كفرا بعد ارتداده عن الإيمان ف (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ

٢٨٣

الضَّالُّونَ) لقبيل الإيمان ولا سيما الضعفاء ، وأنحس من هؤلاء (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً. بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٤ : ١٢٧ ـ ١٢٨).

فازدياد الكفر بعد الكفر بعد الإيمان يزيل مجال المغفرة ، فضلا عن تكرره كما هنا ، واما الكفر بعد الإيمان دون ازدياد ، بل التوبة ، فمجال التوبة أمامه مفتوح سواء في الفطري ام الملي.

فالقلب الذي يذوق الإيمان عن معرفة وبينة ، ليس ليرتد عنه إلّا تقية ظاهرة ، اللهم إلّا إذا فسد أو كان منافقا في دعوى الإيمان ، وليس لمؤمن عذر في أن يخنع للعذاب والفتنة فيترك إيمانه ويرتد عنه إلى كفر.

فكل مرتد عن الإيمان مهدّد بالعذاب إلّا إذا تاب قبل موته ، مهما كان إيمانه قبل واقع التوبة نفاقا ، وارتداده شقاقا ، ولكنه إذا باء الى الحق وتاب حقا لا حول عنه ثم مات فان الله يتوب عليه كما وعد لكل التائبين.

كلام حول حبط الأعمال :

الحبط لغويا هو السقوط مع المحو ، وأصله أن تأكل الماشية فتكثر حتى تنتفخ فتهلك وكما يروى : «إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا او يلم» فهو كالحطّ والحتّ في معنى السقوط المطلق بعد بلوغ مّا بعقيده او عمل.

والإحباط أن يذهب ماء الركيّة فلا يعود كما كان ، فالعمل يحبط بأن يذهب هباء عما يرام منه كأن لم يكن : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (٢٥ : ٢٣).

ولم ينسب الحبط والإحباط في القرآن إلّا إلى عمل ، مطلقا ام في الدنيا

٢٨٤

والآخرة ، والمحور هو الآخرة (١) ، وقد يذكر في آيات الحبط عوامل له عدة كعدم الإيمان : (أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) (٣٣ : ١٩) والكفر بالإيمان مطلقا ، قبل الإيمان وبعده : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) (٥ : ٥) ومن أبرزه الإشراك بالله : (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٦ : ٨٨) ومن أنحسه إرادة الدنيا وزينتها كأصل في الحياة : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١١ : ١٥ ـ ١٦) والتكذيب بآيات الله ولقاء الآخرة : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٧ : ١٤٧) والاستمتاع بخلاق الكافرين والخوض في آيات الله : (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ. كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٩ : ٦٨ ـ ٦٩) والارتداد عن دين الله كما في آيتنا ، وكراهة ما أنزل الله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) (٤٧ : ٩) واتباع ما أسخط الله وكراهة رضوانه : (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) (٤٧ : ٢٨).

ذلك ـ كله كفر ـ إضافة الى إساءة الأدب مع النبي (صلّى الله عليه وآله

__________________

(١) ك (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) (٥ : ٥) (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٦ : ٨٨) (وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١١ : ١٦) (أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) (٣ : ٢٢)) حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) (٥ : ٥٣).

٢٨٥

وسلّم) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ. إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٤٩ : ٢ ـ ٥) وتلك عشرة كاملة تحوم كلها حوم الكفر إلّا الأخيرة.

هذه هي موارد حبط الأعمال ، ويختلف حسب أقدارها مقادير الحبط ، فليس حبط الأعمال للمؤمن الذي لا يعقل فيجهر للرسول بالقول ، كالحبط لأعمال المكذبين بآيات الله.

وترى الحبط يتعلق بنفس العمل؟ وهو نفسه زائل بعد حصوله! أم بصورة العمل؟ وصورتها باقية ليوم يقوم الأشهاد! إنّما يتعلق بأثر العمل المقصود منه إسعاد الحياة في الدنيا والآخرة أم فيهما أم وتمحى صورته كسيرته ، فمثله مثل الماشية التي تأكل فتنتفخ حتى تتفسخ ، حيث القصد من الأكل هو بقاء الحياة ونضارتها ، وقد انعكس أمره إلى إبطال الحياة وخسارتها ، وهكذا يكون دور الأعمال للذين كفروا وكذبوا بآيات الله أمّن هو من الحابطة اعمالهم ، انعكاسا لأمر إسعادها للحيوة إلى إشقاءها وإفناءها.

فالذين ينادون الرسول من وراء الحجرات او يرفعون أصواتهم فوق صوت النبي تحبط ـ لأقل تقدير ـ نداءهم إياه ، زوالا لأثره الصالح إلى اثر طالح لمكان إساءة الأدب بساحة النبوة السامية.

ومن حبط الأعمال في الدنيا والآخرة ضنك المعيشة فيهما والعمى في الآخرة : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى ..) (٢٠ : ١٢٧).

٢٨٦

ومنها الحياة الخبيثة فيهما وللمؤمنين طيبتها : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢٧ : ٩٧) ـ (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) (٦ : ١٢٢). و (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) (٤٧ : ١١).

وليس يختص الحبط بالأعمال العبادية والصالحة ، إلّا بالنسبة للذين ارتدوا عن إيمانهم ، واما الذين كفروا ولم يؤمنوا قط فلا اعمال لهم صالحة ولا عبادات قربية حتى تحبط ، فإنما تحبط كل أعمالهم عن آثارها المطلوبة لطمأنة الحياة ، ف (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها) فإنهم ليس لهم صنع إلّا للدنيا ، دون مرضات الله ، فالحبط عليهم يختص بما عملوا من سيئات إذ لم تكن لهم صالحات ، وان كانت لهم صالحات وفّيت إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا ينجسون. (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١١ : ١٦) ، واما الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم ارتدوا على ادبارهم وانقلبوا خاسرين ، فأولئك حبطت كل اعمالهم صالحة وطالحة ، في الدنيا ككل ، وفي الآخرة صالحاتهم.

فالأعمال السيئة للحابطة أعمالهم حابطة يوم الدنيا إذ لا تنتج راحة الحياة كما يرام ، وهي ثابتة في الأخرى جزاء وفاقا ، ثم الصالحات حابطة في الدنيا والآخرة دون إبقاء.

وخير تفسير لحبط الأعمال للذين كفروا هو آيته ، الموفية لاعمالهم في الدنيا (وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها) فحسناتهم ـ وهي النسبية امام سيئاتهم ـ موفّاة في الدنيا وحابطة في الآخرة ، فسيأتهم هي الخالصة في الأخرى دون انضمام الى حسنات ف (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ).

٢٨٧

إذا فحبط الأعمال في الدنيا والآخرة يعني خبطها فيهما ، ابتعادا عن حسنات الآثار المطلوبة الى سيئات ، واين هؤلاء من المؤمنين الذين يعملون الصالحات حيث تبدّل سيئاتهم حسنات! وترى الحبط معلق على عدم التوبة قبل الموت؟ ام هو قبل التوبة ثم ترجع الأعمال الحابطة ثابتة؟ ام لا رجوع لما أحبطت من أعمال ، وانما تحسب الأعمال الآتية بعد التوبة دون السالفة الحابطة؟ (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ..) (٨ : ٣٨) دليل رجوع آثار الأعمال الحابطة فإنه قضية الغفر عما سلف ، إذا فحبط الآثار لصالحات الأعمال وخبط الطالحات معلق على الموت كفرا ، فان مات تائبا مؤمنا حبطت سيئاته ورجعت كل حسناته لكرامة الإيمان ، وذلك تشويق رفيق للجذب الى الإيمان اياكا وأيّان.

وهل إن الأعمال حسنة وسيئة تتحابط ، ان تحبط كلّ حسنة لاحقة السيئة السابقة ، وكل سيئة لاحقة الحسنة اللاحقة ، فيصبح الإنسان عند موته إما صاحب سيئات فحسب ام صاحب حسنات فحسب كما قيل؟.

إنما الإحباط يختص بسيئة الكفر حيث تحبط كل الحسنات السابقة عليه إلّا إذا تاب حقا كما نراه في آيات الإحباط ، وآيات اخرى تصرح ببقاء حسنات مع سيئات :

(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٩ : ١٠٢) سواء أكانت الحسنات هي المتقدمة او السيئات ام متقارنة مع بعض.

ثم من الحسنات ما تكفر سيئات (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (١١ : ١١٤) ومنها الإيمان والتقى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) (٩ : ٢٩) ومنها اجتناب كبائر السيئات : (إِنْ

٢٨٨

تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (٤ : ٣٠) ومنها التوبة والشفاعة كل بشروطها ، بل وقد تبدل سيئاتهم حسنات : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) (٢٥ : ٧٠) وإلى سائر الخصوصيات في إحباط حسنات وسيئات ، التي نجد بطيّات سائر الآيات.

وبالنتيجة لا تحابط بين الأعمال ككل ، وإنما ذلك تكفير حسب المسرود في القرآن ، والإنسان يلحقه الثواب والعقاب استحقاقا بمصدرهما ، معلقا على حالة الموت ، فان مات صالحا فصالح لما يستحقه ، وان مات طالحا فعليه ما عليه ، وحبط الأعمال بكفر وما أشبه يتحقق عند صدوره ويتحتم عند الموت على حالته الموجبة له ، ولا يختص الحبط بالصالحات بل والطالحات ايضا ، ولا بالأخروية فقط ، بل وبالدنيوية ايضا كما فصلناه من ذي قبل.

ثم الحبط دركات حسب دركات أسبابه ، فمن السيئات ما تحبط الأعمال في الدنيا والآخرة كالارتداد والتكذيب بآيات الله والخوض فيها عنادا ، كما من الحسنات ما تكفر سيئات كالإيمان والصلاة : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (١١ : ١١٥) والتوبة ، ومن المعاصي ما تحبط حسنات كالمشاقة مع الرسول وترك طاعته : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) (٤٧ : ٣٣). ومنها رفع الصوت فوق صوت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

ومنها ما ينقل حسنات من صاحبها الى غيره كالقاتل ظلما : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) (٥ : ٣٤) كما منها ما ينقل مثل سيئات الغير اليه لا عينها :

٢٨٩

(لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) (١٦ : ٢٥) وهكذا ..

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (٢١٩).

«يسألونك» دون «سألوك» طليقة بالنسبة لكل سؤال في مثلث الزمان عن الخمر والميسر ، أيّا كانت الخمر وأيّا كان الميسر وفي اي زمان ، دون اختصاص بالمعروف المتداول منها زمن نزول القرآن.

ثم «عن الخمر» لا تخص السؤال عن شربها ، بل هو طليق بالنسبة لكل ما يحول حول الخمر ، من غرس وحرس وعصر وشرب وسقي وحمل وبيع وشراء وأكل ثمن كما في حديث الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (١) مهما كان المحور في هذه العشرة الشرب ، كما ان دركات الإثم الكبير تختلف حسب هذه الدركات.

«الخمر» ـ وهي كل مسكر (٢) دون اختصاص بقسم خاص ولا اصل ـ

__________________

(١) في الكافي عن جابر عن أبي جعفر (عليهما السّلام) قال : لعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الخمر عشرة : غارسها وحارسها وعاصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة اليه وبايعها ومشتريها وآكل ثمنها.

(٢) في الدر المنثور ٢ : ٣١٨ ـ اخرج احمد وابن مردويه عن عبد الله بن عمر وابن عباس ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ان الله حرم الخمر والميسر والكوبة والغبيراء وكل مسكر حرام ، وفيه اخرج ابن أبي شيبة وابو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والنحاس في ناسخه والحاكم وصححه وتعقبه الذهبي عن النعمان بن بشير قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ان من الحنطة خمرا ومن الشعير خمرا ومن الزبيب خمرا ومن التمر خمرا ومن العسل خمرا وإنا أنهاكم عن كل مسكر.

٢٩٠

متخذة منه ـ خاص ، فانها جنس ما يخمر أيا كان أصله ونسله ، وهي من أصول المحرمات في كافة الشرائع الإلهية دونما استثناء ، يردد شديد النكير والتنديد بهما في آيات الله البينات في العهدين وفي القرآن العظيم.

ولكنها على إثمها الكبير ـ كما الشرك في إثمه العظيم : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) (٤ : ٤٧) ـ إنها لم تكن تبيّن حرمتها كما هي بأبعادها الكثيرة في بزوغ الإسلام ، مهما بزغ ببيان واجب التوحيد ومحرم الشرك أمّاذا من محرمات وواجبات أصلية وبعضها أقل ضررا وأدنى خطرا من الخمر ، قضية السياسة الحيادية الحكيمة في بلاغ الأحكام.

ولقد انتهج البلاغ الإسلامي في بيان الأحكام سياسة الخطوة خطوة في بعض الأحكام ، كالزنا والربا وشرب الخمر وما أشبه من منكرات متعودة متعرقة بين الجماهير ، في حين يمضي منذ اللحظة الأولى بيانه الوضاء في مسألة التوحيد والشرك في ضربة حازمة جازمة لا تردد فيها ولا تلفّت ولا مجاملة ومساومة وتدرج ، ولا لقاء في منتصف الطريق ، لأنها مسألة القاعدة والأساس لأثافي الإسلام.

فأما في مثل الخمر والميسر فقد كان الأمر فيه أمر عادة وإلف ، والعادة تحتاج إلى علاج ، والإسراع القفزة في علاجه خلاف الحكمة في الدعوة الصالحة.

لذلك نرى الخطوة في تحريم الخمر بارزة بطيات آيات تحريم الإثم ال (٤٨) بين مكيات ومدنيات ، تهيئة لجو التحريم لكل إثم خمرا وسواها.

__________________

ـ وفي نور الثقلين ١ : ٢١٠ عن عامر بن السمط عن علي بن الحسين (عليهما السّلام) قال : الخمر من ستة أشياء التمر والزبيب والحنطة والشعير والعسل والذرة ، أقول : هذه هي المصادر المعروفة المتداولة للخمر فلا تنفي المصادر الاخرى حيث الخمر محرمة على اية حال.

٢٩١

ونرى (١١) آية بين ال (٤٨) مكية والباقية مدنية ، محرّمة لها نصا أحيانا ونهيا اما شابه أخرى ، ومن الاول : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (٧ : ٣٣) وهي من مكيات الإثم.

ثم الإثم ـ وهو كل يبطئ عن الثواب والخير ـ دركات بين كبيرة وعظيمة وما دونهما ، فكبائر الإثم ـ إذا ـ هي من كبائر المحرمات كما في مكية أخرى : (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) (٤٢ : ٢٧).

ثم كما نرى الإشراك بالله إثما عظيما (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) (٤ : ٤٨) كذلك نرى الخمر والميسر فيهما إثم كبير ، مهما اختلف كبير عن عظيم ، ولكنهما قرينان ، مما يدل على بعد الحرمة في الخمر.

فلأن الخمر إثم دون ريب إذ تخمر العقل والصحة البدنية ، الواجب التكشف لسلامة الإنسان في جزئيه ، وتبطئ عن خيرات العقلية الإنسانية والإسلامية ككلّ ، بل هي «امالخبائث» (١) والآثام ، و «مفتاح كل شر» (٢) فهي ـ إذا ـ من رؤوس المحرمات المكية بصورة عامة وكما يروى عن

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٣٢٢ ـ اخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن عثمان سمعت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول : اجتنبوا ام الخبائث فانه كان رجل فيمن قبلكم يتعبد ويعتزل النساء فعلقته امرأة غاوية فأرسلت إليه خادمها فقالت انا ندعوك لشهادة فدخل فطفقت كلما دخل عليها الباب أغلقته دونه حتى أفضى إلى امرأة وضيئة جالسة وعندها غلام وباطية فيها خمر فقالت : أنا لم أعدك لشهادة ولكن دعوتك لتقتل هذا الغلام أو تقع علي أو تشرب كأسا من هذا الخمر فان أبيت صحت وفضحتك فلما رأى أنه لا بد من ذلك قال اسقيني كأسا من هذا الخمر فسقته كأسا من الخمر ثم قال زيديني فلم يرم حتى وقع عليها وقتل النفس فاجتنبوا الخمر فانه والله لا يجتمع الايمان وإدمان الخمر في صدر رجل أبدا.

(٢) المصدر اخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عباس قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله ـ

٢٩٢

النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (١) وقد صرحت مكية بأنها رزق سيئ : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (١٦ : ٦٧).

فمن هذا الذي يعقل ثم لا يعقل أن الخمر مما يجعله لا يعقل ، وهي من أعدى أعادي العقل إنسانيا وإسلاميا ، وانها تعادى العقل ومهبطه وهو شرعة الوحي للعقلاء ، فلتكن من أوليات المحرمات في الإسلام ومن اولياتها.

إلى هنا الخمر والسكر اثم كبير ورزق سيّئ ضد العقل صراحا من القرآن المكي والمدني ، ثم ليضيق المجال على متعودي الخمر بين المسلمين ، يمنعون في مدنية أخرى عن الصلاة وهم سكارى ، ومهما كانت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) (٤ : ٤٣) نازلة قبل آية البقرة ام بعدها ، فان لها دورا عظيما في الحظر عن الخمر حيث تقرر من إثمها الكبير منعها عن الصلاة وهي خير موضوع وهي عمود الدين ، فضلا عن الخيرات الأخرى التي تبطئ عنها الخمر ، بل وتصد عنها إلى كبائر الشرور والسيئات ، ولأنها مفتاح كل شر وأم الخبائث.

فآية النساء هذه خطوة ثالثة ام رابعة من الخطى الموفقة في تحريم الخمر ، فالصلاة في أوقاتها الخمسة متقاربة بعضها مع بعض ، لا يكفي ما بينها لإفاقة

__________________

ـ وسلّم) : اجتنبوا الخمر فانها مفتاح كل شر.

وفي الوسائل ١٧ : ٢٥١ عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : الشراب مفتاح كل شر ومدمن الخمر كعابد وثن وان الخمر رأس كل إثم وشاربها مكذب بكتاب الله لو صدّق كتاب الله حرّم حرامه!.

(١) الوسائل ١٧ : ٢٤٣ ـ ٢٠ في الآمال بسند متصل عن محمد بن مسلم قال : سئل ابو عبد الله (عليه السّلام) عن الخمر فقال : قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : إن اوّل ما نهاني عنه ربي جل جلاله عن عبادة الأوثان وشرب الخمر وملاحاة الرجال ...

٢٩٣

بعد سكر ، وذلك تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشرب ، وكسر لعادة الأمان المتعلقة بمواعيد التعاطي ، فإما مواصلة للشرب فلا صلاة ، أم صلاة ولا شرب ، حيث الصلاة حالة السكر محرمة قد تربوا محظورها على ترك الصلاة ، إذ قد يقول السكران في الصلاة ما يقطع كل صلات العبودية كما حصل من بعضهم فنزلت آية النساء ، لذلك فشرب الخمر شر من ترك الصلاة «لأنه يصير في حال لا يعرف معها ربه» (١).

وترى هذه الآيات مكيات ومدنيات ، التي تقول عن الخمر انها اثم كبير تمنع عن كبير العبادات ، أليست هي بيانات شافية في تحريم الخمر ، إذ ما كفت الخليفة عمر وما شفته عن تعوّد الخمر حتى نزلت آية المائدة إلى (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) فقال : انتهينا انتهينا(٢)؟!.

__________________

(١) الوسائل ٢٥٠ ـ ٢ عن إسماعيل بن يسار عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : سأله رجل فقال : أصلحك الله أشرب الخمر شر ام ترك الصلاة؟ فقال : شرب الخمر ، ثم قال : وتدري لم ذاك؟ قالا : لا ، قال : لأنه يصير في حال لا يعرف معها ربه.

(٢) الدر المنثور ١ : ٢٥٢ ـ أخرج ابن أبي شيبة وأحمد في المسند ١ : ٥٣ وعبد بن حميد وابو داود في سننه ٢ : ١٢٨ والترمذي وصححه والنسائي في السنن ٨ : ٢٨٧ وابو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وابو الشيخ وابن مردويه والحاكم في المستدرك ٢ : ٢٧٨ و ٤ : ١٤٣ وصححه والبيهقي في سننه ٨ : ٢٨٥ والضياء المقدسي في المختارة عن عمر انه قال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فانها تذهب المال والعقل فنزلت : يسألونك عن الخمر والميسر في سورة البقرة فدعي عمر فقرءت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في سورة النساء : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) فكان منادي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذا أقام الصلاة نادى ان لا يقربن الصلاة سكران فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في المائدة فدعي عمر فقرءت عليه فلما بلغ (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) قال عمر : «انتهينا انتهينا» أقول : وأخرجه الطبري في تاريخه ٧ : ٢٢ والجصاص في احكام القرآن ٣ : ٢٤٥ وأقره الذهبي في تلخيصه والقرطبي في ـ

٢٩٤

فهل ان بيان الله في الأربع الاولى من الخمس غير شاف؟ والقرآن بيان للناس! أم إن هيمان الخليفة على الشرب صده عن شفاءه بذلك البيان الشاف! ام هو في نفسه قاصر الفهم لحدّ ليس ليفهم بيان الله الشافي الوافي فيتطلب بعد بيانا شافيا؟ أنا لا ادري ، والخليفة ومناصروه أدرى! أدرى بمدى خمر عقله ولبه عن معرفة الحق المرام في آيات الله ، لحد يعتبر بيانه غير شاف!.

وترى كيف لا ينتهي الخليفة عن الشرب طول العهدين رغم آياتهما المحرمة للخمر ، حتى السنة الأخيرة من العهد المدني حين تنزل آية المائدة فتقرأ عليه؟ وهل كان الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ساكتا عنه ، وتاركا للحدّ عليه ، ام لم يؤمر بعد بالحد وقد ختمت مدته وانتهت دعوته؟ كلا! إنه أدبه وضربه (١) ، ولقد نهى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على غرار نهي

__________________

ـ تفسيره ٥ : ٢٠٠ وابن كثير في تفسيره ١ : ٢٥٥ و ٢ : ٩٢ نقلا عن احمد وأبي داود والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه وعلي بن المديني في اسناد صالح صحيح وفي تيسير الوصول ١ : ١٢٤ وتفسير الخازن ١ : ٥١٢ وتفسير الرازي ٣ : ٤٥٨ وفتح الباري ٨ : ٢٢٥ والالوسي في روح المعاني ٧ : ١٥.

وقد يتحسر الخليفة حين نزلت آية المائدة قائلا : «ضيعة لك اليوم قرنت بالميسر» ويكأنها ما قرنت بالميسر في آية البقرة النازلة قبل المائدة طول الهجرة ، كما يتحسر أخرى قائلا : «أقرنت بالميسر والأنصاب والأزلام بعدا لك وسحقا» وقد قرنت بالميسر في البقرة! (المصدر ٢ : ٢١٥).

(١) في لفظ الزمخشري في ربيع الأبرار وشهاب الدين الابشيهي في المستطرف ٢ : ٢٩١ شرب عمر الخمر قبل الآية الاخيرة فأخذ بلحى بعير وشج به رأس عبد الرحمن بن عوف ثم قعد ينوح على قتلى بدر فبلغ ذلك رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فخرج مغضبا يجر ردائه فرفع شيئا كان في يده فضربه به فقال عمر : أعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله فانزل الله : انما يريد الشيطان الاية فقال عمر : انتهينا انتهينا.

أقول : وبعد قولة الانتهاء لم يكن لينتهي عن شرب النبيذ الشديد وكان يقول : انا نشرب هذا الشراب الشديد لنقطع به لحوم الإبل في بطوننا ان تؤذينا فمن رابه من شرابه شيء فليمزجه بالماء

٢٩٥

الله قائلا : ان ربكم يقدم في تحريم الخمر ...

ثم وكيف يمكن لشرعة إلهية هي خاتمة الشرائع وقائمتها ان تترك النهي الصراح عن أخطر ما يناحرها مبدئيا وهو الخمر ، وجنونها تمنع عن واقع التكليف بالشرعة ، ويهدم أحكام الشرعة وحرماتها.

ذلك وقد يحلّق إثم الخمر ـ الكبير ـ على إثم الشرك العظيم حيث يقول

__________________

ـ (أخرجه وما في معناه في السنن الكبرى ٨ : ٢٩٩ ومحاضرات الراغب ١ : ٢١٩ وكنز العمال ٣ : ١٠٩ نقلا عن ابن أبي شيبة وكان يقول : اني رجل معجار البطن او مسعار البطن واشرب هذا النبيذ الشديد فيسهل بطني (أخرجه وما في معناه ابن أبي شيبة كما في كنز العمال ٣ : ١٠٩ وجامع مسانيد أبي حنيفة ٢ : ١٩٠ و ٢١٥).

كان يشربه طول حياته الى آخر نفس كما عن ابن ميمون : شهدت عمر حين طعن أتي بنبيذ فشربه (تاريخ الطبري ٦ : ١٥٦) وذلك لحبه الشديد للخمر وكونه اشرب الناس في الجاهلية (أخرجه ابن هشام في سيرته ١ : ٢٦٨ والبيهقي في السنن الكبرى ١٠ : ٢١٤) فلم يك يترك بديلها النبيذ رغم حرمته كما في نص النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ان ما أسكر كثيره فقليله حرام (أخرجه الدارمي في سننه ٣ : ١١٣ والنسائي في سننه ٨ : ٣٠١ والبيهقي في سننه ٨ : ٢٩٦ وابو داود في سننه ٢ : ١٢٩ واحمد في مسنده ٣ : ١٦٧ والترمذي في صحيحه ١ : ٣٤٢ وابن ماجة في سننه ٢ : ٣٣٢ والبغوي في مصابيح السنة ٣ : ٦٧) والخطيب في تاريخه ٣ : ٣٢٧) وابن الأثير في جامع الأصول كما في التيسير ٢ : ١٧٣ وعشرات أمثالهم).

وقد كان عمر نفسه يحد من يشرب النبيذ كما عن الشعبي : شرب اعرابي من اداوة عمر فأغشي فحدّه عمر ثم قال : وانما حده للسكر لا للشرب (أخرجه العقد الفريد ٣ : ٤١٦ والجصاص في احكام القرآن ٢ : ٥٦٥ وحاشية سنن البيهقي لابن التركماني ٨ : ٣٠٦ وكنز العمال ٣ : ١١٠ والقاضي ابو يوسف في كتاب الآثار ٢٢٦ من طريق أبي حنيفة عن ابراهيم بن عمران الكوفي التابعي).

فنراه يشرب النبيذ على حرمته قليلة وكثيرة بنص حديث النبي ثم يحد من يسكره بكثيره فقط!!!

٢٩٦

السكران كلمة الكفر وهو لا يعلم ، و «لا يموت مدمن خمر إلا لقى الله كعابد وثن» (١).

وبذلك قرنت الخمر بالشرك مهما اختلف كبير عن عظيم ، ولكنهما سالكان مسلكا واحدا في الشر العظيم ، وقد انحلت ـ أولا ـ في الدعوة الاسلامية ـ العقدة الكبرى وهي الإشراك بالله ، فانحلت بذلك العقد كلها ، حيث جاهدهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ذلك الجهاد الاوّل والأولى ، ثم لم يحتج الى جهاد مستأنف إلّا ما تبناه في سائر جهاده على أساس جهاده الأوّل ، وانتصر الإسلام ـ إذا ـ على الجاهلية في معركته الأولى ، فكان النصر حليفه في سائر المعارك وقد دخلوا في السلم كافة مهما كانوا فيه درجات ، لا يشاقون الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى ، ولا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضى رغم كل ما مضى ، وقد نزل تحريم الخمر ـ وهي عديل الشرك ـ والكؤوس المتدفقة على راحاتهم ، فحال أمر الله بينها وبين الشفاه المتلمّظة والأكباد المتّقدة وكسرت دنان الخمر فسالت في سكك المدينة ، مهما لم تكن آيات الله إلّا المائدة بيانا شافيا لمن شبقته الخمر إذ خمرته في ذات نفسه وعقله!.

(قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ..).

فهذه ضابطة ثابتة تحلق على كل المسائل الفقهية انه إذا كان الإثم في فعل اكبر من نفعه فهو محظور ، ولا سيما غير الواجب ، وبالأخص النفع التجاري ، والنفع النفسي او الصحي الخيالي ، وليس للخمر والميسر منافع للناس إلّا هذان اللذان لو لا الإثم الكبير ولا الصغير لما وجبا اقتصاديا ولا نفسيا فضلا عن الإثم الكبير الذي هو مفتاح كل شر!.

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٢١٨ ـ أخرج ابو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ... ثم قرء : انما الخمر ...

٢٩٧

فقد يربح صانع الخمر وبايعه اقتصاديا ، كما ينتفع شاربها تسلية عن اضطراب في فترة السكر ، حيث يصبح كالبهيمة همّها علفها وبطنها وفرجها وشغلها تقممها ثم لا يهمها ما يهم الإنسان كإنسان ، هدما لصرح الإنسانية في هذه الفترة للنزول الى شر درك من دركات البهيمية لكي يرتاح عن عبء الأفكار والتكاليف الإنسانية! ، وأبعاد النفع نفسيا وصحيا وتجاريا كلها خاوية ، حيث التاجر للخمر قد يسكر بطبيعة الحال في شغله فيخسر طائلا من المال في تجارة الخمر ما لا يجبر بطائل تجارته مرّات عدة ، والصحة البدنية إن صدقناها في بعض الحالات ، هي اقل بكثير من إثمها الكبير ، والنفع الروحي ارتياحا عن العقلية الانسانية تخيّل في تخبّل!.

ففي دوران الأمر بين واجبين او محرمين ام واجب ومحرم يؤخذ بأكبرها في شرعة الله حفاظا عليه ، فضلا عما يدور الأمر بين الإثم الكبير ومنافع للناس بين واقعية قليلة كالاقتصادية ، وخيالية عليلة كالتسلية ، في الخمر والميسر ، كاحمرار الوجه في الخمر والتفوق علي القرين في الميسر.

وإذا كان الإثم ـ أيا كان ـ محرما كما دلت (٤٨) آية على حرمته ، مهما كان معارضا بإثم آخر إلّا أن يكون أكبر منه ، فكيف لا يكون الإثم الكبير محرما ولا تعارضه إلّا منافع للناس كالتي نعرفها من مباح لو لا الإثم أم لغو كالتسلية!.

وشرب الخمر هو اكبر الكبائر (١) لا يحل على أية حال و «ما عصي الله بشيء أشد من شرب المسكر ، ان أحدهم يدع الصلاة الفريضة ويثب على أمه وابنته وأخته وهو لا يعقل» (٢).

__________________

(١) في الكافي عن إسماعيل قال : اقبل ابو جعفر (عليهما السّلام) في المسجد الحرام فنظر اليه قوم من قريش فقالوا هذا إله اهل العراق ، فقال بعضهم : لو بعثتم اليه بعضكم ، فأتاه شاب منهم فقال : يا عم ما اكبر الكبائر؟ قال (عليه السّلام) : شرب الخمر.

(٢) المصدر عن أبي البلاد عن أحدهما (عليهما السّلام) قال : ... وفي الاحتجاج سأل زنديق أبا ـ

٢٩٨

ولو ان الإثم الكبير في الخمر والميسر يباح لنفع مباح لولاه ، لكان كل اثم مباحا لأنها تنفع لولاه ، فلا يقدم ذو مسكة على إثم لو لا ابتغاء نفع يرجحه على موعود العقاب ، ولا يترك واجبا لو لا ترجيح لعاجل الشهوة على آجل العقاب حيث الآثام كلها مشتهيات نفسية او مالية أماهيه؟ وكلها منافع للناس حيث يتطلبونها رغم وعد العذاب إلّا المتقين.

فحتى إذا كانت أمام الإثم الكبير منافع واجبة الابتغاء ، فلتكن كبيرة كما الإثم حتى يتكافئا فعلا وتركا ، سقوطا لكلّ عن إلزاميته سلبا وإيجابا ، وأما الواجب الصغير أمام الإثم الكبير فهو محرم كما الإثم الكبير حين يتطاردان في دوران الأمر بينهما ، كما الواجب الكبير أمام الإثم الصغير.

ذلك! فضلا عن منافع للناس اقتصاديا ام تسلية تدفع الثمن غاليا وهو الجنون المؤقت حالة السكر ، تنازلا عن إنسانيته في هذه الفترة ابتغاء منافع هي دونها خفيفة طفيفة!.

فلنأخذ قاعدة الدوران هذه ، التي تصرح بها آيتنا ، نأخذها نبراسا ينير لنا

__________________

ـ عبد الله (عليه السّلام) حرّم الله الخمر ولا لذة أفضل منها؟ قال : حرمها لأنها ام الخبائث ورأس كل شر يأتي على صاحبها ساعة يسلب لبه فلا يعرف ربه ولا يترك معصية الا ركبها ...

وفيه عن أبي بصير عن أحدهما (عليهما السّلام) قال : «ان الله جعل للمعصية بيتا ثم جعل للبيت بابا ثم جعل للباب غلقا ثم جعل للغلق مفتاحا فمفتاح المعصية الخمر» وفيه عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ان الخمر رأس كل إثم ، وفيه (٢٥١) عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : ان الله جعل للشر أقفالا وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب.

وفي الكافي عن جابر عن أبي جعفر (عليهما السّلام) قال : لعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الخمر عشرة : غارسها وحارسها وعاصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة اليه وبايعها ومشتريها وآكل ثمنها.

٢٩٩

الدرب في كافة التعارضات بين الأفعال والتروك ، ام بين كل مع قسيمه ، وان الترجيح هو للأرجح وجوبا او رجحانا ، لا سيما إذا كانت المعارضة بين واجب وغير محرم ، ام محرم وغير واجب ، فضلا عن الواجب الكبير او الإثم الكبير أمام منافع للناس ليست في حدود ذواتها واجبة ولا راجحة!.

فهنا إلزامات عدة في ترك الخمر لا يكافئ ـ ولا واحدة منها ـ منافع للناس ، منها واقعية الإثم عاجلا وآجلا ، والمنافع عاجلة خيالية ، وكبر إثمها وعدم الكبر في نفعها ، ثم وإثمهما أكبر من نفعهما ، تنازل في أصل الكبر ، وإثمهما الأكبر هو في العقل والصحة والتجارة دون النفع الواقعي الخاص بصحة قليلة أحيانية لا تكافئ ضررها.

وواحدة من هذه الأبعاد في إثمهما الكبير قد تتغلب على كل المنافع المنقولة فيهما!.

فيا لسفاهة الفقاهة ، وفقاهة السفاهة من سفاف الفتوى في قولتها : ان الآية لا تدل على تحريم الخمر والميسر حيث تقابلها منافع للناس! رغم إثمهما الكبير ومنافعهما غير الواجبة ، فلتحلّل كافة الآثام دونما إبقاء لأن في كلّ منافع للناس لولاها لما ارتكبها ناس رغم ارتباك العذاب الموعود فيها!!! (١).

__________________

(١) في الكافي عن علي بن يقطين سأل المهدي أبا الحسن (عليه السّلام) عن الخمر هل هي محرمة في كتاب الله عزّ وجلّ؟ فان الناس انما يعرفون النهي عنها ولا يعرفون تحريمها فقال له ابو الحسن (عليه السّلام) بل هي محرمة، فقال : في اي موضع هي محرمة في كتاب الله عزّ وجلّ يا أبا الحسن؟ فقال : قول الله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ) ـ الى ان قال ـ : فأما الإثم فانها الخمر بعينها وقد قال الله في موضع آخر : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) ، فأما الإثم في كتاب الله فهي الخمر والميسر وإثمهما اكبر من نفعهما كما قال الله تعالى ، فقال المهدي يا علي بن يقطين هذه فتوى هاشمية؟ فقلت له : صدقت يا امير المؤمنين الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت ـ

٣٠٠