الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٢

مطرودة او مأولة بنفس السند (١) والقولة اليتيمة انه يستبعد فرض العمرة في غير الحج لعدم التعرض في الروايات لخروجها عن أصل التركة كالحج إذا مات مستطيعا للعمرة ، وعدم التعرض لوجوبها على الأجير وهو يستطيعها! إنها مردوة مرفوضة بشمول آيات الحج ورواياته للعمرة أداء وقضاء فلتخرج عن أصل المال كما الحج الأكبر ، ووجوبها على الأجير مستفاد من آية استطاعة الحج وعلى ضوء آية الحج والعمرة هنا ، فاستطاعة العمرة كاستطاعة الحج تفرضها كما تفرضه.

و «لله» في فرض الحج والعمرة تفرض نية القربة فيهما وهي من إتمامهما ولأنهما من العبادات فلا يؤتى بهما إلّا لله.

فآية الإتمام هذه لها تمام الدلالة على فرض العمرة كالحج فان استطاع إليهما سبيلا فهما ، وان استطاع العمرة دون الحج فهي الفرض فقط حتى يستطيع الحج ، فان استطاعه بعد فان كان قرانا او افرادا كفاه الحج ، وان كان تمتعا وجبت العمرة معه ، إلّا إذا كانت المفردة في أشهر الحج في سنته فكافية عن عمرة التمتع.

واما مستطيع الحج دون عمرة فلا يأتي به تمتعا ، اللهم إلّا قرانا او افرادا نظرة أن يأتي بعده بعمرة مفردة ، واما الحج دون أية عمرة فغير مشروع ، اللهم إلّا في غير التمتع.

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٢٠٩ ـ اخرج ابن ماجة عن طلحة بن عبيد الله انه سمع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول : الحج جهاد والعمرة تطوع ، وفيه اخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وصححه عن جابر بن عبد الله ان رجلا سأل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن العمرة أواجبة هي؟ قال : «لا وان تعتمروا خير لكم» أقول : قد يعني «لا» قبل نزول آية العمرة ، إلّا ان آية الحج كافية لفرضها ، ام يعني عدم فرض العمرة إذا أتى بحج مع عمرته تمتعا او قرآنا او افرادا ، ام يطرح لمخالفة الكتاب.

١٢١

ولكلّ من الحج والعمرة إتمام فردي في نفسه ، وآخر جمعي مع زميله ، فلا يتم حج التمتع إلّا بعمرة كما لا تتم عمرته إلّا به ، فاستطاعة التمتع جمعي لا فردي ، فمن استطاع حجه دون عمرته او عمرته دون حجة فهو غير مستطيع ، اللهم إلّا العمرة المفردة إن استطاعها.

واما الحجان الآخران فالمستطيع لعمرة مفردة دون حجها ، او حجها دون عمرتها ، هو مستطيع بالفعل لأحدهما ، ثم ان استطاع الآخر يتم ما أداه بزميله ، وان استطاعهما مع بعض فالأشبه ان يأتي بهما في أشهر الحج.

وكما ان الحجة الأولى لمستطيعها هي حجة الإسلام كذلك عمرتها هي عمرة الإسلام ، وكلّ يخرج من صلب ماله إن مات تاركا له وقد استطاعه ، وقد يسمى المعتمر حاجا مهما كانت العمرة الحج الأصغر.

ومن استطاع بالفعل العمرة المفردة مهما كان بنيابة الحج وسواها لا يؤخرها نظرة استطاعة الحج ، سواء برجاء الاستطاعة المستقبلة للحج ، ام وبأحرى عدم الرجاء ، فان آية الاستطاعة تشمله حاليا بحج أصغر ، ثم إذا استطاع الأكبر أتى بالأكبر ، حيث لا يكفى الأصغر عن الأكبر.

وإذا استطاع الحج ـ فقط ـ ماليا وهو يستطيع العمرة ماليا وسواه فالظاهر وجوبهما عليه أن يعتمر هو بنفسه ويستنيب للحج ، إلّا إذا يرجوا إمكانية الحج بنفسه فيأتي بالعمرة عند استطاعتها ثم بالحج عند استطاعته ، وتكفي عن عمرة الحج في غير التمتع ، وفيه إذا أتى بها في أشهر الحج.

وعلى اية حال فالحج هو الأصل والعمرة فرعه ، ومتى زاحمت العمرة المفردة استطاعة الحج المرجوة فهو ـ إذا ـ مستطيع للحج دون العمرة تقديما للأهم على المهم والتقسيم الجامع كالتالي.

١٢٢

قد يستطيع بالفعل العمرة المفردة ولا يستطيع الحج إلّا مستقبلا شرط ان يحتفظ بمال العمرة ، فذلك غير مستطيع للعمرة حيث تزاحم حجّه وهو الأهم مهما كان متأخرا ، إلّا ان يرجو الحج أقل من رجاء العمرة فيتساويان ، وهنا الخيار بينهما لتساويهما ، وقد لا يرجو المستقبل فعليه العمرة المفردة ، ثم إذا استطاع الحج أتى به.

وإن لم يستطيع عمرة التمتع مع حجها ، صبر حتى يستطيعهما وعند الإياس يستنيب.

والحجّ ـ لغويا ـ هو قصد زيارة البيت فإتمامه ـ إذا ـ إتمام لذلك القصد ابتداء فيه ، ثم وإتماما لما ابتدئ.

والحجّ هو الزيارة المقصودة ، فهو اسم لمصدر الحج ، فالحجّ ـ إذا ـ ذريعة للحجّ وتقدمه له عزما وتصميما.

ثم الحج في نطاق أوسع في لغته هو القصد الى من يراد تعظيمه أو كثرته ، وهو الكف ، وهو الغلبة بالحجة ، وهو القدوم ، ثم وكثرة التردد والاختلاف الى المقصود العظيم.

وقد يضم ذلك القصد العظيم كل هذه المعاني الغالية : قصدا لزيارة الله ـ الى الكعبة المباركة رمزا لتلك الزيارة ، وكفّا عما سوى الله حين يقصد زيارة الله ، تحقيقا في سفرتك إلى الله حكمة (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ).

وغلبة بالحجة على اعداء الله فان مؤتمر الحج سند لها وذريعة إليها. وقدوما الى ساحة الله ـ بيت الله ـ مملكة الله ، بعد الانفصال عما سوى الله. وكثرة التردد إلى هذا البيت العظيم.

والعمرة هي الزيارة التي فيها عمارة الود ، فهي كتقدمه للحج الذي هو

١٢٣

مؤتمر اسلامي عالمي لعمارة الود وسائر المنافع للناس ، فالعمرة ـ إذا ـ تعمير لمملكة الحج كما الحج تأمير للمسلمين على العالمين.

وهنا فوارق بين اقسام الحج ـ الثلاثة.

١ حج التمتع يختص بمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام والباقيان للآخرين ، مهما صح لهما التمتع بل وهو أفضل.

٢ الحج والعمرة في التمتع عبادة واحدة لا يؤتى بهما إلّا في أشهر الحج تقديما للعمرة ، والعمرة في الآخرين يؤتى بها في أي زمان كان قبل الحج او بعده ، في سنته ام بعدها او قبلها.

٣ الاستطاعة في التمتع واحدة لكلا الحج والعمرة ، وهي في الآخرين قد تكون للحج وأخرى للعمرة وثالثة لهما ، فيقدران قدر الاستطاعة بخلاف التمتع ، حيث ينتقل الفرض عند عدم استطاعة المجموعة إلى العمرة المفردة.

٤ الاضحية واجبة في التمتع ، وفي القران هي شريطة انعقاد الإحرام ولا أضحية في الإفراد.

٥ لا يجوز في التمتع الخروج عن حدود الحرم إلّا بشروط ويجوز في الآخرين إذا لم يضر بإتيان الحج في أشهره.

٦ ميقات التمتع هو مكة المكرمة ، وميقات الآخرين هي المواقيت الأخر إلّا للمضطر.

٧ يجوز في الآخرين تقديم الطوافين على الوقوفين دون التمتع إلّا عند الاضطرار.

٨ يجوز فيهما تأخير الطوافين والسعي الى آخر ذي الحجة دون التمتع إلّا عند الاضطرار.

١٢٤

٩ ينعقد إحرام التمتع والإفراد بالتلبيات ويخير في القران بين التلبية والإشعار او التقليد.

١٠ يجوز في الآخرين بين الإحرام والوقوفين الطواف المندوب دون التمتع الا بعد الحلق او التقصير.

١١ الأضحية واجبة في التمتع بأصل الشرع وفي القران بسبب الإشعار ، ولا أضحية في الإفراد.

١٢ لا يجوز في التمتع العدول الى الآخرين إلّا لعذر ويجوز في الإفراد العدول الى التمتع للنائي بل يجب لأنه واجبه دون سواه ، وان كان دون المسافة يجوز العدول الى التمتع بل هو أفضل.

١٣ لا يستناب في التمتع إلّا واحد ، وتجوز استنابة اثنين للآخرين واحد لحجه والآخر لعمرته ، ثم الفوارق بين عمرتي التمتع والإفراد :

١ يجب طواف النساء بركعتيه في المفردة دون التمتع وان كان ندبا.

٢ لا يصح التمتع إلّا في أشهر الحج ويصح الإفراد على مدار السنة إلّا الزمن الخاص بالحج لمستطيعه.

٣ يجب التقصير في التمتع بعد السعي ويحرم الحلق ، ويجوزان في المفردة والحلق أفضل ، اللهم إلّا لمن يجعلها بديلة عن التمتع وهو في حجة الإسلام لوجوب الحلق عليه.

٤ يجب تقديم التمتع على حجها ، دون الإفراد فانه بالخيار تقديما وتأخيرا.

٥ في المفردة التي يؤتى بها مقدمة لحج الإفراد لا يتحلل بينها وبين الحج ،

١٢٥

دون التمتع فانه يتحلل ثم يحرم لحجه من جديد.

٦ الجماع في المفردة قبل السعي عمدا يبطلها قولا واحدا وبطلان التمتع مختلف فيه.

٧ في عمرة التمتع يجب الإحرام من احدى المواقيت الخمس لمن مرّ عليها فان جاوزها الى ادنى الحل لم يصح إحرامها ، وفي المفردة يصح مهما عصى بالتجاوز عن هذه المواقيت.

٨ إذا أتى بالمفردة في الأشهر الحرم كفت عن عمرة التمتع ، ولا تكفى التمتع عن المفردة إطلاقا ، إلّا عن المفردة الواجبة عليه حيث تكفي التمتع ، كما دلت على ذلك المعتبرة.

٩ يجوز الخروج عن الحرم بعد المفردة إطلاقا إلّا إذا أضر بحجه قولا واحدا ، ولا يجوز في التمتع على بعض الأقوال إلّا بشروط.

١٠ وجوب الفصل بين العمرتين ـ على القول به ـ خاص بالمفردتين عن نفسه (١) ولا يجب بين المختلفتين تمتعا وافرادا ، ام إفراد لأشخاص مختلفين ، فان «لكل شهر عمرة» أو «لكل عشرة ايام عمرة» على فرض دلالتهما على واجب التحديد الزمني ، لا تعنيان ـ قطعا ـ عمرة التمتع التي لا تصح سنويا إلّا مرة واحدة ، فتجوز التمتع بعد المفردة بلا فصل ، والنظر في صحة المفردة بعد

__________________

(١) ولا دليل عليه إلّا «في كل شهر عمرة» (عن علي (عليه السّلام) او لكل شهر عمرة فقلت يكون اقل؟ فقال في كل عشرة ايام عمرة ثم قال وحقك لقد كان في عامي هذه السنة ست عمر قلت ولم ذاك؟ قال : كنت مع محمد بن ابراهيم بالطائف وكان كلما دخل دخلت معه.

أقول : علّ في كل شهر عمرة هي حدّ لواجبه على من يدخل الحرم ، ثم في كل عشرة سماح لأقل من شهر ، و (كُلَّما دَخَلَ ..) سماح آخر لكل مرة وان كانت اقل من عشرة ، ثم ولا نصّ في المنع بل الترغيبات المطلقة في العمرة تقتضي جواز ورجاحة إتيانها دون فصل.

١٢٦

التمتع ليس من باب وجوب الفصل حيث لا يجوّز من يمنع حتى مع الفصل ، بل هو لمشكلة الخروج عن الحرم ، وقد لا يستلزم الخروج إحراما عن أدنى الحل ، ثم لا دلالة ثابتة على حظر الخروج إلّا حظرا عن ترك الحج.

١١ يجب الإحرام للمفردة لدخول الحرم إطلاقا إلّا لمن يتردد ، ام لم يمض من إحرامه الماضي شهر ، ولا يجب في التمتع إلّا في السنة مرة لمن وجب عليه الحج.

١٢ لا يجوز الفصل الفاصل بين مناسك التمتع ، ويجوز الفصل بين الحلق او التقصير وبين طواف النساء في المفردة.

ثم هما يشتركان في أصل الإحرام والطواف وركعتيه والسعي والتقصير ، ويختلفان فيما يختلفان في التخيير بين الحلق والتقصير وفي وجوب طواف النساء بركعتيه.

(.. فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ...).

(فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) عن حج أو عمرة ، فما وسعكم الإتمام كما يرام في الوقت المحدّد لكلّ إن كان كعمرة التمتع والحج ، ام في الوقت الميسور كما في عمرة الإفراد ، حيث البقاء في حالة الإحرام نظرة الإفراج حرج ام عسر ، «ف» بديلا عنه خروجا عن الإحرام «ما (اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ..).

وترى ما هو الإحصار هنا حيث يسمح ببديلين هذين عن تتمة الحج والعمرة ومتى هو في ذلك السماح.

انه لا يعني الإحصار ـ أيّا كان ـ إلّا عن الإتمام ، فلا واقع له إلّا بعد الإحرام ، فإن أحصر قبله عن الشروع فيه فلا تشمله الآية ، وكذا الذي يعلم

١٢٧

أنه يحصر على الأشبه فالقدر المعلوم من ذلك الإحصار هو المفاجئ منه ، وفي غيره تردد والأصل انه لا يحكم بحكمه ، بل هو غير مستطيع في منعه عن الشروع في حج او عمرة حيث يحصر عن الوصول إلى الميقات المحدد له ، ولكنه لا يخرج عن الإحرام إلّا بالإتمام ، ام بديلا عنه كما في المفاجأ مهما لم يكف عنه ، فعليه حج أو عمرة بعد ذلك ان استطاع ، وإلا فلا استطاعة ، اللهم إلّا تفويتا للاستطاعة المالية في العالم بالصد ، فيبقى ـ إذا ـ عليه الفرض ، فيأتي به متسكعا ، ثم يخرج من صلب ماله ـ إن قصّر ـ بعد موته.

فالإحصار في الحج يتحقق بما يمنع عن الموقفين وان كان اضطراريا ، وإلّا فلا إحصار حيث يحضر هما ثم يستنيب فيما يحصر بعدهما.

فان أحصر عنهما ولو اضطراريا فهو المحصر وليس عليه إلّا حكمه دون استنابة على الأظهر.

وأما المحصر في العمرة فيحكمه حكمه ، إلّا إذا أحصر ـ فقط ـ عن خصوص الطواف أو السعي فيستنيب فيما أحصر ، وإذا أحصر عنهما فيحكمه حكم المحصر دون استنابة فانه القدر المعلوم من المحصر في العمرة.

ثم الإحصار ـ أيا كان ـ هو ما يحصر المحرم عن تداوم مناسكه ، فهل هو ـ بعد ـ خاص بالموانع المنفصلة كإحصار العدو؟ وقد تحصر الموانع المتصلة أكثر منها كالأمراض التي تمنع دون الإتمام على التمام.

ثم (فَإِذا أَمِنْتُمْ ...) ليست لتختص الإحصار بالعدو ، حيث الأمن أعم من المنفصل والمتصل ، مهما كانت الرجاحة للمنفصل.

هذا ـ ولكن ظاهر الأمن ليس إلّا عن المنفصل ، والإحصار ظاهر ـ كذلك ـ في المنفصل.

١٢٨

فالحصر هو المنع ، ولا يصدق إلّا في القادر على فعل يمنع عنه بسبب منفصل ، ثم هو الحبس وكذلك الأمر ، ثم الحبس والمنع فعلان لا ينسبان إلّا الى فاعل وليس المرض فاعلا.

ثم (فَإِذا أَمِنْتُمْ) لا تناسب الا الأمن عن عدوّ اختلق اللّاأمن ، دون المرض ، ثم (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً ...) تقسم المحصرين الى مريض وسواه ، وهما معا المعنيان ب «أحصرتم» فليست لتعنيهما ، بل هو الإحصار المنفصل ، ثم إذا كان المحصر مريضا أو به أذى من رأسه ، فقد يعذر عن الحلق ، والمريض ـ أيا كان ـ بإمكانه حضور المواقف ، ويستنيب فيما لا يشترط عليه أصله كالطوافين بصلاتهما ، وكالرمي أما شابه ، فلا مجال إذا لبديل «ما (اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) عن كل المناسك المتبقية.

وقد عبر عن هذا الإحصار في الفتح بالصد : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) (٤٨) وهذا هو الذي حصل بالفعل في الحديبية عند ما حال المشركون بين النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن معه من المعتمرين دون الوصول الى المسجد الحرام سنة ست من الهجرة ثم عقدوا معه صلح الحديبية على سماح العمرة في السنة القادمة.

وقد «خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) معتمرين فحال كفار قريش دون البيت فنحر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هديه وحلق رأسه» (١). فآية الإحصار هي خلاف ما اصطلح عليه فقهاء من الأمة سنادا الى

__________________

(١)الدر المنثور ١ : ٢١٣ ـ اخرج البخاري والنسائي عن نافع ان عبيد الله بن عبد الله وسلام بن عبد الله أخبراه أنهما كلما عبد الله بن عمر ليالي نزل الجيش بابن الزبير فقال : لا يضرك ألا تحج العام ان نخاف ان يحال بينك وبين البيت فقال : خرجنا ...

وفيه أخرج البخاري عن ابن عباس قال قد أحصر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فحلق ـ

١٢٩

بعض الروايات (١) أنها تختص بالمرض ، فان (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) يعتبر فيها قسما هامشيا من المحصرين المصدودين ، ام ولأكثر تقدير الإحصار يشملهم وسواهم ، ولكنه مرض بعد الحصر او معه ، لا انه من الحصر ، حيث يفرع المرض على الإحصار ، لا ان المرضى هم ـ هنا ـ قسم من المحصرين ، والتعبير عن «مرضتم» ب «أحصرتم» خلاف الفصيح والصحيح ، ولا سيما باب الإفعال الدال على ان فاعل الإحصار غير المحصر ، فلا أقل ان الظاهر كالصريح من الإحصار هو الصدّ منعا او سجنا أمّا شابه ، لا سيما وان «امنتم» قرينة اخرى على ذلك الظهور لحد لا يكاد يشمل المرض حيث الصحيح فيه : فإذا برئتم ، دون أمنتم.

أجل قد يلحق المرض بالإحصار إذا كان يحصر عن الإتمام كما يرام ، كمن لا يستطيع على حضور الموقفين ـ ولا يصح فيهما الاستنابة ـ حيث القصد من حكم المحصر هو التيسير على المحرمين ألا يصبحوا محرومين عن فضيلة الحج والعمرة فريضة وسواها ، فالهدف الأسمى من هذه الشعائر هو استجاشة مشاعر

__________________

ـ رأسه وجامع نساءه ونحر هديه حتى اعتمر عاما قابلا.

ومثله ما عن طرق أصحابنا كرواية معاوية عمار ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حين صده المشركون يوم الحديبية نحر وأحل ورجع الى المدينة ، ورواية حمران عن أبي جعفر (عليهما السّلام): ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حين صد بالحديبية قصر وأحل ونحر ثم انصرف منها ، وخبر زرارة عنه (عليه السّلام) المصدود يذبح حيث يشاء ويرجع صاحبه فيأتي النساء.

(١) كصحيحة معاوية بن عمار : المحصور غير المصدود ، وقال : «المحصور هو المريض والمصدود هو الذي يرده المشركون كما ردوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس من مرض ، والمصدود تحل له النساء والمحصور لا تحل له النساء» (معاني الاخبار ٢٢٢ والفقيه الحج ب ١٥٠ ح ١ والكافي ٤ : ٣٦٩ والتهذيب ١ : ٥٨٠) أقول : عدم حل النساء للمحصور المريض لامكانية حضور المواقف والاستنابة فيما لا يقدر ، والا فقد تحل له النساء ان كان كالمصدود.

١٣٠

التقوى والزلفى الى الله قياما بالطاعات المفترضة على العباد ، وحين يتم التصميم ويدخل العبد في صميم الحجاج او المعتمرين بالإحرام ، ثم يقف العدو او المرض في الطريق ، فلا يحرم المحرم ـ إذا ـ عما للحاج او المعتمرين من أجر ، حيث يقدّم ما استيسر من الهدى محله ثم يحلق ويحل ، وكأنه أتم بقية مناسكه.

وكما المحرم ، ولا سيما الداخل في الحرم حين يموت قبل الإتمام له أجره كمن أتم : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) (٤ : ١٠٠).

وذلك التيسير للمحرم العسير هو الذي يتفق مع الروحية المرنة الإسلامية وسماحها ، فكل شيء حبس المحرم عن الإتمام دون تقصير فهو إحصار أيّا كان ، مهما كان الأصل هو إحصار العدو أما شابهه منعا عن الإتمام.

ولا بد لكل من الإحصار والمرض ألّا يجد سبيلا دون الحرج والعسر لإتمام مناسكه وإلّا فلا يصدق الإحصار المطلق مهما كان محصرا من متعوّد الطريق ، ثم المرض إذا أحصر إحصارا مطلقا هو الذي يلحق بالإحصار دون سواه.

فالمحصر الذي بامكانه رفعه بنفقة لا يستطيع عليها اما شابه من سلوك طريق ابعد من المتعود المصدود ، هو ليس ممن استطاع إليه سبيلا ، كما المريض هكذا ، والأحوط لهما تطبيق حكم المحصر ثم الإتيان من قابل إن كان فرضا ، وإلّا فقد يكفيه ما فعل.

وهنا (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) تشمل اقسام الحج والعمرة منذ الإحرام حيث يصدق عنده وما بعده الإتمام ، فالمحصر تماما عن تداوم المناسك يحلق بعد ان يحلّ ما استيسر من الهدى محلّه فيحل ، ولكن المريض ، إذا قدر على حضور المواقف والاستنابة فيما لا يستطيع ، فغير محكوم بحكمه ، وحتى إذا لم يقدر

١٣١

كالمحصر فقد يختلف عنه في حل النساء حيث لا تحل له حسب صحيح الرواية (١) ، بخلاف المحصر.

وهل المحصر له حكمه المذكور في الآية وان تمكن من الاستنابة فيما تقبلها من المناسك كما سوى الوقوفين؟ ظاهر اطلاق الآية وكونها في مقام الامتنان والحنان هو الإطلاق ، ووجوب الاستنابة على من يستطيع مناسك تقبل النيابة هو المقيّد بغير مورد التمكن ، ولكنه قد يختص بغير حالة الإحصار ، فظاهر اطلاق الإحصار ـ وهو كالنص ـ يختصّ ادلة وجوب الاستنابة بغير الإحصار ام ولا اطلاق فيها فان موردها الحاضر العاجز دون المحصور ، ولكن لا يترك الاحتياط بالجمع بين الاستنابة وواجبات المحصر ، لا سيما وأن المعتبرة تعتبر الوقوفين انهما الحج ، فالمتمكن من الوقوفين اختياريا او اضطراريا على الوجه المعتبر في هذين الركنين ، ليس محكوما بحكم المحصر ، فعليه حضورهما والاستنابة فيما سواهما ان لم يستطعه لإحصار او مرض (٢).

والمرض الملحق بالإحصار هو الذي يصد عن حضور المواقف كما الإحصار ، فقد يحصر حكمه به ثم المرض الذي يحصره كما الإحصار ، ولكن (فَإِذا أَمِنْتُمْ) قد لا تساعد على إلحاق المرض كيفما كان ، إذا فهكذا مريض ليس ممن استطاع اليه سبيلا ، ام يصبر حتى يزول مرضه اضافة الى الاستنابة فيما

__________________

(١) هي صحيحة معاوية بن عمار الماضية.

(٢) ويدل على ذلك صحيحة الفضل بن يونس قال سألت أبا الحسن (عليهما السّلام) عن رجل عرض له سلطان فأخذه ظالما له يوم عرفة قبل ان يعرف فبعث به إلى مكة فحبسه فلما كان يوم النحر خلّى سبيله كيف يصنع؟ قال : يلحق فيقف بجمع ثم ينصرف إلى منى فيرمي ويحلق ويذبح ولا شيء عليه ، قلت : فان خلّى عنه اليوم الثاني كيف يصنع؟ قال : هذا مصدود عن الحج فان كان دخل متمتعا بالعمرة الى الحج فليطف بالبيت أسبوعا ويسعى أسبوعا ويحلق رأسه ويذبح شاة وان كان دخل مكة مفردا فليس عليه ذبح ولا حلق.

١٣٢

يقبلها من تتمة مناسكه ، وفي لحوق حكم المحصر للمريض تأمل ظاهر ، اللهم الا فيما لا مجال فيه للاستنابة ، وليس للمحصر ولا عليه ما فرض عليه لحلّه من إحرامه إلّا عند الإياس عن إتمام مناسكه بتضيّق وقتها ، وإلّا لم يكن محصرا ، كما وان (فَإِذا أَمِنْتُمْ) تفرض عليه هديا آخر إن كان متمتعا إذا أمن بعد الإياس والوقت باق وقد طبّق فرضه الأوّل.

ثم (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) هنا كما في هدي المتمتع ، يقدّر بقدر إمكانية المهدي ، ولأن الهدي هو جمع الهدية ام هو الهدية كما تلمح له (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) تذكيرا له وافرادا لضميره العائد اليه وهي ـ بطبيعة الحال كما تدل عليه آياته ورواياته ـ لفقراء الحرم زوارا وسواهم ، فلا بد من امكانية إيصاله إليهم حالا أم بعده ، وان مبلغا يسيرا من المال ممن لا يتيسر له هدي غيره ، ام ثمن هدي الأضحية إذا لا يتيسر هي بنفسها عوزا أم حيث لا مصرف للحومها كما فصلناه في آيات الحج.

(وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ...)

(لا تَحْلِقُوا ... حَتَّى) دليل ان الحلق هو الواجب المتعيّن على المحصر حاجا او معتمرا في كل أقسامهما ، ولا ينوب عنه التقصير ـ إلّا للمرأة ـ وحتى عند عدم إمكانيته ، حيث ينتقل حسب النص الى (صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) فالمحصر مطلقا حكمه محصور في الحلق مهما كان في سعيه مخيرا بين الحلق والتقصير ، ام في مناه متعين الحلق او جائز التقصير.

وترى ما هو «محل الهدي» حيث جعلت غاية للحلق ، هل هو مكانه في مكة للمعتمر ، (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) ام في منى للحاج ، ذبح أو لمّا؟ وبلوغ الهدى محله ذاك ليس إلّا ذريعة لذبحه وهو الأصل! ام هو محل ذبحه ، ان يحل مذبحه؟ وتعبيره الصالح حتى يذبح هديه!.

١٣٣

قد يعني «محلّه» إضافة الى مكانه ومذبحه ما يحله من البائس الفقير والقانع والمعتر ، وكذلك زمانه ، وهو يوم النحر في الحج ويوم وصول الحاج مكة في العمرة ، فلا يحل ـ إذا ـ قبل ان تحل الهدي مكانه وزمانه (١) وسنة الهدية ان تهدى الى بيت المهدى اليه في الزمان المناسب وهو جوار الكعبة عمرة وقتها ، ومنى حجا يوم الأضحى.

أجل إذا كان (الْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) فقد يذبح محلّه الثاني وهو حيث ما أحصر وكما نحر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث أحصر في الحديبية لذلك العاكف.

ف «محله» إنما يحل محلّه بلاغيا لبيان كاف شاف إذا عنى الذبح فيما عناه تجاوبا معه في منى يوم النحر فانه قبل الحلق او التقصير ، ولا أقل من الاحتياط بعدم الحلق حتى الذبح ، بل والوصول الى محل الاستحقاق (٢).

ثم (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) غاية زمانية ومكانية للإحلال فيما أمكن أو رجاه ، وإلّا فليهد هديا او مالا مكانه ثم يحلق وقد قال تعالى : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) (٣ : ١٩٦) ومتظافر الحديث يجاوب الآية انه نحر هديه عند الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان.

وقد يلمح تعين الحلق هنا بأصالته كضابطة ، وهي قضية كونها بديلا عما في منى ، فالتجاوب بين البديل والمبدل عنه يحكم بمماثلتها فليكن المبدل عنه

__________________

(١) في التهذيب ١ : ٥٦٧ والكافي ٤ : ٣٦٩ صحيحة معاوية بن عمار قال : سألته عن رجل أحصر فبعث بالهدى؟ قال : يواعد أصحابه ميعادا فان كان في الحج فمحل الهدي يوم النحر ...

(٢) نور الثقلين ١ : ١٨٧ عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : إذا أحصر الرجل فبعث بهديه فأذاه رأسه قبل ان ينحر هديه فإنه يذبح شاة في المكان الذي أحصر فيه ويصوم او يتصدق ...

١٣٤

ايضا حلقا كالبديل ، خرجت العمرة المفردة بدليل ، فقد قال الله تعالى عنها في عمرة القضاء المفردة (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) (٤٧ : ٢٧) ثم دليل السنة على فرض التقصير في عمرة التمتع.

فالأصل الكتابي إذا هو وجوب الحلق في منى بدليل البديل ، اللهم إلّا ان يحوله عنه دليل كما للعمرتين تعينا للتقصير ام تخيرا بين الحلق والتقصير.

هذا ـ ولكن (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) قد تنحيها عن العمرتين ، فان ذلك بداية الدخول ، وليست حالة الحلق والتقصير إلّا بعد الأضحى ، فليس بعد إحرام العمرتين إلّا الطواف وصلاته ثم السعي فتقصير في تمتعها وتخيير في إفرادها.

إلّا أن هنا الواو عطفا دون «أو» تخييرا مما ينحّي التخيير ، ثم ولا جمع بينهما لأي من الحجاج ، فلتكن للجمع بين جمعي المكلفين «محلقين» كأصل «ومقصرين» كبديل لعذر ، ام سواه ان دل دليل ، ثم وعدم جواز الحلق في عمرة التمتع معلّل في السنة بانه يستقبله الحلق ، فان حلق لم يبق له مكان الحلق ، ولو لم يتعين الحلق على الحاج كأصل لم يتعين عليه في عمرة التمتع التقصير ، فليكن حفاظا على واجب الحلق ، فمن المعذورين عن الحلق (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) فانه يقصر في الحج ، ويفدي فيه وفي العمرة إن كان محصرا.

وقد دلت السنة على وجوب الحلق على الصرورة : الحاج لأوّل مرة ، إلّا لعذر ، ومن سواه فله التقصير كما في الموثق عن عمار الساباطي عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : سألته عن الرجل برأسه قروح لا يقدر على الحلق قال : ان كان قد حج قبلها فليجز شعره وان كان لم يحج فلا بد له من الحلق (١) وآية

__________________

(١) التهذيب ١ : ٥٨٥ وفيه ١ : ٥١٥ والاستبصار ٤ : ٥٠٣ في الصحيح عن الحلبي عنه ـ

١٣٥

«محلقين» قد تختص بالآخرين فانها تبشر عن الحجة الأولى للمسلمين.

ثم قد يجب الحلق على غير الصرورة إذا لبّد شعره او عقصه لصحيحة مطلقة (١) فذلك إذا عنوان ثان لوجوب الحلق بعد الصرورة.

(فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ).

المرض هنا بمناسبة الحكم والموضوع هو الذي يضره الحلق ، ثم (أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) هو المرض الجلدي في الرأس الذي يعسر معه او يحرج الحلق ، إذا فالعذر منحصر فيهما دون سواهما من مختلف الأعذار ، كأن يهزء به بين جمعه وصحبه او سواهم ، ام يسقط عن هيبته وسودده ، فان موقف الحج هو موقف التذلّل لله ، والتحلّل عن التشخصات والإنيات والأنانيات المتخيّلة.

فليس ـ إذا ـ لمن عليه الحلق محصرا وغير محصر ان يبدله بالتقصير كما في منى ام بفدية كما هنا ، بغير مرض أو أذى من رأسه ، اللهم إذا لم يجد الى الحلق سبيلا صالحا ، ولكن عليه ان يحضّر لحلقه من ذي قبل.

ثم (مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) قد تكفي ما صدق من كل واحدة ، كصيام يوم ، وصدقة مّا او نسك مّا ، وتفسير «صيام» بثلاثة ايام و «صدقة» باطعام ستة مساكين و «نسك» بشاة في عديد من الروايات ، علّه تعديل لمعدّل

__________________

ـ (عليه السّلام). في حديث : وعلى الصرورة ان يحلق.

(١) السرائر ص ٤٦٦ في الصحيح من نوادر احمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : سمعته يقول : «من لبد شعره او عقصه فليس له ان يقصر وعليه الحلق ، ومن لم يلبد تخير إن شاء قصر وإن شاء حلق والحلق أفضل».

والنص الاوّل يخص مطلق التخيير في الثاني بغير الضرورة دون ريب.

١٣٦

الميسور ، ام تحديد لأكثر ما على المحصر ، فقد يكفيه من كلّ مصداقه وهذه أفضله.

ثم «نسك» قد لا تختص ـ كما الحدود المذكورة ـ بشاة ، حيث النسك هي العبادات ومنها هدي شاة لا انه ـ فقط ـ النسك ولا سيما جمعا ، فقد تكفي ـ إذا ـ عبادات كالتي يؤتى بها في الحج مثل الصلاة وسائر الذكر ولا سيما التقصير الذي هو من النسك الخاصة في الحج والعمرة ، اضافة الى ان التعبير عن هدي شاة وسواها بالنسك خلاف الفصيح او الصحيح ، فان عبارته الخاصة «الهدي» إذا فالنسك قد تعمه وسواه من نسك الحج ، الممكن الإتيان بها هنا ، الشاملة للتقصير كما تشمل شاة وسواها من نسك ميسورة وكما يروى عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) «.. أو أنسك مما تيسر» (١).

ولكن الأحوط بل الأشبه إحدى هذه الثلاثة حسب الروايات تخيّرا بينها ، مهما كان الأشبه كفاية التقصير.

(... فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٢١٣ ـ أخرج احمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي وابن جرير والطبراني والبيهقي في سننه عن كعب بن عجرة قال : كنا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالحديبية ونحن محرمون وقد حضرنا المشركون وكانت لي وفرة فجعلت الهوام تساقط على وجهي فمر بي النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال : أيؤذيك هوام رأسك؟ قلت : نعم فأمرني أن احلق قال : ونزلت هذه الآية (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صم ثلاثة ايام او تصدق تفرق بين ستة او انسك مما تيسر.

وفيه في حديث آخر عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) النسك شاة والصيام ثلاثة ايام والطعام فرق بين ستة مساكين.

أقول : لقد تظافرت روايات الفريقين بذلك التحديد فلا محيد عنه على الظاهر منها.

١٣٧

لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) ١٩٦.

(فَإِذا أَمِنْتُمْ) من الحصر ، فحيث يستمر الحصر الى آخر المناسك فما على المحصر إلّا الهدي والحلق فيحل ، واما (فَإِذا أَمِنْتُمْ) بعد الإحصار واليأس من الأمن ، فان حكم المحصر محصر في حالة اليأس عن الإتمام ، وقد يأتي الأمن بعد اليأس عنه ، ثم (فَإِذا أَمِنْتُمْ) للحج منذ الإحرام حتى آخر المناسك ، فليس النص ليختص بالأمن بعد الاضطراب مهما يذكر هنا بعد الإحصار ، فان لأمن الحج موضوعية مطلقة للحكم التالي (فَمَنْ تَمَتَّعَ ...).

وإذا أمكن الحصول على الأمن ـ من عدو او مرض بغير ما عسر او حرج ـ وجب ، فلا يجري حكم المحصر إلّا بشرطين اثنين كأصلين : ان يحلق الحصر كل الأجل المقرر ، ام يطول في غير المقرر بقدر يحرج المحرم ، وألّا يستطيع على إزالة الحصر ، وإلّا فلا دور لحكم المحصر.

(فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ..) وهي خاصة بالفعل بحج التمتع ، دون القران والإفراد ، او العمرة المفردة ، إذ ليس فيها (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) اللهم إلّا للقارن الذي يقرن هديه بإحرامه ، فهو ـ إذا ـ محرم مع هديه دونما حاجة الى هدى آخر.

أترى الهدي الأول حين الإحصار لا يكفي عن الهدي الثاني ، او الثاني حين الأمن لا يكفي عن الأول؟ الظاهر لا ، حيث الأول لحالة الإحصار لكل الحجاج والمعتمرين ، والثاني فقط للمتمتع بعمرته إلى حجّه حالة الأمن ، مهما عم أمنه عن إحصار كما هنا ، الى أمنه المطلق ، مهما لم يكن عليه الهدي الأول في الأمن المطلق.

١٣٨

إذا فالقول بالتداخل بالأمن بعد الإحصار مدخول فيه ، فحين يبقى الإحصار دون أمن فالهدي الأول ، وحين يأمن عن إحصار والوقت باق فهدي ثان بعد الأول ، وإذا لا إحصار إلّا الأمن الكامل الكافل لمناسكه كلها فثاني الهديين دون الأول.

هنا (فَمَنْ تَمَتَّعَ ...) نصّ في حج التمتع ، المفروض على النائين ، وكذلك كانت حجة الوداع وهي الحجة الأولى الإسلامية ، بادئة بتمتعها ، يدل على فضلها في فرضها على زميليها : القران والإفراد ـ وهما لمن كان أهله حاضري المسجد الحرام ، اللهم إلا لضرورة تسمح لانتقال التمتع الى الإفراد ، و «لمن» لمحة لذلك السماح ، التي قيدتها السنة بحالة الضرورة.

موقف سلبي حادّ للخليفة عمر في المتعتين

ولست أدري ما ذا يحمل ثاني الخليفتين على معارضة الكتاب والسنة بكل إصرار ، تحريما لمتعتي النساء والحج ، مهددا في الأولى بالرجم وكأنها زنا المحصن ، والثانية بالتعذيب وكأنها من الكبائر الأخرى.

ليس فحسب انه حرمهما بعد ارتحال الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وجلوسه على عرش الخلافة ، بل وقد سبق منه التنديد بالرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كيف يحلّل متعة الحج ، ففيما يخطب الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حجة الوداع اعلاما عاما بسنّ متعة الحج وانها ثابتة الى يوم القيامة ، حين يجاوب السائل : أرأيت هذا الذي أمرتنا به لعامنا ام لكل عام ـ قائلا : لا بل لأبد لأبد ، فيقوم عمر قائلا : يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نخرج حجاجا ورؤوسنا تقطر؟ فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : إنك لن تؤمن بها أبدا (١) ، لقد جمع الخليفة هنا بين تفريط الجاهلية ـ إذ

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١٨٦ في العلل عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال قال رسول الله (صلّى الله ـ

١٣٩

لم تكن تعرف دمج العمرة في الحج تمتعا بينهما ـ و «كانوا لا يعرفون العمرة في أشهر الحج» ففوجئوا بقول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) «دخلت العمرة في الحج الى يوم القيامة وشبك بين أصابعه يعني في أشهر الحج ...» (١).

__________________

ـ عليه وآله وسلّم) في حجة الوداع لما فرغ من السعي قام عند المروة فخطب الناس فحمد الله واثنى عليه ثم ال : يا معشر الناس هذا جبرئيل ـ وأشار بيده الى خلفه ـ يأمرني ان آمر من لم يسق هديا ان يحلّ ولو استقبلت من امري ما استدبرت لفعلت كما أمرتكم ولكني سقت الهدي وليس لسايق الهدي أن يحل حتى يبلغ الهدي محله فقام اليه سراقة بن مالك بن جعشم الكناني فقال يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) علمنا ديننا فكأننا خلقنا اليوم أرأيت هذا الذي أمرتنا به لعامنا أم لكلّ عام فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا بل لأبد الأبد وان رجلا ... ومثله في «متعتنا هذه يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعامنا هذا ام للأبد؟ قال : لأبد الأبد» رواه البخاري في صحيحه ٣ : ١٤٨ كتاب الحج باب عمرة التنعيم ـ صحيح مسلم ١ : ٣٤٦ ـ كتاب الآثار أبي يوسف ١٢٦ ـ سنن ابن ماجة ٣ : ٢٣٠ ـ مسند احمد ٣ : ٣٨٨ و ٤ : ١٧٥ ـ سنن أبي داود ٣ : ٢٨٢ ـ صحيح النسائي ٥ : ١٧٨ ـ سنن البيهقي ٥ : ١٩ ـ كلهم عن سراقة بن مالك قال : «متعتنا هذه ...» وفي صحيحة اخرى عن سراقة قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خطيبا فقال : ألا إن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة(مسند احمد ٤ : ٨٧٥ ـ سنن ابن ماجة ٣ : ٢٢٩ ـ سنن البيهقي ٤ : ٥٥٢) وفي صحيحة عن عمر نفسه قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أتاني جبرئيل (عليه السّلام) وانا بالعقيق فقال : صل في هذا الوادي المبارك ركعتين وقل : عمرة في حجة فقد دخلت العمرة في الحج الى يوم القيامة.

(١) المصدر عن العلل عن الفضيل بن عياض قال سألت أبا عبد الله (عليه السّلام) عن اختلاف الناس في الحج فبعضهم يقول : خرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مهلّا بالحج وقال بعضهم مهلّا بالعمرة وقال بعضهم خرج قارنا وقال بعضهم خرج ينتظر امر الله عزّ وجلّ فقال ابو عبد الله (عليه السّلام) : علم الله عزّ وجلّ انها حجة لا يحج رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعدها أبدا فجمع الله له ذلك كلّه في سفرة واحدة ليكون جميع ذلك سنة لأمته فلما طاف بالبيت وبالصفا والمروة أمره جبرئيل ان يجعلها عمرة الا من كان معه هدي فهو محبوس على هديه ولا يحل لقوله عزّ وجلّ (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) فجمعت له العمرة والحج ، وكان خرج على خروج العرب الأوّل لأن العرب كانت لا تعرف إلّا الحج وهو في ذلك ينتظر امر الله عزّ وجلّ وهو يقول : ـ

١٤٠