الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٢

فليست المباشرة المسموحة ـ إذا ـ ممنوحة ممدوحة لمجرد الاندفاع الشهواني الحيواني الموصول بالجسد ، منفصلا عما كتب الله لكم من المتعة بالذرية كثمرة عالية في هذه المباشرة ، وكذلك التهيئة لتمام الصيام.

فهكذا تنظف هذه المباشرة وتخرج عن الرفث ، فترق ـ إذا ـ وترقى من حضيض حيونة الشهوة الى أفق الإنسانية الرفيعة ، ومنها ابتغاء كمال الصيام نهاره ، كيلا يتضايق فيه عن ضغط الشهوة ، فهذه وأمثالها من أمور راجحة ام واجبة تجعل الرفث مباشرة راجحة ام واجبة.

ثم وليس فقط تحليل الرفث ليلة الصيام ، بل والأكل والشرب ايضا (١) ، مما قد يلمح بعدم حل سائر المحظورات حالة الصيام ، إذا فرمضان

__________________

(١) قصة قيس بن حرمة الانصاري مشهورة مروية بعدة طرق وهي كما في الدر المنثور ١ : ١٩٧ عن البراء بن عازب قال كان اصحاب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل ان يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي وان قيس بن حرمة الأنصاري كان صائما فكان يومه ذاك يعمل في ارضه فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال هل عندك طعام قالت لا ولكن انطلق فأطلب لك فغلبته عينه فنام وجاءت امرأته فلما رأته نائما قالت خيبة لك أنمت فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فنزلت هذه الآية (أُحِلَّ لَكُمْ ...) ففرحوا بها فرحا شديدا. أقول : اصل نزول الآية كما هي صريحة : «أحل ...» هو بشأن مباشرة النساء وبضمنه الاكل والشرب ، فقد توارد السببان لنزولها.

وهكذا قصة خوات بن جبير فعن تفسير القمي مرفوعا قال قال الصادق (عليه السّلام) كان النكاح والاكل محرمين في شهر رمضان بالليل بعد النوم يعني كل من صلّى العشاء ونام ولم يفطر ثم انتبه حرّم عليه الإفطار وكان النكاح حراما بالليل والنهار في شهر رمضان وكان رجل من اصحاب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقال له خوّات بن جبير أخو عبد الله بن جبير شيخا كبيرا ضعيفا وكان صائما فابطأت عليه امرأته فنام قبل ان يفطر فلما انتبه قال لأهله قد حرم عليّ الاكل في هذه الليلة فلما أصبح حضر الخندق فأغمي عليه فرآه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فرقّ له وكان قوم من شبان ينكحون بالليل في شهر رمضان فانزل الله (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ ...).

٦١

بأيامه ولياليه ظرف لمطلق الصيام ، اللهم إلّا هذه الثلاث لذلك النص ، أمّا خرج معها لسائر النص :

(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى ..) ا ترى «حتى» غاية ـ فقط ـ لحل الأكل والشرب ، فلم تبين ـ إذا ـ غاية المباشرة؟ وهي أهم محظورا ، لأنها حقل الخيانة ليلة الصيام كأصل دون الأكل والشرب! ام هي غاية لها ، أصالة للمباشرة وفرعية لهما؟ وقد يبعّده الفصل ب (وَابْتَغُوا ..) ولكنه ليس فصلا إلّا لتبرير الأصل ، فلا ضير في هكذا فصل ، إذا فسماح المباشرة ـ كما الأكل والشرب ـ مستمر حق الفجر ، وحتى إذا لم تكن «حتى» غاية للرفث معهما ، ف (لَيْلَةَ الصِّيامِ) الطليقة تسمح بالرفث الى النساء حتى آخر لحظة من الليل ما صدق انه من الليل ، ولو اختص حل الرفث بما قبل الفجر قدر امكانية الغسل لكان التصريح به أحرى من غاية الأكل والشرب ، فانه أهم محظورا منهما ، وهما على هامشه محظورا ، إذا ف «حتى» تشمل الثلاثة كلها ، فهي نص في استغراق الحل كل آناء الليل ، وحين يحل التعمّد على اصل الجنابة مع العلم بعدم بقاء وقت للغسل عنها ، فبأحرى يجوز البقاء عليها بعد حصولها ، إذ قد يتنازل عن عمده فيغتسل ولا مجال لتنازله حين يعلم بيقين ألا مجال له للغسل بعد الجنابة.

فكيف تجب الطهارة الكبرى كشرط لصحة الصيام منذ الفجر؟ هنا روايات متضاربة في جواز الدخول في الفجر جنبا وعدمه ، فقد ترجح الأولى (١) ، ولكن على حد مدلول الآية من سماح المباشرة حتى الفجر ، واما

__________________

(١) فمن الاولى من طريق أصحابنا ما رواه الشيخ في الصحيح عن حبيب الخثعمي عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يصلي صلاة الليل في شهر رمضان ثم يجنب ثم يؤخر الغسل متعمدا حتى يطلع الفجر.(التهذيب ١ : ٤١٢ والاستبصار ٣ : ٨٨) وما رواه في الصحيح عن عيص بن القاسم قال : سألت أبا عبد الله ـ

٦٢

تعمد البقاء على الجنابة لمن أجنب قبله ، وهو قادر على الطهارة فلا لروايات عدة مهما كانت معارضة ، وجملة القول هنا ان الآية تدل على جواز الدخول في الفجر مجنبا حالة المباشرة قبله بلحظة ، ولا دلالة آية او رواية على وجوب الدخول في الفجر على طهارة كبرى ، ولا على حرمة الدخول فيه مجنبا ، فانما تدل روايات متعارضة على حرمة البقاء على الجنابة عمدا حتى الفجر ، دون بطلان للصوم كلمة واحدة ، وانما القضاء ام الكفارة عقوبة ، ام لا كفارة ولا قضاء كما لا بطلان ، بل ولا حرمة كما في حديث الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

ومن الغريب المتعود في فقهنا حمل أمثال هذه على التقية ثم وفي معظمها النسبة الى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهي بعيدة كل البعد في روايات

__________________

ـ (عليه السّلام) عن رجل اجنب في شهر رمضان من اوّل الليل فأخر الغسل حتى يطلع الفجر؟ قال : يتم صومه ولا قضاء عليه (الاستبصار ٣ : ٨٥ والتهذيب ١ : ٤١١) وما رواه في صحيح ثان عن ابن القاسم انه سأل أبا عبد الله (عليه السّلام) عن رجل ينام في شهر رمضان فيحتلم ثم يستيقظ ثم ينام قبل ان يغتسل؟ قال: لا بأس.

ومن طريق إخواننا ما في الدر المنثور ١ : ١٩٩ ـ أخرج مالك وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم والنسائي عن عائشة قالت : قد كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يدركه الفجر في رمضان وهو جنب من اهله ثم يغتسل ويصوم ، وفي إخراج آخر منهم وابو داود والترمذي عن ام سلمة أنها سئلت عن الرجل يصبح جنبا أيصوم؟ فقالت : كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يصبح جنبا من جماع من غير احتلام في رمضان ثم يصوم ، واخرج مالك والشافعي ومسلم وابو داود والنسائي عن عائشة ان رجلا قال : يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إني أصبح جنبا وانا أريد الصيام؟ فقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : وأنا أصبح جنبا وأريد الصيام فأغتسل وأصوم ذلك اليوم ، فقال الرجل انك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فغضب وقال : والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم وأعلمكم بما أتقى. أقول : هذه روايات ست ثلاث وثلاث ، تدل على ما دلت عليه الآية من جواز الجماع حتى الفجر ، وأما جواز البقاء على الجنابة فلا تدل عليه الآية مهما دلت عليه روايات منها ، ولكن تعارضها روايات أخرى من القسم الثاني :

٦٣

التقية! فان قضيتها الاقتصار على حد الضرورة وليست النسبة الى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منها ، بل وتركها ضرورة وقائية على السنة الرسالية التي هي عدل للقرآن كتوضيح وبيان ، ثم وهي موافقة لظاهر كالنص من الآية.

وتصديق أمثال الثانية (١) وهي مخالفة هكذا للآية وللثابت نقلا متظافرا من فعل النبي

__________________

(١) وهي تدل ـ بأكثر تقدير ـ على عدم جواز تعمد البقاء على الجنابة ، وليس عدم جواز الجماع حتى الفجر ومنها صحيحة ابن أبي يعفور قال قلت لأبي عبد الله (عليه السّلام) الرجل يجنب في شهر رمضان ثم يستيقظ ثم ينام حتى يصبح؟ قال : يتم صومه ويقضي يوما آخر وان لم يستيقظ حتى يصبح أتم يومه وجاز له (الفقيه باب ما يجب على من أفطر ح ١٦ والتهذيب ١ : ٤١٢) وصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السّلام) قال : سألته عن الرجل تصيبه الجنابة في شهر رمضان ثم ينام قبل ان يغتسل؟ قال : يتم صومه ويقضي ذلك اليوم إلّا ان يستيقظ قبل ان يطلع الفجر فان انتظر ماء يسخن او يستقى فطلع الفجر فلا يقضي صومه (الكافي ٤ : ١٠٥ والتهذيب ١ : ٤١٢) وصحيحة معاوية بن عمار قال قلت لأبي عبد الله (عليه السّلام) : الرجل يجنب من اوّل الليل ثم ينام حتى يصبح في شهر رمضان؟ قال : ليس عليه شيء ، قلت : فانه استيقظ ثم نام حتى أصبح؟ قال : فليقض ذلك اليوم عقوبة(التهذيب ١ : ٤١٢).

وموثقة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السّلام) في رجل اجنب في شهر رمضان بالليل ثم ترك الغسل متعمدا حتى أصبح؟ قال : يعتق رقبة او يصوم شهرين متتابعين او يطعم ستين مسكينا ، قال وقال : إنه حقيق أن لا أراه يدركه ابدا (المصدر) وموثقة سماعة قال سألته عن رجل أصابته جنابة في جوف الليل في رمضان فنام وقد علم بها ولم يستيقظ حتى يدركه الفجر؟ فقال : عليه ان يتم يومه ويقضي يوما آخر ، فقلت : إذا كان ذلك من الرجل وهو يقضي شهر رمضان؟ قال : فليأكل يومه وليقض فانه لا يشبه رمضان شيء من الشهور(التهذيب ١ : ٤١٢).

أقول : لا دلالة في شيء من هذه الأخبار على بطلان الصيام مهما فرض القضاء كفارة وعقوبة كما في صحيحة معاوية بن عمار قال قلت لأبي عبد الله (عليه السّلام) : الرجل يجنب من اوّل الليل ثم ينام حتى يصبح في شهر رمضان؟ قال : ليس عليه شيء ، قلت : فانه استيقظ ثم نام حتى أصبح؟ قال : فليقض ذلك اليوم عقوبة(التهذيب ١ : ٤١٢) وصحيحة ابن أبي يعفور قال قلت لأبي عبد الله (عليه السّلام) : الرجل يجنب في شهر رمضان ثم يستيقظ ثم ينام حتى يصبح؟ قال : يتم صومه ويقضي يوما آخر وان لم يستيقظ حتى أصبح أتم صومه وجاز له (المصدر).

٦٤

(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأئمة اهل البيت (عليهم السّلام) ، فما قيمة شهرة او اجماع ام واطباق لا يلائم القرآن بل ويعارضه ، فالأشبه جواز المباشرة حتى الفجر ، والأحوط حرمة البقاء على الجنابة لمن هو قادر على الطهارة ، وأحوط منه القضاء دون كفارة.

وقد يلمح اختلاف التعبير بين «أحل ـ و ـ كلوا واشربوا» ان مباشرة النساء كانت محرمة ليل نهار بصورة مستأصلة ، ولكنّ الأكل والشرب كانا ممنوعين شطرا من الليل مع النهار ، فسمح للكل طول الليل حتى الفجر ، ولا منافاة بين حل المباشرة حتى الفجر وبين وجوب الطهارة عند المكنة قبلها إذا اجنب في وقت يمكنه الطهارة ، ولكن في وجوبها ايضا نظر وتأمل.

وقد تدل (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) أن ليلة الصيام لا تخلو ـ بعد ـ عن إمساك وراء هذه الثلاثة ، وإلّا فصالح التعبير «ثم صوموا الى الليل» فليس إتمام الصيام الى الليل إلّا بأن له تقدمة بالليل ، يستثنى منها هذه الثلاثة حسب الآية ، فإذا ثبت وجوب الإمساك صياما عما سواها بدلالة أخرى ، ثم لا دلالة على اختصاصه بالنهار ، كان إمساكه الليلي ايضا من الصيام.

هذا! ولكن الإمساك الليلي ليس إلّا عن الرفث المحرم أصالة وقاعا وإمناء ، وعن الأكل والشرب المحرم أصالة ، وأما دون محلّل الرفث والأكل والشرب ، فهو حلّ بأحرى وأولى ، اللهم محرمات ذاتية ، فانها داخلة في نطاق الصيام «أياما معدودات ـ شهر رمضان» فلتكن محرمة اغلظ في ليلة الصيام كما في نهاره.

(... حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ..)

وتراه تبين الخيطين ، تمييزا لخيط ابيض من خيط أسود؟ و «من الفجر»

٦٥

اجابة صارحة عن هذه الهرطقة السوقية الساقطة! (١).

كما وان من الفجور علميّا ، والانجراف تفسيريا تخيل ان «من الفجر» نزلت بعد ما سقط في جارفة (الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) جماعة! (٢) ويكأن الآيات كانت تنزل كلمات بعد كلمات؟ وهي مترابطات في وحدة

__________________

ـ أقول : فلا دلالة في شيء من الطائفة الثانية على بطلان الصوم ، ولا على حرمة الجماع قبيل الفجر ، فتبقى الآية دالة على حلّه ، ثم الطائفتان متعارضتان في جواز البقاء على الجنابة حتى الفجر وعدمه ، ومن البعيد جدا حمل الأخبار الاولى من طرق أصحابنا على التقية ولا سيما صحيحة الخثعمي المصرحة بتعمد بقاء الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على الجنابة ، ومن البعيد نسخ السنة بالسنة هكذا فان «كان» دليل الاستمرار ولا سيما في مقام بيان الحكم ، اللهم إلّا تقية في النسخ ، ولكنها ايضا بعيدة فان بيان الحكم هكذا بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا تساعده التقية ، فالبطلان على تعمد الجنابة لا دليل عليه ، ووجوب القضاء محل تردد فالاحتياط إذا أحسن بل لا يترك.

(١) الدر المنثور ١ : ١٩٩ ـ أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم قال أتيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فعلمني الإسلام ونعت الى الصلوات الخمس كيف أصلي كل صلاة لوقتها ثم إذ جاء رمضان فكل واشرب حتى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتم الصيام إلى الليل ولم أدر ما هو ففتلت خيطين من ابيض واسود فنظرت فيهما عند الفجر فرأيتهما سواء فأتيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقلت يا رسول الله كل شيء اوصيتني قد حفظت غير الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وما منعك يا ابن حاتم وتبسم كأنه قد علم ما فعلت ، قلت : فتلت خيطين من ابيض وأسود فنظرت فيهما من الليل فوجدتهما سواء فضحك رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى رؤي نواجذه ثم قال : ألم أقل لك : من الفجر ، انما هو ضوء النهار من ظلمة الليل.

(٢) في الدر المنثور ١ : ١٩٩ عن سهل بن سعد قال : أنزلت (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ ..) ولم ينزل «من الفجر» فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما فانزل الله بعد «من الفجر» فعلموا انما يعني الليل والنهار.

٦٦

الآية ، ومتعاركات في وهدتها الهوة!.

فما هو ـ إذا ـ (الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)؟

«الفجر» هنا هو فجر الشمس كبداية شقها الأفق المظلم برشحة من ضوءها ، والخيط الأبيض من الفجر المتبين من الخيط الأسود ، هو العمود الأفقي البادئ في الناحية الشرقية ، وكأنه وليد بن ظلمة الليل ، ويترائى عندئذ خيطان ، خيط الشمس المقبلة وخيط الليل المدبر ، فيعبر عن الملتقى بينهما بالخيطين ، فحتى يتبين بياض الصبح من سواد الليل هو المعني من الخيطين وإنما شبها بذلك لأن خيط الصبح يكون أول طلوعه مستدقا خافيا ، ويكون سواد الليل متقضيا مولّيا ، فهما جميعا ضعيفان ، إلّا ان هذا يزداد انتشارا وذاك يزداد استتارا.

و «الفجر فجران ، فأما الذي كأنه ذنب السرحان فانه لا يحل شيئا ولا يحرمه ، واما المستطيل الذي يأخذ الأفق فانه يحل الصلاة ويحرم الطعام» (١) ولذلك سمي الأول بالكاذب والآخر بالصادق.

(ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) وهنا (إِلَى اللَّيْلِ) دون غروب القرص تلمح كصراح انه لا يكفي الى الغروب ، إذ لا يصدق عنده ليل ، وانما هو بعد دقائق تزول فيها آثار النهار ، وعلى المروي عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٢٠٠ عن ثوبان انه بلغه ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : ... وفيه عن طلق بن علي ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : كلوا واشربوا ولا يمنعكم الساطع المصعد وكلوا واشربوا حتى يعترض الأحمر.

٦٧

الصائم» (١) «وغربت الشمس» هنا حال لإقبال اللّيل ، إذا فهو بعد غروبها لا عنده.

وهنا الليل من بادئه الظاهر بزوال الحمرة المشرقية ، كما النهار من بادئه بتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.

والفارق بين منتهى وقت العصر ومنتهى الصيام هو اختلاف النصين ، فانه هنا (إِلَى اللَّيْلِ) وهناك (قَبْلَ الْغُرُوبِ) فانما يتحقق غروب القرص قبيل الليل بدقائق هي تتمة وقت الصيام وليست وقت الإفطار.

ثم المذكور من المفطرات هنا هي الجماع والاكل والشرب ، تفطر نهارا لا ليلا ، فباحرى ما يلحق بها من المحظورات نهار الصيام فانها محللة ليلته ، اللهم إلّا الكذب على الله على رسوله والائمة (عليهم السّلام) ، فأكيد الحرمة فيه يشمل ليلة الصيام ونهاره ، بل وقد يلمح من اطلاق الدليل انه مفطر ليلا كما هو مفطر نهارا (٢) فالجماع قبلا ودبرا محرم ومفطر نهارا ، وكذلك الاستمناء مهما

__________________

(١) المصدر ـ أخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وابو داود والترمذي والنسائي عن عمر قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ...

(٢) التهذيب ١ : ٤٠٦ واحمد بن محمد بن عيسى في نوادره موثقة سماعة قال : سألته عن رجل كذب في شهر رمضان؟ فقال : قد أفطر وعليه قضاءه ، فقلت : فما كذبته؟ قال : يكذب على الله وعلى رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، وموثقته الأخرى سألته عن رجل كذب في شهر رمضان؟ فقال : قد أفطر وعليه قضاؤه وهو صائم يقضي صومه ووضوءه إذا تعمد(المصدر ٤٠٩) وخبره الثالث عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : ان الكذب على الله وعلى رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعلى الائمة (عليهم السّلام) يفطر الصائم (الفقيه باب آداب الصائم رقم ٢) ومنها ما عن الخصال بسند فيه رفع الى الصادق (عليه السّلام) قال : «خمسة أشياء تفطر الصائم الاكل والشرب والجماع والارتماس في الماء والكذب ...» (المصدر ١ : ١٣٧).

٦٨

كان بحليلته (١) فانه من الرفث الى النساء ، وارفث منه اللواط او الاستمناء عبثا بغلام أمن شابه ، فكل رفث الى غير النساء بإدخال او إمناء تشمله الرفث الى النساء باولوية قطعية حيث ان محور التحريم هو الرفث ، فإذا كان حلّه محرما فباحرى المحرم منه اضافة ان فيه كفارة الجمع (٢).

ثم ما يصدق عليه الاكل والشرب سواء أكان من المأكول والمشروب المتعوّد أم سواه ، ـ ما صدق عليه الاكل ـ هو مفطر نهارا حين يتعمده فمثل الذباب يدخل حلق الصائم

«ليس عليه قضاء لأنه ليس بطعام» (٣).

فما لم يصدق الأكل او الشرب لم يصدق الإفطار اللهم الا بدليل قاطع أن كلما دخل الجوف ايّا كان فهو محكوم بحكم الأكل ، وليس فليس ، فمثل الغبار والدخان الداخلان في الجوف لا يبطل ، إذ لا يصدق هنا أكل ولا شرب وكما في موثقة (٤) مهما كانت معارضة لسقوط المعارض بضعف السند والمتن ام

__________________

(١) في الكافي ٤ : ١٠٢ والتهذيب ١ : ٤١١ صحيحة عبد الرحمن بن حجاج قال : سألت أبا عبد الله (عليه السّلام) عن الرجل يعبث بأهله في شهر رمضان حتى يمني؟ قال : عليه من الكفارة مثل مع علي الذي يجامع.

(٢) في التهذيب ١ : ٤١١ والاستبصار ٣ : ٩٧ خبر عبد السّلام بن صالح الهروي قال : قلت للرضا (عليه السّلام) يا ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد روي عن آباءك (عليهم السّلام) فيمن جامع في شهر رمضان او أفطر فيه ثلاث كفارات ، وروي عنهم ايضا كفارة واحدة فبأي الحديثين نأخذ؟ قال : بهما جميعا ، متى جامع الرجل حراما او أفطر على حرام في شهر رمضان فعليه ثلاث كفارات عتق رقبة وصيام شهرين متتابعين واطعام ستين مسكينا وقضاء ذلك اليوم وان كان نكح حلالا او أفطر على حلال فعليه كفارة واحدة وان كان ناسيا فلا شيء عليه.

(٣) الكافي ٤ : ١١٥ والتهذيب ١ : ٤٤٣ خبر مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السّلام) عن آبائه عليهم السّلام ان عليا (عليه السّلام) سئل عن الذباب يدخل حلق الصائم قال : ...

(٤) في التهذيب ١ : ٤٤٤ موثقة عمرو بن سعيد عن الرضا (عليه السّلام) قال : سألته عن ـ

٦٩

يتساقطان والأصل عدم البطلان.

وأما صيغة شرب الدخان ، فلا تصلح للحكم بانه مشروب فمبطل ، لأنه تدخين وليس شربا ، وانما بدأت صيغة الشرب إذ كانوا يمضغون الدخان فيشربون ماء البزاق المتأثر به ، وهكذا زرق الإبر تقوية ام سواها ، بل وتغذية اللهم إلّا ما صدق عليه الأكل او الشرب ، كأن يقال انه يأكل بالإبر ، إلّا ان مريضا هكذا اكله وشربه ليس عليه صيام حتى يبحث عن اكله وشربه ، اللهم إلّا ألا يضره الصيام ، وأما بلع الحصى وما شابهها من غير المأكول ولا المشبع فبأحرى ألا تفطر ، وكذلك رجع رطوبة من بزاق القم إليه ، ام إدخال مثلها اليه ما لم يصدق الشرب.

وعلى أية حال فالأحاديث المستعرضة للمفطرات خالية عن هذه الموارد ، اللهم إلّا دلالة على عدم البأس بها ، والآية لا تصرح الا بثلاث منها.

ومن محرمات الصيام الارتماس في الماء ولا دليل على انه مفطر (١) بل

__________________

ـ الصائم يدخن بعود او بغير ذلك فتدخل الدخنة في حلقه؟ قال : لا بأس ، وسألته عن الصائم يدخل الغبار في حلقه قال لا بأس ، ومعارضه في نفس المصدر ١ : ٤١٣ عن سليمان المروزي قال سمعته يقول : إذا تمضمض الصائم في شهر رمضان استنشق متعمدا او شم رائحة غليظة او كنس بيتا فدخل في عنقه وحلقه غبار فعليه صوم شهرين متتابعين فان ذلك له فطر مثل الاكل والشرب والنكاح.

أقول : التمضمض ليس شرابا إلّا إذا تعمد البلع ، ثم شم رائحة غليظة لا أكل ولا شرب كما لم يفت به احد ، ثم صوم شهرين يختص بصورة التعمد وقد اختص به التمضمض والاستنشاق دون ما سواهما ، وهو فيهما لا يبطل إلّا إذا تعمد إدخال الماء في الحلق.

(١) مما يدل على الحرمة صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : «الصائم يستنقع في الماء ولا يرمس رأسه» (الكافي ٤ : ١٠٦ والتهذيب ١ : ٤١٠) وصحيحة حريز عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال: «لا يرمس الصائم ولا المحرم رأسه في الماء» (التهذيب ١ : ٤١٠ ـ

٧٠

الدليل مصرح على انه لا يفطر (١).

واما الحقنة بجامد او مايع فلأنها ليست اكلا ولا شربا فلا تبطل ، وقد يحرم المايع بدليل (٢) دون إبطال ، حيث الحرمة لا تستلزم الإفطار وان صدق العكس كليا.

(وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ١٨٧.

هنا سلب مطلق لمباشرة النساء : (وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) بعد سماحها ليلة الصيام ، فالدور الأصيل في ذلك السلب المطلق إنما هو لمكانة المساجد ، حيث الصيام في الاعتكاف ليس بأهم من صيام رمضان ،

__________________

ـ والاستبصار ٣ : ٨٤) وصحيحة محمد بن مسلم قال سمعت أبا جعفر (عليهما السّلام) يقول : لا يضر الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال او أربع خصال ـ كما عن الفقيه وموضع من التهذيب ـ الطعام والشراب والنساء والارتماس في الماء(الوسائل باب ما يمسك عنه الصائم ب ١ ح ١).

أقول : لا دلالة في مجرد النبي عن شيء للصائم انه مفطر ، كما في الاول ، لا سيما إذا قورن بما لا يبطل كما في الثاني ، واما الإضرار كما في الثالث فاعم من الحرمة والابطال.

(١) وقد تصرح بعدم الإفطار موثقة إسحاق بن عمار قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السّلام): رجل صائم ارتمس في الماء متعمدا عليه قضاء ذلك اليوم؟ قال : ليس عليه قضاء ولا يعودن (التهذيب ١ : ٤١١ و ٤١٣ والاستبصار ٣ : ٨٥) هذا وان كان يعارضه المرسلة السابقة عن الصادق (عليه السّلام) حيث عد الارتماس في الماء مما يفطر الصائم.

(٢) صحيحة البزنطي سأل أبا الحسن (عليه السّلام) عن الرجل يحتقن يكون به العلة في شهر رمضان؟ فقال : «الصائم لا يجوز له ان يحتقن» (التهذيب ١ : ٤١٠) وموثق ابن فضال كتب الى ابن الحسن (عليه السّلام): تقول في اللطف يستدخله الإنسان وهو صائم؟ فكتب : «لا بأس بالجامد» (الكافي ٤ : ١١٠).

٧١

و «عاكفون» هنا لا تختص بعبادة الاعتكاف ، وانما هي مصداق لها أجلى ، وموضوع الحكم ككل هو الكون في المساجد صائمين كالعاكفين ام غير صائمين كسواهم ، فقد تخصص هذه الآية آية ليلة الصيام مهما كان بينهما عموم من وجه فان مادة الالتقاء هي للعاكفين في المساجد ليلة الصيام ، وآية السلب تنسخ اطلاق السماح لآية الإيجاب ، كما وان آية النساء (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) لا تسمح للمجنب كونا في المساجد مهما كان للصلاة (حَتَّى تَغْتَسِلُوا).

ولا صلة لآية السلب بآية الإيجاب إلّا مظنة الحل فيها حتى للعاكفين في المساجد فجاء الحظر المطلق عن مباشرة النساء (وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) صائمين وغير صائمين ليلا ونهارا ما دمتم في المساجد ، مهما كان الصيام من شروط الاعتكاف مطلقا ام إذا فرضه على نفسه ، او إذا استطاع ، حيث «عاكفون» أعم من عبادة الاعتكاف ام مطلق العكوف في المساجد مما قل منه او كثر ما دام هو في المساجد.

وهذه المباشرة المسلوبة فيها هي المباشرة المسموح بها ليلة الصيام فليست إلّا الرفث الى النساء دون ما سواه من اتصالات شهوانية بهن.

وهنا (فِي الْمَساجِدِ) تنفي اختصاص عبادة الاعتكاف بالمسجد الحرام ام هو مسجد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، فتحلية المساجد باللام تلمح للاستغراق ، فقد يجوز الاعتكاف فيها مطلقا مهما كان الفضل للمسجدين الأعظمين ، وبعدهما للجوامع(١).

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٢٠٢ ـ أخرج الدار قطني عن حذيفة سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول : كل مسجد له مؤذن وامام فالاعتكاف فيه يصلح.

وفي الفقيه باب الاعتكاف رقم (١) صحيحة الحلبي : لا اعتكاف الا بصوم في مسجد الجامع.

وفي التهذيب ١ : ٤٣٤ في خبر ابن سنان : «لا يصح العكوف في غيرها يعني مكة إلّا ان يكون ـ

٧٢

والاعتكاف ـ وهو تكلف العكوف ـ ليس إلّا حبس النفس على ما عكف فالعكوف أعم من الاعتكاف.

وقد تلمح (وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) ألّا عكوف كعبادة إلّا في المساجد ، فضلا عن عبادة الاعتكاف ، كما وان صلة آية العكوف بآية الصيام تلمّح بشريطة الصيام للاعتكاف (١).

ولأن الاعتكاف وهو تكلّف العكوف لا يصدق على سويعات فلا يصدق فيها الاعتكاف اللهم الا مطلق العكوف ، فقد تصدّق الروايات القائلة «لا يكون الاعتكاف اقل من ثلاثة ايام» (٢) ام هي أفضل الأقل لأنه يوم حسب

__________________

ـ مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) او في مسجد من مساجد الجماعة» وفي الاستبصار ٣ : ١٢٦ خبر علي بن غراب : «المعتكف يعتكف في المسجد الجامع» وفي الكافي ٤ : ١٧٦ حسن الحلبي او صحيحه انه سأل عن الاعتكاف فقال : «لا يصلح الاعتكاف إلّا في المسجد الحرام او مسجد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) او مسجد الكوفة او مسجد جماعة وتصوم ما دمت معتكفا».

(١) الدر المنثور ١ : ٢٠٢ ـ أخرج الدار قطني والحاكم عن عائشة ان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : «لا اعتكاف إلّا بصيام».

وفي الوسائل كتاب الاعتكاف في حسن الحلبي مثله ، وفيه عن علي بن الحسين (عليهما السّلام) على المحكي في خبر الزهري «وصوم الاعتكاف واجب».

والدر المنثور عن ابن عباس بنفس السند وصححه ان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : ليس على المعتكف صيام الا ان يجعله على نفسه أقول : وهو معارض لاعتكاف رمضان ، اللهم الا ان يعنيه من غير رمضان وهو كذلك معارض للرواية الاولى وظاهر الآية ، اللهم إلّا لمن لا يسطع على الصيام أم لا يسمح له السفر وسواه.

(٢) في موثق عمر بن يزيد «لا يكون الاعتكاف اقل من ثلاثة ايام» (التهذيب ١ : ٤٣٣ والاستبصار ٣ : ١٢٩) وفي خبر داود بن سرحان «الاعتكاف ثلاثة ايام» أقول : وعل «يوما» في الخبر الآتي مبالغة ، ام هو يوم من الثلاثة.

٧٣

المروي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (١).

وهل يصح الاعتكاف ايام رمضان؟ وفرض الصوم للاعتكاف يفرضه في غير فرض رمضان ام سائر الفرض! اللهم إلّا ان واجب الصيام للاعتكاف مطلق لا يتقيد بما لا فرض فيه لغير الاعتكاف ، لا سيما وان صلة آية الاعتكاف بآية صيام رمضان تنادي بصحته في رمضان بل ورجاحته على غيره ، ولقد «كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل» (٢).

ومن واجبات الاعتكاف الإقامة في المعتكف إلّا لحاجيات متعودة لا بد منها (٣) او قضاء حاجة مؤمن كما دلت عليه متواتر الرواية عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأئمة اهل بيته (عليهم السّلام) (٤) ولان الضرورات

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٢٠٢ ـ أخرج جماعة عن ابن عباس انه كان معتكفا في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأتاه رجل في حاجة فقام معه وقال : سمعت صاحب هذا القبر (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيرا من اعتكاف عشر سنين ومن اعتكف يوما ابتغاء وجه الله جعل الله بينه وبين النار ثلاث خنادق ابعد مما بين الخافقين.

(٢) الدر المنثور ١ : ٢٠١ ـ أخرج جماعة عن سعيد بن المسيب وعروة عن عائشة ان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان ... وفيه عن علي بن حسين عن أبيه قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): من اعتكف عشرا في رمضان كان كحجتين وعمرتين.

(٣) كما في صحيح داود بن سرحان كنت في المدينة في شهر رمضان فقلت لأبي عبد الله (عليه السّلام) إني أريد ان اعتكف فما ذا أقول وما ذا أفرض على نفسي؟ فقال : «لا تخرج من المسجد إلا لحاجة لا بد منها ولا تقعد تحت ظلال حتى تعود الى مجلسك» (الكافي ٤ : ١٧٨) وموثق ابن سنان : «ولا يخرج المعتكف من المسجد إلا في حاجة» (التهذيب ١ : ٤٣٤) وفي صحيحه ايضا : ليس للمعتكف ان يخرج من المسجد إلّا لجمعة او جنازة او غاية(الكافي ٤ : ١٧٨).

(٤) ومنها ما في خبر ابراهيم بن ميمون قال : كنت جالسا عند الحسن بن علي (عليهما السّلام) ـ

٧٤

تقدر بقدرها فلا يجوز للمعتكف ان يمكث خارج المعتكف إلّا قد الضرورة ، فلا يجلس ولا يصلي فيه فريضة إلّا بمكة وكما يروى في الصحيح : «المعتكف بمكة يصلي في اي بيوت شاء والمعتكف بغيرها لا يصلي إلا في المسجد الذي سماه» (١).

هذه اصول احكام الاعتكاف وله فروع تطلب من مفصلات الفقه و : «تلك» التي ذكرناها من أحكام سلبية وايجابية إباحة او تحريما او إيجابا هي (حُدُودُ اللهِ) التي حدّها لما يرجع الى صالحكم في الحياة (فَلا تَقْرَبُوها) إفراطا فيها بزيادة ، ام تفريطا بنقصان ، او تجاهلا عنها عن بكرتها وسنا لحدود كما تشتهون ، وذلك هو القرب المنهي عنه في ثالوثه ، ، وهو الاعتداء المعنيّ بأخرى (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها) : «كذلك» البعيد الأغوار ، العميق الأسرار (يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ) دون أيّ خفاء او ريبة او مجالة لارتياب (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) المحاظير.

__________________

ـ فأتاه رجل فقال له يا ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إن فلانا له عليّ مال يريد ان يحبسني فقال : والله ما عندي مال فأقضي عنك ، فقال فكلّمه ولبس نعله فقلت له : يا ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنسيت اعتكافك؟ فقال : لم أنس ولكني سمعت أبي يحدث عن جدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) انه قال : من سعي في حاجة أخيه المسلم فكأنما عبد الله تسعة آلاف سنة صائما نهاره وقائما ليله (الفقيه باب الاعتكاف رقم ٢٤).

(١) الفقيه نفس الباب رقم ٧ ، وفيه رقم ١٤ صحيح الحلبي «لا يخرج في شيء إلا لجنازة او يعود مريضا ولا يجلس حتى يرجع».

٧٥

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ

٧٦

الْمُتَّقِينَ (١٩٤) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥)

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ١٨٨.

نص جليّ صارم في الجانب السلبي من الإقتصاد الاسلامي ، كضابطة عامة في التصرفات المحظورة في اموال الناس بينهم ، تلحيقا له بمصداق كأفضله من مصاديق الأكل بالحق : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) (٢٩).

وكقسم خاص من الأكل بالباطل هو أموال الناس (.. وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) (٤ : ١٦١) (إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) (٩ : ٣٤) ولكن بينكم هناك تشملها والقسمين الآخرين.

«لا تأكلوا» هنا صيغة اخرى عن «لا تتصرفوا» عبر عنها بها لأن الأكل هو الحاجة العظمى المتعوّدة الضرورية ، فقد يعيش الإنسان دون ملبس او منكح او مسكن ، وليس ليعيش دون أكل ، وقد يبدل كل حاجياته الى الأكل ولا يبدل أكله الى سائر حاجاته ، فلأنه هو المحور الأصيل في سؤل الأموال ، يعبر به عن كافة التصرفات في كافة اللغات والأعراف ، وقد يأتي الأكل في القرآن بمعنى التصرف الممحي (حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) (٣ : ١٨٣) (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا) (٨٩ : ١٩) ـ (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ) (١٢ : ٤٨).

٧٧

هذا! مهما اختص الأكل بنفسه فيما يختص بالمأكول (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى ...) او يقرن بما لا يؤكل من محظور التصرف ، ولكنه في حقل المال ككلّ يعني التصرف فيه ككل كما هنا وفي كثير أمثاله ، لحدّ أصبح مجاز الأكل اشمل من حقيقته استعمالا ، ينصرف الى مطلق التصرفات ما لم تخصصه بحقيقته قرينة!.

و «أموالكم» تعم كل ما يتمول حيث اليه يتميّل فان المال هو من الميل ، فقد تشمل «أموالكم» الحقوق المالية بجنب الأموال أنفسها ، حيث المال فيها هو المال ، بل وهو من المال لمكان الميل ، ونفس هذا الجمع المستغرق لكلّ الأموال هي من القرائن القطعية على ان الاكل هو مطلق التصرف ، حيث الأموال كلها ليست مأكولة كأكل خاص إلّا الخاص منها ، والنص يعم كل الأموال ، فمهما كان الاكل دون قرينة الحقيقة ظاهرا في الكل ، أصبح هنا نصا فيه بصيغة الجمع المستغرق للأموال ككل.

ثم «أموالكم» تشمل الأموال التي تخصنا والتي تخص الآخرين ، حيث يعتبرون كأنفسنا فإن (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) (٣ : ١٩٥) كما (لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) (٤٩ : ١١) (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (٣ : ٥٤) (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (٤ : ٢٩) كما وتشمل الأموال المشتركة بيننا ، فمحظور الأكل بالباطل لا يختص بأموال الآخرين ، و «أنفسكم» هي أحق أن تعنيه «كم» في «أموالكم» ومن ثم أموال الآخرين لأنهم كأنفسكم ، ثم الأموال المشتركة لأنها لكم جميعا وبينكم فذلك المثلث معني من أموالكم.

وأما «بينكم» فقد تتعلق بكلا المتعلقين «لا تأكلوا ... بينكم ـ أموالكم الكائنة بينكم» فإن طبيعة «أموالكم» في أي من الثلاثة أن تكون «بينكم» بالحق ، دون اختصاص لمال بأحد مهما اختص به ملكه ، فإن هناك مبادلات وانفاقات وسائر ما يتوجب في أموالكم بينكم!.

٧٨

ام و «بالباطل بينكم» وذلك ثالوث الحرمة في أكل الأموال كثالوث الأموال ، أن تأكل مالك بالباطل تصرفا بإسراف او تبذير ام دون إخراج لحقوق الفقراء إمّا ذا من محظور من التصرفات المسرودة في القرآن والسنة ، ام كنزا لها دونما فائدة او افادة شخصية ولا جماهيرية أمّاهيه من تصرفات ام سواها من محظور في شرعة الله ، أو أن تأكل مال غيرك دون حلّه ورضاه و «لا يحل لامرئ ان يأخذ مال أخيه بغير حقه وذلك لما حرم الله مال المسلم على المسلم» (١) ف «أموالكم وأعراضكم عليكم حرام» (٢) ثم المشتركة فانه (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً).

ثم الباطل بينكم هو المعروف بطلانه كالأموال المسروقة واضرابها ، ولكن الباطل هو أعم من «الباطل بينكم» والباطل عند الله ، مهما كان حقا بينكم ، ام قد يكون باطلا بينكم حقا عند الله كالضرائب المستقيمة وغير المستقيمة أماهيه من حقوق مقررة في الشرعة الإلهية هي باطل بينكم ام ليس حقا تحكمون به.

إذا ف «بينكم» لا تعلق لها بخصوص الباطل ، اللهم إلّا فيما هو باطل بينكم وعند الله فأغلظ محظورا ، فقد يعنى فيما عني من الظرف بهذه العناية الخاصة.

ثم «بينكم» قد تلمح ان الأموال كيفما كانت فهي «بينكم» تحمل التداول بحق او باطل ، والمنهي عنه هنا هو التداول الباطل ، فقد لا تشمل الأموال العامة التي لا تختص بأحد حتى تحمل التداول كالبحار والأنهار والغابات والمعادن ، إلّا ان يتجاوز الإنسان حقه فيها ، ولكنه يشملها أيضا لأنها مشتركة

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٢٠٣ ـ أخرج أحمد عن أبي حميد الساعدي أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: ...

(٢) آيات الأحكام للجصاص ١ : ٢٩٤ قال (عليه السّلام) : ...

٧٩

بينكم ، وتداولها بينكم اكثر من القسمين الأولين.

ثم «بالباطل» قد تعني بسبب الباطل ، وبمصاحبة الباطل ، فإن كلّا محظور ، فمن السبب الباطل الرشا والميسر والسرقة والربا أمّا شابه من أسباب باطلة لا دور لها في نقل الأموال.

ومن معية الباطل ان تسرف في مالك او تبذر تبذيرا ، فإنهما باطلان في أنفسهما ، ومن السبب الباطل ان تستقرض وليس عندك الوفاء ولا رجاء الوفاء ام لا تنوي الأداء حيث الاستقراض مبادلة بين الحاضر والغائب لأجل ، فإذا ليس عندك لا حاضر توفي به ولا غائب ترجوه فقد أكلت اموال الناس بالسبب الباطل وهو الاستقراض وليس عندك الوفاء ، و «لا يأكل أموال الناس إلا وعنده ما يؤدي إليهم ...» (١) ، فلأن القرض مبادلة حاضر بغائب فلا بد فيه من نية الأداء وإمكانيته ، فلو نوى الأداء دون إمكانية كانت نيته فارغة ، وإن كانت له امكانية دون نية الأداء كانت امكانيته فارغة ، فالنية والإمكانية هما بديلتان عن حاضر البدل ، ضمانا لغائبه ، وأمانا لصاحبه ، ف «من استدان دينا فلم ينو قضاءه كان بمنزلة السارق» «فذلك اللص العادي» (٢) فبأحرى من لا

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١٧٦ في الفقيه وروى سماعة بن مهران قال قلت لأبي عبد الله (عليه السّلام) الرجل منا يكون عنده الشيء يتبلغ به وعليه الدين أيطعمه عياله حتى يأتيه الله عزّ وجلّ بميسرة فيقضي دينه او يستقرض على ظهره في خبث الزمان وشدة المكاسب او يقبل الصدقة؟ فقال : يقضي بما عنده دينه ولا يأكل أموال الناس إلّا وعنده ما يؤدي إليهم إن الله عزّ وجلّ يقول : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ).

(٢) الكافي ٥ : ٩٩ عن ابن فضال عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : ... وفي الوسائل أبواب الدين ب ٥ ح ٥ عن أبي خديجة عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : «أيما رجل أتى رجلا فاستقرض منه مالا وفي نيته الا يؤديه فذلك اللص العادي» وفي التهذيب ٣ : ٦٠ رواية زرارة بن أعين في الصحيح قال : سألت أبا جعفر (عليهما السّلام) عن الرجل يكون عليه ـ

٨٠