الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٢

الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وأقله الحرم كله : (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فيه فَاقْتُلُوهُمْ) فيه و (عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).

وإنما استثني عن سماح القتال ام واجبه (حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) فان لم يقاتلوكم فيه ولكنهم يفتنون المسلمين ، فكذلك لا تقاتلوهم فيه ولا عنده ، بل قاتلوهم خارج الحرم بعد ما أخرجتموهم عنه ، لكي تكفوا عن فتنتهم ان تمتد الى داخل الحرم ، وداخل المجموعة المسلمة ، فحرمة الحرم والمسجد الحرام تقتضي عدم مقاتلة غير المقاتلين فيه وان كانوا مفتتنين ، ولكنهم يقاتلون في غير الحرم.

(فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٩٢).

وترى الانتهاء هنا هو عن القتال عند المسجد الحرام فقط مع بقاءهم على شركهم او قتالهم في سواه؟ فأين الغفر والرحمة لهؤلاء وهم مشركون بعد ام ومقاتلون وإن في غير المسجد الحرام!.

أو هو الانتهاء عن القتال إطلاقا ـ عند المسجد الحرام وسواه ـ؟ فكذلك الأمر مهما كان أخف من الاوّل!.

أم هو الانتهاء عن كل فتنة قتالا وسواها من دعايات مضادة على المسلمين؟ فكذلك الأمر مهما كان أخف منهما! ام ولا يفتنون المسلمين ، فلا قتال ولا فتنة بالنسبة لهم ، ولكنهم مفتتنون مع بعضهم البعض ، ام ـ وعلى فرض المحال ـ لا يفتنون ، ولا بعضهم البعض ، ولكن الشرك فتنة مهما كانت على المشركين أنفسهم ، و (لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) تنفي كل دركاتها ، ثم (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) تنفي كل طاعة لغير الله!.

ام هو الانتهاء عن الشرك؟ وفيه حق الغفر والرحمة! (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) (٨ : ٣٨).

١٠١

ولأن اقرب الانتهاء هنا سياقا هو الانتهاء الاول ثم الثاني ثم الثالث ، وان الغفر والرحمة بإطلاقهما أقربه هو الانتهاء الرابع ، فقد تعني (فَإِنِ انْتَهَوْا) مربع الانتهاء وفي كلّ غفر ورحمة وحسبه ، (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن القتال عند المسجد الحرام (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) عن قتالهم عنده «رحيم» بهم ، (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن مطلق القتال (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) عن مطلق قتالهم «رحيم» بهم في دنياهم مهما كانوا معاقبين في أخراهم إذا ماتوا على شركهم.

(فَإِنِ انْتَهَوْا) عن كل ذلك وعن الفتنة والشرك (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) في الدنيا والآخرة (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) (١٩٣).

(... وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٨ : ٣٩).

وتراها ضابطة ثابتة محلقة على كل العصور الإسلامية : وجوب قتال المفتتنين في الدين مقاتلين وسواهم (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) مهما ظلوا كافرين (وَيَكُونَ الدِّينُ ـ كُلُّهُ ـ لِلَّهِ) وهو الطاعة المطلقة لله المحلّقة على كل الأجواء في المعمورة ، مهما كانت هنالك أديان أخرى على هامش دين الله ، إلّا ان القوة والقدرة المطاعة ككل هي لدين الله ، حيث تصبح سائر الأديان في تقية؟.

ام هي امر خاص بالمجاهدين زمن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ ولم يكن لينته الى الغاية السلبية : (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) فضلا عن الايجابية : (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)!.

ام هو أمر عام ولكن الفتنة هنا هي القتال ، ف ـ «قاتلوهم» أولاء المقاتلين

١٠٢

(حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) المقاتلة؟ والفتنة أعم من المقاتلة ، وهي أشد واكبر من القتل والمقاتلة ، ولو كانت «فتنة» هي ـ فقط ـ فتنة المقاتلة لكان النص «الفتنة» اشارة إليها دون «فتنة» المحلقة على كل فتنة ، قضية الاستغراق المستفاد من النكرة المنفية ، ثم (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) لا تناسب اختصاص الفتنة المنفية بالمقاتلة ، فقد لا يقاتلون بالحرب الحمراء الدموية ، وهم مقاتلون بحرب شعواء سوداء باردة ضد العقيدة الايمانية تضليلا للمؤمنين ، وإبقاء لمن سواهم على قصورهم في الدين ، ومهما كان النص يواجه قوة المشركين في شبه الجزيرة ـ فانها هي التي كانت تفتن الناس وتمنع ان تكون هناك أية مجالة لدين الله ـ ولكنه عام الدلالة كنص قرآني يحلق على كافة الأعصار والأمصار ، فهو مستمر التوجيه كسائر التوجيهات القرآنية (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ).

ففي كل يوم تقوم قوة ظالمة مفتتنة تفتن الناس عن دينهم وتحول بينهم وبين تسمّع الحق والاستجابة له عند الإقناع ، فالجماعة المسلمة مكلفة بتحطيم تلك القوات ، إطلاقا للناس من قهرها ، وبعثرتهم من قبرها ، إحياء للضمائر واستجاشة (مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ).

كما وان عليهم ازالة فتنة الشرك عن أنفس المشركين كما عن سواهم.

إذا فالكفر المعتدي على المؤمنين وعقيدة الإيمان ، او المعتدي على من يفكر في الايمان ، ذلك الكفر فتنة على قبيل الايمان ، والواجب على المؤمنين ككلّ هو الحفاظ على جوّ الايمان بكل سماح لمن يتحرى عنه دونما صدّ ، وهو يتطلب قتال المفتتنين (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) إخمادا لنائرتها (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ).

ولا يتحقق ذلك السلب إلّا باخضاع الاستعمار الكافر ، ولا ذلك الإيجاب إلّا بتأسيس دولة اسلامية عالمية تهمين على كافة السلطات الزمنية والروحية في المعمورة ، وهذه هي أملنا المبشر به لزمن الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه

١٠٣

الشريف ، وعلينا قبل قيامه ان نوطئ له ونعبّد الطريق بكلا السلب والإيجاب ، فلقيام المهدي عجل الله تعالى له الفرج وسهل له المخرج ـ شرط سلبي هو امتلاء الأرض ظلما وجورا ، وايجابي هو تبلور الإيمان من مجاهدين مسلمين زمن الغيبة الكبرى كما قبلها ، حتى تعبّد طريق التفجرة العالمية وسط ذلك السلب والإيجاب ، كما وإيجابه له بداية السلب : (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) ونهاية الإيجاب : (وَيَكُونَ الدِّينُ ـ كُلُّهُ ـ لِلَّهِ). فعلى المقاتلين المسلمين تجنيد كافة الطاقات والامكانيات ، كما يجندها الكفار ، حتى ينتهي الأمر أخيرا إلى (لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ).

وقد يعم امر المقاتلة اهل الكتاب المتخلفين المفتتنين وكما في آية التوبة (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) (٣٠).

فهم بإعطاءهم الجزية وهم صاغرون تخمد نائرتهم وتسكن فائرتهم وإن لم يؤمنوا.

ثم المقاتلة لإزالة الفتنة ليست إلّا بعد البيان القاطع القاصع المقنع ، (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٢ : ١٣٧).

فالذين هم في شقاق الافتتان تخمد نائرتهم بإحدى ثلاث : قتلهم أو استسلامهم أو إسلامهم ، وهي حصيلة تلك القتال الإسلامية ، كلّ تلو الأخرى.

أجل وإن الفتنة عن الدين فيما بين المؤمنين او المستضعفين هي اعتداء عارم على أقدس النواميس الانسانية ، جارفة ناموس العقل والعرض والمال

١٠٤

والنفس ، والدين هو أنفس من النفس وسائر النواميس ، وحقا انها أشد واكبر من القتل ، حيث تقتل وتفتك بالنفاسة والقداسة الروحية للإنسان.

وسواء أكانت هذه الفتنة الفاتنة بالتهديد والأذى وخلق جو الاضطهاد على الذين آمنوا ، وسلب الحرية لمن يتحرى عن حق الايمان والايمان الحق.

أم بإقامة أوضاع فاسدة من شأنها تضليل الناس وافسادهم وإبعادهم عن منهج الحق تزيينا للكفر وتلطيخا للحق بما لا يحق.

ومثالا ماثلا بين أيدينا لذلك هو الاستعمار الاستحمار الاستكبار الاستثمار الاستبداد الاستضعاف الاستخفاف : الشرقي الشيوعي والغربي الرأسمالي ، فإنهما ـ على اختلافهما في تنظيمات اقتصادية وسياسية أماهيه ـ متجاوبان في اختلاق الأجواء المعادية لشريعة الله ، المعتدية عليها وعلى المتشرعين بها ، المستجلبة للضعفاء إلى زخرفاتهم.

فعلى المسلمين كافة هجمة جماهيرية قوية متواصلة في كل الحقول الحيوية على هذين اللعينين (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ).

هنا يسود (إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) حسنى الحياة الدينية العزيزة بإزالة الفتنة وتأسيس دولة الحق ، أم حسنى الموت في هذه السبيل : (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ)؟.

(فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) وهذا ـ دون ريب ـ انتهاء عن الفتنة ، فلا قتال عند انتهاءها ، وإنما يبقى عدوان على الظالمين دون فتنة ، قصاصا وملاحقة أيا كان الظالم بحق الناس ، مسلما او كافرا؟.

ثم و «الظالمين» المتبقين من اهل الفتنة ، فان انتهوا كمجموعة وبقي هناك ظالمون فانما العدوان عليهم لا سواهم.

وإنما يعبر عن مناجزة الظالمين وقصاصهم بالعدوان من باب المشاكلة

١٠٥

اللفظية والّا فهو محض العدل كما (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) وليس الجزاء اعتداء الظلم ، بل هو اعتداء العدل ، أعني المقابلة بالمثل ، كما (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) ، وقد يعني «فلا عدوان» حصره في الظالمين لظلمهم بالفتنة ، فان انتهوا عن ظلمهم فلا مجال لعدوانهم حيث زال سببه وهو ظلمهم.

وقد يعنى هنا مثلث المعنى وما أحراه في اطلاق اللفظ وطلاقة المعنى ، كما هو السنة المتبعة في الذكر الحكيم ، دونما حصر على المعاني الضيقة المحدودة دونما أية حجة.

(الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (١٩٤).

صحيح أن القتال في الشهر الحرام حرام : ف ـ (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) (٥ : ٢) (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) (٢ : ٢١٧) ولكنه لا يمانع الاعتداء بالمثل ف (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) فكما تحل القتال عند المسجد الحرام إن قاتلوكم عنده : (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) (١٩١) كذلك (الشَّهْرُ الْحَرامُ).

ثم وبصورة عامة كضابطة : (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) من حرمة النفس والمال والعرض أمّاهيه اللهم إلّا فيما يستثنى نوعية قصاصه ، كالزنا واللواط والخناء ،

١٠٦

فلا تحلّل قصاصا بالإتيان بمثلها ، وانما عقوبة أخرى كالحد والتعزير أما شابه من تأديب.

وكصورة أعم منهما (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) كضابطة ، مهما اختلفت شكليات الاعتداء بالمثل حسب النصوص ، فمن مثل ماثل لنا بين أيدينا ، معروف عندنا دونما تعريف به ك ـ (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) (٥ : ٤٥) وكذلك الأموال وسائر الحقوق.

ومن مثل لا نعرفه وقد عرّفت به شرعة الله كحدّ الزنا واللواط والقذف أمّا شابه ، و «الحرمات» جمعا لحرمة وهي ما يحرم هتكه ويجب تعظيمه ، إنها ليست لتختص بالشهر الحرام والحرم والمسجد الحرام والكعبة المباركة كما قيل ، بل هي كافة الحرمات المهتوكة فإن فيها قصاصا وملاحقة حسب الحدود المقررة في الشرع.

(فَمَنِ اعْتَدى ...) هي أعم من (الْحُرُماتُ قِصاصٌ) كما الحرمات أعم من الشهر الحرام ، ضوابط تلو بعض تقرر قاعدة حرمة الاستسلام وتقبّل الظلم والضيم من أعداء الله.

ولأن الاعتداء بالمثل قد يعدوه الى ما فوقه خطأ او جهلا ام عصبية الانتقام الطاغية ، لذلك (وَاتَّقُوا اللهَ) عن طغواكم في ذلك المجال وفي كل مجال (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).

(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (١٩٥).

(سَبِيلِ اللهِ) هنا وبمناسبة موقف القتال ـ وكقدر معلوم ـ هو القتال في

١٠٧

سبيل الله ، فكما أنها بحاجة إلى عدة المجاهدين المناضلين كذلك عدّة الأموال لتصرف في حاجياتها ، ثم هي في وجه عام أعم من الجهاد بالنفس وأي نفيس بالإمكان إنفاقه في أي سبيل من سبل الله ، وأفضل سبل الله المحلقة عليها كلها هو (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ ـ كُلُّهُ ـ لِلَّهِ) فالإنفاق فيه هو تجنيد كافة الطاقات والإمكانيات في سبيل تحقيق كلا السلب والإيجاب ، إنفاقا نفسيا وماليا ، وإنفاقا ثقافيا وعقليا وسياسيا ، وعلى الجملة إنفاقا في كافة الحقول ، اجادة بالموجود ، وتحصيلا لغير الموجود ، فالآية ـ إذا ـ في نطاق آية الإعداد : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) فترك ذلك الإنفاق إلقاء بأيدينا أنفسنا بكل ما لدينا إلى مفازات الهلاك ، وكما نرى المسلمين هلكى في كافة الحقول الحيوية بما تركوا الإنفاق اللائق في سبيل الله.

ثم انه كما الجهاد بحاجة الى رجال كذلك بحاجة الى اموال ، فمن مجاهد ليس عنده مال ، ومن ذي مال لا يسطع على الجهاد ، فلينفق بديل جهاده من الأموال ، بل والمجاهد بنفسه وعنده مال عليه أن ينفق قدر المستطاع.

فقد كان كثير من فقراء المسلمين الراغبين في الجهاد والذود عن منهج الله وراية العقيدة لم يكونوا يجدون ما يزودون به أنفسهم ولا ما يتجهزون به من عدة الحرب ، فيأتون النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثم (تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) (٩ : ٩٢).

لذلك نرى الدعوة الى الجهاد تصاحب الدعوة إلى الإنفاق في اغلب المواضيع ، وهنا يعد عدم الإنفاق تهلكة ينهى عنه ـ فيما ينهى ـ المسلمون.

الإنفاق في سبيل الله محدد بالعفو بصورة عامة (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) وهو الزائد عن ضرورات الحياة ، وكلّ من الإفراط والتفريط في حقل الإنفاق إلقاء الى التهلكة ، ومفعول «لا تلقوا» محذوف معروف وهو كافة

١٠٨

النواميس الإنسانية والإسلامية ، والباء في «بأيديكم» للسببية ، وقولة القائل انها زائدة قولة زائدة.

فالمعنى «ولا تلقوا» أنفسكم وأنفس الآخرين ، أم وسائر نواميسكم «بأيديكم ..» بسبب قوّاتكم ومحاولاتكم أنفسكم «إلى التهلكة» ـ «وأحسنوا» في الإنفاق (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ، والتهلكة هي الهلاك بمراتبها ، الهلاك المطلق او مطلق الهلاك ، وغير صحيح التفتيش عما يصدّقها مصدرا لأنها يتيمة في وزنها في اللغة العربية ، فإن القرآن هو الأصل في لغة وغير لغة فأنى تصرفون؟.

ف ـ «هلك الشيء يهلك هلاكا وهلوكا ومهلكا ومهلكا ومهلكا وتهلكة» بمعنى والاسم الهلك ، وقول اليزيدي إن التهلكة من نوادر المصادر ليست مما يجري على القياس ، إنه زائد من القول ويزيدي منه حيث القرآن هو القياس والمقياس لكل مقياس وقياس ، وهو المقتبس في كل شيء.

ولأن «التهلكة هي المفازة لأنه يهلك فيها كثيرة» (١) فقد تعني التهلكة غير الهلاك ككل ، فانما هي مفازة الهلاك ، فهي إذا مصير الإنسان بحيث لا يدري أين هو ، فهي «كل شيء تصير عاقبته إلى الهلاك» (٢) وقد تؤيده نفس الصيغة بديلة عن الهلاك.

إن الإنفاق في سبيل الله عفوا هو الوسط العدل المفلح المنجح ، والإقتار بعدم الإنفاق او التقليل فيه إلقاء الى التهلكة ، والإكثار بالإسراف كذلك إلقاء إلى التهلكة : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (١٧ : ٢٩) (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) (٢٥ : ٦٧).

__________________

(١ ، ٢). لسان العرب لابن منظور الإفريقي.

١٠٩

فمن التهلكة في تفريط الإنفاق تهلكة الكيان الإسلامي واستقلال الكتلة المسلمة أمام الأعداء ، التي تخلّف تهلكة الأموال والأنفس والأعراض وتهلكة العقيدة أمّاهيه من نواميس المسلمين ، ومنها تهلكة الكيان الاقتصادي المهدد من قبل الشيوعية المختلفة من الإقتار في الإنفاقات الواجبة والمستحبة.

ومنها تهلكة روح الحنان والإيثار في هؤلاء المقترين البخلاء.

ثم من التهلكة في افراط الإنفاق تجاهل الحاجيات الشخصية والعائلية التي تبوء إلى ذل الفقر وبؤس السؤال وضنك المعيشة و «لو ان رجلا أنفق ما في يديه في سبيل من سبيل الله ما كان أحسن ولا أوفق» (١) ولكن اين تهلكة من تهلكة؟ ، فتهلكة التفريط في الإنفاق تحلق على كافة النواميس فردية وجماعية ، ولكن تهلكة الإفراط ليس إلّا في الصالح المعيشي للمفرط.

هنا لشطري الآية حالتان ، متصلة ومنفصلة ، فالأولى تربط «لا تلقوا» ب ـ «أنفقوا» ولا سيما في حقل الجهاد في سبيل الله.

والثانية تجعل كلّا تستقل في كافة حقولها ، فالإنفاق العفو في سبيل الله واجب او راجح على أيّة حال ، والإلقاء إلى التهلكة محرم على أية حال ، إفراطا او تفريطا في إنفاق المال ، او تهديرا للحال في سائر النواميس الخمس.

فالمناضل المتساهل في خط النار المتهدر لنفسه زعم الشهادة به ، وهو قادر على الحفاظ على نفسه لفترة ام على طول الخط ، قتلا لأعداء ، ام تضعيفا لهم ، انه ممن يلقي نفسه بأيديه الى التهلكة ، بل وأنفس الآخرين ، حيث يضعف بفقد كل مناضل أزر الجهاد فيبوء أحيانا الى الانهزام (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)!

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١٧٩ عن الكافي بسند متصل عن حماد اللحام عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : لو أن رجلا ... أليس الله يقول : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)؟.

١١٠

كما المجاهد القاعد عن القتال ، او المتهاون فيه حفاظا على نفسه ورياحته ـ هو كذلك ـ ممن يلقي بيديه الى التهلكة ، وكذلك سائر التهلكات نفسا وعقلا ودينا وعرضا ومالا ، أن يلقي الإنسان نفسه بيده إلى ايّ منها ، وليس الجهاد في سبيل الله على شروطها من التهلكة ، فان تعريض اي نفس او نفيس لخطر السقوط حفاظا على ناموس الدين مما لا بد منه ، وهذه ضابطة عامة : التفدية بالمهم حفاظا على الأهم ، فانما التهلكة المنهية هي الخاوية عن أية فائدة ، دونما أهمية لما يستهلك له نفسه او نفيسه ، ف «ليس التهلكة ان يقتل الرجل في سبيل الله ولكن الإمساك عن النفقة في سبيل الله» (١) وليس إقدام الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) على ما أقدم وكان فيه هلاكه من إلقاء النفس الى التهلكة لأنه«خير في تلك الليلة لتمضي مقادير الله عز وجل» (٢) ، ام

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٢٠٧ ـ أخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في الآية وفيه بطرق كثيرة عن أسلم أبي عمران قال : كنا بالقسطنطنية وعلى اهل مصر عقبة بن عامر وعلى اهل الشام فضالة بن عبيد فخرج صف عظيم من الروم فصففنا لهم فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس فقالوا : سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة؟ فقام أبو أيوب صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال : ايها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه قال بعضنا سرا دون رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : إن أموالنا قد ضاعت وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع فيها ، فأنزل الله على نبيه يرد علينا ما قلنا : وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة فكانت التهلكة الإقامة في الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو.

(٢) نور الثقلين ١ : ١٨٠ في اصول الكافي بسند متصل عن الحسن بن الجهم قال : قلت للرضا (عليه السّلام) امير المؤمنين (عليه السّلام) قد عرف قاتله والليلة التي يقتل فيها والموضع الذي يقتل فيه وقوله لما سمع صياح الأوزّ في الدار : صوايح تتبعها نوايح ، وقول ام كلثوم : لو صليت الليلة داخل الدار وأمرك غيرك يصلي بالناس فأبى عليها وكثر دخوله وخروجه تلك الليلة بلا سلاح وقد عرف (عليه السّلام) ان ابن ملجم لعنه الله قاتله بالسيف كان هذا مما لا يحسن تعرضه؟ فقال : ذلك كان ولكنه خيّر في تلك الليلة لتمضي مقادير الله عزّ وجلّ.

١١١

انه كان يعلم بالعلم الظاهر القابل للمحو والإثبات ، المتقبّل للبداء ، دون العلم الباطن المخصوص بالله ، وعلى اية حال فهو العارف واجبه وهو يعرفنا واجبنا فلا سؤال تنديدا بما فعل.

ولكن إصرار الامام الرضا (عليه السّلام) على التمنع من قبول ولاية عهد المأمون كان من الإلقاء الى التهلكة فلذلك تقبّل الولاية (١).

__________________

(١) المصدر في عيون أخبار الرضا في باب مولد الرضا (عليه السّلام) ملك عبد الله المأمون عشرين سنة وثلاثة وعشرين يوما فأخذ البيعة في ملكه لعلي بن موسى الرضا (عليه السّلام) بعهد المسلمين من غير رضاه وذلك بعد ان يهدده بالقتل وألّح مرة بعد أخرى في كلها يأبى عليه حتى أشرق من تأبيّه على الهلاك فقال (عليه السّلام): اللهم إنك قد نهيتني عن الإلقاء بيدي إلى التهلكة وقد أكرهت واضطررت كما أشرفت من قبل عبد الله المأمون على القتل متى لم أقبل ولاية عهده وقد أكرهت واضطررت كما اضطر يوسف ودانيال (عليهما السّلام) إذ قبل كل واحد منهما الولاية من طاغية زمانه اللهم لا عهد إلّا عهدك ولا ولاية الا من قبلك فوفقني لإقامة دينك وإحياء سنة نبيك فانك أنت المولى والنصير ونعم المولى أنت ونعم النصير ، ثم قبل ولاية العهد من المأمون وهو باك حزين على ألّا يولي أحدا ولا يعزل أحدا ولا يغيّر رسما ولا سنة وأن يكون في الأمر مشيرا من بعيد.

وفيه في خبر آخر طويل قال له المأمون بعد أن أبى من قبول العهد : فبالله أقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلّا أجبرتك على ذلك فان فعلت وإلّا ضربت عنقك ، فقال الرضا (عليه السّلام) : قد نهاني الله عزّ وجلّ ان ألقي بيدي إلى التهلكة فان كان الأمر على هذا فافعل ما بدا لك فأنا أقبل على أن لا أولّي أحدا ولا أعزل أحدا ولا انقض رسما ولا سنة وأكون في الأمر بعيدا مشيرا مرضي منه بذلك وجعله ولي عهده على كراهة منه (عليه السّلام) لذلك.

وفيه عن الفقيه في الحقوق المروية عن علي بن الحسين (عليهما السّلام): وحق السلطان أن تعلم أنك جعلت له فتنة وانه مبتلى فيك بما جعله الله عزّ وجلّ له عليك من السلطان وأن عليك ألّا تتعرض لسخطه فتلقي بيدك إلى التهلكة وتكون شريكا له فيما يأتي إليك من سوء.

وفيه عن كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده الى سلمان الفارسي عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حديث طويل يقول فيه لعلي (عليه السّلام): يا أخي ستبقى من بعدي وستلقى من قريش شدة من تظاهرهم عليك وظلمهم لك فان وجدت عليهم أعوانا فجاهدهم وقاتل من خالفك بمن وافقك وان لم تجد أعوانا فاصبر وكف يدك ولا تلق بها الى التهلكة.

١١٢

(وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وهو الإحسان في الإنفاق ألّا يفرط ولا يفرّط ، إنفاقا لما زاد عن حاجياته الضرورية وأفضله الإيثار (١).

ثم الإحسان في الأعمال بوجه عام انك «إذا صليت فأحسن ركوعك وسجودك ، وإذا صمت فتوق كل ما فيه فساد صومك ، وإذا حججت فتوق كل ما يحرم عليك في حجك وعمرتك ـ وكل عمل تعمله لله فليكن نقيا من الدنس» (٢).

وكما ان «أحسنوا» «ولا تلقوا» هنا موجّه الى من يستطع الإنفاق ، كذلك إلى المعوزين المجاهدين ان يتعرضوا للإنفاق ، فقد «كان رجال يخرجون في بعوث يبعثها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بغير نفقة فإما يقطع بهم وإما كانوا عيالا فأمرهم الله ان يستنفقوا مما رزقهم الله ولا يلقوا بأيديهم الى التهلكة ، والتهلكة ان يهلك الرجل من الجوع والعطش ومن المشي وقال : لمن بيده فضل : وأحسنوا ان الله يحب المحسنين» (٣).

وكضابطة ثابتة في إيجابية الإنفاق ، هي أنه ـ ككلّ ـ في سبيل الله أيا كان ، كذلك وفي سلبية : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) هي ـ ككل ـ ان يتسبب الإنسان لتهلكة نفسه او غيره روحيا او جسديا ، فمنها القنوط عن روح

__________________

(١) في الدر المنثور ١ : ٢٠٧ ـ اخرج جماعة عن الضحاك ابن جبيرة أن الأنصار كانوا ينفقون في سبيل الله ويتصدقون فأصابهم سنة فساء ظنهم وأمسكوا عن ذلك فأنزل الله : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ...)

(٢) نور الثقلين ١ : ١٨١ في محاسن البرقي عنه عن ابن محبوب عن عمر بن يزيد قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السّلام) يقول : إذا أحسن المؤمن عمله ضاعف الله عمله بكل حسنة سبعمائة وذلك قول الله تبارك وتعالى : (يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) فأحسنوا اعمالكم التي تعملونها لثواب الله ، فقلت له : وما الإحسان؟ قال : إذا صليت ...

(٣) الدر المنثور ١ : ٢٠٧ ـ أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال : كان رجال.

١١٣

الله لما تعصي ، حيث يوّرطك في سائر المعاصي فتصبح ممن قال الله (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

كلام فيه ختام حول الجهاد الإسلامي.

في صيغة مختصرة لا تعني الجهاد اسلاميا إلّا الدفاع عن النواميس ، ولا سيما ناموس العقيدة الصالحة التي ترتبط بها كل الحيويات الإنسانية دون إبقاء : (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (٨ : ٨) حيث تحل وسطا من آيات الجهاد ، وهذا هو سبيل الله في القتال الإسلامي على طول الخط ، دونما غاية أخرى توسيعه سلطوية غادرة قاهرة ، إلّا الحفاظ على واقع الإيمان وجوّه ، والدفاع عن المستضعفين الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا.

فالجهاد هو الذي يحيى ميت المستضعفين ، وميت جوّ الدين ، وميت كل الحيويات الإسلامية وكما نرى في وسط آخر من آيات الجهاد : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ ... وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٨ : ٢٤ ـ ٢٥ (.

ليس الإسلام ـ رغم ما يتقوله مسيحيون ـ دين السيف والدم ، ودين الضغط والإكراه ، خارجا متفلتا عن كل النهضات الرسالية على مدار الزمن ـ إذ كانت تعتمد ـ ككل ـ على الدعوة الحسنة المرنة اللينة ـ كما يصرخون بذلك في ابواقهم الاستحمارية فيصدقهم حمر مستضعفة ويثبت على ايمانهم آخرون.

كيف وهو يقول (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (١٦ : ١٢٥).

ولا أحسن ـ في آخر الأمر ـ بعد الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي احسن ـ لا أحسن للإبقاء على حق الحق إلّا القتال (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ

١١٤

الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ..) (٢٩ : ٤٦) فان آخر الدواء هو الكي.

فقبول الضيم والظلم باستمرار الفتنة هو من أظلم الظلم على الإنسانية مهما افتراه على المسيح (عليه السّلام) من الذين هم يستبيحون كل النفوس والنفائس ممن لا يخضعون لهم أو يخضعون ، قضية التوسعية الغادرة!.

كيف وقد جاهد نبيون منهم المسيح (عليه السّلام) مهما لم يستجبه الحواريون إلّا نزرا ، وكما جاء في كتب العهدين وهم أولاء يفترون على السيد المسيح فرية القولة : من لطمكم على خدّ فاسمحوا له ان يلطمكم على الخد الآخر.

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ

١١٥

الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢)

١١٦

وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٢٠٣)

آيات ثمان كعدد أبواب الجنة الثمان ، تختص بفرض الحج والعمرة ، تعريفا بهما حكما وموضوعا وشروطا وظروفا ، ولا سيما بالنسبة للحج الأكبر وبعده العمرة ، والآية الأولى منها بيان فرضهما إتماما ، وهل هي أوّل ما نزلت بفرضهما؟.

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ...) قد تلمح أن لفرضهما سابقة! حيث الإتمام لفرض ليس له دور إلّا بعد فرضه ، والإحصار يلمح أن له سابقه ، وقد أحصروا في الحديبية سنة ست من الهجرة ، أم وسبقت هذه الثمان آيات الحج في الحج المدنية : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) (٢٧) ، ثم وآل عمران بالمدينة (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (٩٧) ثم ترى «أتموا ..» أمر بإتمام الناقص منها فسادا لما يفسدها ، ام قبل التمام في غير الفاسد؟ مما يدل على وجوب إتمام الفاسد منهما مهما وجب في القابل كفارة وعقوبة ، ووجوب إتمام البادئ فيهما مهما كانا مندوبين ، فلا تدل ـ إذا ـ على وجوبهما رأسا ، اللهم الا ما دلت على وجوب الحج ثم العمرة بشروطها ، دون ان تدل هي على وجوبها!.

وذلك بعيد كل البعد عن بليغ التعبير وفصيحه إذ لم يسبق هنا سابق البدء بهما صحيحا او فاسدا حتى يؤمر هنا بإتمامهما فيهما! مما قد يؤيد سبق آية الإتمام آيتي فرض الحج.

١١٧

ام انه أمر بإتيانهما تامين ، وكما (ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) (٣ : ١٢٤) و (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) (٣ : ١٨٧) حيث الإتمام فيهما ان يؤتى بهما تامين؟ وهذا على صحته في نفسه وورود السنة المعتبرة به (١) ، قد لا يختص الآية به حيث التعبير الصريح عنه «حجوا واعتمروا تامين» أو (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ ..) أما شابه ، ام ولأقل تقدير تشمل الآية إتمام الناقص منهما كما تعني الإتيان بهما تامين.

فإتمامهما هنا يعني مثلث المعنى ، الأخير كأصل في تشريع الأصل تاما ،

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٢٠٨ ـ أخرج ابن أبي حاتم وابو نعيم في الدلائل وابن عبد البر في التمهيد عن يعلى بن امية قال جاء رجل الى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو بالجعرانة وعليه جبة وعليه اثر خلوق فقال كيف تأمرني يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ان اصنع في عمرتي فأنزل الله (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اين السائل عن العمرة؟ فقال : ها أنا ذا ، قال : «اخلع الجبة واغسل عنك اثر الخلوق ثم ما كنت صانعا في حجك فاصنعه في عمرتك» أقول يستثنى منه اختصاصات الحج.

وفيه اخرج ابن عدي والبيهقي عن أبي هريرة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الآية ان من تمام الحج أن تحرم من دويرة أهلك.

ومن طريق أصحابنا في نور الثقلين ١ : ١٨٢ عن الكافي حسنة عمر بن أذينة قال : كتبت الى أبي عبد الله سائل بعضها مع ابن بكير وبعضها مع أبي العباس فجاء الجواب باملاءه سألت عن قول الله عزّ وجلّ (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ..) يعني به الحج والعمرة جميعا لأنهما مفروضان ، وسألته عن قول الله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) قال : «يعني بتمامهما أداءهما واتقاء ما يتقى المحرم فيهما».

وفيه عن الكافي عن عبد الله بن سنان في الآية قال : «إتمامهما ان لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج».

وفيه عن معاوية عمار قال قال ابو عبد الله (عليه السّلام) إذا أحرمت فعليك بتقوى الله وذكر الله كثيرا وقلة الكلام إلّا بخير فان من تمام الحج والعمرة ان يحفظ المرء لسانه إلّا من خير كما قال الله تعالى : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ ..).

١١٨

والأولين إيجابا لهما بعد الابتداء فيهما مهما كانا مندوبين فضلا عنهما مفروضين.

وقد تؤيد الإتمام الأصل (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) وليس الإحصار الواجب فيه الهدي إلّا بعد الابتداء بأحدهما.

فقد أصبحت الآية من آيات تشريع الحج والعمرة مهما سبقتها آيات أخرى في فرضهما ، اللهم إلّا في خصوص العمرة وسائر ما في الثمان أحكام لم تذكر من ذي قبل.

وفي تقابل العمرة هنا بالحج دليل فرضها كما الحج ، وهما كالظرف والمجرور إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا ، اللهم الا في العمرة إذ لا تعني معها الحج ، ولكن الحج وحده يعني معه العمرة ، فقد يذكر الحج دون العمرة فيعنيهما ك (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) (٣ : ٩٧) (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) (٢٢ : ٣١) فانه الزيارة المقصودة للبيت ـ ككل ـ سواء أكانت في حج أو عمرة ، فانه فرض فيهما أصيل وسائر الفروض فروع له.

وقد يذكر الحج مع العمرة كما هنا فيعنى من كلّ نفسه ، او يذكر بقيد يلمح للآخر (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) (٩ : ٣) حيث يقابله الحج الأصغر ولا نعرفه إلّا العمرة إذ لا ثالث لزيارة البيت حجا ، اللهم إلّا طوافا واجبا بسبب او ندبا وهو لا يسمى بمفرده حجا.

وقد يروى عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأئمة أهل بيته (عليهم السّلام) تفسير الحج الأكبر بالحج والأصغر بالعمرة (١).

فهنا تجاوب صارح صارخ بين الكتاب والسنة في إيجاب العمرة كالحج ،

__________________

(١) في الدر المنثور : ٢٠٩ ـ اخرج الشافعي في الأم عن عبد الله بن أبي بكر ان في الكتاب الذي كتبه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعمرو بن حزم : ان العمرة هي الحج الأصغر.

١١٩

لا فقط عمرة التمتع والتي تأتي مع القرآن والإفراد ، بل المفردة المحضة على من لا يستطيع الحج وانما يستطيع العمرة ، مما يجعل القول بعدم وجوب العمرة المفردة خلافا لصريح الكتاب والسنة ، فالعمرة المفردة المستطاعة مفروضة على البعيد والقريب مهما اختلف الفرض بينهما بتمتع للبعيد وقران أو افراد للقريب ، فالقريب إذا استطاع الحج تكفيه العمرة المفردة السابقة دون البعيد.

وقد تظافرت الرواية او تواترت عن الرسول وأئمة أهل بيته (عليهم السّلام) على فرض العمرة بمثلثها كالحج سنادا الى الآية (١) مما يرفض دون ريب القول بعدم فرضها مهما كان به إجماع او شهرة ، فحين يضرب الحديث مهما كان متواترا عرض الحائط بمخالفة الكتاب ، فغيره أحرى بهذه النكاية.

واليتيمة المروية عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعدم فرض العمرة

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٢٠٩ ـ أخرج الحاكم عن زيد بن ثابت قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ان الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت أقول يعني العمرة في غير حج التمتع ، قرأنا وافرادا وسواهما.

وفيه اخرج عبد الرزاق عن عبد الكريم الجزري قال جاء رجل الى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال إني رجل جبان ولا أطيق لقاء العدو فقال : ألا أدلك على جهاد لا قتال فيه؟ قال : بلى يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : عليك بالحج والعمرة.

وفي وسائل الشيعة ١٠ : ٢٤٣ ح ٤١ صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : إذا استمتع الرجل بالعمرة فقد قضى ما عليه من فريضة العمرة ، وصحيحة ابن أبي نصر قال سألت أبا الحن (عليهما السّلام) عن العمرة أواجبة هي؟ قال : نعم قلت فمن تمتع يجزي عنه قال نعم (ح ٣) وصحيحة أبي بصير عنه (عليه السّلام) قال : العمرة مفروضة مثل الحج فإذا أدى المتعة فقد ادى العمرة المفروضة ، وفي صحيحة زرارة بن أعين عن أبي جعفر (عليهما السّلام) قال : العمرة واجبة على الخلق بمنزلة الحج لأن الله تعالى يقول : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) وأنما نزلت بالمدينة(الوسائل ح ٢ والتهذيب ١ : ٥٧٠) وفي صحيحة معاوية عمار مثله بزيادة : قلت فمن تمتع بالعمرة إلى الحج أيجزي عنه؟ قال : نعم.

١٢٠