الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٢

فالأشبه ـ إذا ـ حرمة السفر ووجوب الصوم للملازمة بينه وبين الإتمام المحكوم به لحرمة السفر ، فإن الآية فرضت على من شهد الشهر ان يصومه أينما كان حاضرا أو مسافرا ، ولم تستثن إلّا الذي كان في رمضان على سفر ولكنه يقضيه بعد رمضان ، والأحوط أن ينوى الإمساك في سفره ما في ذمته ، إن

__________________

ـ (عليه السّلام) ان ابن يعقوب امرني ان أسألك عن مسائل فقال وما هي؟ قال : يقول لك : إذا دخل شهر رمضان وأنا في منزلي إلى ان أسافر؟ قال : ان الله يقول (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) فمن دخل عليه شهر رمضان وهو في أهله ليس له أن يسافر إلّا لحج أو عمرة أو في طلب مال يخاف تلفه.

وفي الوسائل ٧ : ١٢٩ ح ٣ محمد بن علي بن الحسين باسناده عن علي بن أبي حمزة عن أبي بصير قال سألت أبا عبد الله (عليه السّلام) عن الخروج إذا دخل شهر رمضان فقال : لا إلّا فيما أخبرك به : خروج الى مكة او غزو في سبيل الله او مال تخاف هلاكه او أخ تخاف هلاكه وانه ليس أخا الأب والأم.

وفيه عن الخصال عن علي (عليه السّلام) في حديث الأربعمائة قال : ليس للعبد ان يخرج الى سفر إذا دخل شهر رمضان لقول الله عزّ وجلّ (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).

وفيه عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال قلت له جعلت فداك يدخل عليّ شهر رمضان فأصوم بعضه فتحضرني نية زيارة قبر أبي عبد الله (عليه السّلام) فأزوره وأفطر ذاهبا وجائيا أو أقيم حتى أفطر وأزوره بعد ما أفطر بيوم او يومين؟ فقال له : أقم حتى تفطر ، فقلت له جعلت فداك فهو أفضل؟ قال : نعم أما تقرء في كتاب الله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)؟.

وفيه عن الحسين بن المختار عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : لا تخرج في رمضان الا للحج والعمرة او مال تخاف عليه الفوت او لزرع يحين حصاده.

واما صحيح العلا عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليهما السّلام) قال سئل عن الرجل يعرض له السفر في شهر رمضان وهو مقيم وقد مضى منه ايام فقال : لا بأس بأن يسافر ويفطر ولا يصوم ، فلا يدل على الجواز دون ضرورة ، فإن «يعرض له السفر» تلمح الى ضرورة مفاجئة للسفر.

ثم وما تدل على افضلية المقام للصوم من السفر غير الضروري ، وهي مخالفة للآية ولهذه المستفيضة فلتطرح ام تؤل الى فضيلة الفرض لا الندب.

٤١

صوما فصوم وإن إمساكا أدبيا فإمساك.

وعلّ حرمة السفر على وجوب الصوم فيه ، لأن السفر ينهي أحيانا الى الإفطار باختيار او اضطرار ، وان الصوم في السفر غير مرغوب فيه ، وقد ورّط هذا المسافر نفسه فيه ، فليصم على غزارة ، وبرغم انفه ، ولا سيما إذا كان فرارا عن الصوم ، وقد أراد الله بكم اليسر فأوردتم أنفسكم بما سافرتم في العسر ، وهذه خلاف ارادة الله ، وليس السماح عن الصوم في السفر أو حرمته إلّا عطفا على المؤمنين ، وأما الفار عنه بالسفر أم في السفر فلا عطف عليه ، فالظاهر وجوب الصوم عليه والأحوط قضاءه.

ولما ذا (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ل (مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ)؟ لضابطة فقهية ثابتة : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) فانما هو المرض المعسر بصيامه ، او السفر المعسر به ، دون مرض لا يعسر معه الصوم ، ام سفر بلا عسر ، وهو ما دون «مسيرة يوم».

فلأنه (لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) لم يفرض الصيام عندهما ، ولأنه «يريد بكم اليسر» فرضه «لعدة من ايام أخر» ـ (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) وهي رمضان كله ، إما في رمضان لغير المريض والمسافر ، ام في عدة من ايام أخر ، فالأصل هو تكملة العدة على يسر دون عسر ، (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) الى يسر التكليف تكبروه في صلاة الفطر (١) ، فمن صام على مرضه او سفر فقد صغر الله رغم

__________________

(١) روى سعيد النقاش قال قال ابو عبد الله (عليه السّلام) لي أما ان في الفطر تكبيرا ولكنه مسنون قال قلت : واين هو؟ قال : في ليلة الفطر في المغرب والعشاء الآخرة وفي صلاة الفجر وفي صلاة العيد ثم يقطع وهو قول الله عزّ وجلّ : ولتكملوا العدة يعني الصيام ، ولتكبروا الله على ما هواكم (التهذيب ٣ : ١٣٨).

وفي الدر المنثور ١ : ١٩٤ عن انس قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): زينوا أعيادكم بالتكبير.

٤٢

هداه (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الله على ما يسر لكم ، ومنه اتباع امره وتكملة العدة.

ومهما تضاربت الأحاديث المروية عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وذويه المعصومين حول سماح الصيام المفروض في السفر وعدمه ، فالأصل هو الكتاب الدال على حرمته فيه كما في المرض (١).

__________________

ـ وفي نور الثقلين ١ : ١٧٠ عن الفقيه وفي العلل التي نروي عن الفضل بن شاذان النيسابوري ويذكر انه سمعها من الرضا (عليه السّلام) انه انما جعل يوم الفطر العيد ـ إلى ان قال ـ : وانما جعل التكبير فيها اكثر من غيرها من الصلوات لأن التكبير انما هو تعظيم لله وتمجيد على ما اهدى وعافى كما قال عزّ وجلّ (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

(١) أحاديث الفريقين مستفيضة على حرمة الصيام ولا سيما رمضان في السفر فمنها خبر الساباطي عن الصادق (عليه السّلام) «لا يحل الصوم في السفر فريضة كان او غيره والصوم في السفر معصية» (التهذيب ١ : ٤٤٤) وصحيح عمار بن مروان «من سافر قصر وأفطر إلا ان يكون رجلا سفره الى صيد او في معصية الله ورسولا لمن يعصي الله عز وجل او طلب عدو شحناء او سعاية او ضرر على قوم مسلمين» (الكافي ٤ : ١٢٩) أقول وهذا من الأحاديث الحاصرة سفر المعصية بغير السفر الضروري للمقيم في رمضان.

وفي الدر المنثور ١ : ١٩٠ عن انس بن مالك القشيري ان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : ان الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة وعن الحبلى والمرضع ، وفيه عن جابر ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : ليس من البر الصيام في السفر ، ورواه مثله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كعب بن عاصم الأشعري ، وفيه عن عبد الرحمن بن عوف قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر ، وفيه عن عائشة قالت قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ان الله تصدق بفطر رمضان على مريض امتي ومسافرها.

واستفاض عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قوله «ان الله يحب ان تؤتى رخصه كما يحب ان تؤتى عزائمه ، وفيه اخرج الطبراني عن ابن عمر ان رجلا قال له اني أقوى على الصيام في السفر فقال ابن عمر اني سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول : من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة. ويعارضها ما أخرجه فيه عن عائشة ان حمزة الأسلمي سأل رسول ـ

٤٣

وهل إن هذه الآية نسخت سماح الإفطار المدلول عليه في آية الإطاقة؟ وهذه الآيات منسقة نسقا واحدا لبيان حكم ثابت ، ثم كيف ينسخ العام (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) الخاصّ السابق عليه المخصّص لعموم سابق «كتب ... وعلى الذين يطيقون» فلا نسخ إذا إلّا لعقلية هؤلاء الذين يتهافتون على قيلة النسخ دونما تدبر في القرآن ولا تبحر في مغازيه ومعانيه.

وهل يعني إكمال العدة أن رمضان لا ينقص عن الثلاثين أبدا ، وكما صرحت به روايات؟

كلّا فإن العدة هنا هي عدة الصيام الفروضة وهي رمضان بكمال الثلاثين أو نقصه ، وإن انتقاص بعض الشهور ومنها رمضان هو أمر ملموس على كرور السنين.

استدراكات : الأولى : أن شهود الشهر لأول يوم منه كما يصدق على رؤية الهلال فليصم من يومه ، كذلك العلم به فجرا أو بعده وحتى ما قبل الغروب ، إلا أن صومه إذا لم يأكل هو كامل الصوم دون قضاء ، وإلّا فعليه قضاء رغم صومه في تتمته ، حيث «فليصمه» يعم الشاهد أوّل نهار الصيام أم وسطه ، فليصم في الأول كاملا وفي الثاني تتمة النهار ثم يقضي.

الثانية : يستثنى عن شهد الشهر المجنون والطفل ومن يطيق الصوم والمغمى عليه ما دام الإغماء والمضطر إلى الإفطار أو المكره عليه أمن ذا من هؤلاء الذين دل دليل قاطع على عدم فرض الصوم عليهم ، ولا يشمل «شهد الشهر» من يعلم حالا بدخول رمضان مستقبلا إذ ليس شاهدا حالا.

الثالثة : فليصمه : تمنع نية غير رمضان لشاهد الشهر ، فلو نوى غيره لغى

٤٤

ويحسب من رمضان وهل عليه قضاء؟ لعله الأحوط حيث النية شرط ولكنها في المتعين لا دور له أصيلا.

ثم «فليصمه» لا تدل على أكثر من واقع الصيام ، وأما النية فلا ، إلّا أن يدل دليل آخر وليس ، لأنها لا تعني إلّا تعيين المنوي وهو هنا متعين ، واما نية القربة فهي لزام على أية حال ولا ينافيها نية غير رمضان اللهم إلّا لعامد ، تأمل.

الرابعة : السجين أمن شابهه إذا لم يدر رمضان عن غيره ، صامه بنية ما في ذمته ، دون النية الخاصة لرمضان ، فان كان من رمضان فمن رمضان وإلّا فمن سواه فرضا او ندبا.

الخامسة : من شهد الشهر خلال يوم الصيام وجب عليه الإمساك لإطلاق فليصمه» والقضاء بعد رمضان لأنه أفطر يومه ولم يستثن من المفطر إلّا الناسي ، دون المضطر او العامد المعذور وهو عامد معذور.

السادسة : هل المسافر دون المسافة ، وكذلك الناوي عشرة ايام في السفر ، هما

مشمولان ـ معا ـ ل «على سفر» فعدة من ايام أخر ، لأنهما ليسا داخلين في «من شهد»؟ كلّا حيث القصد من الشاهد هو غير المسافر لحده الشرعي ، فانما يعد غير الحاضر مسافرا حسب الحد الشرعي للسفر ، فالمسافر دون الحد داخل في الحاضر كما المقيم عشرة ايام في السفر يلحقه.

ولأن المقيم عشرة ايام محسوب بحساب الشاهد الشهر فلا يجوز له ـ كالذي في بلده ـ إنشاء سفر.

وفي نظرة أخرى الى الضابطة (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)

٤٥

كحكمة حكيمة في كافة الأحكام الربانية نقول : سلب العسر انما هو في الأحكام غير الموضوعة على العسر كالجهاد والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والصوم نفسه من حيث نفسه ، وأماهيه ، الموضوعة على إعسار هي بطبيعة الحال فيها ، فالعسر المنفي عنها هو عسر على عسر ، ففي عسر المرض وعسر السفر يسقط فرض الصيام ، بل وأصله حيث لا يسمح له فيهما ، ثم في عسر دونهما وهو مطلق الإطاقة يسقط ـ فقط ـ فرضه ، واما السفر ثمانية فراسخ في ايام السيارات فلا عسر فيه نوعيّا ولا مرة واحدة من حيث أصله ، فكيف يدخل تحت السماح وهو غير داخل تحت حكمة اللّاعسر ، وقد حدّ السفر بمسيرة يوم وهي الآن فوق الألف كيلومترا!

هذا ـ وبصورة عامة تحلق على كل احكام الشرعة ، كل ما فيه عسر ويسر ، فلا عسر فيه فانه تعالى (لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وكما يروى عن رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «ان هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق فان المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» (١) و «الدين يسر ولن يغلب الدين أحد إلّا غلبه سددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدجلة» (٢) و «... لا تبغض الى نفسك عبادة ربك فان المنبت لا سفرا قطع ولا ظهرا أبقى فاعمل على امرئ يظن أن لن يموت أبدا واحذر حذرا تخشى ان تموت غدا» (٣) و «لا تشددوا على أنفسكم فانما هلك من كان قبلكم

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ١٩٢ ـ اخرج البزار عن جابر قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ...

(٢) المصدر أخرج البخاري والنسائي والبيهقي في شعب الايمان عن أبي هريرة سمعت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول : ...

(٣)المصدر أخرج البيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاصي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله ـ

٤٦

بتشديدهم على أنفسهم وستجدون بقاياهم في الصوامع والديارات» (١) و «العلم أفضل من العمل وخير الأعمال أوساطها ودين الله بين القاسي والغالي والحسنة بين الشيئين لا ينالها إلا بالله وشر السير الحقحقة» (٢) و «سئل (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أي الأديان أحب الى الله؟ قال : الحنيفية السمحة» (٣).

ولأن رمضان بصيامه وقيامه هو شهر الدعاء والإجابة ، فلتتوسط آية الدعاء والإجابة آياته ، وقبل تفصيل الحل والحرام في لياليه وأيامه :

(وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) ١٨٦.

السؤال عن الله هنا سؤال عن موقفه أمام دعوة الداع ، قربا وبعدا ، إجابة وردا ، وكما يعرف ذلك الإختصاص من الجواب (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ ...) وقد روي ذلك عن رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (٤) فرفع الصوت

__________________

ـ وسلّم) قال : ان هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض ...

(١) المصدر اخرج الطبراني والبيهقي عن سهل بن أبي امامة بن سهل بن حنيف عن أبيه عن جده ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : لا تشددوا ...

(٢) المصدر أخرج البيهقي من طريق معبد الجهني عن بعض اصحاب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ...

(٣) المصدر أخرج البخاري في الأدب المفرد عن ابن عباس قال سئل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ...

(٤) الدر المنثور ١ : ١٩٤ جاء رجل الى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فسكت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأنزل الله الآية.

٤٧

بالدعاء بغية ان يسمعها الله جهل بالله ف «يا ايها الناس اربعوا على أنفسكم فانكم لا تدعون أصم ولا غائبا انما تدعون سميعا بصيرا ...» (١) اللهم إلّا إسماعا لعباد الله لكي يرغبوا في الدعاء ، ام تلذذا بصريخ الدعاء فلا بأس إذا بل هو اولى.

ولأن الدعاء هي مخ العبادة حصيلة لأقرب حالات القرب الى الله والتعلق التدلي بالله ، نرى آيتها هذه على اختصارها تأتي بضمير المتكلم وحده لله سبع مرات ، خرقا للحجب السبعة بين العبد وربه ، كما وتعبر عن السائلين إياه ب «عبادي» وهي أشرف تعريف بهم دون «الناس» أما شابه من عامة التسميات لنا.

(فَإِنِّي قَرِيبٌ) إليهم قرب المكانة علما وقدرة دون قرب المكان والزمان ، ف (هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) معية العلم والقدرة والرحمة رحمانية عامة للكل ورحيمية خاصة لمن يستحقها.

فليس قربه إلينا ام الى اي شيء قرب المسافة ، بل هو أقرب القرب (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (٥٠ : ١٦) (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) (٥٦ : ٨٥) بل و (أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) (٨ : ٢٤) فبعد أن ليس اقرب إلينا ـ ككل ـ منا ، فالله اقرب إلينا منا ، يعلم منا ما لا

__________________

(١) المصدر ١٩٥ عن أبي موسى الأشعري قال كنا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في غزاة فجعلنا لا نصعد شرفا ولا نهبط واديا إلّا رفعنا أصواتنا بالتكبير فدنا منا فقال يا ايها الناس ... ان الذي تدعون أقرب الى أحدكم من عنق راحلته «اجل» (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) وانما كلمهم الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما يفهمون.

٤٨

نعلمه ، (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) (٢٠ : ٧) ويقدر علينا ما لا نقدره او نقدّره.

ودعوة الداع المجابة حسب الوعد المؤكد هنا وفي آيات أخرى ، قد تعم الدعوة بلسان الحال والقال ، حيث يعمهما السؤال : (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (١٤ : ٣٤) ـ (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٧ : ٢٩) وسؤال الحال ايضا يعم سؤال الفطرة ، وسؤال واقع الحال قضية المصلحة الحيوية ، كما وان سؤال القال يعم خاطرة النفس وحديثها ، ثم الكلام خفية وجهارا وعلى أية حال.

وترى ما هو دور (إِذا دَعانِ) بعد (دَعْوَةَ الدَّاعِ)؟ إنه توجيه للدعاء اليه فان دعوة الداع طليقة من حيث المدعو ، كما وهو تعميق وتحقيق للدعاء ، تخطّيا عن مجازه الى حقه ، وعن ظاهره الى باطنه ، بان يصبح العبد كله دعاء ، لا ان يدعو الله بلسانه وقلبه غافل لاه (١) متعلق بسواه ، او يدعوه بقلبه ولسانه يدعو سواه ، ام يدعوه بقلبه ولسانه وهو يرجو ـ فيما يرجوه ـ سواه ، فكثير هؤلاء الذين يدعون الله بحرف من حروف الدعاء ، ثم هم متجهون الى سواه بسائر حروف الدعاء ام بحرف من حروفها ف (دَعْوَةَ الدَّاعِ) في اية مرحلة من مراحل الدعاء ، هي شرط أول لقضاء الحاجة ، ثم وأهم منها شرط ثان : (إِذا

__________________

(١)الدر المنثور ١ : ١٩٥ عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا ان الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه ، وفيه ١٩٦ ـ أخرج احمد في الزهد عن مالك بن دينار قال قال الله تبارك وتعالى على لسان نبي من أنبياء بني إسرائيل قل لبني إسرائيل تدعوني بألسنتكم وقلوبكم بعيدة مني باحل ما تدعوني ، وقال : تدعوني وعلى أيديكم الدم اغسلوا أيديكم من الدم اي من الخطايا هلموا نادوني.

٤٩

دَعانِ) في معنييها المعنيين عبادة واستدعاء بحق ، ومن ثم ثالث : (وَلْيُؤْمِنُوا بِي) ثقة بالاستجابة. فانما (إِذا دَعانِ) ي ، توحيدا في دعاءه مصحوبا بحق الدعاء والدعاء الحق ومعرفة كاملة ف «لو عرفتم الله حق معرفته لزالت بدعائكم الجبال» (١) ، فإذا صادف صالحه في أية نشأة من النشآت استجيب فيها ، وإلّا فتحولا الى صالح لم يدع له حيث ، «فإني (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) تحتّم الإجابة الصالحة ، ولكنها دون توقيت ، ولا تثبيت لخصوص ما دعى ، وقد تعني (إِذا دَعانِ) ـ فيما عنت من الدعاء الاستدعاء ـ دعاء العبودية كشرط أصيل في استجابة الاستدعاء : (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (٧ : ٢٩) فدعوة الله الأصيلة هي دعوة العبودية ، وهي المتفرعة عليها دعوة الاستدعاء ، ومن حصائل (إِذا دَعانِ) هذه (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي) ، (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) دعائي إياهم لعبادتي وفاء بعهدي : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (٢ : ٤٠) ثم (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) دعائي لهم ان يدعونني : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) (٤٠ : ٦٠).

(وَلْيُؤْمِنُوا بِي) ايمانا صالحا ككلّ ، وفاء بعهد الفطرة وعهد الرسالة ، ثم (وَلْيُؤْمِنُوا بِي) ايمانا بتحقيق وعد الاجابة «وليتحققوا أني قادر على إعطائهم ما سألوه» (٢) (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) الى كل سؤال صالح يدعون له.

وإنها آية عجيبة تسكب في قلوب المستجيبين المؤمنين الداعين ربهم النداوة

__________________

(١) المصدر ١٩٦ ـ أخرج الحكيم الترمذي عن معاذ بن جبل عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: ...

(٢) في المجمع روي عن أبي عبد الله (عليه السّلام) انه قال : وليؤمنوا بي ، اي وليتحققوا ...

٥٠

الحلوة والود الأنيس ، والطمأنينة والثقة واليقين ، فيعيش منها المؤمن في جناب رضى وملاذ أمين بقرار مكين إلى حضرة رب العاملين.

وانه قريب برحمته ـ إجابة لسؤال ـ إلى عباده السائلين إذا دعوه بشروطها المسرودة في الذكر الحكيم ، فاتحا له خزائنه بدعائه أينما دعاه «ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما اذن لك فيه من مسألته فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته واستمطرت شآبيب رحمته فلا يقنطك إبطاء اجابته فان العطية على قدر النية ، وربما أخرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل وأجزل لعطاء الآمل ، وربما سألت الشيء فلا تؤتاه وأوتيت خيرا منه عاجلا ام آجلا ، او صرف عنك لما هو خير لك ، فلرب أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته ، فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله وينفى عنك وباله ، فالمال لا يبقى لك ولا تبقى له» (١).

ألا «فأحترسوا من الله عز وجل بكثرة الذكر ، واخشوا منه بالتقى ، وتقربوا اليه بالطاعة فانه قريب مجيب» (٢).

فلا أصالة لمكان الدعاء وزمانها ، وإنما هي مكانتها أينما كانت ومن ايّ ، فهي تتمحور مثلثا كأصل هو (إِذا دَعانِ ـ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي ـ وَلْيُؤْمِنُوا بِي) إذا فالإجابة تقدّر بقدر الاستجابة والإيمان ، والدعاء الخالصة الموحدة على ضوءها ومن ثم «أجيب ..» «يقول الله : أنا عند ظن عبدي بي وانا معه إذا دعاني» (٣).

__________________

(١) عن نهج البلاغة عن الامام علي امير المؤمنين (عليه السّلام).

(٢) نور الثقلين ١ : ١٧١ في روضة الكافي خطبة طويلة مسندة له (عليه السّلام) يقول فيها : ...

(٣) الدر المنثور ١ : ١٩٥ ـ أخرج احمد عن أنس ان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : يقول الله : ...

٥١

و «ان ربكم حي كريم يستحي إذا رفع العبد يديه اليه ان يردها حتى يجعل فيهما خيرا» (١) «يقول الله تعالى : يا ابن آدم واحدة لي وواحدة لك وواحدة فيما بيني وبينك وواحدة فيما بينك وبين عبادي ، فاما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئا وأما التي لك فما عملت من شيء او من عمل وفيتكه وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعلي الإجابة وأما التي بينك وبين عبادي فارض لهم ما ترضى لنفسك» (٢).

ثم الاستجابة بحق الدعاء ليست في إثم او قطيعة رحم (٣) ، او أمر مستحيل ، او الذي بيدك أمره ، إنما هي فيما لا تناله بحولك فقط وقوتك ، من الممكن في ذاته ، والممكن مصلحيّا بدعائك ، والاستعجال في إجابة الدعاء تآمر على الله وتأمّر ، ويأتي على المؤمن موقف في الأخرى يقول : «يا ليته لم يكن عجل له شيء من دعاءه» (٤).

__________________

(١) المصدر ١ : ١٩٥ عن سلمان الفارسي عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : ...

(٢) المصدر ١٩٥ ـ أخرج الطبراني في الدعاء عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ...

(٣) المصدر عن أبي سعيد ان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال ما من مسلم يدعوا الله بدعوة ليس فيها اثم ولا قطيعة رحم إلّا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال إما ان يعجل له دعوته واما ان يدخرها له في الآخرة ، وإما ان يصرف عنه من السوء مثلها قالوا إذا نكثر؟ قال : الله اكثر.

(٤) المصدر أخرج الحاكم عن جابر مرفوعا : يدعو الله بالمؤمن يوم القيامة حتى يوقفه بين يديه فيقول عبدي إني أمرتك أن تدعوني ووعدتك أن استجيب لك فهل كنت تدعوني؟ فيقول : نعم يا رب ، فيقول : أما انك لم تدعني بدعوة إلّا أستجيب لك ، أليس دعوتني؟ فيقول : نعم يا رب ، فيقول : أما انك لم تدعني بدعوة إلّا أستجيب لك ، أليس دعوتني يوم كذا وكذا لغم نزل بك أن أفرج عنك فلم تر فرجا؟ فيقول : نعم يا رب ، فيقول : إني ادخرت لك بها في الجنة كذا وكذا ـ

٥٢

ومن موانع اجابة الدعاء سوء الأدب فيها ، ان يطلب سؤاله دون ان يرضى بسواه ، ام يطلب عاجله دون آجله ، ف «لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل .. يقول قد دعوت ربكم فلم يستجب لي» (١).

والدعاء في محالها الصالحة هي مما تحرز مصلحة الإجابة ، فلولاها لما صلحت مهما كان هناك سؤال صالح في نفسه ، ولكنه لا يعطاه الا باستعطائه ، ومن مصلحة الدعاء أنها مخ العبادة لأنها انقطاع عن الأسباب المعسورة او غير الميسورة لصاحبها ، الى مسبب الأسباب.

فحتى لولا الإجابة فيها ، فهي صالحة في نفس ذاتها كسائر العبادات أم هي أحرى لأنها مخّها! وكما لا يحتم لك الجزاء هنا ـ الا قليلا ـ على سائر العبادات ، فبأحرى الدعاء وهي مخ العبادات ، فإنما نحن مؤتمرون في مختلف اشكال العبادة ، ثم الجزاء من الله بما وعده كما يشاء ومتى يشاء ، والمستجاب من الدعاء هنا ـ في الأكثر ـ هو دعاء الهداية ـ الصالحة ، وسائر ما ينفع في مزيد التقوى التي لا تقوى عليها إلّا بعون من الله ، وأكثر ما لا يستجاب هي من الأمور التي لا تنفعك في هواك ، ام يزيد في هواك ، ام لا ينفع لا في أولاك ولا أخراك ، فالله يعوضك عنها هنا او في الأخرى ما تحتاجه هدى ام علو درجة.

وهنا تتساقط قيلات على الدعاء ، انها انما تصلح في حق من لا يعلم

__________________

ـ ودعوتني في حاجة قضيتها لك ، فقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلا يدعو الله عبده المؤمن إلّا بيّن له إما ان يكون عجل له في الدنيا واما ان يكون ادّخر له في الآخرة فيقول المؤمن في ذلك المقام : يا ليته ..

(١) المصدر ١٩٦ ـ أخرج أحمد عن أنس ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : ...

٥٣

الحاجات بمصالحها ، او يضن بها لو لا الدعاء حظوة للاستجداء ، وانها كتطلّب الآمر والناهي وهو إزراء بساحة الربوبية ، أماهيه من قيلات هي ويلات من قائليها.

فربنا هو الذي يأمرنا بالدعاء حيث يرى فيها صالح الداعي ، وبما انها مخ العبادة فهي أصيلة في حقول العبادة ، قد لا يعطينا ربنا سؤالنا إلّا إذا انقطعنا اليه ودعوناه ، ولكي نحظو الزلفى إليه وفوق ما نحظوه في الاستجابة.

ففي حديث قدسي : «يا موسى سلني كل ما تحتاج إليه حتى علف شاتك وملح عجينك» (١) و «الدعاء سلاح المؤمن» (٢) طبعا لما فيه صلاحه باستصلاحه بها.

وكختام لحقل الدعاء الاستدعاء طلبا لحاجيات روحية أو سواها ، متصور الدعاء ليس إلّا في أربع ، حاجة حاصلة دون دعاء ، كالتي كتب الله على نفسه

__________________

(١) في عدة الداعي (٢) رواه الفريقان عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

وعن العدة في رواية محمد بن عجلان عن محمد بن عبيد الله بن علي بن الحسين عن ابن عمه الصادق (عليه السّلام) عن آبائه عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : اوحى الله الى بعض أنبيائه في بعض وحيه : وعزتي وجلالي لا قطعن أمل كل آمل أمل غيري بالإياس ولأكسونّه ثوب المذلة في الناس ولأبعدنه من فرجي وفضلي أيأمل عبدي في الشدائد غيري والشدائد بيدي ويرجو سوائي وأنا الغني الجواد ، بيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة وبابي مفتوح لمن دعاني.

وعنها عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال قال الله : ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إلّا قطعت أبواب السماوات وأسباب الأرض من دونه فان سألني لم أعطه وإن دعاني لم أجبه ، وما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي الا ضمنت السماوات والأرض رزقه فان دعاني أجبته وإن سألني أعطيته وان استغفرني غفرت له.

٥٤

برحمة عامة رحمانية ، كالضرورات الحيوية للإنسان مؤمنا وسواه ، أم حاجة حاصلة بما منح الإنسان من حول وقوة كما الأكل والشرب أما شابه ، فلا دعاء هنا وهناك.

وحاجة مستحيلة بطبيعة الحال ، او مصلحيا ، وكذلك الأمر ، ثم عوان بينهما من الحاجيات الممكنة ، سواء التي له فيه شأن ولا تكفي محاولاته للحصول عليها ، او التي انقطعت الأسباب دونها ، فهنا لك الدعاء ولا سيما فيما تكلّ فيه الأسباب.

فلا دعاء ـ إذا ـ إلّا في الممكن المعقول ، المحتمل صلاحه ، حين استأصلت دونه طاقته ، فليستمد بحول الله وقوته بشروطه المذكورة في حقل الدعاء.

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ١٨٧.

«أحل لكم» امتنان علينا بما أحل لنا من محرم علينا ، حيث الإحلال ليس إلّا عن عقد التحريم ، فليكن الرفث الى النساء معقودا علينا محظورا ليلة الصيام من قبل حتى يصح «أحل» إضافة الى دلالة (تَخْتانُونَ ... فَتابَ ... وَعَفا .. فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) فهي خماسية الادلة اللفظية هنا على سابق حظر

٥٥

الرفث الى النساء.

وليس يدل سابق حظره على أنه من أحكام التوراة ، فقد يجوز انه كان محظورا بالسنة الإسلامية ببيان الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثم نسخته هذه الآية ، كما وان سائر الإمساك مادة ومدة في الصيام لا بد وانه مبين بالسنة ، وقد جاءت هنا إمساكات ثلاث هي أمهاتها : رفثا وأكلا وشربا ، لا فحسب ، بل وآية فرض الصيام : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) طليقة بالنسبة ل (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ ... شَهْرُ رَمَضانَ) حيث تعم ليالي رمضان الى نهاراته ، اللهم إلّا في غير الرفث الى النساء أكلا وشربا ، فضلا عما دونهما ، حيث الأكل والشرب في الإفطار ضرورة لا محيد عنها ، و (كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى ...) تحليل لما زاد عن الفطور.

فقد كان الرفث الى النساء محرما طيلة رمضان ليل نهار ، ثم أبيح هنا ليلا وبقي النهار ، كما أبيح الأكل والشرب بين الفطور والسحور وبقي النهار ، فآية الإحلال ـ إذا ـ تنسخ اطلاق فرض الصيام أياما معدودات : شهر رمضان.

ثم (لَيْلَةَ الصِّيامِ) هي كل ليالي رمضان ، دون الأولى فقط اللهم إلّا كأولى مصاديقها من رمضان (١) ، فليست التاء هنا للإفراد ، فان الأفراد هنا كلّ ليلة الصيام ، دون اختصاص بليلة دون أخرى ، واختصاصها بالأولى تخرج الليالي الأخرى عن كونها من ليالي الصيام ، فالتاء ـ إذا ـ هي للجنس هنا ، سواء الليلة الأولى ام سواها ، وسواء فيها ليالي رمضان وسواها من ليالي الصيام.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١٧٢ في كتاب الخصال فيما علّم امير المؤمنين (عليه السّلام) أصحابه من الاربعمائة باب قال : يستحب للمسلم أن يأتي أهله اوّل ليلة من شهر رمضان لقوله تعالى.

٥٦

و «الرفث» في الأصل هو المقبوح من قول وعمل ، وهو بمناسبة النساء يختص بالأمور الأنثوية الجنسية معهن تقبيلا ولمسا ووطئا وكلاما يناسبها حالتها او قبلها ، فهي كلها محرمة في الإحرام (فَلا رَفَثَ) لمكان نفي الجنس دون اختصاص بأمر خاص.

ولكنه هنا الجماع لأنه (الرَّفَثُ إِلى) حيث الجار يوحي لمعنى الإفضاء ، ثم يعرف الحل لسائر الرفث الأنثوي بالأولوية القطعية ، فحين يحل عمل الجنس معهن ، فلتحل مقدماته بأحرى وأولى ، ولو قال «رفث نساءكم» لخيل إلينا ان الرفث ككل كان محرما ليلة الصيام ، وهو محرم الآن نهار الصيام!.

ولما ذا التعبير عن وطي النساء بالرفث وهو القبيح؟ لأنه في أصله مما يختجل منه على حلّه ، ولكنه كان محرما ليلة الصيام فاستحق قبحا شرعيا على قبحه عرفيا ، ثم أحل الرفث إخراجا عن قبحه شرعيا ، ثم لا مجال لاستقباح العرف ما احلّه الله ، ام ورجحه أحيانا وفرضه أخرى ، وحرمة الرفث الى نسائكم ـ وهي محللة مبدئيا ـ تحرّم بأحرى وأولى الرفث إلى سائر النساء ، وإلى سائر الحيوان ، وارفث من الكل واركس الرفث الى الذكران ، ومن حرمة الرفث الى نساءكم تستفاد حرمة المعاكسة بالملازمة ، فقد حرم رفث النساء إلى رجالهن.

وعلّ ترك التصريح بالعكس رعاية للحفاظ على رفث النساء ، وكما في سائر القرآن اللهم إلّا عند الضرورة الأحكامية ك (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ).

وترك «أزواجكم» الشاملة للعكس ، إلى «نساءكم» علّه لأن (الرَّفَثُ إِلى) هو في الأغلبية الساحقة من الرجال إلى النساء ، ولا عكس إلّا قليلا ، ثم

٥٧

لا دلالة ظاهرة ل «أزواجكم» في عكس الرفث ، إضافة الى انها لا تشمل الحلائل غير الأزواج ، وترى «نساءكم» تعني كل الحلائل وحتى الإماء مملوكة أو موهوبة؟ طبعا نعم ، فلم يقل «أزواجكم» لتختص بغيرهن ، و «نساءكم» تشمل كل الحلائل بأسرهن دون إبقاء.

ثم من الرفث الى النساء ـ بطبيعة الحال ـ الإمناء ، فإنه خاص ب «إلى نساءكم» إدخالا فيهن او ملاعبة معهن ، فأما الإمناء المفصول عنهن فهو محرم على أية ، حال فحرام في الصيام بقاطع الأولوية ، وأنه رفث جنسي يختص من الرجال إلى نساءهم.

ولما ذا أحل لكم الرفث بعد حرمته؟ لأمرين اثنين ، الأول هو الضابطة العامة من رباط الرفث بين الزوجين (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ) والثاني (عَلِمَ اللهُ ...).

واللباس هو المباشر لجسم الإنسان من ساتر يستر عورته ويستر عنه الحرّ والبرد وسائر البأس ، فلأن كلا من الزوجين قريب الى زوجه قرب اللباس ، مشتملا عليه بكل مراس ، وأن ذلك الاشتمال يستر كلّا عن نزوة الجنس غير المحللة.

لذلك فحرمة الرفث كانت شرعة ابتلائية مؤقتة كسرا شاملا لنزوة الجنس ، خلافا لطبيعة اللباس ، فأحلّه لكم بعد ما حرم.

ثم (عَلِمَ اللهُ ..) منذ حرمه عليكم (أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ ...) في حظر الرفث الى نساءكم ، وكما اختانوا بعضا مّا ومنهم الخليفة عمر حسب ثابت الأثر (فَتابَ عَلَيْكُمْ) برحمته الواسعة بعد ضيق حرمة الرفث (وَعَفا عَنْكُمْ) ما كنتم تختانون. (١)

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ١٩٧ ـ أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان الناس اوّل ما ـ

٥٨

والاختيان افتعال من الخيانة وهي التنقص في الأمانة بخلاف الوفاء فيها ، فنفس الإنسان امانة إلهية ، والتكاليف الإلهية أمانات عنده ، والصوم امانة إلهية ، فقد كان الرفث الى النساء خيانة في هاتين ، وهي ترجع بنقصها الى النفس وليس الى الله ، فقد خفف عنكم هذه الكلفة في ليلة الصيام ، أن أباح لكم فيها ـ اضافة إلى الأكل والشرب ـ الرفث الى نساءكم ، فلو استمر المنع لخنتم كثيرا ، خلعا لعذار الصبر عن طيش النفس ، وضعفا عن مغالبتها ، مواقفة للمحظور من ذلك الغشيان ، وتلك خيانة النفس حيث تجرونها الى محرم ، وتنقصونها عن عليائها الى سفلى الحيونة الجنسية ، تكديرا على جو الصيام.

وهنا مما لا بد منه بطبيعة الحال هو الفصل الزمني بين فرض الصوم بشروطه وبين إحلال هذه الثلاثة ليلة الصيام ، إذ لا معنى لاحلالها بعد تحريمها قبل ردح من زمن العمل في حقل التحريم ، فابتلاء بعض بالخيانة وتكلّف آخرين وهم على أشرافها ، وقد «أمر الله رسوله ان يضعها في المائة الوسطى من سورة البقرة» (٨٩) مما يؤيد تأخر نزولها عن سائر آيات الصيام : «فالآن» وبعد

__________________

ـ اسلموا إذا صام أحدهم يصوم يومه حتى إذا أمسى طعم من الطعام حتى يمسي من الليلة القابلة وان عمر بن الخطاب بينما هو نائم إذ سولت له نفسه فأتى اهله ثم أتى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال : يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إني اعتذر الى الله وإليك من نفسي هذه الخيانة فانها زينت لي فواقعت أهلي هل تجد لي من رخصة؟ قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : لم تكن حقيقا بذلك يا عمر فلما بلغ بيته أرسل اليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن وأمر الله رسوله ان يضعها في المائة الوسطى من سورة البقرة فقال : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ ـ الى قوله ـ : تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) يعني بذلك الذي فعل عمر فانزل الله عفوه فقال : (فَتابَ عَلَيْكُمْ ـ الى قوله ـ : مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) فأحل لهم المجامعة والاكل والشرب حتى يتبين الصبح ، أقول واخرج اصل القصة ابن جرير عن ثابت ان عمر واقع اهله ليلة في رمضان ... واخرج ابو داود والبيهقي في سننه عن ابن ـ

٥٩

الحظر لردح من زمن الابتلاء «باشروهن» كل مباشرة جنسية ، وليس ـ فقط ـ «ارفثوا إليهن» لزوال شرعية الرفث خبثا ، وان الملابسة الخلقية بينكم تزيل عرفية الرفث فضلا عن تكاشف العورة مهما تحاشى عنه من تحاشى (١) ، حيث الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نفسه باشرهن بعد نزول الآية نبراسا عمليا للسماح فيها.

ولأن هذا الأمر كان عقيب الحظر فليس إلّا رافعا للحظر ، رجوعا الى اصل الحل ، ولكي يأتي راجحا رغم انه حظوة الشهوة الجنسية ونزوتها (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) وليس «عليكم» مما يلمح بعدم فرض المكتوب مهما فرض مكتوب ضمنه ، فمنه الولد المكتوب لصالح المباشرة وصالح الحياة الزوجية ، فلا تكن المباشرة لمجرد قضاء الشهوة مهما حلت في أصلها ، ومنه حل المباشرة ، بعيدة عن حالات محظورة كالحيض والنفاس والإحرام والاعتكاف أما شابه.

__________________

ـ عباس مثله بلفظ فاختان رجل نفسه ، واخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريح لقصته هكذا : فقام عمر بن الخطاب فقال يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أني أردت أهلي البارحة على ما يريد الرجل أهله فقالت انها قد نامت فظننتها تعتل فواقعتها فأخبرتني أنها كانت نامت ... ونزل فيه : أحل لكم ...

وفي اخراجات أخرى ان غيره ابتلو بهذه الخيانة كمثله فنزلت الآية.

(١) الدر المنثور ١ : ١٩٨ ـ عن سعد بن مسعود الكندي قال أتى عثمان ابن مظعون رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال يا رسول الله اني لأستحيي ان ترى عورتي ، قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ولم؟ وقد جعلك الله لهم لباسا وجعلهم لك! قال : اكره ذلك ، قال : فإنهم يرونه مني وأراه منهم ، قال : أنت يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ قال : أنا ، قال : أنت فمن بعدك إذا! فلما أدبر عثمان قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ان ابن مظعون لحيي ستير. أقول : انه نقد منه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليه وليس تعريفا به فان التمنع عما أحله الله ليس معروفا.

٦٠