الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٢

ف (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) حصر زمني لأعمال الحج ، انها لا تصح في غيرها (١) ، خلافا لنسيء الجاهلية ، حيث كانت تقدم الحج عنها وتؤخرها فزيفها القرآن (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٩ : ٣٧).

هذا نسيء ، ثم نسيء بعده من بعض أئمة الفقه كأبي حنيفة حيث جوز الإحرام بالحج في غيرها من جميع السنة سنادا الى آية الأهلة : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ..) رغم انه لا تعم في «الحج» فيها كلّ الأهلة ، حيث أفرد بعدها ، مما يدل بإفراده عنها اختصاصه بقسم منها بيّنته آية الأشهر المعلومات ، وحتى لو عمت آية الأهلة ، فقد حفّت بآية الأشهر.

فمن يحرم للحج قبل شوال فقد أبطل ، أم يحوّله الى عمرة مفردة (٢) ، فليست لتصح عن عمرة التمتع إذ يجب البدء في إحرامها منذ غرة شوال ، والعمرة المفردة التي تكفي عن التمتع هي التي حصلت منذ شوال ، إذ : «قد دخلت العمرة في الحج هكذا وشبك بين أصابعه» فهي مشبّكة في الحج لا يؤتى بها إلّا في أشهر الحج.

والأشبه بطلان العمرة المنوي بها تمتعا قبل شوال حيث (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ ...) وهو فرضه في غيرهن ، فلا يحكمه (فَلا رَفَثَ ..) فلا يعتبر ـ إذا ـ إحراما ، اضافة إلى انها نوي بها ما لا تصح من عمرة التمتع ، فكيف تصح

__________________

(١) وفي الدر المنثور ١ : ٢١٨ ـ أخرج ابن مردويه عن جابر عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : «لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج»

(٢) وقد تدل عليه رواية أبي جعفر الأحول عن الصادق (عليه السّلام) في رجل فرض الحج في غير أشهر الحج؟ قال : «يجعلها عمرة» (الفقيه ٣ : ٢٧٨).

١٦١

إفرادا ولم تنو إفرادا ، ولكن الأحوط تجديد إحرامه إفرادا (١) ولا يكفي من التمتع إلّا إذا انشأه في أشهر الحج.

ثم «الحج» هنا يعني زمنه الخاص به لأعماله ، مما يزيد تأكيدا لحصره في أشهره وكأنها هي الحج والحج هي ، فما يؤتى به قبلها او بعدها ليس حجا ، مهما كان عمرة مفردة ، وإن كان يشملها الحج في اطلاق عام.

و «الحج» في (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) تعني مناسكه حيث يفرضها إحرامها ، كما هو في (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) يعنيها بإحرامه ما دام محرما ، وفي البعض من المحرمات ما دام في الحرم ، وكذلك في مناسك الحج فلا يحل للمحرم ان يجادل «في الحج» في زمن الحج وأعماله ، وفي شأن الحج مناسك وأوقاتا وكما كانوا يجادلون في الأضحى ، وعبادة الحج عبادة جمعية وحدوية ، فلذلك يأمر في الافاضة (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) متمحورا الأكثرية الساحقة من الحجاج دون خلاف عليهم ولا جدال.

فقد شمل الحج الثالث أوسع مما شمله الثاني في منسك الإحرام ، ومكان الحرم وكل مناسك الحج ، وهذا مما يحسّن تكرار الحج هنا او يفرضه لمكان اختلاف المعني منه ، فالحج الأوّل هو مناسكه زمنا ، والثاني مناسكه دخولا فيها ، والثالث عله مجموع المناسك بزمنها ، فلا تختص ـ إذا ـ محرمات الإحرام بحالة الإحرام ، بل وبعد الخروج عنه اللهم إلّا ما استثنته السنة القطعية ، (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) وليس فرض الحج ـ وهو قطعة بحيث لا يقدر الحاج على الرجوع إلى حالته السابقة ـ ليس إلّا الإحرام ، وركنه الأول هو النية ثم التلبية من الميقات

__________________

(١) في صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السّلام) في الآية ... ولا يفرض الحج إلّا في هذه الشهور التي قال الله عزّ وجلّ (الْحَجُّ أَشْهُرٌ ..) «وهو شوال وذو القعدة وذو الحجة» (نور الثقلين ١ : ١٩٣ عن الكافي).

١٦٢

المقرر له ، والواجب عليه خلع ملابسه ولبس ثوبي الإحرام او ثوبه ، فأما بنية الإحرام فحسب فلا تفرض الحج ، وكذلك التلبيات دون نية ، ام معها في غير الموقف ، فذلك المثلث مع بعض يفرض الحج ، مهما ترك محرّم الملابس ولبس واجب ثوب الإحرام أم لا ، فقد ينعقد الإحرام بهذه الثلاثة ، ثم يأتي دور الواجب فيه والمحرم.

إذا فليس فرض الحج بنية الإحرام ، فإنه بالنسبة للحج ككل ليس الا كتكبيرة الإحرام للصلوة ، فكما أنك تنوي الصلاة فتكبر لها ، كذلك تنوي العمرة أو الحج فتلبى لما نويت.

و (فَرَضَ فِيهِنَّ) يعم إحرام عمرة التمتع ، وكذلك المفردة في تلك الأشهر لأنها بديلة عن التمتع ، وأخيرا إحرام الحج ، فكل هذه الثلاثة محسوبة هنا بحساب الحج ، إذا فالعمرة المفردة في غير أشهر الحج محكومة بحكمها في أشهره في واجبات الإحرام ومحرماته.

وترى (فَرَضَ فِيهِنَّ) ينافي فرض الحج قبل الإحرام لمن استطاع اليه سبيلا؟ كلا! حيث الفرض هنا فرضان ، فرض اوّل هو لمن استطاع اليه سبيلا ولكنه لحده قبل فرض الإحرام لا يحكمه (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ).

فالفرض الأول هو بأصل الشرع لمن استطاع اليه سبيلا دون أن تحرم عليه بمجرده هذه الثلاثة ، والفرض الثاني هو بواجب الإحرام او مستحبه ، فالأوّل يختص بحجة الإسلام أو ما شابه ، والثاني يعمه والمندوب ، حيث المندوب يفرض بالإحرام.

وهنا نعرف مدى البلاغة في (فَمَنْ فَرَضَ) دون «من أحرم» حيث الثاني لا يدل على وجوب الاستمرار والأول يدل ، فلا يخرج المحرم ـ إذا ـ عن إحرامه

١٦٣

إلّا بإتمام ما أحرم له ، وهنا يأتي دور (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) في دلالته الثانية على وجوب إتمامهما على من ابتدأ فيهما بالإحرام.

ولأن (الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ففرضهما أيضا لله ، وهذا هو النية الواجبة لهما وكذلك التلبية بشروطها ، فلا ينوى الإحرام لأحدهما ، وإنما ينوى حج أو عمرة ثم يلبّى عنه ، حيث الإحرام لهما موقفه موقف تكبيرة الإحرام ، ليست له نية خاصة بل لا تصح إن أمكنت.

والصورة الصحيحة للإحرام هي مثلا «إني أريد أن أتمتع بالعمرة إلى الحج لبيك ..» (١) وكما الصلاة : «إني أريد ان اصلي المغرب الله أكبر» دون نية خاصة للإحرام كما لا نيّة خاصة لتكبيرة الإحرام.

فحين تنوى حجا او عمرة فقد نويته بكل أجزاءه ومنها الإحرام ، فأما أن تنوى خصوص الإحرام ، فان لم تنو معه سائر المناسك فلا إحرام فانه لا يستقل عنها وإنما هو مدخل لها مهما كان منها ، وان نويتها معه فقد نويت الكل دون خصوص الإحرام ، وان نويت معه كل مناسك الحج او العمرة فقد نويت الإحرام مرتين ، ثانيتهما مع كل المناسك فانه منها ، فلا نية خاصة ـ إذا ـ للإحرام كما في تكبيرة الإحرام ، بل لا يمكن نيته مرة واحدة دون سائر المناسك ام هي باطلة.

ولأن «التلبية من شعار الحج» (٢) وكذلك ما فيها من «العج والثج» (٣) فليشعر المحرم لعمرة أو حج برفع صوته في جموع المحرمين بما يقدر عليه

__________________

(١) يسأل حماد أبا عبد الله (عليه السّلام) اني أريد ان احرم للتمتع؟ قال : قل ...

(٢) الدر المنثور ١ : ٢١٩ عن زيد بن خالد الجهني ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : جاءني جبرئيل فقال : مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتلبية فانها من شعار الحج.

(٣) المصدر عن أبي بكر ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سئل أي الأعمال أفضل؟ قال : العج والثج.

١٦٤

من عج وثج ف «ما من ملب يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر او شجر او مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا عن يمينه وشماله» (١) و «ما من محرم يضحى لله يومه يلبي حق تغيب الشمس إلا غابت بذنوبه فعاد كما ولدته امه» (٢).

وقد كان تلبية رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ان الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك» (٣) وكما رواها عنه عترته المعصومون بنفس الصيغة.

«ومن مات محرما ملبيا فانه يبعث يوم القيامة ملبيا» (٤) و «كان (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا فرغ من تلبيته سأل الله رضوانه والجنة واستعاذه برحمته من النار» (٥).

ولأنك في حالة الإحرام تحرم على نفسك كل ما سوى الله وكل تعلقات الأرض وهواها ، فلا بد ـ إذا ـ لك من تجريد من كل ما ينافي حالة التجرد لله في هذه الفترة ، والارتفاع عن دواعي الأرض والإخلاد إليها ، والرياضة الروحية على التعلق بالله دون سواه ، والتأدب اللائق لك كزائر لله حيث تزور

__________________

(١) المصدر عن سهل بن سعد عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : ...

(٢) المصدر اخرج أحمد وابن ماجة عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ....

(٣) المصدر اخرج مالك والشافعي وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وابو داود والنسائي عن عمر ان تلبية رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : لبيك ..

(٤) المصدر اخرج البخاري عن ابن عباس ان رجلا أوقصته راحلته وهو محرم فمات فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تخمروا رأسه ولا وجهه فانه يبعث ...

(٥) المصدر أخرج الشافعي عن خزيمة بن ثابت عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) انه كان ...

١٦٥

بيته الحرام رمزا عن زيارته ، لذلك :

(فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ ..)

فالرفث هو القبيح ككلّ في الأعراف الإنسانية ، او في الشرعة الإلهية لمكان نفي الجنس المستغرق لكل رفث ، ولا يختص هنا بالرفث الجنسي الأنثوي أمّا شابه ، مهما كان من أظهر أنواعه ، حيث الرفث هنا غير مختص بالنساء ، خلاف آية الصيام : «الرفث الى نساءكم» او مع نساءكم او بهن ، ثم وهو هنا في نطاق نفي الجنس المستغرق لكل مصاديقه صغيرا او كبيرا ، خلقيا او عمليا ، جنسيا او في العشرة اما ذا من قبيح جارحيا او جانحيا ، فرديا او جماعيا ، فحالة الإحرام هي حالة تحريم كل قبيح عليك ، سواء في الأعراف العادية كالرفث الجنسي بمقدماته ومستلزماته ، من حلاله وحرامه ، حيث الإحرام سياج صارم على الشهوات حتى المحللة منها ، تدريبا أريبا أديبا للتقوى والتزوّد منها.

كذلك وبأحرى الرفث القبيح شرعيا ، تعنيه (وَلا فُسُوقَ) بعد عنايته من «لا رفث» ، ثم والقبيح في الحقلين او أحدهما ، وقد تعنيه (وَلا جِدالَ) بعد عنايته من «لا رفث» ، فكل جدال إلّا ما استثني فسوق ، وكل فسوق رفث ، والرفث يحلق على الكل حيث يعم القبائح كلها ، عرفيا او شرعيا او كليهما.

فكل انحيازه نفسية ، وكل إنية وأنانية ، وكل اتجاه الى ما سوى الله جانحيا وجارحيا ، عمليا وعقيديا وخلقيا وعمليا ، كل ذلك «رفث» في الحج ، وهو زيارة بيت الله ، تمثيلا لزيارة الله ، في ساحة حضرة الربوبية التي لا تناسبها إلّا حضرته ، إذا فاترك كل ما سوى الله في ساحة الله ، ولا تتعلق إلّا بالله ، ولا تتملق إلّا من الله ، ولا تتجه إلّا الى الله ، وكما لبّيت لله ، تأشيرا عشيرا أنك لا تلبي أحدا إلّا الله ، إذا فليست المحرمات الظاهرية ـ فقط ـ ممنوعة حالة الإحرام ، بل وبأحرى الباطنية ، فكل انجذابة نفسية ـ مهما كانت محلّلة في

١٦٦

شرعة الله ـ فهي هنا محرمة في فقه المعرفة ، ف «لا رفث» تعم كل رفث في الفقه الأكبر كما الأصغر وكل رفث في عرف الإنسان كإنسان دونما اختصاص بهذه المعدودات في الفقه الأصغر ، بل وكل رفث منه تأشير عشير الى ترك رفث مثله في الفقه الأكبر.

ذلك! ثم (وَلا فُسُوقَ) خصوص بعد عموم الرفث بالمحرمات الشرعية ، كما (وَلا جِدالَ) خصوص بعد عموم الفسوق ، حيث الفسوق منه فردي ومنه جماعي ، والجماعي منه ما هو في جدال اعتداء على سائر الحجيج وهو الجدال ، وآخر في غير جدال ، بل هو جاهر يشجعهم على مثله.

فذلك الثالوث المنحوس المركوس محبوس عن المحرم الملبي لربه الكريم ، حتى يصبح محرما لساحة القرب ، مزدلفا اليه زلفى.

الرفث جنسيا مع الحلائل حالة الإحرام حرام ، فضلا عنه مع غيرهن من نساء او رجال او حيوان ، فطالما الأول ـ على رفثه عرفيا ـ حلال شرعيا ولكنه في هذه الحالة الروحية التجردية حرام ، فضلا عن محرمه.

الرفث الى النساء كما في آية الصيام هو الجماع حيث تلمح «إلى» للإفضاء ، والرفث مع النساء أو بهن هو الصلة الشهوانية بهن لمسا وتقبيلا أما شابه ، وهنا «لا رفث» دون نساء ، لا إليهن ولا معهن ولا بهن ، فقد تعني إذا ـ فيما عنت من سائر الرفث ـ كل صلة جنسية شهوانية الى النساء او معهن ، بحل او حرام ، فضلا عن الرجال! وكذلك للنساء الى الرجال او معهم او مع النساء.

ف «لا رفث» تعم كل ذكر وأنثى من الحجاج ، فكما لا رفث للذكر مع أنثى او ذكر ، كذلك لا رفث للأنثى مع ذكر أو أنثى ، ام وخنثى ، فلا رفث ككلّ بكل اقسامه جماعا واستمناء ونظرا ولمسا وتقبيلا او أي عمل من هذا القبيل

١٦٧

او مقدماته كإجراء صيغة النكاح أما شابه ، فكل تلذذ جنسي او إعداد له لغيرك ، او مقدمة له قريبة ، تشمله «لا رفث» وهي القسم العظيم من محرمات الإحرام ، فتفسيره في روايات بالجماع تفسير بأبرز مصاديقه دون اختصاص ، أم تفسير بأهم ما فيه كفارة من الرفث.

وكما ترى كل هذه المذكورات محرمة في حالة الإحرام مهما اختلفت احكامها وخلفياتها كفارة وسواها.

هذا هو القسم الأول من الرفث الذي تجمعه الشهوة الجنسية ، ومن ثم سائر الشهوات البدنية كالتزين والتعطّر وأكل او شرب العطريات ، والاستظلال عن حرّ او برد او مطر او ريح.

ثم شهوات روحية تشخصا وتميزا بين الناس ككل الملابس حتى غير الزينة فضلا عنها ، وهي القسم الثالث من الرفث ، وقد تكفلت السنة المباركة بيان مثلث الرفث في أكثرية مطلقة من محرمات الإحرام ، مهما كانت محللة قبله فحرام ، أم محرمة فأغلظ وأنكى.

إذا فكل الشهوات غير الضرورية محللة ومحرمة تنتظم في سلك الرفث وهو القبيح عرفيا او شرعيا او في سبيل الانقطاع الى الله ، فانها ككل في أفق الإحرام قبيحة مستقبحة الذكر ، أتراك بعد تحاول صنع نفسك في مصنعك البشري كما تشاء ، وأنت في مصنع الإحرام الرباني ، فتحلل عن كل ما عقدته بنفسك وربطته بها حتى ضخّمتها فزعمت انك هو وهو أنت ، تحلّل عنها وتخلّ حتى يحلّيك ربك بحلل النور ، خارجا عن ظلمات الزور والغرور ، ملبيا دعوت ربك مطلقة ، تاركا دعوة من سوأة ككلّ ، فحين تحرم على نفسك نفسياتك في إحرامك ، فأنت تصبح محرما في محضر الرب ، بزلفى صالحة لحضرة الربوبية ، فتليق ـ إذا ـ لزيارته ، زيارة بيته التي هي رمز عن زيارته.

١٦٨

(وَلا فُسُوقَ) خروجا عن حدّ العبودية لله في كل صغيرة او كبيرة ، فالصغيرة حالة الإحرام كبيرة ، والكبيرة فيها الكبرى ، وكيف لا وقد حرمت عليك هنا شهوات كانت محللة قبل إحرامك ، فضلا عما حرم عليك.

ومهما فسّر الفسوق في أحاديثنا بالكذب والسباب ، ويظن انه الكذب المعروف باللسان ، ولكنها مطلق الفسوق وهو كذب في كل الحقول المعرفية والعملية والقولية (١) ام انه تفسير بالفسوق الذي فيه كفارة ، فطوق العبودية لله وأنت ملبّ في إحرامك العبودية المطلقة ، ذلك الطوق يطوّق عليك كل تخلف عن طورك ، في كل حورك وكورك ، فالتخلف المعرفي كذب في حقل المعرفة ، والتخلف العملي كذب في حقل العمل ، والتخلف القولي كذب في حقل القول ، فلتكن صادقا في ذلك المثلث ، صدقا يحلق عليك ككلّ ودون إبقاء ، سياجا صارما على كل تخلفاتك عن ساحة العبودية فانها كلها فسوق وهنا «لا فسوق».

(وَلا جِدالَ) مع نفسك أم سواك ، مع ربك ام سواه ، حتى مع الحيوان والنبات ، حيث الإحرام هو حالة السلم والتسليم ، فكيف تجادل إذا ، وبم تجادل ولم؟!

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١٩٤ في الكافي صحيحة معاوية عمار قال قال ابو عبد الله (عليه السّلام) إذا أحرمت فعليك بتقوى الله وذكر الله كثيرا وقله الكلام إلّا بخير فان من تمام الحج والعمرة ان يحفظ المرء لسانه إلّا من خير كما قال الله عزّ وجلّ يقول (فَمَنْ فَرَضَ ..) والرفث الجماع والفسوق الكذب والسباب والجدال قول الرجل : لا والله وبلى والله ، واعلم ان الرجل إذا حلف بثلاثة ايمان ولاء في مقام واحد وهو محرم فقد جادل فعليه دم يهريقه ويتصدق به ، وإذا حلف يمينا واحدة كاذبة فقد جادل وعليه دم يهريقه ويتصدق به ، وقال وسألته عن الرجل يقول : لعمري وبلى لعمري؟ قال : ليس هذا من الجدال انما الجدال لا والله وبلى والله أقول : «انما» هنا حصر في حكم الجدال وهو دم يهريق ، لا في أصله الشامل له ولغيره من جدال كما هو قضيته نفي الجنس في «لا جدال».

١٦٩

فلا تجرح نفسك ، ولا تحلق او تقصر شعرك ، ولا تخدش جسمك ولا تقلع ضرسك ولا .. اللهم إلّا لضرورة ، وهذا جدال مع نفسك.

ثم لا تجادل غيرك ، لا في باطل فحسب ، بل وفي حق ايضا اللهم إلّا عند ضرورة ، ثم ولا تجادل حيوانا حتى الهوام اللهم إلّا عند اضطرار ، ولا تجادل صيدا إلّا صيد البحر ، فانك الآن في صيد ربك فكيف تصيد من هو مثلك.

ثم لا تجادل حتى الأشجار ، فقطع شجر الحرم حرام عليك يا محرم ، بل ولا يحل لك هنا حمل السلاح الشاهر أيا كان «فانه لا جدال» وتفسير الجدال بالحلف بالله كقول لا والله وبلى والله ، تفسير بما فيه كفارة ، وليس تفسير المفهوم من الجدال ككلّ ، لأنه خلاف نفي الجنس المستغرق لكل جدال.

وترى هنا كل محرمات الإحرام منتظمة في ذلك المثلث (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ) وقد فصلتها السنة المباركة بكل أبعادها ، ما فيه كفارة وما ليست فيه.

وهذه السلوب الثلاثة محددة «في الحج» مناسك الحج وأمكنته وهي الحرم ، فما دمت محرما وفي الحرم (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ).

هذه نبذة يسيرة عن مدرسة الإحرام في صفوفها السلبية الثمانية والعشرين التي هي محرماتها ، بعد مربع الإيجابيات ، نية وتلبية في الميقات ولبسا لملابس الإحرام ، وموحدّة المحرمة وهي لبس الملابس المحظورة حالة الإحرام ، ويا ليت المحرم يطوّل زمن الإحرام ، لكي يتدرب في مدرسته أكثر وأكثر ، حتى يتخرج منها سالما سليما حنيفا مسلما لرب العالمين ، فلا يتحرج بعد في مضايق الشهوات والإنيات والأنانيات.

ذلك الإحرام بواجباته ومحرماته نبراس عامّ هامّ ينير الدرب على من يعزم السلوك في مسالك العبودية الصالحة ، متحلّلا عن كل رفث وفسوق وجدال ، متحليا بحلل الكمال في كل حلّ وترحال ، بكل جارحة له وجانحة ، في كل

١٧٠

سلوكه مع نفسه وسواه ومع الله ، صادقا في تلبياته «لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك» لا أشرك بك يا رب ولا في تلبياتي هذه ، فإنما لك وحدك «ان الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك ، ذا المعارج لبيك لبيك ، تبدء والمعاد إليك لبيك لبيك ، عبدك وابن عبديك لبيك لبيك».

(وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) في إحرام وسواه (يَعْلَمْهُ اللهُ) ـ «وتزودوا» في حقل الإحرام ثم في سواه (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) فلا زاد أمتن منها وأقوى ، ومن تزود من غيرها فقد أهوى وأغوى ، «واتقون» انا الرب ، (يا أُولِي الْأَلْبابِ) فلب العقل والعقل اللب يقتضي تقوى الله ، حيث تقوى بها في أولاك وأخراك.

ثم و (خَيْرَ الزَّادِ) ماديا ومعنويا هو «التقوى» ما به يتّقى المحاظير ، ومن ذلك الزاد ما يكفّ به وجهك عن الناس (١) و «العباد عباد الله والبلاد بلاد الله فحيث وجدت خيرا فأقم واتق الله» (٢).

إذا ف «تزودوا» هنا لا تختص في حقل الحج ـ فقط ـ بالأمور العبادية والنسك الروحية ، بل والأزودة المادية التي هي زاد الحياة ، ما يصان به الوجه عن مسألة الناس ، فليس خير الزاد هو ـ فقط ـ عبادة الله في طقوسها الخاصة ، انما هو التقوى مهما كانت في الأزودة المادية ، فقد تتفوق أنت في التزود المادي وأنت في حقل الحج ، على من يواصل في مندوبات طوافه وذكره ، فانما المحور

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٢٢١ ـ أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حبان قال : لما نزلت هذه الآية : (وَتَزَوَّدُوا ..) قام رجل من فقراء المسلمين فقال يا رسول الله ما نجد زادا نتزوده فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تزود بما يكف به وجهك عن الناس وخير ما تزودتم التقوى.

(٢) المصدر اخرج الاصبهاني في الترغيب عن الزبير بن العوام سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: ....

١٧١

الأصيل في هذا البين هنا وهناك «تقوى الله» المتمثلة في مختلف الزاد الذي تتزوده ، إذا ف:

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) ١٩٨.

ترى ما هو الفضل هنا الذي لا جناح في ابتغاءه؟ أهو الفضل الروحي زلفى من الله بتقوى الله؟ (١) ولا يناسبه «لا جناح» فانه الأمر الذي فيه مظنة الجناح ، إذا فهو المكاسب المادية عملا وتجارة أما شابه ، من الأشغال التي قد يظن أنّ فيها جناحا في مملكة الحج وحالة الإحرام والحج ، فهنا «لا جناح» تحل محلّها من حلّ المكاسب المادية دون عطلة ولا بطلة بحجة أنك في زيارة الله ، فإن الكاسب مكاسب الحل من فضل الله هو حبيب الله ، فكسبه عمل قربى لله كما حجه بإحرامه ، هذا وقد سمح في ابتغاء فضل الله تجارة أماهيه بعد قضاء الجمعة : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) وهنا في الحج سمح فيه خلال المناسك اللهم إلّا فيما لا يصح كما في فريضة الجمعة ، تدليلا على سماح الجمع بين العبودية والتجارة ، فان تجارة المؤمن عبادة كما عبادته تجارة أخروية.

فكل المحاولات الإيمانية من المؤمن عبادة تجارة كانت ام صلاة او جهادا آخر في سبيل الله ، كما ان المحاولات الكافرة او المنافقة الفاسقة معصية مهما كانت حجا وصلاة وصياما او محاولات أخرى في سبيل غير الله.

ولقد كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثموا ان يتجروا

__________________

(١) في المجمع وقيل : لا جناح عليكم ان تطلبوا المغفرة من ربكم رواه جابر عن أبي جعفر (عليهما السّلام)!.

١٧٢

في الموسم فسألوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن ذلك فنزلت (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ...) (١) وكما قالوا (بِأَيَّامِ اللهِ) فكيف نتجر؟ فنزلت (٢).

وقالوا إنا ناس نكتري فهل لنا من حج؟ فنزلت الآية وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : أنتم حجاج (٣) ثم وحرمة الجدال إذ «لا جدال» قد تلمح بحرمة التجارة في الحج فانه لزامها على أية حال ، فتظن حرمتها لحرمته ، ولكن «لا جناح ..» حين تنفي الجناح تقيّده ب (فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) ولا جدال في ابتغاء فضل الرب ، ثم التجارة حالة الإحرام بلا رفث ولا فسوق ولا جدال ، انها ابتغاء فضل روحي من الرب خلال فضل سواه ، فان من الصعب جدا تخلي التجارة وسائر المعاملات عن هذه الثلاث.

ومن ثم ، لمّا يحرم على المحرم محلّلات متعوّدة في الحياة فبأن تحرم التجارة أولى وأحرى ، ولكن الله حلّلها كفضل منه ورحمة ، تدليلا على سماح الجمع بين عمل الدنيا والآخرة ، إذا كان جامعا لفضل الله ، وحتى يصبحوا (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ...) فقد يتبلور الإيمان في الحج في بعدين

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٢٢٢ أخرج سفيان وسعيد بن منصور والبخاري وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : كانت ...

(٢) وفيه عن ابن عباس قال : كانوا يتقون البيوع والتجارة في الموسم والحج ويقولون : ايام ذكر الله فنزلت ...

(٣) المصدر عن أبي امامة التميمي قال قلت لابن عمر إنا ناس نكتري فهل لنا من حج؟ قال : أليس تطوفون بالبيت وبين الصفا والمروة وتأتون المعرف وترمون الحجار وتحلقون رؤوسكم؟ قلت : بلى ـ فقال ابن عمر جاء رجل إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فسأله عن الذي سألتني عنه فلم يجبه حتى نزل عليه جبرئيل بهذه الآية فدعاه النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقرأ عليه الآية وقال : أنتم حجاج.

١٧٣

حين تتجر خلاله ، ولا تخلّ بواجباته ، فترك الفضل المعيشي ـ إذا ـ كجناح هو من الأوهام.

فلقد ازدحمت هذه الأوهام عليهم فحرّموا على أنفسهم التجارة في الحج ، لحد كانوا يسمون التاجر في الحج : الداج ، قائلين : هؤلاء الداج وليسوا بالحاج ، وبالغوا في التحرز عن كل مكسب دنيوي وحتى عن إغاثة الملهوف واطعام الجائع ، وكأنها امور دنيوية تنافي عبادة الحج ، فأزال الله عنهم ذلك الوهم ب «لا جناح ..».

ف (فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) يعني كل مباح او مندوب او مفروض عليكم سوى الحج خلاله من تجارة او إجارة او اعانة ملهوف او ضعيف او مظلوم أمّا ذا من محظور متخيّل ، فليس الحج سدا عن سائر فضل الله ، بل هو فضل من الله جماعيا يبتغى من خلاله سائر فضل الله وكما قال الله : (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ ..).

قد تبتغي فضل الله حصولا على بلغة عيش في الأولى ، وأخرى حصولا على بلغته في الأخرى وهي الأحرى ، وثانيهما يروى عن «أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليهما السلام)» ، فليشعر من يزاول تجارة أمّاهيه خلال الحج بإحرامه انه يبتغي من فضل الله حين يتجر او يوجر او يستأجر ، كما يبتغي من فضل الله حين يحج ، فهو ـ إذا ـ في حالة عبادة كما الحج ، مهما اختلفت عبادة عن عبادة صورة ، فإنهما من فضل الله سيرة وسريرة ف «لا جناح ...».

(فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ ...).

هنا «عرفات» وهناك (الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) خطوتان في الحج الأكبر بعد الإحرام ثالثتهما «منى» فما هي «عرفات»؟ إنها ـ كموقف ـ صحراء قاحلة جرداء دون ماء ولا كلاء ، الوقوف بها مما بين الزوال والغروب واجب ، والقدر

١٧٤

المسمى بينهما ركن ، ولما ذا هذا الوجوب وذلك الركن وهو وقوف دونما عمل ولا قول ، أو وقوف ركني فاض عن كل فيض ، وليست الصلاة التي هي عمود الدين ركنا بعد الطواف؟! وقد فسر الحج الأكبر بعرفة (١) والمشعر ورمي الجمار! بل و «الحج عرفة فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج» (٢) و «كل عرفات موقف» (٣) ... إنها «عرفات» جمعا ل «عرفة» اسما لليوم التاسع من ذي حجة الحرام ، ومكانها «عرفات» الأمكنة المتواصلة من تلك الصحراء وكل وصلة منها عرفة ، وعرفة هي المعرفة السريعة ، ف «عرفات» هي معرفة سريعة ـ لأقل تقدير ـ مثلثة الجهات ، أن تعرف نفسك ونفسياتك وأضرابك من الناس والنسناس ، ثم تعرف شيطانك الذي يجرّك من سيرة الناس إلى سيرة النسناس ، ثم تعرف ربك الذي يخرجك من ظلمات النسناس الى نور الناس ، وهذه اصول المعرفيات التي تتوجب عليك في فقه المعرفة في مجالة عرفات ، ثم تختصر هذه الثلاث كنتيجة في نفي الشيطان واثبات الرحمن حيث هما المعنيان من كلمة الإخلاص (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) وما لم تكمل معرفة الشيطان والشيطنات لا تصح لك معرفة الرحمان ، فأنت تخطو في ذلك السلوك سلك النفي إلى الإثبات ، نفيا ، لتكملة الإثبات ، فلا يعني وقوفك في عرفات ببدنك وقوفك ككلّ ، بل هو وقوف جسمك لعرفات روحك تعاون جزئيك على البر والتقوى ، فأنت تقف بجسمك ليتحرك روحك في قلل عرفات ، القلل المعرفية

__________________

(١) رواه اصحاب السنن والحاكم واللفظ للنسائي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

(٢) المصدر أخرج احمد عن جبير بن مطعم عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : «كل عرفات موقف وارفعوا عن عرفة وكل جمع موقف وارفعوا عن محسر وكل فجاج مكة منحر وكل ايام التشريق ذبح»

(٣) وفيه اخرج الحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن المسور بن مخرمة قال خطبنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعرفة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : اما بعد ـ وكان إذا خطب قال أما بعد ـ فان هذا اليوم الحج الأكبر ألا ...

١٧٥

في كل جنبات النفي والإثبات ، حيث الطواف رمزا عن زيارة الله بحاجة الى عرفات روحية وقلبية ، فلتحضر نفسك في «عرفات» ثم (الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) ثم «منى».

هذه جمع من «عرفات» على طول الخط ، ولها جمع سابق يتبناها سائر جمعها ، ومنه تعارف آدم وحواء بها بعد ما أهبطا عن الجنة لما عصيا ، تعارفا في عرفات بعد تجاهل في الجنة ، ولكي لا يتكرر منهما عصيان بتجاهل آخر ونسيان ، فليعرف آدم شيطان حواء ، وتعرف حواء نسيان آدم ، ولكي يضعا أقدامهما على رأس الشيطان وغفلة النسيان ، فيعيشا ـ إذا ـ في دار البلية والامتحان في كل بعد عن كل شيطان ونسيان.

إن آدم العقل كسف عقله بحواء العشق فورّطته في الغفلة ، فليتحول آدم في عقله حتى لا يكسف ، ولتتحول حواء في عشقها حتى لا تضل.

فليعرف هنا في «عرفات» بعضهما البعض ، وبعد التجربة المرة في الجنة ، ولكي لا يتجدد منهما عصيان بغفلة ونسيان.

ثم إن آدم علّمه جبرئيل مناسك الحج ، فلما وقف بعرفات قال له : أعرفت؟ قال : نعم فسمي عرفات.

كما وان إبراهيم عرفها حين رآها بنعتها الموصوف له من ذي قبل ، ولما علمه جبرئيل المناسك وأوصله الى عرفات قال له أعرفت كيف تطوف وفي اي موضع تقف؟ قال : نعم.

ولمّا وضع ابنه إسماعيل وأمه هاجر بمكة ورجع الى الشام ولم يلتقيا سنين ، ثم التقيا يوم عرفة بعرفات.

١٧٦

ثم الحجيج يتعارفون فيها ، كما ويتعرّف إليهم في عرفات بالمغفرة والرحمة.

وإذا كانت «عرفة» من الاعتراف ، فموقف عرفات موقف اعترافات ، اعترافا بذل عبوديتك وعز الربوبية ، وأخرى بواقع المعصية المنسية وكما الأبوين الأولين اعترفا فيها : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) فقال الله تعالى : الآن عرفتما أنفسكما.

أم وكانت من العرف وهو الرائحة الطيبة ، ومجالة عرفات هي تلك المجالة الطيبة الرائحة ، بروح الرحمة والرضوان ، وروح المغفرة عن كل عصيان.

إذا فهي عرفات في سابقتها السابقة ولاحقتها المستمرة ، عرفات في معرفيات واعترافات ، وروح وروح لأهلها.

تظل معترفا في عرفات بذنوبك ، داعيا ربك كل سؤال لك لصالح أولاك وأخراك ، فلما همت الشمس ان تغيب تقول مقال الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «اللهم إني أعوذ بك من الفقر ومن تشتت الأمر ، ومن شر ما يحدث بالليل والنهار ، أمسى ظلمي مستجيرا بعفوك ، وأمسى خوفي مستجيرا بأمانك ، وأمسى ذلي مستجيرا بعزك ، وأمسى وجهي الفاني مستجيرا بوجهك الباقي ، يا خير من سئل ويا أجود من أعطى ، جللني برحمتك ، وألبسني عافيتك ، واصرف عني شر جميع خلقك» (١).

وتقول : «اللهم لا تجعله آخر العهد من هذا الموقف وارزقنيه من قابل

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣١ بسند متصل عن عبد الله بن ميمون قال سمعت أبا عبد الله (عليه السّلام) يقول إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقف بعرفات فلما همت الشمس أن تغيب قبل ان يندفع قال : ....

١٧٧

أبدا ما أبقيتني ، واقلبني اليوم مفلحا منجحا مستجابا لي مرحوما مغفورا لي بأفضل ما ينقلب به اليوم أحد من وفدك وحجاج بيتك الحرام واجعلني اليوم من أكرم وفدك عليك وأعطني أفضل ما أعطيت أحدا منهم من الخير والبركة والرحمة والرضوان والمغفرة وبارك لي فيما ارجع إليه من أهل أو مال قليل أو كثير وبارك لهم فيّ» (١).

وقد يعكس أمرهما ، حيث اعتبر الوقوف بعرفات فرضا مقضيا ثم الى المشعر الحرام ، تنديدا بقريش ، إذ لم يكونوا يعرفون فضلا للوقوف بعرفات ، فكانوا يقفون بالمشعر الحرام وبه يفتخرون على سائر الناس الواقفين بعرفات قائلين «نحن أولى الناس بالبيت» ـ

«ولا يفيضون إلّا من المزدلفة فأمرهم الله أن يفيضوا من عرفة» (٢).

__________________

(١) المصدر بسند متصل عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال إذا غربت الشمس يوم عرفة فقل ...

(٢) نور الثقلين ١ : ١٩٥ في تفسير العياشي عن زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : سألته عن قول الله : (ثُمَّ أَفِيضُوا ...) قال : أولئك قريش كانوا يقولون : ...

وروي مثله عن الباقر (عليه السّلام) انه قال : كانت قريش وحلفاءهم من الحمس لا يقفون مع الناس بعرفات ولا يفيضون منها ويقولون : نحن اهل حرم الله فلا نخرج من الحرم فيقفون بالمشعر ويفيضون منه فأمرهم الله ان يقفوا بعرفات ويفيضوا منها ، وعن الحسين (عليه السّلام) انه قال في حج النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثم غدا والناس معه كانت قريش تفيض من المزدلفة وهي جمع ويمنعون الناس ان يفيضوا منها فأقبل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقريش ترجوا أن تكون إفاضته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من حيث كانوا يفيضون فانزل الله : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) يعني : إبراهيم وإسماعيل وإسحاق (تفسير بيان السعادة ١ : ١٨٣).

وفي تفسير العياشي عن رفاعة عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : سألته عن قول الله (ثُمَّ أَفِيضُوا ...) قال : ان اهل الحرم كانوا يقفون على المشعر الحرام ويقف الناس بعرفة ولا يفيضون حتى يطلع عليهم أهل عرفة وكان رجل يكنى أبا سيار وكان له حمار فاره ، وكان يسبق اهل عرفة فإذا طلع عليهم قالوا : ابو سيار ، ثم أفاضوا فأمرهم الله ان يقفوا بعرفة يفيضوا منه.

١٧٨

وهكذا تؤيّد الرواية القائلة «الحج عرفة» مهما شملت المشعر ومنى في أخرى ، فإنهما ركنان اثنان ، ومنى واجب بشعائرها بيتوتة ورميا وذبحا ، وحلقا او تقصيرا ، ولكن الحج مشعر كما هو عرفة وأكثر حسب قياس وقوفاته الثلاث بوقوفي المشعر ، وقد وردت الرواية تعريفا به انه حج كما عرفة حج ، ثم «فان هذا اليوم الحج الأكبر» في خطبة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يعني انه بدايته بعد الإحرام الذي موقفه من الحج موقف تكبيرة الإحرام من الصلاة (١).

(.. فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) فالمشعر محلّ شعار الذكر بشعوره المناسب ساحة الربوبية حيث يحرم ذكر غير الله ، وبعد الإفاضة عن بحر عرفات ، حيث ان المعرفيات الثلاث تختصر في (فَاذْكُرُوا اللهَ) فانه إيجاب يأتي دوره بعد كل سلب لغير الله ، سلبا لنفسك ونفسياتك وسلبا للشيطان وكل الشيطنات ، فذكرا لله وحده لا شريك له.

قد نشعر موقف المشعر الحرام بأسمائه الثلاثة ، كما عرفناه بواجبه (فَاذْكُرُوا اللهَ ..) : فيا لعرفة وعرفات من رحمة واسعة وللشيطان فيها من زحمة خاسئة ، وكما يروى عن رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «ما رؤي

__________________

ـ وفي الوسائل ١٠ : ٢٧ عن أبي الصباح عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : ان ابراهيم (عليه السّلام) أخرج إسماعيل إلى الموقف فأفاضا منه ثم ان الناس كانوا يفيضون منه حتى إذا كثرت قريش قالوا : لا نفيض من حيث أفاض الناس وكانت قريش تفيض من المزدلفة ومنعوا الناس ان يفيضوا معهم إلّا من عرفات فلما بعث الله محمدا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أمره ان يفيض من حيث أفاض الناس وعنى بذلك إبراهيم وإسماعيل.

(١) آيات الأحكام للجصاص ١ : ٣٧٠ عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : من أدرك جمعا والامام واقف فوقف مع الإمام ثم أفاض مع الناس فقد أدرك الحج ومن لم يدرك فلا حج له ، وفيه عن عبد الرحمن بن يعمر الديلمي قال : رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) واقفا بعرفات فأقبل ناس من أهل نجد فسألوه عن الحج فقال : الحج يوم عرفة ومن أدرك جمعا قبل الصبح فقد أدرك الحج.

١٧٩

الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلّا مما يرى فيه من تنزّل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلّا ما رأى يوم بدر ، قالوا : وما الذي رأى يوم بدر؟ قال : رأى جبرئيل يرعى الملائكة» (١).

و «هذا يوم من ملك فيه بصره إلّا من حق وسمعه إلّا من حق ولسانه إلّا من حق غفر له» (٢).

فيا واقفا في «عرفات» اعرف نفسك من أنت في أصلك ، في وصلك وفصلك ، وقد تجردت من قبل عن تعلقاتك بدنيّا حيث خلعت أثوابك ، وتحللت بثوبي الإحرام اشعارا انك ميت عن إنياتك ونفسياتك ، شاعرا انك لست شيئا مذكورا ، وذلك كله اشعار بتخلّيك عن كل التعلقات الروحية والقلبية عما سوى الله ، وهنا فاعرف نفسك كما يصح «فمن عرف نفسه فقد عرف ربه».

ثم اعرف شيطانك كذريعة للبعد عنه سلوكا معرفيا وعبوديا الى ربك ، معرفيات ثلاث تؤهلك لزيارة ربك والتطواف حوله رمزا من طواف البيت.

ليس انك تتعرف الى هذه الثلاث في عرفات لأنك كنت جاهلها من ذي قبل ، فانك المحرم الحاج عارفها من ذي قبل ، وإلّا لم تأت من شقة بعيدة الى البلد الحرام.

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٢٢٨ ـ أخرج مالك والبيهقي والإصبهاني في الترغيب عن طلحة بن عبيد الله بن كريز ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : ...

(٢) المصدر أخرج البيهقي عن الفضل بن عباس انه كان رديف النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعرفة وكان فتى يلاحظ النساء فقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ببصره هكذا وصرفه وقال : «يا ابن اخي! هذا يوم».

١٨٠