الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٢

(بِغَيْرِ حِسابٍ) الإيمان واللاإيمان ، فلا يرزق فيها المؤمن بحساب إيمانه والا لاختص الرزق بالمؤمنين ، ولا يحرم الكافر بحساب كفره وإلّا حرم عنه الكافرين ، بل قد يعاكس امر الرزق هنا فانه ابتلاء (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ. وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ. وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) (٤٣ : ٣٥).

ثم (بِغَيْرِ حِسابٍ) في الآخرة هو ـ فقط ـ رزق المؤمنين فان الكافرين هناك لا رزق لهم إلّا الجحيم ، والمؤمن يرزق فيما يرزق دون ان يحاسب فيه بصالحاته ، بل عشرا ويزيد ، بل (فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ).

ذلك ، مهما كانت الأرزاق الروحية والمعرفية هناك ورضوان من الله ، هي كلها بحساب الصالحات ، كل على قدره بالنسبة لبعضهم البعض ، ولكنها ايضا ليست على أقدار الصالحات مثلا بمثل ، بل يزيد الله من فضله ما يشاء بغير حساب.

فكما «من يشاء» في الأخرى ليس فوضى جزاف بل هو بحساب الصالحات ، كذلك الرزق هنا بغير حساب لا يعني فوضى اللاحساب ، وانما فضله بعد عدله.

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ

٢٤١

فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (٢١٤) يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ

٢٤٢

أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠) وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ

٢٤٣

مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣))

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ٢١٣

الأمة هي من الأم : القصد ، فهي جماعة ذات قصد واحد ، وقد تطلق

٢٤٤

على الفرد الذي له همامة جماعة ذات قصد واحد ، أم إمامة جماعة ، وله الهمة العالية التي تخلق أمة على منهجه ومنهم إبراهيم : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٦ : ١٢٠).

وترى (أُمَّةً واحِدَةً) هنا ـ بالنسبة للناس ككلّ ـ هي أمة الهداية ، أنهم كلهم كانوا على هدى قبل بعث النبيين؟ وهذه مستحيلة في نفس الذات ، فان مختلف الأهواء والرغبات الإنسانية هي أسس عوامل الاختلافات الشاسعة بين الناس! وحين لم تجمع الناس و ـ لن يجتمعوا ـ على هدى بدعوات الرسل ، فكيف تجتمع ـ إذا ـ دون دعوة رسالية!.

ثم إذا كان القصد من بعث النبيين القضاء على الخلافات الإنسانية ، فما هي الحاجة إليهم وهم على هدى! رغم أن الرسالات جعلت الناس في شطري الهداية والضلالة : (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) وأنهم جاءوا لرفع خلافات دائبة بينهم : (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)! فما هي الهدى الواحدة بينهم؟!.

أم هي أمة الضلالة ، أنهم كانوا ككلّ كفارا؟ وتراهم كلّهم بما ذا كفروا ولم يبعث بعد نبيون حيث : (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ ..)! ثم وكيف يمكن الإجماع على ضلال الكفر لو كفروا بشرعة إلهية ، وحملة الشّرعة هم على هدى من ربهم ، ولا يخلوا المرسل إليهم ـ لو كانت رسل ـ من استجابة مّا للرسالات! وحتى قبل الدعوات الرسالية ، ليس الناس كلهم كفارا بمبدإ الفطرة والعقلية الإنسانية!.

فلم يكونوا ـ إذا ـ لا مهتدين ولا كفارا ، بل «كانوا ضلالا لا مؤمنين ولا كافرين ولا مشركين» (١) حيث الدعوات الرسالية هي التي تخلق هذه الأمم

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٢٠٨ في تفسير العياشي عن يعقوب بن شعيب قال سألت أبا عبد الله ـ

٢٤٥

الثلاث ، والبشرية قبلها (أُمَّةً واحِدَةً) متماثلين في أصل الضلالة عن الهدى الرسالية ، وهذا هو الذي يستتبع بينهم خلافات حسب مختلف الأهواء والرغبات (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) على كونهم أمة واحدة ، في الضلالة عن هدي الوحي ، مهما كانوا مهتدين برسل الفطر والعقول ، فإنها لا تكفي هدى لابقة لائقة بالإنسان بحيث تصبح الإنسانية أمة واحدة كاملة ، إذا فوحدة الأمة البشرية قبل بعث النبيين لا تعني عدم الاختلاف بأسره ، بل وحدة في الضلالة عن هدى الوحي كما ولم يكونوا كافرين إذ لا وحي به يكفرون.

هذا! ولكن ما هو الجواب عن سؤال : متى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين؟ وقد بزغت الإنسانية برسالة الوحي ، فآدم الرسول هو أوّل إنسان من هذه السلسلة ، ثم من ولده وأحفاده كشيث وإدريس ، وقد كان نبيا حسب النص (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) (١٩ : ٥٦) وكما تلمح آيات أو تصرح بأنبياء قبل نوح : (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) (١٩ : ٥٨) ، ثم وكيف يجوز في حكمة الله ورحمته أن تظل البشرية ردحا من الزمن أمة واحدة في ضلال ثم يبدو الله أن يبعث النبيين ، فيحتجون ـ إذا ـ على الله كما قال الله : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً. رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (٤ : ١٦٥) (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا

__________________

ـ (عليه السلام) عن الآية فقال : كان الناس قبل نوح امة واحدة فبد الله فأرسل الرسل قبل نوح ، قلت : ا على هدى كانوا ام على ضلالة؟ قال : كانوا على ضلالة قال : بل كانوا ضلالا لا مؤمنين ولا كافرين ولا مشركين. وفيه عن المجمع وروي عن الباقر (عليه السلام) انه قال : كانوا قبل نوح امة واحدة على فطرت الله لا مهتدين ولا ضلالا فبعث الله النبيين.

٢٤٦

أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) (٢٠ : ١٣٤).

ذلك! وإلى آيات أخرى تنص على تحليق الرسالات الإلهية على الأمم كلها دون إبقاء : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) (١٦ : ٣٦) ـ (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ) (١٠ : ٤٧) ـ (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ) (٢٢ : ٦٧) ـ (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (٣٥ : ٢٤).

فمتى كان الناس ـ إذا ـ أمة واحدة ضلّالا فبعث الله النبيين ..؟!

قد تعني (أُمَّةً واحِدَةً) للناس ، وحدتهم في الضلالة : ـ لا على هدى كاملة ولا كافرين ـ انهم كانوا في الفترة الرسولية بين آدم وإدريس ، ام وبين إدريس ونوح (عليهم السّلام) ، فلم يكن في تلك الفترة نبي صاحب كتاب شرعة ولا نبوة ، وانما دعوة رسالية لا رسولية في فترة بعيدة من الزمن جعلت الناس في الأكثرية الساحقة ضلّالا قاصرين بتقصيرهم في التحري عن الدعوة الرسالية الموجودة ، مهما كان الوصول إليها والحصول عليها صعبا.

(فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) أصحاب كتاب الشرعة الذي فيه تفاصيل زائدة على وحي الرسالة الخاصة بإرشاد الفطرة والعقلية الإنسانية إلى هداهما الخالصة.

فقد كانت في مثل هذه الرسالة كفاية للإنسان البدائي ، دون حاجة ماسة ضرورية إلى تفاصيل أحكام النبوة المذكورة في كتابات النبوات.

فالأنبياء هم أصحاب كتابات الوحي الحاملة للشرعة الأحكامية زيادة على الرسالة الفطرية والعقلية ، وليس الرسل كلهم يحملونها ، كما ويذكر النبيون مع الكتاب دون الرسل إلّا النبيون منهم.

إذا فلم تمض على البشرية زمن الفترة الرسالية (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ

٢٤٧

حُجَّةٌ) بل هي إما فترة رسولية ، أم فترة الأنبياء أو والنبوات ، كما الأخيرة كانت بين المسيح ومحمد صلوات الله عليهما : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ ..) ـ (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ).

ولئن سأل سائل هل كان النبيون قبل نوح ـ وهم اصحاب كتب ـ كانوا من أولى العزم؟ وهم خمسة! ام لا؟ فكيف كانت لهم شرائع مستقلة مهما كانت لواحد منهم كإدريس! قلنا : النبوة مهما استلزمت كتاب الوحي ولكنها كتاب أكمل من كتاب الرسالة وهما مشتركان في عدم حمل شرعة سوى تدليل العقل والفطرة ، أم ان العزم بكامله ليس إلّا في الخمسة.

وقد تعني «كان» فيما عنت كونا منسلخا عن الزمان ، ناظرا ـ فقط ـ إلى كيان الإنسان ، أنه (أُمَّةً واحِدَةً) في الضلال ـ وعلى طول خط الحياة بخطوطها وخيوطها ـ ما لم يهتد بوحي النبوات الربانية ، فلا تكفيه الفطرة والعقلية الإنسانية لإخراجه عن متاهة الضلالة وتيه الغواية ، كيف ولم يخرج عنها تماما على ضوء الدعوات الرسالية ، ففريق لم يؤمنوا ، وفريق آمنوا ثم تفرقوا واختلفوا في نفس الشرعة التي هي عامل الوحدة.

ثم الاختلاف اثنان ، اختلاف قبل النبوات هو طبيعة الحال القاصرة ، فطرة بعصمتها الإجمالية ، وعقلية خاطئة غير معصومة ، واختلاف بعد النبوات بين حملة الشرائع بعد النبيين ، وبين المحمول إليهم من جرّاء خلافاتهم في كل شرعة شرعة.

هذا ، كما و (ما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) (١٠ : ١٩) قد تنظر إلى الاختلاف الثاني وهو في الدين ، بعد الاختلاف الأول الذي اقتضى بعث النبيين.

كما وآيتنا تصرح بهذين الاختلافين فالأول هو المستفاد من : (لِيَحْكُمَ بَيْنَ

٢٤٨

النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) اختلافا على وحدتهم في أمة الضلالة ، فالهدف الأقصى والأسمى من بعث الله النبيين هو الحكم بين الناس المختلفين في أهوائهم ورغباتهم ، والثاني يستفاد من: (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ) ـ اي في كتاب النبوة ـ (إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) علماء وجهالا ، حيث تذرعوا بعامل الوحدة لبثّ الاختلاف فيما هو الداعي إلى الوحدة ، كما اختلفوا في القرآن في أبعاد أخراها الرجوع إليه كأصل ورأس للزاوية.

فهناك قبل إنزال الكتاب ، أم قبل النظر المهتدي إلى الكتاب ، اختلاف اوّل هو طبيعة الحال ، قضية مختلف الأهواء والرغبات من ناحية ، وقصور الفطر والعقول من أخرى.

ثم هنا اختلاف ثان هو في الكتاب ، اختلافا في تصديقه ، فمنهم من آمن ومنهم من كفر ، واختلافا آخر بعد تصديقه ، تثاقلا عليه دون انتقال إلى الشرعة التالية ، كاليهود المتثاقلين على شرعتهم تكذيبا للمسيح ، والمسيحيين المتثاقلين على شرعتهم تكذيبا للقرآن ، أم اختلافا في الكتاب في حقله نفسه ، إرجاعا إليه كأصل ، أم تركا له إلى روايات وأقاويل لا أصل لها ، ثم اختلافا في الإرجاع ، تحميلا عليه آراء زينوها وراء الكتاب ، ام رجوعا إليه كما هو ، تفسيرا بنفسه.

(وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) فالذين أوتوه هنا ـ بطبيعة الحال ـ هم علماء الكتاب ، لا الموحى إليهم إذ لا اختلاف بينهم ولا بغي ، ولا الناس الجهال حيث لم يؤتوا إلّا تكليفا به ببيان علماء الكتاب.

فقد حملهم البغي بينهم على الاختلاف فيه ، بين تكذيب واختلاف وإرجاع الى غيره ، ثالوث يجمعه إهمال الكتاب عن أصالته في حقل الشرعة الإلهية.

٢٤٩

والاختلاف في الكتاب : الشرعة ـ أصلا وفرعا ـ قد يكون بغيا وتقصيرا ، وهو المندّد به هنا وفي سواه ، وأخرى قصورا ، ثم القصور قد يكون من مخلّفات التقصير من القاصرين او الذين سبقوهم ، أم هو قصور مطلق مطبق ، ولا يعذر إلّا الآخرون ، ولو روعي الكتاب كأصل في كل فرع وأصل ، لا سيما بتشاور في تفهمه ، لقلت الخلافات في الكتاب.

وإنما تنشأ الاختلافات الكثيرة في الكتاب من عدم الرجوع الى الكتاب كما هو حقه ، وعدم التأمل فيه حقه ، ومن هنا تقبل الفتن على أهل الكتاب ثم لا تزول إلّا بالرجوع الى الكتاب حقه وكما يروى عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «فإذا أقبلت عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فانه حبل الله المتين وسببه الأمين لا يعوج فيقام ولا يزيغ فيستتب من جعله خلفه ساقه الى النار ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ..».

والهدى الإلهية للذين آمنوا لما اختلفوا : ـ الذين أوتوه بغيا بينهم ـ ليست إلّا على ضوء الإيمان بالكتاب ، والرجوع اليه كرأس الزاوية في شرعة الله ، والعمل به وتطبيقه ، فهنا يأتيه الهدى الفرقان : (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً ...).

وقد أمر الله بالوحدة على ضوء كتاب الشرعة وندد بالمختلفين : (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) (٢ : ١٧٦) (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) (٣ : ١٠٥) (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) (١٦ : ٦٤) (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٢٧ : ٧٦).

ولقد أخذ حملة القرآن الذين حمّلوه يختلفون فيه لحد أخذوا يبحثون عن تحريفه وصيانته ، وعن حجية ظاهرة أم عدمها ، وعن الإفتاء بنصه او ظاهره إذا خالف شهرة او اجماعا أو روايات ، وإلى أن ألغوه عن بكرته سنادا إلى أنه لا

٢٥٠

يفهم منه مراده ، أم خوفة من الانزلاق في تفسيره بالرأي ، وما أشبه ذلك من عوامل إبعاده عن حوزاته ، وإقلاعه عن روضاته ، وهنا يتجلى شكاة الرسول : (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً).

وفي خضمّ الخلافات في كتاب الشرعة ، بادئة من حملتها ومنتهية الى سائر المكلفين (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ) وكما وعد الله : (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) فالإيمان الصالح غير الدخيل ولا المصلحي التجاري ، إنه أساس الفرقان عند اختلاف الناس في كتاب الهدى ، حملة ومحمولا إليهم (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) : من يشاءه الله وهو من يشاء هدى بعد هدى في الفتن الدينية العارمة التي تجعل من العلماء جهالا فضلا عن الجهال إلّا من هدى الله بهداه الصالحة المعبر عنها هنا ب (الَّذِينَ آمَنُوا) ، فلا يخلو أي مكلف في أي عصر او مصر عن هدى ربانية في مثلثها ، فطرية وعقلية ، وعلى ضوئهما هدى شرعية ، مهما كانت شرعة أولي العزم ، أمّا دونها كما كانت بين آدم ونوح (عليهما السّلام).

ففي زمن الفترة الرسولية لا تجد فترة رسالية ، حيث الشريعة السابقة محكّمة فيها مهما صعب الوصول إليها والحصول عليها ، فإن «أفضل الأعمال أحمزها».

وقد تعني (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) فيما عنت أنهم كانوا ضلالا لردح من الزمن ، وقد يكون بين آدم وإدريس (عليهما السّلام) فان إدريس أوّل النبيين وما كان آدم إلّا رسولا ، ومن ثم نوح ومن بعده من أولى العزم وسائر النبيين (١) ، حيث النبوة هي الرفعة فهم ـ إذا ـ اولوا الرفعة والمنزلة بين المرسلين ،

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٢٠٨ في تفسير العياشي عن مسعدة عن أبي عبد الله (عليه السّلام) في الآية فقال كان ذلك قبل نوح ، قيل : فعلى هدى كانوا؟ قال : لا كانوا ضلّالا وذلك بانه لما انقرض آدم ـ

٢٥١

ومن ميّزاتهم أن لهم كتبا : (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ..).

ولقد بزغت النبوة القوية بولاية العزم من نوح (عليه السّلام) كما دلت عليه آيات ، فهم حملة الشرائع المستقلة ، فلم يكن أحد من النبيين سواهم ـ فضلا عن المرسلين ـ أصحاب شرائع مستقلة ، وقد شرحنا في سورة نوح (١) وجهة الشرعة الإلهية قبل نوح (عليه السّلام).

وقد تشبه هذه الأمة الواحدة قبل نوح ، الأمة الواحدة قبل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) زمن الفترة بينه وبين المسيح ، مهما اختلفت فترة عن فترة وضلّال عن ضلّال.

ولقد كانت النبوات المصحوبة بكتابات الوحي ، ولا سيما لأولى العزم ، هي محاور الدعوات الربانية ، والنبيون هم أقل من المرسلين بكثير ، فكل نبي لا بد وهو رسول وليس كل رسول نبيا.

ذلك ، ولقد بحثنا في طيات الفرقان حول الرسالات والنبوات وتحليقها على كل الأمم على ضوء آياتها فلا نعيد.

__________________

ـ (عليه السّلام) وصالح ذريته بقي شيث وصيه لا يقدر على اظهار دين الله الذي كان عليه آدم وصالح ذريته وذلك ان قابيل توعده بالقتل كما قتل أخاه هابيل فسار فيهم بالتقية والكتمان فازدادوا كل يوم ضلالا حتى لم يبق على الأرض معهم إلّا من هو سلف ولحق الوصي بجزيرة في البحر يعبد الله فبدا الله تبارك وتعالى ان يبعث الرسل ولو سئل هؤلاء الجهال لقالوا قد فرغ من الأمر فكذبوا انما هو شيء يحكم به الله في كل عام ... قلت ا فضلّال كانوا قبل النبيين ام على هدى؟ قال : لم يكونوا على هدى كانوا على فطرة الله التي فطرهم عليها لا تبديل لخلق الله ولم يكونوا ليهتدوا حتى يهديهم الله أما تسمع يقول ابراهيم : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) اي ناسيا للميثاق.

(١). ج ٢٩ الفرقان ص ١٤٥ حيث تحدثنا فيها حول اولى الشرائع الإلهية المستقلة.

٢٥٢

(.. فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ) ومنهم الأمة المهتدية الإسلامية حيث هداهم الله لما اختلفوا ـ هؤلاء الكتابيون ـ من الحق ، إذ أوتوا القرآن المهمين على كل ما سبق ، وكما يروى عن حامل لواء الحق : «نحن الأولون والآخرون ، الأولون يوم القيامة وأول الناس دخولا الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله فالناس لنا فيه تبع فغد لليهود وبعد غد للنصارى» (١) فالذين آمنوا ملحدين او مشركين ام هودا او نصارى ، آمنوا بشرعة الإسلام المتمثلة في القرآن ، فهم المهديون لما اختلفوا من الحق بإذنه ، حيث القرآن هو ميزان الحق.

وأما الذين كفروا من اهل الكتاب وسواهم فظلوا فيما ضلوا مرتكسين ، لم يكن الله ليهديهم إذ لم يؤمنوا بالهدى التي تهديهم ، مهما ساد الفرق بين العلماء المقصرين والأميين القاصرين ، ولكنه فرق في العذاب واللّاعذاب ، دون ان يهدى القاصرون ، ثم فرقة ثالثة هم عوان بين ذلك ، إذ قلدوا علمائهم وهم يعلمون أنهم خائنون.

(وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) : يهدي من يشاء الهدى فيشاء الله هداه ، وجهان موجهان حيث المفعول مقدر يتحملهما دون اختصاص.

فالهدى الربانية في خضم الخلافات العارمة الضالة المضللة ، إنها فرقان من الله ووعدها المؤمنون المتقون : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) (٨ : ٢٩).

فهنالك فرقان على ضوء الإيمان بالقرآن فانه فرقان بين كل حق وباطل ،

__________________

(١). الدر المنثور ١ : ٢٤٢ ـ اخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي هريرة في الآية قال قال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ...

٢٥٣

وثم هنا فرقان فوقه على ضوء التقى بعد الإيمان ، فإنها فرقان بين مختلف المذاهب الإسلامية ، وفرقان بين كل المسالك الإيمانية.

فالتقى والإيمان الصالح هما جناحان يطير بهما المؤمن التقي إلى آفاق الفرقان ، كلما ازدادا ازداد وكلما نقصا نقص (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

إن كتابات السماء ـ سوى القرآن ـ صرفت عن جهات أشراعها ، وهيمنة القرآن عليها يبين الغث عن السمين والخائن عن الأمين.

وكتاب الوحي في كل أمة هو المحور الأصيل يقاس عليه كل ما سواه فيعرف الأصيل عن الدخيل ، فلم ينزل كتاب الوحي ليمحو فوارق الاستعدادات والمواهب والطرائق والوسائل ، إنما جاء ليحتكم الناس إليه فيما هم فيه مختلفون.

فالإسلام يضع القرآن ليحكم بين الناس ـ كل الناس ـ فيما اختلفوا فيه قضية اختلاف الرغبات ، ثم يحكم بين من أوتوا الكتاب فاختلفوا فيه ام اختلفوا عنه ، ليحكم بينهم ، فهو قاعدة البشرية جمعاء ، فما قامت البشرية على القرآن فوحدة على الحق ، وما أن خرجت عنها وقامت على قواعد اخرى فهذا هو الباطل على قدر انحرافه عن حق القرآن وانجرافه في البطلان ، ولو ارتضاه الناس جميعا في فترة من فترات التاريخ السوداء ، فليس الناس هم أنفسهم الحكم في الحق والباطل ، إنما هو إله الناس فيما ينزل على رسله إلى الناس ، وسائر حملة الدين الحنيف تبيينا للقرآن وما وافق القرآن من السنة ، دونما اي تدخل للآراء الفاضية عن برهان الحق وحق البرهان.

ومن أعضل الداء بين جماعة ممن أوتوا الكتاب ان يختلفوا فيه من بعد ما جاءهم البينات بغيا بينهم ، فهم في الحق ليسوا بمؤمنين ، إنما هم المرتكنون على

٢٥٤

حق الوحي في الكتاب ما وجدوا إليه سبيلا ، وهو الذي يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ، حيث البشارات الوفيرة في كتابات الوحي ترشد المؤمنين الحقيقين إلى ميزان الحق وقسطه وقسطاسه المطلق القرآن العظيم ، كما يرشد حق الكتاب إلى كل حقّ لأمده.

لذلك (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) (٣ : ١١٥).

ذلك! ولكن البغي فيمن بغى من أهل الكتاب ـ بغي الطمع والحرص وبغي الأهواء الطائشة ـ هو الذي يقود أصحابه بأصحابهم إلى المضي في الاختلاف على اصل التصور والمنهج ، والمضي في التفرق واللجاج والعناد ، ما يجعل أهليه أضل وأطغى من الضلّال الذين لا يعرفون شرعة من الحق.

ذلك! ثم (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أيا كانوا : هودا او نصارى او مسلمين (لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) هداهم بما في نفوسهم من تجرد وصفاء ووفاء ، وبما في قلوبهم من الرغبة الى الحق (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

وقد تنتهي هذه التوجيهات التي تستهدف إنشاء تصور إيماني صالح ، بالتوجه إلى المؤمنين الذين كانوا يعانون في واقعهم مشقة الاختلاف والشقاق بينهم وبين أعداءهم الألداد ، فيطمئنهم أن ليس ذلك مزرئة في الإيمان ، بل هو مزرعة لنمو الإيمان.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ

٢٥٥

مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) ٢١٤.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (٣ : ١٤٢) ـ (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (٩ : ١٦) ـ (أَحَسِبَ(١) النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) (٢٩ : ٣).

كلا! وانه حسبان قاحل باطل والدار دار الامتحان ، وعند الامتحان يكرم المرء او يهان ، فليس ـ فقط ـ الإيمان هو الكافل لهدى الصراط المستقيم ، بل وصمود الإيمان عند كل ابتلاء وإمتحان ، ولأن الأمة المرحومة هي آخر الأمم ورسالتها أكمل الرسالات ، جامعة لها أجمع وزيادة ، فلتحلّق عليها ابتلاءات الأمم كلها على ألوانها حيث النص (مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) الشامل لكل الأمم الرسالية برسلهم ، وكما ابتلي الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بكل ما ابتلي به كل الرسل ، كذلك أمته ، فليأتها (مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا ..) ككلّ ودون إبقاء : ف (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) (٨٤ : ١٩) سنن من كان قبلكم ، ولأنكم تحملون أعظم الرسالات الإلهية ، وانما يقدّر الابتلاء بقدر الحمل والثقل.

ولقد أصاب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوم الأحزاب وأصحابه بلاء وحصر(١) وكما قال الله : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٢٤٣ ـ اخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في الآية قال نزلت في يوم الأحزاب ...

٢٥٦

زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا. هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً ، وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) (٣٣ : ١٢).

وفي مواقف أخرى لا نحصيها ، قلنا يا رسول الله ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا؟ فقال : إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه ، ثم قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء الى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون» (١) ، وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «ان الله ليجرب عليكم بالبلاء وهو اعلم به كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار فمنهم من يخرج كالذهب الإبريز فذلك الذي نجاه الله من السيئات ومنهم من يخرج كالذهب الأسود فذلك الذي قد أفتتن (٢).

وهكذا يخاطب الله الجماعة المسلمة الأولى ـ والى البقية حتى الأخيرة ـ توجيها إلى تجارب الجماعات المؤمنة التي خلت من قبل ، وإلى سنته السنية في تربية عباده المختارين ، الذين يكل إليهم راية الإيمان ، وينوط بهم أمانة الإيمان ، خطابا مطردا لكل من يختار لذلك الدور العظيم.

وإنها تجربة حلوة مرة مرت مع الزمن الرسالي على مدار الزمن ، ان تمسهم البأساء والضراء : الشدة التي تصيب الإنسان خارج نفسه او داخلها (٣) فيزلزلوا

__________________

(١) المصدر اخرج احمد والبخاري وابو داود والنسائي عن خباب بن الأرت قال قلنا يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ...

(٢) المصدر اخرج الحاكم وصححه عن أبي مالك قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ...

(٣) قال ابن عباس : لما دخل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المدينة اشتد الضرر عليهم لأنهم ـ

٢٥٧

على صامد إيمانهم (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ) فيجابوا : (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) مهما بعدت مدته ، فان كل آت قريب ، ولا سيما لهؤلاء الذين ينصرون الله فانه هو ناصرهم قريبا ام بعيدا وهو على أية حال قريب.

إن نصر الله مدخر لمن يستحقونه ، موعود لهم حين يستحقونه ، وهم الذين لا تزل بهم الزلازل ، ولا تزعزعهم عن إيمانهم القلاقل ، ولا يحنون رؤوسهم للعواصف ، ولا تكسر ظهورهم بالقواصف ، حتى تبلغ البأساء والضراء والزلزال ذروتها ، فملئت الأرض ظلما وجورا ، فهنالك يبعث الله مهدي الأمم وصاحب الكلم صاحب العصر وإمام الدهر الحجة بن الحسن القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف ، الذي به يملأ الله والأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.

ذلك نصر الله المطلق المطبق ، ثم له نصر قبله قدر ما حاولوا وجاهدوا في الله (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

فلقد وعد الله المرسلين والمؤمنين النصر : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (٤٠ : ٥١) ولكن البأساء والضراء قد تزلزلان المؤمنين حتى يضطر الرسول ان يقول : متى نصر الله (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا) (١٢ : ١١٠). وذلك استيئاس من إيمان من كفر واطمئنان من آمن ، فعند ذلك (جاءَهُمْ نَصْرُنا).

__________________

ـ خرجوا بلا مال وتركوا ديارهم وأموالهم في ايدي المشركين وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأنزل الله : ام حسبتم ..» وقال قتادة والسدي : نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والحزن وكان كما قال الله : وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا.

٢٥٨

وهنا ضمير الجمع في (ظَنُّوا أَنَّهُمْ) راجعان الى المرسل إليهم الذين أيأسوا الرسول من إيمانهم إذ تسبقهما : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ).

لذلك استيأس الرسل من المكذبين ومن تقدم دعوتهم فيهم «و» الحال انهم أولاء المكذبين (ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) في هذه الرسالات ، أن كذبهم الرسل فيما جاؤا به ، وذلك تكذيب لرسالاتهم ، والتعبير بالظن ـ وهو هنا الحسبان ـ لأنهم لا يملكون أية حجة تؤكد لهم كذبهم ، بل الحجج الصادقة تصدقهم ، فإنما ظن هؤلاء الأوغاد المناكيد كما يظن الدهريون ، ظنا هو أدنى من الوهم إذ لا يملك أية حجة حتى على الوهم ، فضلا عما فوقه أو راجح الإعتقاد.

وعند استيئاس الرسل وذلك الظن الكافر البائس (جاءَهُمْ نَصْرُنا) بخارقة ربانية تثبت حقهم وباطل مناوئيهم (فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ) رسلا ومصدقين لهم (وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) بحق الرسل والرسالات.

وقد تعني (فَظَنُّوا أَنَّهُمْ) ـ فيما عنت ـ الرسل ، أنهم لطول استيئاسهم عن المرسل إليهم ، ـ كفرا من بعض ونفاقا من آخرين ، وزلزال الإيمان من جمع من المؤمنين ـ (ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) كذبهم كل هؤلاء.

فالكافرون كذبوهم صراحا ، والمنافقون نفاقا ، والمؤمنون ضعفا في الإيمان ، وإنما جاء الظن ليشمل الكل ، مهما كان ظنهم بالنسبة للكافرين يقينا وبالنسبة للمنافقين ظنا قويا ضاربا إلى علم ، وبالنسبة للمزلزلين من المؤمنين ظنا خفيفا طفيفا ، إذ إنهم إن كانوا صادقين في إيمانهم لما زلزلوا.

ذلك ـ كما وان (مَتى نَصْرُ اللهِ) بعد (وَزُلْزِلُوا) قد تؤيد ذلك الظن.

٢٥٩

هذا! والجمع بين المحتملين أجمع وأجمل ، ظنا من الرسل هكذا وظنا من غير المؤمنين ، بل والمؤمنين الضعفاء ، وهكذا يبتلى المؤمنون بزلازل الإيمان تمحيصا لهم.

هذا! وكما يحتمل بجنبه ان يكون (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) من الله الى الرسول فأجاب بما قال الله ، وقد نجد لذلك اللف والنشر نظائر في القرآن منها : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) (٢٨ : ٧٣) حيث الأول للأول والثاني للثاني ، وفي آيتنا عكس الأمر رعاية لحرمة الرسول (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) ثم قدم مقالة المؤمنين (مَتى نَصْرُ اللهِ) لأنها سؤال يتقدم على الجواب ، ثم الجواب (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) وقد يكفي هذا جوابا ويفي عن السؤال : كيف يقول الرسول : متى نصر الله؟ استبعادا له واستعجابا؟ حيث الرسول لا يقول قوله هذا إلّا رعاية للذين آمنوا معه خوفة على تزعزعهم ، ولا يعدو قوله هذا عن كونه دعاء واستدعاء وكما امر الله : ادعوني استجب لكم ، ولو لا جانب المؤمنين المتزلزلين لكانت حاله : علمه بحالي حسبي وكفاني ، كما نعرفه من صبره العظيم أمام الرزايا الفادحة والبلايا القادحة وكما أمر (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) ولكنه مع ذلك يؤمر للمؤمنين : «وصل عليهم» استرحاما لهم في زلازلهم.

وقد يكون (مَتى نَصْرُ اللهِ) من الذين آمنوا معه ، ثم (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) جوابا للرسول عن سؤالهم ، ولو كان السؤال منه كما منهم لكان صحيح التعبير او أصحه «متى نصرك يا رب».

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) ٢١٥.

٢٦٠