تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

الوصف المصوغ بصيغة المبالغة من تمام عدل الله تعالى أن جعل كل درجات الظلم في رتبة الظلم الشديد.

[٤٧ ، ٤٨] (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨))

(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ).

كانوا إذا أنذروا بالبعث وساعته استهزءوا فسألوا عن وقتها ، وكان ذلك مما يتكرّر منهم ، قال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) [الأعراف : ١٨٧] فلمّا جرى ذكر دليل إحياء الموتى وذكر إلحاد المشركين في دلالته بسؤالهم عنها استهزاء انتقل الكلام إلى حكاية سؤالهم تمهيدا للجواب عن ظاهره وتقديم المجرور على متعلّقه لإفادة الحصر ، أي إلى الله يفوض علم السّاعة لا إليّ ، فهو قصر قلب. وردّ عليهم بطريق الأسلوب الحكيم ، أي الأجدر أن تعلموا أن لا يعلم أحد متى السّاعة وأن تؤمنوا بها وتستعدّوا لها. ومثله قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وسأله رجل من المسلمين : متى الساعة؟ فقال له : «ما ذا أعددت لها» ، أي استعدادك لها أولى بالاعتناء من أن تسأل عن وقتها.

والرّد : الإرجاع وهو مستعمل لتفويض علم ذلك إلى الله والتبرؤ من أن يكون للمسئول علم به ، فكأنّه جيء بالسؤال إلى النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فردّه إلى الله. وفي حديث موسى مع الخضر في «الصحيح» «فعاتب الله موسى أن لم يردّ العلم إليه» وقال تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ) [النساء : ٨٣] الآية. وعطف جملة (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها) وما بعدها توجيه لصرف العلم بوقت السّاعة إلى الله بذكر نظائر لا يعلمها النّاس ، وليس علم السّاعة بأقرب منها فإنّها أمور مشاهدة ولا يعلم تفصيل حالها إلّا الله ، أي فليس في عدم العلم بوقت السّاعة حجة على تكذيب من أنذر بها ، لأنّهم قالوا : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [يس : ٤٨] ، أي إن لم تبيّن لنا وقته فلست بصادق. فهذا وجه ذكر تلك النظائر ، وهي ثلاثة أشياء :

أوّلها : علم ما تخرجه أكمام النخيل من الثمر بقدره وجودته وثباته أو سقوطه ، وضمير (أَكْمامِها) راجع إلى الثمرات. والأكمام : جمع كمّ بكسر الكاف وتشديد الميم

٨١

وهو وعاء الثّمر وهو الجفّ الذي يخرج من النّخلة محتويا على طلع الثّمر.

ثانيها : حمل الأنثى من النّاس والحيوان ، ولا يعلم التي تلقح من التي لا تلقح إلّا الله.

ثالثها : وقت وضع الأجنّة فإن الإناث تكون حوامل مثقلة ولا يعلم وقت وضعها باليوم والسّاعة إلا الله.

وعدل عن إعادة حرف (ما) مرة أخرى للتفادي من ذكر حرف واحد ثلاث مرّات لأنّ تساوي هذه المنفيات الثلاثة في علم الله تعالى وفي كون أزمان حصولها سواء بالنسبة للحال وللاستقبال يسدّ علينا باب ادعاء الجمهور الفرق بين (ما) و (لا) في تخليص المضارع لزمان الحال مع حرف (ما) وتخليصه للاستقبال مع حرف (لا). ويؤيّد ردّ ابن مالك عليهم فإن الحق في جانب قول ابن مالك. وحرف (مَنْ) بعد مدخولي (ما) في الموضعين لإفادة عموم النفي ويسمّى حرفا زائدا.

والباء في (بِعِلْمِهِ) للملابسة. وتقدم نظيره في سورة فاطر.

وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم (ثَمَراتٍ) بالجمع. وقرأه الباقون ثمرة واحدة الثمرات.

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) (٤٨).

عطف على الجملة قبلها فإنّه لما تضمن قوله : (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) إبطال شبهتهم بأن عدم بيان وقتها يدلّ على انتفاء حصولها ، وأتبع ذلك بنظائر لوقت السّاعة مما هو جار في الدّنيا دوما عاد الكلام إلى شأن السّاعة على وجه الإنذار مقتضيا إثبات وقوع السّاعة بذكر بعض ما يلقونه في يومها.

و (يَوْمَ) متعلّق بمحذوف شائع حذفه في القرآن ، تقديره : واذكر يوم يناديهم.

والضّمير في (ينادي) عائد إلى (رَبُّكَ) في قوله (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦] ، والنداء كناية عن الخطاب العلني كقوله : (يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) [الحديد : ١٤]. وقد تقدم الكلام على النداء عند قوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) في آل عمران [١٩٣] ، وقوله : (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها) في سورة الأعراف [٤٣].

٨٢

وجملة (أَيْنَ شُرَكائِي) يصح أن يكون مقول قول محذوف كما صرّح به في آية أخرى (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [القصص : ٧٤] (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) [القصص : ٦٥]. وحذف القول ليس بعزيز.

ويصحّ أن تكون مبيّنة لما تضمنه (يُنادِيهِمْ) من معنى الكلام المعلن به. وجاءت جملة (قالُوا آذَنَّاكَ) غير معطوفة لأنّها جارية على طريقة حكاية المحاورات كما تقدّم عند قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) إلى قوله : (ما لا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٣٠].

و (آذَنَّاكَ) أخبرناك وأعلمناك. وأصل هذا الفعل مشتق من الاسم الجامد وهو الأذن بضم الهمزة وسكون الذال وقال تعالى : (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ) [الأنبياء : ١٠٩] ، وقال الحارث بن حلزة :

آذنتنا ببينها أسماء

وصيغة الماضي في (آذَنَّاكَ) إنشاء فهو بمعنى الحال مثل : بعت وطلقت ، أي نؤذنك ونقر بأنّه ما منّا من شهيد.

والشهيد يجوز أن يكون بمعنى المشاهد ، أي المبصر ، أي ما أحد منا يرى الذين كنّا ندعوهم شركاءك الآن ، أي لا نرى واحدا من الأصنام التي كنّا نعبدها فتكون جملة (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ) في موضع الحال ، والواو واو الحال. ويجوز أن يكون الشهيد بمعنى الشاهد ، أي ما منّا أحد يشهد أنّهم شركاؤك ، فيكون ذلك اعترافا بكذبهم فيما مضى ، وتكون جملة (وَضَلَّ عَنْهُمْ) معطوفة على جملة (قالُوا آذَنَّاكَ) ، أي قالوا ذلك ولم يجدوا واحدا من أصنامهم. وفعل (آذَنَّاكَ) معلّق عن العمل لورود النفي بعده.

و (ضَلَ) : حقيقته غاب عنهم ، أي لم يجدوا ما كانوا يدعونهم من قبل في الدّنيا ، قال تعالى : (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) [الأحقاف : ٢٨]. فالمراد به هنا : غيبة أصنامهم عنهم وعدم وجودها في تلك الحضرة بقطع النّظر عن كونها ملقاة في جهنّم أو بقيت في العالم الدنيوي حين فنائه. وإذ لم يجدوا ما كانوا يزعمونه فقد علموا أنّهم لا محيص لهم ، أي لا ملجأ لهم من العذاب الذي شاهدوا إعداده ، فالظّنّ هنا بمعنى اليقين.

والمحيص مصدر ميمي أو اسم مكان من : حاص يحيص ، إذا هرب ، أي ما لهم مفر من النّار.

٨٣

[٤٩ ، ٥٠] (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠))

(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى).

اعتراض بين أجزاء الوعيد. والمعنى : وعلموا ما لهم من محيص. وقد كانوا إذا أصابتهم نعماء كذّبوا بقيام السّاعة فجملة (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) إلى قوله : (قَنُوطٌ) تمهيد لجملة (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا) إلخ ...

وموقع هذه الآيات عقب قوله (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ) [فصلت : ٤٧] إلخ يقتضي مناسبة في النّظم داعية إلى هذا الاعتراض فتلك قاضية بأنّ الإنسان المخبر عنه بأنّه لا يسأم من دعاء الخير وما عطف عليه هو من صنف النّاس الذين جرى ذكر قصصهم قبل هذه الآية وهم المشركون ، فإمّا أن يكون المراد فريقا من نوع الإنسان ، فيكون تعريف (الْإِنْسانُ) تعريف الجنس العام لكن عمومه عرفي بالقرينة وهو الممثل له في علم المعاني بقولك : جمع الأمير الصاغة. وإمّا أن يكون المراد إنسانا معينا من هذا الصنف فيكون التعريف تعريف العهد. كما أن الإخبار عن الإنسان بأنّه يقول : ما أظنّ الساعة قائمة ، صريح أن المخبر عنه من المشركين معينا كان أو عاما عموما عرفيا. فقيل المراد بالإنسان : المشركون كلّهم ، وقيل أريد به مشرك معين ، قيل هو الوليد بن المغيرة ، وقيل عتبة بن ربيعة. وأيّا ما كان فالإخبار عن إنسان كافر.

ومحمل الكلام البليغ يرشد إلى أنّ إناطة هذه الأخبار بصنف من المشركين أو بمشرك معين بعنوان إنسان يومئ بأنّ للجبلة الإنسانية أثرا قويا في الخلق الذي منه هذه العقيدة إلا من عصمه الله بوازع الإيمان. فأصل هذا الخلق أمر مرتكز في نفس الإنسان ، وهو التوجه إلى طلب الملائم والنافع ونسيان ما عسى أن يحل به من المؤلم والضار ، فبذلك يأنس بالخير إذا حصل له فيزداد من السعي لتحصيله ويحسبه كالملازم الذاتي فلا يتدبر في معطيه حتى يشكره ويسأله المزيد تخضعا ، وينسى ما عسى أن يطرأ عليه من الضرّ

٨٤

فلا يستعد لدفعه عن نفسه بسؤال الفاعل المختار أن يدفعه عنه ويعيذه منه. فأما أنّ الإنسان لا يسأم من دعاء الخير فمعناه : أنّه لا يكتفي ، فأطلق على الاكتفاء والاقتناع السآمة ، وهي الملل على وجه الاستعارة بتشبيه استرسال الإنسان في طلب الخير على الدوام بالعمل الدائم الذي شأنه أن يسأم منه عامله فنفي السآمة عنه رمز للاستعارة.

وفي الحديث : «لو أن لابن آدم واديين من ذهب لأحبّ لهما ثالثا ، ولو أن له ثلاثة لأحبّ لهما رابعا ، ولا يملأ عين ابن آدم إلّا التراب» ، وقال تعالى : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات : ٨].

والدعاء : أصله الطلب بالقول ، وهو هنا مجاز في الطلب مطلقا فتكون إضافته إلى الخير من إضافة المصدر إلى ما في معنى المفعول ، أي الدعاء بالخير أو طلب الخير. ويجوز أن يكون الدعاء استعارة مكنية ، شبه الخير بعاقل يسأله الإنسان أن يقبل عليه ، فإضافة الدعاء من إضافة المصدر إلى مفعوله.

وأما أن الإنسان يئوس قنوط إن مسه الشر فذلك من خلق قلة صبر الإنسان على ما يتعبه ويشق عليه فيضجر إن لحقه شرّ ولا يوازي بين ما كان فيه من خير فيقول : لئن مسني الشرّ زمنا لقد حلّ بي الخير أزمانا ، فمن الحق أن أتحمل ما أصابني كما نعمت بما كان لي من خير ، ثم لا ينتظر إلى حين انفراج الشرّ عنه وينسى الإقبال على سؤال الله أن يكشف عنه الضر بل ييأس ويقنط غضبا وكبرا ولا ينتظر معاودة الخير ظاهرا عليه أثر اليأس بانكسار وحزن. واليأس فعل قلبي هو : اعتقاد عدم حصوله الميئوس منه.

والقنوط : انفعال يدني من أثر اليأس وهو انكسار وتضاؤل. ولم يذكر هنا أنّه ذو دعاء لله كما ذكر في قوله الآتي : (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) [فصلت : ٥١]. لأنّ المقصود أهل الشرك وهم إنّما ينصرفون إلى أصنامهم. وقد جاءت تربية الشريعة للأمّة على ذم القنوط ، قال تعالى حكاية عن إبراهيم (قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) [الحجر : ٥٦] ، وفي الحديث «انتظار الفرج بعد الشدّة عبادة».

فالآية وصفت خلقين ذميمين : أحدهما خلق البطر بالنعمة والغفلة عن شكر الله عليها. وثانيهما اليأس من رجوع النعمة عند فقدها. وفي نظم الآية لطائف من البلاغة :

الأولى : التعبير عن دوام طلب النّعمة بعدم السآمة كما علمته.

الثانية : التعبير عن محبّة الخير بدعاء الخير.

٨٥

الثالثة : التعبير عن إضافة الضر بالمسّ الذي هو أضعف إحساس الإصابة قال تعالى: (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) [الزمر : ٦١].

الرّابعة : اقتران شرط مسّ الشر ب (إِنْ) التي من شأنها أن تدخل على النادر وقوعه فإن إصابة الشر الإنسان نادرة بالنسبة لما هو مغمور به من النعم.

الخامسة : صيغة المبالغة في (فَيَؤُسٌ).

السّادسة : اتباع يئوس ب (قَنُوطٌ) الذي هو تجاوز إحساس اليأس إلى ظاهر البدن بالانكسار ، وهو من شدّة يأسه ، فحصلت مبالغتان في التّعبير عن يأسه بأنّه اعتقاد في ضميره وانفعال في سحنائه. فالمشرك يتأصّل فيه هذا الخلق ويتزايد باستمرار الزّمان. والمؤمن لا تزال تربية الإيمان تكفه عن هذا الخلق حتى يزول منه أو يكاد.

ثم بينت الآية خلقا آخر في الإنسان وهو أنّه إذا زال عنه كربه وعادت إليه النّعمة نسي ما كان فيه من الشّدة ولم يتفكر في لطف الله به فبطر النّعمة ، وقال : قد استرجعت خيراتي بحيلتي وتدبيري ، وهذا الخير حق لي حصلت عليه ، ثمّ إذا كان من أهل الشرك وهم المتحدث عنهم تراه إذا سمع إنذار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقيام الساعة أو هجس في نفسه هاجس عاقبة هذه الحياة قال لمن يدعوه إلى العمل ليوم الحساب أو قال في نفسه (ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) ولئن فرضت قيام السّاعة على احتمال ضعيف فإنّي سأجد عند الله المعاملة بالحسنى لأنّي من أهل الثراء والرفاهية في الدّنيا فكذلك سأكون يوم القيامة. وهذا من سوء اعتقادهم أن يحسبوا أحوال الدّنيا مقارنة لهم في الآخرة ، كما حكى الله تعالى عن العاصي بن وائل حين اقتضاه خبّاب بن الأرتّ مالا له عنده من أجر صناعة سيف فقال له : حتى تكفر بمحمد؟ فقال خبّاب : لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ويبعثك ، فقال : أو إنّي لميّت فمبعوث؟ قال : نعم. فقال : لئن بعثني الله فسيكون لي مالي فأقضيك ، فأنزل الله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) الآيات من سورة مريم [٧٧].

ولعل قوله : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) إنّما هو على سبيل الاستهزاء كما في مقالة العاصي بن وائل. وذكر إنكار البعث هنا إدماج بذكر أحوال الإنسان المشرك في عموم أحوال الإنسان.

وجيء في حكاية قوله (وَلَئِنْ رُجِعْتُ) بحرف (إن) الشرطية التي يغلب وقوعها في الشرط المشكوك وقوعه لأنّه جعل رجوعه إلى الله أمرا مفروضا ضعيف الاحتمال. وأما

٨٦

دخول اللام الموطئة للقسم عليه فمورد التحقيق بالقسم هو حصول الجواب لو حصل الشرط.

وكذلك التأكيد ب (إِنْ) ولام الابتداء مورده هو جواب الشرط ، وكذلك تقديم (لِي) و (عِنْدَهُ) على اسم (إِنَ) هو لتقوّي ترتب الجواب على الشرط.

والحسنى : صفة لموصوف محذوف ، أي الحالة الحسنى ، أو المعاملة الحسنى. والأظهر أن الحسنى صارت اسما للإحسان الكثير أخذا من صيغة التفضيل.

واعلم أن الإنسان متفاوتة أفراده في هذا الخلق المعزوّ إليه هنا على تفاوت أفراده في الغرور ، ولما كان أكثر النّاس يومئذ المشركين كان هذا الخلق فاشيا فيهم يقتضيه دين الشرك. ولا نظر في الآية لمن كان يومئذ من المسلمين لأنهم النادر ، على أن المسلم قد يخامره بعض هذا الخلق وترتسم فيه شيات منه ولكن إيمانه يصرفه عنه انصرافا بقدر قوة إيمانه ، ومعلوم أنّه لا يبلغ به إلى الحد الذي يقول (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) ، ولكنه قد تجري أعمال بعض المسلمين على صورة أعمال من لا يظنّ أن الساعة قائمة مثل أولئك الّذين يأتون السيئات ثم يقولون : إن الله غفور رحيم ، والله غني عن عذابنا ، وإذا ذكر لهم يوم الجزاء قالوا : ما ثمّ إلا الخير ونحو ذلك ، فجعل الله في هذه الآية مذمّة للمشركين وموعظة للمؤمنين كمدا للأوّلين وانتشالا للآخرين.

(فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ).

تفريع على جملة (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي) [فصلت : ٤٧] وما اتصل بها أي فلنعلمنّهم بما عملوا علنا يعلمون به أنّا لا يخفى علينا شيء مما عملوه وتقريعا لهم.

وقول : (الَّذِينَ كَفَرُوا) إظهار في مقام الإضمار ، ومقتضى الظّاهر أن يقال : ولننبئنّهم بما عملوا ، فعدل إلى الموصول وصلته لما تؤذن به الصلة من علة استحقاقهم الإذاقة بما عملوا وإذاقة العذاب. وقوله : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) هو المقصود من التفريع.

والغليظ حقيقته : الصلب ، قال تعالى : (فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) [الفتح : ٢٩] ، وهو هنا مستعار للقويّ في نوعه ، أي عذاب شديد الإيلام والتعذيب ، كما استعير للقساوة في المعاملة في قوله (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ٧٣] وقوله : (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) [التوبة : ١٢٣].

٨٧

والإذاقة : مجاز في مطلق الإصابة في الحسّ لإطماعهم أنّها إصابة خفيفة كإصابة الذوق باللّسان. وهذا تجريد للمجاز كما أن وصفه بالغليظ تجريد ثان فحصل من ذلك ابتداء مطمع وانتهاء مؤيس.

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١))

هذا وصف وتذكير بضرب آخر من طغيان النفس الإنسانية غير خاص بأهل الشرك بل هو منبث في جميع النّاس على تفاوت إلّا من عصم الله. وهو توصيف لنزق النفس الإنساني وقلّة ثباته فإذا أصابته السراء طغا وتكبر ونسي شكر ربّه نسيانا قليلا أو كثيرا وشغل بلذاته ، وإذا أصابته الضراء لم يصبر وجزع ولجأ إلى ربّه يلحّ بسؤال كشف الضراء عنه سريعا. وفي ذكر هذا الضرب تعرّض لفعل الله وتقديره الخلتين السراء والضراء. وهو نقد لسلوك الإنسان في الحالتين وتعجيب من شأنه. ومحل النقد والتعجيب من إعراضه ونأيه بجانبه واضح ، وأمّا محل الانتقاد والتعجيب من أنّه ذو دعاء عريض عند ما يمسه الشرّ فهو من حيث لم يتذكر الإقبال على دعاء ربّه إلا عند ما يمسّه الشر وكان الشأن أن لا يغفل عن ذلك في حال النعمة فيدعو بدوامها ويشكر ربّه عليها وقبول شكره لأن تلك الحالة أولى بالعناية من حالة مسّ الضر.

وأما ما تقدم من قوله : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) إلى قوله : (لَلْحُسْنى) [فصلت : ٤٩ ، ٥٠] فهو وصف لضرب آخر أشدّ ، وهو خاص بأهل الشرك لما وقع فيه من قوله : (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) [الكهف : ٣٦] ، فليس قوله : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) إلخ تكريرا مع قوله : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ) [فصلت : ٤٩] الآية. فهذا التفنن في وصف أحوال الإنسان مع ربّه هو الذي دعا إلى ما اشتمل عليه قوله : (وَإِذا أَنْعَمْنا) من بعض التكرير لما ذكر في الضرب المتقدم لزيادة تقريره ، وللإشارة إلى اختلاف الحالتين باعتبار الشرك وعدمه مع اتحادهما في مثار الجبلة الإنسانية ، وباعتبار ما قدره الله للإنسان.

والإعراض : الانصراف عن شيء ، وهو مستعار هنا للغفلة عن شكر المنعم أو التعمد لترك الشكر.

ومتعلق فعل (أَعْرَضَ) محذوف لدلالة السياق عليه ، والتقدير : أعرض عن دعائنا.

٨٨

والنأي : البعد ، وهو هنا مستعار لعدم التفكر في المنعم عليه ، فشبّه عدم اشتغاله بذلك بالبعد. والجانب للإنسان : منتهى جسمه من إحدى الجهتين اللّتين ليستا قبالة وجهه وظهره ، ويسمى الشقّ ، والعطف بكسر العين. والباء للتعدية. والمعنى : أبعد جانبه ، كناية عن إبعاد نفسه ، أي ولّى معرضا غير ملتفت بوجهه إلى الشيء الذي ابتعد هو عنه.

ومعنى (مَسَّهُ الشَّرُّ) أصابه شر بسبب عاديّ. وعدل عن إسناد إصابة الشر إلى الله تعليما للأدب مع الله كما قال إبراهيم (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) [الشعراء : ٧٨] إلخ. ثم قال : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [الشعراء : ٨٠] فلم يقل : وإذا أمرضني ، وفي ذلك سرّ وهو أن النعم والخير مسخّران للإنسان في أصل وضع خلقته فهما الغالبان عليه لأنّهما من مظاهر ناموس بقاء النوع. وأمّا الشرور والأضرار فإن معظمها ينجرّ إلى الإنسان بسوء تصرفه وبتعرضه إلى ما حذرته منه الشرائع والحكماء الملهمون فقلما يقع فيهما الإنسان إلا بعلمه وجرأته.

والدعاء : الدعاء لله بكشف الشرّ عنه. ووصفه بالعريض استعارة لأن العرض ـ بفتح العين ـ ضد الطول ، والشيء العريض هو المتسع مساحة العرض ، فشبه الدعاء المتكرر الملحّ فيه بالثوب أو المكان العريض. وعدل عن أن يقال : فداع ، إلى (فَذُو دُعاءٍ) لما تشعر به كلمة ذو من ملازمة الدعاء له وتملكه منه.

والدّعاء إلى الله من شيم المؤمنين وهم متفاوتون في الإكثار منه والإقلال على تفاوت ملاحظة الحقائق الإلهيّة. وتوجه المشركين إلى الله بالدعاء هو أقوال تجري على ألسنتهم توارثوها من عادات سالفة من أزمان تدينهم بالحنيفية قبل أن تدخل عليهم عبادة الأصنام وتتأصل فيهم فإذا دعوا الله غفلوا عن منافاة أقوالهم لعقائد شركهم.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢))

استئناف ابتدائي متصل بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) إلى قوله : (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) [فصلت : ٤١ ، ٤٥]. فهذا انتقال إلى المجادلة في شأن القرآن رجع به إلى الغرض الأصلي من هذه السورة وهو بيان حقّيّة القرآن وصدقه وصدق من جاء به. وهذا استدعاء ليعملوا النظر في دلائل صدق القرآن مثل إعجازه وانتساقه وتأييد بعضه بعضا وكونه مؤيّدا للكتب قبله ، وكون تلك الكتب مؤيدة له.

٨٩

والمعنى : ما أنتم عليه من إنكار صدق القرآن ليس صادرا عن نظر وتمحيص يحصّل اليقين وإنما جازفتم به قبل النظر فلو تأملتم لاحتمل أن ينتج لكم التأمل أنه من عند الله وأن لا يكون من عنده ، فإذا فرض الاحتمال الأول فقد أقحمتم أنفسكم في شقاق قويّ. وهذا من الكلام المنصف واقتصر فيه على ذكر الحالة المنطبقة على صفاتهم تعريضا بأن ذلك هو الطرف الرّاجح في هذا الإجمال كأنه يقول : كما أنكم قضيتم بأنه ليس من عند الله وليس ذلك معلوما بالضرورة فكذلك كونه من عند الله فتعالوا فتأملوا في الدّلائل ، فهم لمّا أنكروا أن يكون من عند الله وصدوا أنفسهم وعامتهم عن الاستماع إليه والتدبر فيه فقد أعملوا شهوات أنفسهم وأهملوا الأخذ بالحيطة لهم أن يتدبروه حتى يكونوا على بينة من أمرهم في شأنه ، وهم إذا تدبروه لا يلبثون أن يعلموا صدقه ، فاستدعاهم الله إلى النظر بطريق تجويز أن يكون من عند الله فإنه إذا جاز ذلك وكانوا قد كفروا به دون تأمل كانوا قد قضوا على أنفسهم بالضلال الشديد ، وإذا كانوا كذلك فقد حقّت عليهم كلمات الوعيد.

و (إِنْ) الشرطية شأنها أن تدخل على الشرط المشكوك فيه ، فالإتيان بها إرخاء للعنان معهم لاستنزال طائر إنكارهم حتى يقبلوا على التأمل في دلائل صدق القرآن. ويشبه أن يكون المقصود بهذا الخطاب والتشكيك أولا دهماء المشركين الذين لم ينظروا في دلالة القرآن أو لم يطيلوا النظر ولم يبلغوا به حد الاستدلال.

وأما قادتهم وكبراؤهم وأهل العقول منهم فهم يعلمون أنه من عند الله ولكنّهم غلب عليهم حبّ الرئاسة على أنهم متفاوتون في هذا العلم إلى أن يبلغ بعضهم إلى حدّ قريب من حالة الدّهماء ولكن القرآن ألقى بينهم هذا التشكيك تغليبا ومراعاة لاختلاف درجات المعاندين ومجاراة لهم ادعاءهم أنّهم لم يهتدوا نظرا لقولهم (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) [فصلت : ٥].

و (ثُمَ) في قوله : (ثُمَّ كَفَرْتُمْ) للتراخي الرتبي لأن الكفر بما هو من عند الله أمره أخطر من كون القرآن من عند الله.

و (مِنْ) الأولى للاستفهام وهو مستعمل في معنى النفي ، أي لا أضل ممن هو في شقاق بعيد إذا تحقق الشرط.

و (مِنْ) الثانية موصولة وما صدقها المخاطبون بقوله : (كَفَرْتُمْ بِهِ) فعدل عن الإضمار إلى طريق الموصول لما تأذن به الصلة من تعليل أنّهم أضلّ الضالّين بكونهم

٩٠

شديدي الشقاق ، وذلك كناية عن كونهم أشد الخلق عقوبة لما هو معلوم من أن الضلال سبب للخسران.

والشقاق : العصيان. والمراد : عصيان أمر الله لظهور أن القرآن من عنده على هذا الفرض بيننا.

والبعيد : الواسع المسافة ، واستعير هنا للشديد في جنسه ، ومناسبة هذه الاستعارة للضلال لأن الضلال أصله عدم الاهتداء إلى الطريق ، وأن البعد مناسب للشقاق لأن المنشقّ قد فارق المنشقّ عنه فكان فراقه بعيدا لا رجاء معه للدنوّ ، وتقدم في قوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) في سورة البقرة [١٧٦].

وفعل (أَرَأَيْتُمْ) معلق عن العمل لوجود الاستفهام بعده ، والرؤية علمية.

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣))

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ).

أعقب الله أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول للمشركين ما فيه تخويفهم من عواقب الشقاق على تقدير أن يكون القرآن من عند الله وهم قد كفروا به إلى آخر ما قرر آنفا ، بأن وعد رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل التسلية والبشارة بأن الله سيغمر المشركين بطائفة من آياته ما يتبيّنون به أن القرآن من عند الله حقا فلا يسعهم إلا الإيمان به ، أي أن القرآن حقّ بيّن غير محتاج إلى اعترافهم بحقيته ، وستظهر دلائل حقّيّته في الآفاق البعيدة عنهم وفي قبيلتهم وأنفسهم فتتظاهر الدلائل على أنّه الحق فلا يجدوا إلى إنكارها سبيلا ، والمراد : أنهم يؤمنون به يومئذ مع جميع من يؤمن به. وفي هذا الوعد للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعريض بهم إذ يسمعونه على طريقة : فاسمعي يا جارة.

فموقع هذه الجملة بصريحها وتعريضها من الجملة التي قبلها موقع التعليل لأمر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول لهم ما أمر به ، والتعليل راجع إلى إحالتهم على تشكيكهم في موقفهم للطعن في القرآن. وقد سكت عما يترتب على ظهور الآيات في الآفاق وفي أنفسهم المبينة أن القرآن حقّ لأن ما قبله من قوله : (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) [فصلت : ٥٢] ينبئ عن تقديره ، أي لا يسعهم إلا

٩١

الإيمان بأنه حق فمن كان منهم شاكّا من قبل عن قلة تبصر حصل له العلم بعد ذلك ، ومن كان إنّما يكفر عنادا واحتفاظا بالسيادة افتضح بهتانه وسفّهه جيرانه. وكلاهما قد أفات بتأخير الإيمان خيرا عظيما من خير الآخرة بما أضاعه من تزود ثواب في مدة كفره ومن خير الدّنيا بما فاته من شرف السبق بالإيمان والهجرة كما قال تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) [الحديد : ١٠].

وفي هذه الآية طرف من الإعجاز بالإخبار عن الغيب إذ أخبرت بالوعد بحصول النصر له ولدينه وذلك بما يسّر الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولخلفائه من بعده في آفاق الدّنيا والمشرق والمغرب عامة وفي باحة العرب خاصة من الفتوح وثباتها وانطباع الأمم بها ما لم تتيسر أمثالها لأحد من ملوك الأرض والقياصرة والأكاسرة على قلة المسلمين إن نسب عددهم إلى عدد الأمم التي فتحوا آفاقها بنشر دعوة الإسلام في أقطار الأرض ، والتّاريخ شاهد بأن ما تهيأ للمسلمين من عجائب الانتشار والسلطان على الأمم أمر خارق للعادة ، فيتبيّن أن دين الإسلام هو الحق وأن المسلمين كلما تمسّكوا بعرى الإسلام لقوا من نصر الله أمرا عجيبا يشهد بذلك السابق واللاحق ، وقد تحدّاهم الله بذلك في قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) [الرعد : ٤١] ثم قال (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) [الرعد : ٤٣].

ولم يقف ظهور الإسلام عند فتح الممالك والغلب على الملوك والجبابرة ، بل تجاوز ذلك إلى التغلغل في نفوس الأمم المختلفة فتقلّدوه دينا وانبثت آدابه وأخلاقه فيهم فأصلحت عوائدهم ونظمهم المدنيّة المختلفة التي كانوا عليها فأصبحوا على حضارة متماثلة متناسقة وأوجدوا حضارة جديدة سالمة من الرعونة وتفشت لغة القرآن فتخاطبت بها الأمم المختلفة الألسن وتعارفت بواسطتها ونبغت فيهم فطاحل من علماء الدّين وعلماء العربية وأئمّة الأدب العربي وفحول الشعراء ومشاهير الملوك الذين نشروا الإسلام في الممالك بفتوحهم.

فالمراد بالآيات في قوله : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا) ما يشمل الدلائل الخارجة عن القرآن وما يشمل آيات القرآن فإن من جملة معنى رؤيتها رؤية ما يصدّق أخبارها ويبيّن نصحها إياهم بدعوتها إلى خير الدّنيا والآخرة.

٩٢

والآفاق : جمع أفق بضمتين وتسكن فاؤه أيضا هو : الناحية من الأرض المتميزة عن غيرها ، والناحية من قبة السماء. وعطف (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) يجوز أن يكون من عطف الخاص على العام ، أي وفي أفق أنفسهم ، أي مكّة وما حولها على حذف مضاف.

والأحسن أن يكون في الآفاق على عمومه الشامل لأفقهم ، ويكون معنى (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) أنّهم يرون آيات صدقه في أحوال تصيب أنفسهم ، أي ذواتهم مثل الجوع الذي دعا عليهم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونزل فيه قوله تعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) [الدخان : ١٠] ، ومثل ما شاهدوه من مصارع كبرائهم يوم بدر وقد توعدهم به القرآن بقوله (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) [الدخان : ١٦]. وأيّة عبرة أعظم من مقتل أبي جهل يوم بدر رماه غلامان من الأنصار وتولى عبد الله بن مسعود ذبحه وثلاثتهم من ضعفاء المسلمين وهو ذلك الجبار العنيد. وقد قال عند موته : لو غير أكّار قتلني ، ومن مقتل أبيّ بن خلف يومئذ بيد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد كان قال له بمكة : أنا أقتلك وقد أيقن بذلك فقال لزوجه ليلة خروجه إلى بدر : والله لو بصق علي لقتلني.

(أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).

عطف على إعلام الرّسول بما سيظهر من دلائل صدق القرآن وصدق الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم زيادة لتثبيت الرّسول وشرح صدره بأن الله تكفل له بظهور دينه ووضوح صدقه في سائر أقطار الأرض وفي أرض قومه ، على طريقة الاستفهام التقريري تحقيقا لتيقن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بكفالة ربّه بحيث كانت ممّا يقرر عليها كناية عن اليقين بها ، فالاستفهام تقريري.

والمعنى : تكفيك شهادة ربّك بصدقك فلا تلتفت لتكذيبهم ، وهذا على حدّ قوله : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) [النساء : ١٦٦] وقوله : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) [النساء : ٧٩] فهذا وجه في موقع هذه الآية.

وهنالك وجه آخر أن يكون مساقها مساق تلقين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستشهد بالله على أن القرآن من عند الله ، فيكون موقعها موقع القسم بإشهاد الله ، وهو قسم غليظ فيه معنى نسبة المقسم عليه إلى أنه مما يشهد الله به فيكون الاستفهام إنكاريا إنكارا لعدم الاكتفاء بالقسم بالله ، وهو كناية عن القسم ، وعن عدم تصديقهم بالقسم ، فيكون معنى الآية قريبا من معنى قوله تعالى : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) [الرعد : ٤٣] وقوله تعالى: (قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) [العنكبوت : ٥٢].

٩٣

وليس معنى الآية إنكارا على المشركين أنّهم لم يكتفوا بشهادة الله على صدق القرآن ولا على صدق الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنّهم غير معترفين بأن الله شهد بذلك فلا يظهر توجه الإنكار إليهم. ولقد دلّت كلمات المفسرين في تفسير هذه الآية على تردد في استخراج معناها من لفظها.

وقوله : (أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) بدل اشتمال من (بِرَبِّكَ) والتقدير : أو لم يكفهم ربّك علمه بكل شيء ، أي فهو يحقق ما وعدك من دمغهم بالحجة الدالة على صدقك ، أو فمن استشهد به فقد صدق لأن الله لا يقرّ من استشهد به كاذبا فلا يلبث أن يأخذه.

وفي الآية على الوجه الثاني من وجهي قوله : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) إشارة إلى أن الله لا يصدق من كذب عليه فلا يتم له أمر وهو معنى قول أئمّة أصول الدّين : إن دلالة المعجزة على الصدق أن تغيير الله العادة لأجل تحدّي الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم قائم مقام قوله : صدق عبدي فيما أخبر به عني.

(أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤))

تذييلان للسورة وفذلكتان افتتحا بحرف التنبيه اهتماما بما تضمناه. فأما التذييل الأول فهو جماع ما تضمنته السورة من أحوال المشركين المعاندين إذ كانت أحوالهم المذكورة فيها ناشئة عن إنكارهم البعث فكانوا في مأمن من التفكير فيما بعد هذه الحياة ، فانحصرت مساعيهم في تدبير الحياة الدّنيا وانكبّوا على ما يعود عليهم بالنفع فيها. وضمير (إِنَّهُمْ) عائد إليهم كما عاد ضمير الجمع في (سَنُرِيهِمْ) [فصلت : ٥٣].

وأما التذييل الثاني فهو جامع لكل ما تضمنته السورة من إبطال لأقوالهم وتقويم لاعوجاجهم ، لأن ذلك كله من آثار علم الله تعالى بالغيب والشهادة. وتأكيد الجملتين بحرف التأكيد مع أن المخاطب بهما لا يشكّ في ذلك لقصد الاهتمام بهما واستدعاء النّظر لاستخراج ما تحويانه من المعاني والجزئيات.

والمرية بكسر الميم وهو الأشهر فيها واتفقت عليه القراءات المتواترة ، وبكسر الميم وهو لغة مثل : خفية وخفية. والمرية : الشك. وحرف الظرفية مستعار لتمكن الشك بهم حتى كأنّهم مظروفون فيه و (مِنْ) ابتدائية وتعدى بها أفعال الشك إلى الأمر المشكوك فيه بتنزيل متعلق الفعل منزلة مثار الفعل بتشبيه المفعول بالمنشإ كأن الشك جاء من مكان هو

٩٤

المشكوك فيه.

وفي تعليقه بذات الشيء مع أن الشك إنما يتعلق بالأحكام مبالغة على طريقة إسناد الأمور إلى الأعيان والمراد أوصافها ، فتقدير (فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) : في مرية من وقوع لقاء ربّهم وعدم وقوعه كقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) [البقرة : ٢٣] أي في ريب من كونه منزلا. وأطلق الشك على جزمهم بعدم وقوع البعث لأن جزمهم خلي عن الدّليل الذي يقتضيه ، فكان إطلاق الشك عليه تعريضا بهم بأن الأولى بهم أن يكونوا في شك على الأقل.

ووصف الله بالمحيط مجاز عقلي لأن المحيط بكل شيء هو علمه فأسندت الإحاطة إلى اسم الله لأن (المحيط) صفة من أوصافه وهو العلم.

وبهاتين الفذلكتين آذن بانتهاء الكلام فكان من براعة الختام.

٩٥

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٤٢ ـ سورة الشورى

اشتهرت تسميتها عند السلف حم عسق ، وكذلك ترجمها البخاري في كتاب التفسير والترمذي في «جامعه» ، وكذلك سميت في عدة من كتب التفسير وكثير من المصاحف. وتسمى «سورة الشورى» بالألف واللام كما قالوا «سورة المؤمن» ، وبذلك سميت في كثير من المصاحف والتفاسير ، وربّما قالوا «سورة شورى» بدون ألف ولام حكاية للفظ القرآن. وتسمى «سورة عسق» بدون لفظ (حم) لقصد الاختصار. ولم يعدّها في «الإتقان» في عداد السور ذات الاسمين فأكثر. ولم يثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيء في تسميتها.

وهي مكية كلّها عند الجمهور ، وعدّها في «الإتقان» في عداد السور المكية ، وقد سبقه إلى ذلك الحسن بن الحصار في كتابه في «الناسخ والمنسوخ» كما عزاه إليه في «الإتقان». وعن ابن عباس وقتادة استثناء أربع آيات أولاها قوله (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الشورى : ٢٣] إلى آخر الأربع الآيات.

وعن مقاتل استثناء قوله تعالى : (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا) إلى قوله : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) [الشورى : ٢٣ ، ٢٤]. روي أنّها نزلت في الأنصار وهي داخلة في الآيات الأربع التي ذكرها ابن عباس. وفي «أحكام القرآن» لابن الفرس عن مقاتل : أن قوله تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ) [الشورى : ٢٧] الآية نزل في أهل الصّفّة فتكون مدنية ، وفيه عنه أن قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) إلى قوله : (ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) [الشورى : ٣٩ ـ ٤١] نزل بالمدينة.

نزلت بعد سورة الكهف وقبل سورة إبراهيم وعدّت التاسعة والستين في ترتيب نزول السور عند الجعبري المروي عن جابر بن زيد. وإذا صح أن آية (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) [الشورى : ٢٨] نزلت في انحباس المطر عن أهل مكّة كما قال مقاتل تكون

٩٦

السورة نزلت في حدود سنة ثمان بعد البعثة ، ولعلّ نزولها استمر إلى سنة تسع بعد أن آمن نقباء الأنصار ليلة العقبة فقد قيل : إن قوله : (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) [الشورى : ٣٨] أريد به الأنصار قبل هجرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة. وعدّت آيها عند أهل المدينة ومكّة والشّام والبصرة خمسين ، وعند أهل الكوفة ثلاثا وخمسين.

أغراض هذه السورة

أوّل أغراضها الإشارة إلى تحدّي الطاعنين في أن القرآن وحي من الله بأن يأتوا بكلام مثله ، فهذا التحدّي لا تخلو عنه السور المفتتحة بالحروف الهجائية المقطّعة ، كما تقدم في سورة البقرة. واستدلّ الله على المعاندين بأن الوحي إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما هو إلا كالوحي إلى الرّسل من قبله لينذر أهل مكّة ومن حولها بيوم الحساب. وأن الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض لا تعارض قدرته ولا يشك في حكمته ، وقد خضعت له العوالم العليا ومن فيها وهو فاطر المخلوقات فهو يجتبي من يشاء لرسالته فلا بدع أن يشرع للأمّة المحمدية من الدّين مثل ما شرع لمن قبله من الرّسل ، وما أرسل الله الرّسل إلّا من البشر يوحي إليهم فلم يسبق أن أرسل ملائكة لمخاطبة عموم النّاس مباشرة. وأن المشركين بالله لا حجة لهم إلّا تقليد أئمّة الكفر الذين شرعوا لهم الإشراك وألقوا إليهم الشبهات. وحذرهم يوم الجزاء واقتراب الساعة وما سيلقى المشركون يوم الحساب من العذاب مع إدماج التعريض بالترغيب فيما سيلقاه المؤمنون من الكرامة ، وأنّهم لو تدبروا لعلموا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يأتي عن الله من تلقاء نفسه لأن الله لا يقرّه على أن يقول عليه ما لم يقله. وذكرت دلائل الوحدانية وما هو من تلك الآيات نعمة على النّاس مثل دليل السير في البحر وما أوتيه النّاس من نعم الدّنيا.

وتسلية الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الله هو متولي جزاء المكذّبين وما على الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حسابهم من شيء فما عليه إلا الاستمرار على دعوتهم إلى الحق القويم. ونبههم إلى أنه لا يبتغي منهم جزاء على نصحه لهم وإنّما يبتغي أن يراعوا أواصر القرابة بينه وبينهم. وذكّرهم نعم الله عليهم ، وحذرهم من التسبب في قطعها بسوء أعمالهم ، وحرّضهم على السعي في أسباب الفوز في الآخرة والمبادرة إلى ذلك قبل الفوات ، فقد فاز المؤمنون المتوكلون ، ونوّه بجلائل أعمالهم وتجنبهم التعرض لغضب الله عليهم. وتخلل ذلك تنبيه على آيات كثيرة من آيات انفراده تعالى بالخلق والتصرف المقتضي انفراده بالإلهية إبطالا

٩٧

للشرك.

وختمها بتجدد المعجزة الأميّة بأن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءهم بهدى عظيم من الدّين وقد علموا أنّه لم يكن ممن تصدّى لذلك في سابق عمره وذلك أكبر دليل على أن ما جاء به أمر قد أوحي إليه به فعليهم أن يهتدوا بهديه فمن اهتدى بهديه فقد وافق مراد الله. وختم ذلك بكلمة جامعة تتضمن التفويض إلى الله وانتظار حكمه وهي كلمة (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) [الشورى : ٥٣].

[١ ، ٢] (حم (١) عسق (٢))

ابتدئت بالحروف المقطّعة على نحو ما ابتدئت به أمثالها مثل أول سورة البقرة لأن ابتداءها مشير إلى التحدّي بعجزهم عن معارضة القرآن وأن عجزهم عن معارضته دليل على أنه كلام منزل من الله تعالى.

وخصت بزيادة كلمة (عسق) على أوائل السور من آل (حم) ولعل ذلك لحال كانوا عليه من شدّة الطعن في القرآن وقت نزول هذه السورة ، فكان التحدي لهم بالمعارضة أشد فزيد في تحدّيهم من حروف التهجّي. وإنّما لم توصل الميم بالعين كما وصلت الميم بالراء في طالعة سورة الرعد ، وكما وصلت الميم بالصاد في مفتتح سورة الأعراف ، وكما وصلت العين بالصاد في مفتتح سورة مريم ، لأن ما بعد الميم في السور الثلاث حرف واحد فاتصاله بما قبله أولى بخلاف ما في هذه السورة فإنه ثلاثة حروف تشبه كلمة فكانت أولى بالانفصال.

(كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣))

موقع الإشارة في قوله : (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ) كموقع قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) في سورة البقرة [١٤٣]. والمعنى : مثل هذا الوحي يوحي الله إليك ، فالمشار إليه : الإيحاء المأخوذ من فعل (يُوحِي).

وأما (وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) فإدماج. والتشبيه بالنسبة إليه على أصله ، أي مثل وحيه إليك وحيه إلى الذين من قبلك ، فالتشبيه مستعمل في كلتا طريقتيه كما يستعمل المشترك في معنييه. والغرض من التشبيه إثبات التسوية ، أي ليس وحي الله إليك إلا على سنة وحيه إلى الرّسل من قبلك ، فليس وحيه إلى الرّسل من قبلك بأوضح من وحيه إليك.

٩٨

وهذا كقوله تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ) والنبيئين من بعده [النساء : ١٦٣] ، أي ما جاء به من الوحي إن هو إلا مثل ما جاءت به الرّسل السابقون ، فما إعراض قومه عنه إلا كإعراض الأمم السالفة عما جاءت به رسلهم. فحصل هذا المعنى الثاني بغاية الإيجاز مع حسن موقع الاستطراد.

وإجراء وصفي (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) على اسم الجلالة دون غيرهما لأن لهاتين الصفتين مزيد اختصاص بالغرض المقصود من أن الله يصطفي من يشاء لرسالته. ف (الْعَزِيزُ) المتصرف بما يريد لا يصده أحد. و (الْحَكِيمُ) يحمّل كلامه معاني لا يبلغ إلى مثلها غيره ، وهذا من متممات الغرض الذي افتتحت به السورة وهو الإشارة إلى تحدّي المعاندين بأن يأتوا بسورة مثل سور القرآن.

وجملة (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ) إلى آخرها ابتدائية ، وتقديم المجرور من قوله (كَذلِكَ) على (يُوحِي إِلَيْكَ) للاهتمام بالمشار إليه والتشويق بتنبيه الأذهان إليه ، وإذ لم يتقدم في الكلام ما يحتمل أن يكون مشارا إليه ب (كَذلِكَ) علم أن المشار إليه مقدر معلوم من الفعل الذي بعد اسم الإشارة وهو المصدر المأخوذ من الفعل ، أي كذلك الإيحاء يوحي إليك الله. وهذا استعمال متّبع في نظائر هذا التركيب كما تقدم في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) في سورة البقرة [١٤٣]. وأحسب أنّه من مبتكرات القرآن إذ لم أقف على مثله في كلام العرب قبل القرآن. وما ذكره الخفاجي في سورة البقرة من تنظيره بقول زهير :

كذلك خيمهم ولكلّ قوم

إذا مسّتهم الضّراء خيم

لا يصحّ لأن بيت زهير مسبوق بما يصلح أن يكون مشارا إليه ، وقد فاتني التنبيه على ذلك فيما تقدم من الآيات فعليك بضم ما هنا إلى ما هنالك.

والجار والمجرور صفة لمفعول مطلق محذوف دلّ عليه (يُوحِي) أي إيحاء كذلك الإيحاء العجيب. والعدول عن صيغة الماضي إلى صيغة المضارع في قوله : (يُوحِي) للدلالة على أن إيحاءه إليه متجدد لا ينقطع في مدة حياته الشريفة لييأس المشركون من إقلاعه بخلاف قوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢] وقوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [الشورى : ٧] إذ لا غرض في إفادة معنى التجدد هناك. وأمّا مراعاة التجدّد هنا فلأنّ المقصود من الآية هو ما أوحي به إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القرآن ، وأنّ قوله : (إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) إدماج.

٩٩

ولك أن تعتبر صيغة المضارع منظورا فيها إلى متعلّقي الإيحاء وهو (إِلَيْكَ) و (إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) ، فتجعل المضارع لاستحضار الصورة من الإيحاء إلى الرّسل حيث استبعد المشركون وقوعه فجعل كأنّه مشاهد على طريقة قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) [فاطر : ٩] وقوله : (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) [هود : ٣٨].

وقرأ الجمهور (يُوحِي) بصيغة المضارع المبني للفاعل واسم الجلالة فاعل. وقرأه ابن كثير (يُوحِي) بالبناء للمفعول على أن (إِلَيْكَ) نائب فاعل ، فيكون اسم الجلالة مرفوعا على الابتداء بجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأنّه لما قال : يوحى إليك ، قيل : ومن يوحيه ، فقيل : الله العزيز الحكيم ، أي يوحيه الله على طريقة قول ضرار بن نهشل (١) أو الحارث بن نهيك (٢) :

ليبك يزيد ضارع لخصومة

ومختبط ممّا تطيح الطوائح

إذ كانت رواية البيت بالبناء للنائب.

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤))

جملة (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) مقررة لوصفه (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الشورى : ٣] لأن من كان ما في السماوات وما في الأرض ملكا له تتحقق له العزّة لقوة ملكوته ، وتتحقق له الحكمة لأن الحكمة تقتضي خلق ما في السماوات والأرض وإتقان ذلك النظام الذي تسير به المخلوقات. ولكون هذه الجملة مقررة معنى التي قبلها كانت بمنزلة التأكيد فلم تعطف عليها.

وجملة (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) عطف عليها مقررة لما قررته الجملة قبلها فإن من اتصف بالعلاء والعظمة لو لم يكن عزيزا لتخلف علاؤه وعظمته ، ولا يكون إلا حكيما لأن علاءه يقتضي سموّه عن سفاسف الصفات والأفعال ، ولو لم يكن عظيما لتعلقت إرادته بسفاسف الأمور ولتنازل إلى عبث الفعال.

والعلو هنا علو مجازي ، وهو السموّ في الكمال بحيث كان أكمل من كل موجود كامل. والعظمة مجازية وهي جلالة الصفات والأفعال. وأفادت صيغة الجملة معنى

__________________

(١) كذا نسب في كتب علم المعاني.

(٢) كذا عزاه سيبويه في كتابه.

١٠٠