الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٢

فكما ان (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) يختص بالمعسر منه ، كذلك (أَوْ عَلى سَفَرٍ) هو المعسر منه وقد تظافرت به نصوص السفر للإفطار والقصر.

صحيح ان هناك حدين يذكران للقصر والإفطار : ثمانية فراسخ (١) ومسيرة يوم او بياضه (٢) ولكن المسيرة هي الأصل الدائب ، والثمانية إمارة وقتية محددة بالزمن الذي مسيرة يومه هي الثمانية بأغلب السير والغالب على المسير ، كما هو الصريح من أحاديث المسيرة بل والثمانية ، ففي الموثق عن التقصير؟ قال : في بريد ، قلت : بريد؟ قال : انه ذهب بريدا ورجع بريدا فقد شغل يومه (٣) وذلك لشدة المسيرة كما في الصحيح ان اهل مكة يتمون الصلاة بعرفات؟ فقال : ويلهم او ويحهم واي سفر أشد منه؟ لا تتم (٤).

ومن أحكم الأحاديث الحاكمة بين نصوص الثمانية والمسيرة صحيحة فضل بن شاذان عن الإمام الرضا (عليه السّلام) انه سمعه يقول : إنما وجب القصر في ثمانية فراسخ لا أقل من ذلك ولا أكثر لأن ثمانية فراسخ مسيرة يوم للعامة والقوافل فوجب القصر في مسيرة يوم ولو لم يجب في مسيرة يوم لما وجب في مسيرة الف سنة وذلك لأن كل يوم يكون بعد هذا اليوم فانما هو نظير هذا اليوم فلو لم يجب في هذا اليوم فما وجب في نظيره إذا كان نظيره مثله لا فرق

__________________

(١) من نصوصها صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليهما السّلام) قال : التقصير في بريد والبريد اربع فراسخ.

(٢) من نصوصها صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السّلام) عن الرجل يخرج في سفره وهو مسيرة يوم؟ قال : يجب عليه التقصير في مسيرة يوم وان كان يدور في عمله (الوسائل ٥ : ٤٩٢ ح ١٦).

(٣) الوسائل ٤٩٦ ح ٩ رواه محمد بن مسلم عن الباقر (عليه السّلام).

(٤) المصدر ٤٩٩ ح ١ رواه المشايخ الثلاثة في الكتب الاربعة بأسانيد صحيحة عن أبي عبد الله (عليه السّلام).

٢١

بينهما وقد يختلف المسير فسير البقر انما هو في اربعة فراسخ وسير الفرس عشرون فرسخا وانما جعل مسيرة يوم ثمانية فراسخ لأن ثمانية فراسخ هو سير الجمال والقوافل وهو الغالب على المسير وهو أعظم المسير الذي يسيره الجمالون والمكاريون (١).

فلأن الحكمة في الإفطار كما في القصر هي العسر فليحدّد السفر المفطر المقصر بالمعسر ، المحدّد بمسيرة يوم بالغالب على المسير وأعظم المسير ، وهو اليوم السيارات التي تسير كل يوم لأقل تقدير الف كيلومترا ، فلا قصر ولا إفطار في أقل منه كما فصلناه في آية القصر ـ وفي كراس فذّ ـ فلا نطيله هنا أكثر مما بيناه. (أَوْ عَلى سَفَرٍ) يختص بحالة السفر ، ويلحق بها المقام دون العشرة حسب متظافر الأحاديث ولا يجوز الإفطار ما لم يتحقق السفر بالخروج عن حد الترخص ، فلا تكفي النية ولمّا يسافر ، مهما كفت نية المقام دون العشرة في المقصد بعد ان سافر.

ومما تلمح لنا (عَلى سَفَرٍ) ان نية السفر والتحضر له لا يكفي عذرا مهما صدق عرفيا انه مسافر ، واما المقيم دون العشرة في السفر فهو حقا على سفر ، ثم يخرج المقيم عشرة او أكثر بصحيح الأثر.

ثم (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) هل تشمل أياما أخر من سنة أخرى غير التي فيها أفطر ، ام تختص بأيام أخر من السنة نفسها؟ ظاهر الإطلاق هو الأول مهما كان فالواجب هو التقديم في سنة الإفطار ، ثم السنة قيدت ذلك الإطلاق بالعدة الأولى ، فان كان معذورا فيها فما عليه إلّا الكفارة الصغيرة عن كل يوم اطعام مسكين.

ثم «فعدة» تعني عدة المرض أو السفر (مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) غير أن أياما

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٤٩٠ ح ١ وعن العلل بزيادة من «وقد يختلف المسير ...».

٢٢

معدودات مقررة للصيام هي ايام رمضان ، فانه إذا برء او حضر في رمضان حجبه صومه عن قضاء ما فاته ، فالعدة ـ إذا ـ هي على أية حال (مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) هي بين رمضانه ورمضان آخر ، وإذا استمر المرض الى الثاني ثم برء فالظاهر من (أَيَّامٍ أُخَرَ) سقوط القضاء عنه ، فان أياما أخر هي بقية ايام سنة الصيام ، ثم ومتظافر السنة دليل السقوط عنه هناك ، اللهم إلّا إذا قصر في القضاء على برءه فعليه القضاء حتى آخر عمره دون سقوط.

وهل يجب التتابع في (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)؟ و «عدة» أعم من المتتابعة والمتفرقة! إلّا ان التتابع راجح حسب المكنة ، ام ولأنها عدة كعدة فلتقض كما فاتت ، إن متتابعة فمتتابعة وإن متفرقة فمتفرقة؟ إلّا ان «عدة» منكرة لا تدل على هذه الخصوصية (١).

(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ)

أطاق من طاق : قوي ، فليعن الإفعال منه معنى زائدا ليس هو القوة على الصوم ، إضافة الى عنايتها من المكلفين الأولين في فرض الصيام فكيف تعاد هنا لآخرين ، عفوا عن فرضه إلى بديل الإطعام؟ فقد تعني طاق انه استدار على أمر كطوق عليه وهو القدرة المتسعة ، فالإطاقة ـ إذا ـ سلبها ام عكسها ، أن امرا طاق عليه كالطوق فلا يستطيع فيه حراكا ، ام هي صرف تمام الطاقة فيه فيأتي به على جهد وشقّة ، فإيجابها ـ إذا ـ كسلبها يعنيان استئصال الوسع في فعله

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٥ : ٧٨ روى ان رجلا قال للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) علي أيام من رمضان أفيجزيني أن أقضيها متفرقا؟ فقال له : أرأيت لو كان عليك دين فقضيته الدرهم والدرهمين أما كان يجزيك؟ فقال : نعم ـ قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فالله أحق ان يعفو ويصفح.

أقول : هذا إذا كان الدين غير مؤجل ، وأما المؤجل فلا يجوز تأخيره أو تفريقه إذا أمكن الإيفاء في أجله كلّا.

٢٣

و (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (٣ : ٣٨٦) إذا يسقط الفرض عن الذين يطيقونه لأنه قمة العسر ، وقد سقط عن المعسر الأدنى كالمسافر ، او المشابه كالمريض ، مهما كان عسر المرض أعسر من حيث الضرر دون عسر الإطاقة التي ليس فيه ضرر ولأن مطيق الصوم معسر فهو مرفوع عنه فرض الصوم ، مهما اختلف عسره عن عسر المرض والسفر ، حيث العسر في المطيق يرفع الفرض ، وهو في غيره مسافرا او مريضا يرفع السماح عن الصوم ، فهما مشتركان في عدم الفرض حيث العسر مرفوع في شرعة الله ، اللهم إلّا في التكاليف المبنية على العسر كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فما على المطيق إلّا (فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) وطبعا (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) لا أدناه ولا أعلاه ، اللهم إلّا تطوعا مندوبا ، إلّا ألّا يستطيع على طعام مسكين لأنه نفسه من المساكين و (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) حيث تسع كلّ وسع بدنيا وحاليا وماليا ، شخصيا وجماعيا.

فكل من يسع طوقه الصيام ، دون مرض ولا سفر ، فما عليه من صيام ، لا أداء ولا قضاء ، وإنما (فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) سواء أكان شيخا هرما ام كهلا او شابا هزلا كما الهرم ، او حاملا او مرضعا أمّن هو من هؤلاء الذين يطيقونه ، فان اطلاق النص دليل لإطلاق المعنى دون اختصاص بالشيخ الهرم (١) ،

__________________

(١) الاستبصار ٣ : ٩٩ والتهذيب ١ : ٤١٧ صحيحة ابن مسلم سمعت أبا جعفر (عليهما السّلام) يقول : «الشيخ الكبير والذي به العطاش لا حرج عليهما ان يفطرا في شهر رمضان ويتصدق كل منهما في كل يوم بمد من طعام ولا قضاء عليهما فان لم يقدرا فلا شيء عليهما»

وفي الدر المنثور ١ : ١٧٨ ـ اخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب في الآية قال : «الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم يفطر ويطعم مكان كل يوم مسكينا»

أقول : إذا كان «فأصابهم كبر ...» بعد الاطاقة فهو خلاف نص الآية ، اللهم الا ان يعني بيان موارد للإطاقة.

٢٤

واختصاص الذكر في بعض الأحاديث لا يعني إلّا الأكثر مصداقا للذين يطيقونه (١) ، حيث العناية الخاصة لمثل الشيخ تقتضي العبارة الخاصة به في مذهب الفصاحة ، لا سيما قمتها المرموقة في القرآن ، هذا ، إلّا أن المطيق الذي سوف يطوق الصيام دون إطاقة ، عليه القضاء عند المكنة والسعة ، مثل «الحامل المقرب والمرضع القليل اللبن لا حرج عليهما ان يفطرا في شهر رمضان لأنهما لا يطيقان الصوم وعليهما ان يتصدق كل واحد منهما في كل يوم يفطران بمد من طعام وعليهما قضاء كل يوم أفطرتا فيه تقضيان بعد» (٢).

هذا ، وقد تتقيد المرضعة بالتي لا تستطيع على اتخاذ ظئر لولدها ، إذ لا تصدق ـ إذا ـ أنها تطيق الصيام (٣) إلّا ان ظاهر الإطاقة هي الذاتية ، فكما لا يفرض على الشيخ الهرم تجديد قوته بدواء او غذاء حتى يسطع الصيام ، كذلك المرضعة ، وقد يدخلان في (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) تكلفا في طوع الصيام ، ولكنه غير مفروض ، فالأشبه جواز إفطار المرضع وان استطاعت على ظئر ، لا سيما وان

__________________

(١) الكافي ٤ : ١١٦ والفقيه باب ٢١ مرسل ابن أبي بكر عن أبي عبد الله (عليه السّلام) في الآية قال : «الذين يطيقون الصوم فأصابهم كبر او عطاش او شبه ذلك فعليهم لكل يوم مد»

(٢) الكافي ٤ : ١١٧ والتهذيب ١ : ٤٢٠ والفقيه ٢ ب ٢١ ح ٤ من كتاب الصوم ، صحيح ابن مسلم سمعت الباقر (عليه السّلام) يقول : الحامل ...

(٣) في مكاتبة ابن مهزيار المروية عن مستطرفات السرائر قال : كتبت اليه اسأله ـ يعني علي بن محمد (عليهما السّلام) ـ أن امرأة ترضع ولدها وغير ولدها في شهر رمضان فيشتد عليها الصيام وهي ترضع حتى غشي عليها ولا تقدر على الصيام ، ترضع وتفطر وتقضي صيامها إذا أمكن؟ او تدع الرضاع وتصوم ، فان كانت ممن لا يمكنها اتخاذ من يرضع ولدها فكيف تصنع؟ فكتب إن كان يمكنها اتخاذ ظئر استرضعت ولدها وأتمت صيامها ، وان كان ذلك لا يمكنها أفطرت وأرضعت ولدها وقضت صيامها متى ما أمكنها.

وفي آيات الأحكام للجصاص ١ : ٢٠٤ روى انس بن مالك القشيري عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ان الله وضع عن المسافر شطر صلاة والصوم وعن الحامل والمرضع.

٢٥

الإرضاع فرض الأم فيتقدم على فرض الصيام فان له مندوحة لعدة من ايام أخر.

ولكن الطاقة الذاتية للمرضع حاصلة ، وليست الإطاقة إلّا عند الخوف على ولدها إذا لم ترضعه ، فان كان هناك عنها بديل من ظئر او لبن آخر مستطاع فلا إطاقة ، وإلّا فهي مطيقة للصيام عرضيا فيسمح لها الإفطار ثم تقضي ، والأظهر كما قدمناه عدم وجوب اتخاذ الظئر عليها ، حيث البديل عن الإطاقة ليس في فرضه دليل.

وهذه تختلف عن الشيخ الهرم إذ لا طاقة له ذاتيا بالفعل ، وهو مطيق الصيام بطبيعة الحال ، وفرض تحصيل الطاقة عليه بحاجة إلى دليل ، مهما كان راجحا ب (فَمَنْ تَطَوَّعَ ...) ومن الذين يطيقونه ذووا العطاش ، ولكنهم ضرورتهم تقدر بقدرها بشرب الضروري من الماء دون مفطر آخر (١) ، ثم القضاء ان أمكن في ايام البرد ، وحديث إفطاره يحمل على مفطر الماء ـ فقط ـ فانه لا يطيق الصوم ككل ، وانما يطيق مفطر الماء ، فالأشبه جواز شربه قدر الضرورة ثم الفدية والقضاء مع المكنة فان القضاء على المطيق عند زوال الإطاقة أحرى منه على المريض عند زوال المرض.

وقد يدخل ذوا العطاش والحامل في المريض كما قد تختص الفدية بمن لا قضاء عليه ، حيث الجمع بينهما جمع بين البدلين ، وكفاية الفدية عن القضاء تخص من يطيق الصوم أداء وقضاء.

(فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ)

__________________

(١) الوسائل ٧ : ١٥٣ عن أبي عبد الله (عليه السّلام) في الرجل يصيبه العطاش حتى يخاف على نفسه؟ قال : يشرب بقدر ما يمسك رمقه ولا يشرب حتى يروى.

٢٦

«خيرا» هنا تشمل (فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) الى جانب «الصيام» والتطوع هو الطوع على تكلف في واجب كالسعي (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) (٢ : ١٨٤) عند ربه أو مندوب كما هنا إذ سقط عنه فرض الصيام بإطاقته.

(فَمَنْ تَطَوَّعَ) الصيام على إطاقته فهو خير له (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) و «من تطوع» الفدية على عدمه ام تطوعها بزيادة على مفروضة عدة وعدة (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) ف ـ (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) (٤ : ١١٠). وترى تطوع خير الصيام خير للمطيقين إياه ، أم تطوع خير الفدية؟ :

(وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)

وهذه علها ضابطة في حقل الصيام غير المحرّم بمرض أو ما أشبه ، فخيره في مفروضه يقابله شر ، وهو في مندوبه يقابله غير شرّ ، وهل تعم الذي على سفر لا يضره الصوم؟ قد يقال : نعم ، فإنه حيث لا يضر ، خير لكم ككلّ ، والخطاب هنا مطلق خرج منه الصوم المضر ، ولكنه لا ـ لعموم النص في مرّتيه ـ (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ولا تجد سفرا يضر فيه الصيام إلّا لمرض وهو داخل في «مريضا» فذلك ـ إذا ـ نص في ان فرض المسافر كالمريض هو عدة من ايام أخر دون تخير بينها وبين رمضان ، ولكن الذين يطيقونه دون مرض ولا سفر ، وهم ـ ككل ـ الذين لا يضرهم الصوم ، هؤلاء هم المخيرون بين الصوم والفدية ، بعد انتقال فرضهم الى الفدية ، وقد يكفي ذكر «مريضا» لعدم شمول (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) كلّ المكلفين الثلاثة ، المذكورين قبله ، وإذا انقطع شمولها للقسم الوسط ، فقد انقطع ـ بأحرى ـ للقسم الأول.

ثم ـ وعلى أقل تقدير ـ نشك في شمول (وَأَنْ تَصُومُوا ...) لغير الذين يطيقونه ، لا سيما وان تنجيز التكليف بالصوم سلبا وإيجابا لا يساعد «خيرا» ،

٢٧

على فاصل هنا بين (أَوْ عَلى سَفَرٍ) و (الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) ب (فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) ثم وتطوع المسافر كما المريض هو (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) فلا تطوع لهما في صيام رمضان فانه تكلف في الطوع ، ثم السماح عن صيام رمضان للسّفر هدية من الله ، ولا يردّ هدية الله إلّا الخارج عن هدي الله ، واما المطيق فقد سمح له الله بالصيام بعد ما ألغي فرضه ، فليتطوع المؤمن فرائض الله ورخصه ، وعلى أية حال (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) فرضا على المرضى والمسافرين ، لا تسمح بصيامهما في رمضان إذ ليس عليهما فرضان ، والواحد معروف في العدة ، فصيامهما رمضان إذا بدعة ، ولا يعارض نص القرآن اجماع ولا شهرة ولا رواية ، ولو لم يبين للذين يطيقونه خير الصيام لكانوا كما هنا إلّا ان عليهما (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وعليهم (فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) (١).

وقد يروى عن رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قوله : «الصائم في السفر كالمفطر في الحضر» (٢) و «ليس من البر الصيام في السفر» (٣) ويطارد خلافه بخلافه وخلاف القرآن (٤) ام يؤول بغير صيام رمضان.

__________________

(١)في الكافي عن علي بن الحسين (عليهما السّلام) قال : فاما صوم السفر والمرض فان العامة قد اختلفت في ذلك فقال قوم : يصوم وقال آخرون : لا يصوم ، وقال قوم : ان شاء صام وان شاء أفطر ، واما نحن فنقول : يفطر في الحالين جميعا فان صام في السفر او في حال المرض فعليه القضاء فإن الله عزّ وجلّ يقول (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).

(٢ ـ ٣). تفسير الفخر الرازي ٥ : ٧٦ قوله (عليه السّلام) ...

(٤) المصدر ٥ : ٧٧ روى ابو داود في سننه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن حمزة الأسلمي سأل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال : يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هل أصوم في السفر؟ فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) «صم ان شئت وأفطر ان شئت»

٢٨

وهل يجوز صوم غير رمضان في السفر؟ آية «على سفر» لا تحرمه لأنها خاصة بصيام رمضان ، وقد تأتي روايات بشأن حرمته ام جوازه في الهامش.

ف (أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) لا تعني صوم المسافر فرضا ، ثم هو خير في كل حال وكما يروى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حديث قدسي عن الله تعالى شأنه «الصوم لي وأنا أجزى به» (١) فهي في وجه لم يسم فاعلها يكون الله هو جزاء الصوم ، يعني الزلفي إليه ، وهي معلوما تعني اختصاص الجزاء ، كأن سائر الجزاء لسائر الأعمال لا تحسب جزاء بجنبه.

(شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ١٧٩ ـ أخرج ابن أبي شيبة ومسلم والنسائي والبيهقي عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الصوم لي وأنا أجزى به ، وفيه عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال ربنا الصيام جنة يستجن بها العبد من النار وهو لي وأنا أجزى به ، واخرج البيهقي عن أيوب بن حسان الواسطي قال سمعت رجلا سأل سفيان بن عيينة فقال لي يا أبا محمد فيما يرويه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ربه عز وجل : كل عمل ابن آدم له الا الصوم فانه لي وانا أجزى به.

أقول : وقد تكون من ميزات الصيام بين العبادات ان لا رياء فيه لأنه عبادة سلبية لا تظهر اللهم إلا لمن أظهرها ، ولكنه بطبيعة الحال لا يتحمل الرياء ، وقد رواه ابو هريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله : الصيام لا رياء فيه قال الله : هو لي وأنا اجزى به يدع طعامه وشرابه من أجلي.

وفيه عن أبي أمامة قال قلت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مرني بعمل آخذه عنك ينفعني الله به ، قال : عليك بالصوم فانه لا مثل له ، وعن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : الصيام جنة ما لم يخرقها ، قيل وبم يخرقها؟ قال : بكذب او غيبة ، وعن رجل من بني سليم ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ بيده فقال ... والصيام نصف الصبر.

٢٩

أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ١٨٥.

(.. كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ .. أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ» هي (شَهْرُ رَمَضانَ ...) بيانا متدرجا لأصل الصيام ووقته ومن فرض عليه أم منع عنه او خيّر فيه ، فانه عبادة صعبة ولا سيما في رمضاء الحجاز.

«شهر رمضان» شهر يسمّى في القرآن بين سائر الشهور تفضيلا له عليها لأنه منزل القرآن دونها ، وفيه فرض الصيام دونها (١).

وعلّه «إنما سمي رمضان لأن رمضان يرمض الذنوب» (٢) ويطهرها بصومه اسلاميا ، ولرمض الفصل وحرّه الذي وضع له فيه هذا الاسم قبل الإسلام ، فانه من الأسماء العربية للشهور ، فالرمض هو حر الحجارة ، والرمضاء مطر يأتي قبل الخريف يطهر وجه الأرض من الغبار ، فهو يغسل الذنوب ويحرقها ، ام ومن رمضت الفصل إذا دفعته بين حجرين ليرقّ ، وهو كذلك يرق القلوب برمض الإمساك عن المشتهيات! وقد يعني مثلث المعنى.

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ١٨٤ قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أظلكم شهركم هذا ـ يعني شهر رمضان ـ بمخلوف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما مر على المسلمين شهر خير لهم منه ولا يأتي على المنافقين شهر شرّ لهم منه بمخلوف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ان الله يكتب أجره وثوابه من قبل ان يدخل ويكتب وزره وشقاءه قبل ان يدخل وذلك ان المؤمن يعد فيه النفقة للقوة في العبادة ويعد فيه المنافق اغتياب المؤمنين واتباع عوراتهم فهو غنم للمؤمنين وغرم على الفاجر.

(٢) الدر المنثور ١ : ١٨٣ ـ أخرج ابن مردويه والإصبهاني في الترغيب عن انس قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنما ... وفيه عن عائشة قالت قيل لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما رمضان؟ قال : «أرمض الله فيه ذنوب المؤمنين وغفر لهم ...» أقول : وهو من الرمضاء : مطر يأتي قبل الخريف يطهر وجه الأرض من الغبار.

٣٠

وكونه اسما من اسماء الله تعالى (١) غريب في نوعه ، إذ لم يذكر في عدادها حيثما ذكرت كتابا وسنة ، ولا أن معناه يناسب ساحته سبحانه ولا سيما الرمضاء ، وأنه يثنّى ويجمع وليس كذلك أسماء الله ، ثم ويأتي كثيرا دون إضافة شهر في مختلف الأحاديث الحاملة فضله وأحكام صومه ، مما يحيل كونه من أسماء الله تعالى (٢).

ومن فضله ان «كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذا دخل

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١٦٦ عن الكافي عن امير المؤمنين (عليه السّلام) لا تقولوا رمضان ولكن قولوا شهر رمضان فانكم ما تدرون ما رمضان ، وفيه عن الكافي عن أبي جعفر (عليهما السّلام) قال : كنا عنده ثمانية رجال فذكرنا رمضان فقال : لا تقولوا هذا رمضان ولا ذهب رمضان ولا جاء رمضان فإن رمضان اسم من اسماء الله عزّ وجلّ لا يجيء ولا يذهب وانما يجيء ويذهب الزائل ولكن قولوا شهر رمضان فالشهر مضاف الى الاسم والاسم اسم الله عز ذكره وهو الشهر الذي أنزل فيه القرآن جعله مثلا وعيدا. وفي تفسير الرازي ٥ : ٨٣ وروي عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأورد مثله.

(٢) الدر المنثور ١ : ١٨٤ ـ أخرج ابن أبي شيبة والنسائي عن أبي هريرة ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال لأصحابه : نبشركم قد جاء رمضان شهر مبارك ... أقول : ولو كان اسما من اسماء الله لبطل «جاء رمضان»! وفيه عن أبي مسعود الأنصاري سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ذات يوم وأهلّ رمضان فقال : لو يعلم العباد ما رمضان لتمنت أمتي ان يكون السنة كلها فقال رجل يا نبي الله حدثنا فقال : ان الجنة لتزين لرمضان من رأس الحول الى الحول فإذا كان اوّل يوم من رمضان هبت ريح ...

وفيه عن أبي سعيد الخدري قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذا كان اوّل ليلة من رمضان ،

وفيه عن عمر بن الخطاب سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول : ذاكر الله في رمضان مغفور وسائل الله فيه لا يخيب.

أقول : ذكر رمضان دون اضافة ، ثم وتثنية وجمعا كثير في أحاديثنا مما يؤكد انه ليس من اسماء الله ، فانما هو شهر الله.

٣١

شهر رمضان شد مئزره ثم لم يأت فراشه حتى ينسلخ» (١) و «تغير لونه وكثرت صلاته وابتهل في الدعاء واشفق منه» (٢) و «اطلق كل أسير وأعطى كل سائل» (٣).

وقد سمي لفضله شهر الله لاختصاصه بالله أكثر من سائر الشهور ، وكما يروى عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «فاتقوا شهر رمضان فانه شهر الله جعل الله لكم احد عشر شهرا تأكلون فيها وتشربون وتتلذذون وجعل لنفسه شهرا فاتقوا شهر رمضان فانه شهر الله» (٤).

ثم وصف «شهر رمضان» بأفضل مواصفة تميّزه عن كافة الشهور : (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) ويا لصومه وإنزال القرآن فيه من صلة ومواصلة عريقة ، فان منزل القرآن لا بد له من طهارة كاملة عن كلّ الأقذار ، فكما طهر قلب محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى نزل عليه القرآن ، كذلك قلوب الأمة لما تطهر بصيامه ، تستعد لإنزال أنوار وحي القرآن.

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ١٨٥ ـ أخرج البيهقي عن عائشة قالت كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ...

(٢) المصدر اخرج البيهقي والاصبهاني عن عائشة قالت كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذا دخل شهر رمضان ...

(٣) المصدر أخرج البزاز والبيهقي عن ابن عباس قال كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذا دخل شهر رمضان أطلق ...

(٤) المصدر أخرج البيهقي عن ابن عباس ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : ان الجنة لتزين من الحول الى الحول لشهر رمضان وان الحور العين لتزين من الحول الى الحول لصوّام رمضان فإذا دخل رمضان قالت الجنة : اللهم اجعل لي في هذا الشهر من عبادك ويقلن الحور اللهم اجعل لنا من عبادك في هذا الشهر أزواجا ، فمن لم يقذف مسلما فيه ببهتان ولم يشرب مسكرا كفر الله عنه ذنوبه ومن قذف فيه مسلما او شرب فيه مسكرا أحبط الله عمله لسنة ، فاتقوا شهر رمضان ...

٣٢

وترى كيف (أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) وقد أنزل طيلة الرسالة القدسية في ثلاث وعشرين سنة نجوما متفرقة ، ومنها رمضاناتها كسائر شهورها؟.

ألأنه أنزل فيه آي من القرآن أوّل ما نزل؟ وبازغ الوحي كان قرينا لبازغ الرسالة وهو السابع والعشرون من رجب وبينه وبين رمضان أكثر من شهر!.

ثم القرآن معرفا لا يطلق على بعضه ، وانما قرآن ، لو انه انزل في رمضان في بازغه!.

أم لأنه أنزل في شأنه قرآن؟ فقد أنزل في شأن غيره من زمان او مكان ام أيّا كان قرآن! ولا نجد نازل القرآن بشأن رمضان إلّا هذه الآية ، فهل انها تخبر عن نفسها دورا مصرحا! وآية كتابة الصيام من قبل ليست آية تعريف برمضان ، فلم تنزل فيه ولا سيما قبل التصريح بشأن رمضان.

أم ان القرآن المفصل أنزل في رمضان من اللوح المحفوظ الى البيت المعمور في السماء الدنيا (١) ، ثم أنزل على الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) طوال البعثة؟ ولا ينزل القرآن على مكان ، ولا منزل للقرآن إلّا قلب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) دون اي مكان من سماء أو أرض ، ولا أي قلب آخر في سماء أو أرض ، وأي بيت اعمر من قلب محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأجدر لأن ينزل فيه القرآن ، فهو البيت المعمور بعامر الروحية الرسالية اللابقة اللائقة لنزول القرآن.

ثم (هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) لا تصلح لنازل القرآن في

__________________

(١) فيه رواية يتيمة رواها في الكافي عن الامام الصادق (عليه السّلام) انه قال : نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان الى البيت المعمور ثم نزل في طول عشرين سنة(نور الثقلين ٥ : ٦٢٤ ح ٥٣).

٣٣

غير قلب الرسول ، حيث الهدى القرآنية للناس هي كيانه منذ بعث.

ومن ثم لا يصح نزول القرآن المفصل جملة واحدة وان في قلب الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأنه يحمل ناسخا ومنسوخا ، ويشمل أنباء مستجدة طول الزمن الرسالي ، فكيف يخبر عنها بصيغة الماضي ك (قَدْ سَمِعَ اللهُ ...) وما أشبه؟ ولو نزل تفصيله جملة واحدة لما (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) (٢٥ : ٣٢).

إذا فهو القرآن المحكم النازل عليه في ليلة مباركة هي ليلة القدر ، كما وأن صيغة الإنزال تلمح لدفعية النزول والتنزيل تدريجي : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (١١ : ١). فلقد انزل على قلبه المنير محكم القرآن ومجمله بعد مبعثه بزهاء خمسين ليلة ، فكان يعرفه جملة ثم عرّفه ربه تفصيلا كما تدل عليه آية القيامة (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) (٧٥ : ١٦) وآية طه (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (٢٠ : ١١٤) ولا يليق باي عاقل فضلا عن اعقل العالمين ان يحرك لسانه بالقرآن ويعجل به وماله أية معرفة به لا جملة ولا تفصيلا ، ثم آيتا حم والقدر تتجاوبان في نزول القرآن ـ هكذا ـ في ليلة القدر ، فالمعني من «شهر رمضان» كمنزل القرآن ، هنا هو ليلة القدر المتراوحة بين ـ ١٩ و ٢١ و ٢٣ ـ لأظهر تقدير وأكثره.

ولتفصيل أكثر يراجع تفسير حم والقدر ، ثم «رمضان» ليس فقط منزل القرآن ، بل هو حسب الأثر الثابت عن نبي القرآن ـ كذلك ـ منزل لصحف ابراهيم وتوراة موسى وزبور داود وإنجيل المسيح (عليهم السّلام) (١).

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ١٨٩ عن وائلة بن الأسقع ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : ـ

٣٤

ثم (هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) كما هي مواصفات ثلاث للقرآن ، كذلك وعلى هامشه قد تعني رمضان بصيامه ، فقد يتكفل صيامه الجانب السلبي لكلمة التوحيد ، والقرآن هو الجانب الإيجابي ، فيتجاوبان نازلا ومنزلا ، لمحة صارحة ان هدي القرآن وبيناته وفرقانه إنما تلمع وتتبلور في قلوب الصائمين ، فان ذلك النازل النور يتطلب المنزل النور ، ليصبح نورا على نور ، قرآنا في قلوب الصائمين ، وكما أنزل في قلب الرسول الطاهر الأمين ، حيث كان صائما عما سوى الله ، فأصبح جديرا ان ينزل فيه أفضل وحي الله.

القرآن طبيعته (هُدىً لِلنَّاسِ) الذين يفحصون عن هدى ، دون النسناس الهائمين في الردى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً).

ثم (وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى) لمن اهتدى حيث الهدى درجات تتدرج الى أهدى فأهدى: (الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ).

ومن ثم بينات من «الفرقان» لمن اتقى بعد ما اهتدى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) (٨ : ٢٩) وهي هداية على ضوء القرآن

__________________

ـ أنزلت صحف ابراهيم في اوّل ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان وانزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان.

أقول : اربع عشرين خطأ من الراوي فان ليلة القدر بين (١٩ ـ ٢١ ـ ٢٣) لأشهر تقدير في أحاديثنا

ففي نور الثقلين ١ : ١٦٦ عن الكافي عن الصادق (عليه السّلام) في حديث نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان الى البيت المعمور ثم نزل في طول عشرين سنة ثم قال قال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نزلت صحف ابراهيم ـ وساق الحديث السابق قائلا في آخره ـ : وانزل القرآن في ثلاث وعشرين من شهر رمضان.

أقول : وأحاديثنا مختلفة في تعيين ليلة القدر وثلاث وعشرين أكثرها ثم هي بين ١٩ و ٢١ وسواها.

٣٥

علما به وعملا (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥ : ١٨).

إذا ف (هُدىً لِلنَّاسِ) هي أولى المراحل لهدي القرآن ، حيث الناس يعم كل الناس ، ثم (وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى) وهي الهدى البينة ببراهينها ، انها لمن اهتدى ، وأخيرا بينات من «الفرقان» لمن اتقى ، درجات ثلاث تلو بعض ولصق بعض لمن ارتقى ذلك المرقى ، وهنا (هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) مواصفات فعلية لرمضان ، وشأنية بحق الناس للقرآن فانه يحمل هذه المواصفات بعد تفصيله للناس كما في اجماله لرسول الناس.

(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)

هنا يفرع فرض الصيام على تبين زمانه وهو رمضان ، وكأن «كتب» السالفة تقدمة له ، وترى ما ذا تعني (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ)؟ أهو شهود هلاله المشروط لفرض صومه ، وليس الشهر هو القمر ، فانما هلاله إمارة بدايته وهو زهاء ثلاثين يوما ، فأين الشهر من القمر ، انما هو رمضان السابق ذكره ، وتعريف الشهر يعنيه.

ثم الشهادة هي الحضور على علم ، فشهود الشهر هو الحضور مقابل السفر ، على علم برمضان ، في أي يوم منه كان ، ففي أوّله يصدق برؤية الهلال شخصيا ام بشياع او شهادة مقبولة او مضى ثلاثين يوما من شعبان ، وإلّا فلا شهود سواء حضر ولم يعلم او علم ولم يحضر ، فصيام يوم الشك على انه من رمضان غير مأمور به ولا محبور ، اللهم إلّا بنيّة آخر شعبان فان صادف رمضان فمن رمضان والا فمن شعبان قضاء أمّا ذا حسب ما نوى(١) فصوم يوم الشك بنية رمضان باطل خلافا لأحاديث تعارض ظاهر الآية والموثقة (٢) وصومه عن

__________________

(١ ، ٢) يدل على ذلك من الاخبار موثقة سماعة قال قلت لأبي عبد الله (عليه السّلام) رجل صام يوما ولا ـ

٣٦

شعبان صحيح ، واما إذا صام بنيّة ما في ذمته من راجح وواجب قضاء ، او واجب أداء ، ام بنيّة انه إذا كان شعبان فمنه وإذا كان رمضان فمن رمضان ففي صحته تردد للنص «إنما يصام يوم الشك من شعبان» ثم «ولا يصومه من شعبان» ولكن «رجل صام ولا يدري» يكفي لمحة لصحته وقد يدل على صحته ظواهر الإطلاق (١).

والشهر في «شهد الشهر» بين ظرف ومفعول به ، وهو على أي الحالين يختص بغير المسافر ، إذا (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً) تخصيص ل «من شهد الشهر» فهو الحاضر غير المريض ، ولكن (أَوْ عَلى سَفَرٍ) يقابل «من شهد» مهما كان مريضا ام صحيحا.

وهل ان شهود الشهر هو حضور كله على علم؟ إذا فأين الصيام ، ولا

__________________

ـ يدري أمن رمضان هو ام من غيره فجاءه قوم فشهدوا انه كان من شهر رمضان فقال بعض الناس عندنا : لا يقيد به فقال : بلى فقلت : إنهم قالوا : صمت وأنت لا تدري أمن شهر رمضان هذا ام من غيره ، فقال : بلى فاعتد به فانما هو شيء وفقك الله له ، إنما يصام يوم الشك من شعبان ولا يصومه من رمضان لأنه قد نهي ان ينفرد الإنسان بالصيام في يوم الشك وانما ينوي من الليلة انه يصوم من شعبان فان كان من شهر رمضان أجزأ عنه بتفضيل الله وبما قد وسع على عباده ولولا ذلك لهلك الناس (الكافي ٤ : ٨٢ والتهذيب ١ : ٤٠٤ والاستبصار ٣ : ٧٨).

ومنها خبر هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السّلام) انه قال : في يوم الشك من صامه قضاه وان كان كذلك (التهذيب ١ : ٣٩٧) أقول : يعني من صامه عن رمضان ، حيث القضاء ليس إلّا عن رمضان دون شعبان ، وهذا هو المعني من خبر الحسين بن زيد عن الصادق (عليه السّلام) عن آبائه (عليهم السّلام) ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نهى عن صيام ستة ايام يوم الفطر ويوم الشك ويوم النحر وايام التشريق.

(١) ومنها ما عن محمد بن الحكيم قال سألت أبا الحسن (عليه السّلام) في اليوم الذي يشك فيه فان الناس يزعمون من صامه بمنزلة من أفطر في شهر رمضان؟ فقال : كذبوا ، ان كان من شهر رمضان فهو يوم وفق له وان كان من غيره فهو بمنزلة ما مضى من الأيام (الكافي ٤ : ٨٣).

٣٧

يأتي دور الجزاء إلّا بعد تحقق الشرط بكامله ، وهو هنا شهوده بكامله!.

ام ان «الشهر» هنا ـ فقط ـ يوم شهوده الأول ام أي يوم منه ، لتعني «فليصمه» ـ فقط ـ صوم يومه؟ فكذلك الأمر ، ثم وتعبيره الصالح «فمن شهد منكم اي يوم من الشهر فليصمه»! ، إن شهود الشهر هنا هو الحضور على علم في الشهر ، في أي يوم منه ، أولا او ثانيا أمّا هو ، فإذا كان حاضرا في رمضان وهو عارف بالشهر «فليصمه» تعني كلّه ام يومه الى آخره ، فالشاهد غرته يصومه كله ـ وهو اصل الشهود ـ والشاهد ثانيه يصوم الأيام الباقية معها ، وهكذا الأمر في كل الأيام.

ولا ضير في استخدام الشهر كله من الشهر مرجعا ، وهو كمشهود اي يوم منه ، إذ لا تصح عناية كل الشهر منه مشهودا ، ولكنه معني منه لفرض الصيام ، إذا فواجب صيام رمضان هو منذ شهوده حتى آخره ، دون اختصاص بيوم شهوده ، فهو كما يقال : إذا شهدت أول شعبان فلتقمه ، يعني كله (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) أن حضر في أي يوم منه عالما به «فليصمه» كله ، ما بقي منذ شهوده (١) فرضا يحلق على كل شاهد شهر رمضان مهما سافر بعد شهوده. أترى إذا كان صيامه كله فرضا بمجرد شهود يوم منه فهلّا يجوز له إنشاء سفر بعد ام يجوز؟ فان جاز أفطر ، وان لم يجز لم يفطر لأنه سفر معصية.

إنه إذا سافر وأفطر عصى بسفره حيث سبب الإفطار وكان عليه فرض الصيام ، وإذا لم يفطر عصى لأن الصوم في السفر محظور ، ولا يصح القول ان عليه الصوم لأن سفره معصية بما يسبب ترك الصوم ، فإنه دور مصرح ، ثم ان

__________________

(١) تفسير الرازي ٥ : ٨٩ عن علي (عليه السّلام) فمن شهد منكم اوّل الشهر فليصم جميعه ، وفي نور الثقلين ١ : ١٦٨ عن الفقيه وسأل عبيد بن زرارة أبا عبد الله (عليه السّلام) عن قول الله عز وجل (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) قال : ما أبينها من شهد فليصمه ومن سافر فلا يصمه.

٣٨

سفر المعصية التي تفرض إتمام الصلاة الملازم للصوم ، هو المعصية الأخرى دون ترك الصلاة وترك الصوم ، ثم لا ملازمة بين إتمام الصلاة والصوم كليا ، فانما الملازمة بين القصر والإفطار: «إذا قصرت أفطرت» ولم يدل دليل على جواز الصوم في السفر ـ أيا كان ـ فضلا عن فرضه و «على سفر» إنما سمح لهكذا مسافر عزيمة ان يترك صومه لأيام أخر ، دون ان يفرض صوم السفر على من ينشئ السفر وهو شاهد الشهر ، فانما المستفاد منه و «فليصمه» فرض الصوم على غير (مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ) ، فكما يحرم على السليم ان يمرض نفسه فيترك الصيام ، كذلك يحرم على حاضر الشهر ان يسافر فيترك الصيام ، فلا وجه ـ إذا ـ لوجوب الصوم في هكذا سفر لأنه سفر معصية ، ام لأنه لا يشمله «على سفر» لا سيما نظرا الى الروايات التي تحظر السفر على غير المضطر ، فانه يعني محظور ترك الصوم حينذاك ، وكذلك الروايات الناهية عن الصوم في السفر كما في المرض ، وهل عليه الكفارة لأنه تعمد ترك الفرض بالسفر ، كلّا! لأنه يختص بالعامد ترك الصيام المفروض بالفعل ، لا الذي سبب إباحة تركه ، ومهما دل «فليصمه» على فرض الصيام لحاضر الشهر ، ولكن «على سفر» يحرم الصيام على المسافر مهما كان سفره محرما ودون ضرورة. (١)

وفصل القول ان (أَوْ عَلى سَفَرٍ) تختص سماح الإفطار بمن دخل رمضان وهو على سفر ، دون الحاضر الذي ينشئ فيه السفر ، ثم فرض صيامه على (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) فلا يجوز له الإفطار مهما سافر ، ام ولا يجوز له السفر اللهم

__________________

(١) كصحيحة معاوية بن وهب قال قلت لأبي عبد الله (عليه السّلام) الرجل يصوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان فيكون كذلك فقال : هو شيء وفق له (الكافي ٤ : ٨٢) ومضمرة سماعة قال سألته عن اليوم الذي يشك فيه من شهر رمضان لا يدري ا هو من شهر شعبان او من رمضان فصامه من شهر رمضان؟ قال : هو يوم وفق له ولا قضاء عليه.

٣٩

الا لضرورة كحج او عمرة او في طلب مال يخاف تلفه (١).

اجل (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) حاصلة له كل شروط فرض الصوم «فليصمه» وليس له ان يتركه بعاذرة السفر ، ام اي عاذرة يختلقها كأن يسبب لمرضه فيعذر ، فانه لزام عليه الصوم على أية حال ، اللهم إلّا لبادرة خارجة عن إختياره ، كسفرة ضرورية ، ام مرض يأتيه أمّا ذا مما لا يختاره من عاذرة عن صيامه.

وقد يقال (أَوْ عَلى سَفَرٍ) يعذره مهما انشأه بعد ما حضر وكان سفره محظورا ودون ضرورة؟ ولكن «على سفر» بعد (مَنْ كانَ مَرِيضاً) يعني كان في رمضان على سفر ، ثم يلحق به إنشاء السفر فيه مضطرا بدليل الاضطرار ، ومن ثم فالسفر غير المضطر اليه محرم لأنه يسبب جواز الإفطار ، ثم لا يجوز الإفطار في سفر المعصية؟ ولكن ذلك ترتب محظور ، والأصل هو القول الفصل ، ان سفره محرم ـ مهما جاز له الإفطار ـ لأنه يسبب ترك فرضه ، ام ان فرضه لا يسقط بذلك السفر حيث ان فرض صيامه لزامه بأن «شهد الشهر» مهما سافر ، إلّا ان ظاهر النصوص عدم وجوب او جواز الصوم ان سافر لغير عذر ، مع ان سفره معصية ، فالنصوص الدالة على عدم الإفطار في سفر المعصية مخصصة بغير هذه ، ولو أنه جاز الصيام ام وجب في السفر غير المضطر إليه لم يكن دور للنهي عن السفر ، فإنما ينهى عنه لأنه يحرم فيه الصوم.

ولكن الملازمة بين الإفطار والتقصير في السفر ، ثم وجوب الإتمام في سفر المعصية ، انها تحكم بوجوب الصيام عليه كوجوب الإتمام في سفر المعصية كما يروي عن علي (عليه السّلام) (٢).

__________________

(١) آيات الأحكام للجصاص ١ : ٢٢٢.

(٢) نور الثقلين ١ : ١٦٩ عن تفسير العياشي عن الصباح بن سيابة قال قلت لأبي عبد الله ـ

٤٠