تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

والمعنى : أن فيما سمعتهم هداية لمن أراد الله له أن يهتدي ، وأما من قدّر الله عليه بالضلال فما له من وليّ غير الله يهديه أو ينقذه ، فالمراد نفي الولي الذي يصلحه ويرشده ، كقوله : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) [الكهف : ١٧] ، فالمراد هنا ابتداء معنى خاص من الولاية.

وإضلال الله المرء : خلقه غير سريع للاهتداء أو غير قابل له وحرمانه من تداركه إياه بالتوفيق كلما توغل في الضلالة ، فضلاله من خلق الله وتقدير الله له ، والله دعا الناس إلى الهداية بواسطة رسله وشرائعه قال تعالى : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [يونس : ٢٥] أي يدعو كل عاقل ويهدي بعض من دعاهم.

و (مَنْ) شرطية ، والفاء في (فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍ) رابطة للجواب. ونفي الولي كناية عن نفي أسباب النجاة عن الضلالة وعواقب العقوبة عليها لأن الولي من خصائصه نفع مولاه بالإرشاد والانتشال ، فنفي الولي يدلّ بالالتزام على احتياج إلى نفعه مولاه وذلك يستلزم أن مولاه في عناء وعذاب كما دل عليه قوله عقبه (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) الآية. فهذه كناية تلويحية ، وقد جاء صريح هذا المعنى في قوله : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) في سورة الزمر [٢٣] وقوله : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) الآتي في هذه السورة [٤٦].

وضمير (بَعْدِهِ) راجع إلى اسم الجلالة ، أي من بعد الله كقوله تعالى : (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) في سورة الجاثية [٢٣].

ومعنى بعد هنا بمعنى (دون) أو (غير) ، استعير لفظ بعد لمعنى (دون) لأن بعد موضوع لمن يخلف غائبا في مكانه أو في عمله ، فشبه ترك الله الضالّ في ضلاله بغيبة الولي الذي يترك مولاه دون وصي ولا وكيل لمولاه وتقدم في قوله تعالى : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) في سورة الأعراف [١٨٥] وقوله : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) في سورة يونس [٣٢].

و (مَنْ) زائدة للتوكيد. ومن مواضع زيادتها أن تزاد قبل الظروف غير المتصرفة قال الحريري «وما منصوب على الظرف لا يخفضه سوى حرف».

(وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) (٤٤).

عطف على جملة (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) ، وهذا تفصيل وبيان لما أجمل في الآيتين المعطوف عليهما وهما قوله : (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما

١٨١

لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) [الشورى : ٣٥] ، وقوله : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ).

والمعنى : أنهم لا يجدون محيصا ولا وليا ، فلا يجدون إلا الندامة على ما فات فيقولوا (هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ).

والاستفهام بحرف (هَلْ) إنكاري في معنى النفي ، فلذلك أدخلت (مَنْ) الزائدة على (سَبِيلٍ) لأنه نكرة في سياق النفي.

والمرد : مصدر ميمي للردّ ، والمراد بالرد : الرجوع ، يقال : رده ، إذا أرجعه. ويجوز أن يكون (مَرَدٍّ) بمعنى الدفع ، أي هل إلى ردّ العذاب عنا الذي يبدو لنا سبيل حتى لا نقع فيه ، فهو في معنى (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) في سورة الطور [٨].

والخطاب في (تَرَى) لغير معيّن ، أي تناهت حالهم في الظهور فلا يختص به مخاطب ، أو الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسلية له على ما لاقاه منهم من التكذيب. والمقصود : الإخبار بحالهم أولا ، والتعجيب منه ثانيا ، فلم يقل : والظالمون لما رأوا العذاب يقولون ، وإنما قيل : (وَتَرَى الظَّالِمِينَ) للاعتبار بحالهم.

ومجيء فعل (رَأَوُا الْعَذابَ) بصيغة الماضي للتنبيه على تحقيق وقوعه ، فالمضي مستعار للاستقبال تشبيها للمستقبل بالماضي في التحقق ، والقرينة فعل (تَرَى) الذي هو مستقبل إذ ليست الرؤية المذكورة بحاصلة في الحال فكأنه قيل : لما يرون العذاب.

وجملة (يَقُولُونَ) حال من (الظَّالِمِينَ) أي تراهم قائلين ، فالرؤية مقيدة بكونها في حال قولهم ذلك ، أي في حال سماع الرائي قولهم.

(وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥))

(وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ).

أعيد فعل (ترى) للاهتمام بهذه الرؤية وتهويلها كما أعيد فعل (تلاقوا) في قول ودّاك بن ثميل المازني :

رويدا بني شيبان بعض وعيدكم

تلاقوا غدا خيلي على سفوان

١٨٢

تلاقوا جيادا لا تحيد عن الوغى

إذا ظهرت في المأزق المتداني

والعرض : أصله إظهار الشيء وإراءته للغير ، ولذلك كان قول العرب : عرضت البعير على الحوض معدودا عند علماء اللغة وعلماء المعاني من قبيل القلب في التركيب ، ثم تتفرع عليه إطلاقات عديدة متقاربة دقيقة تحتاج إلى تدقيق.

ومن إطلاقاته قولهم : عرض الجند على الأمير ، وعرض الأسرى على الأمير ، وهو إمرارهم ليرى رأيه في حالهم ومعاملتهم ، وهو إطلاقه هنا على طريق الاستعارة ، استعير لفظ (يُعْرَضُونَ) لمعنى : يمرّ بهم مرّا عاقبته التمكن منهم والحكم فيهم فكأنّ جهنم إذا عرضوا عليها تحكم بما أعدّ الله لهم من حريقها ، ويفسره قوله في سورة الأحقاف [٢٠] (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) الآية.

وقد تقدم إطلاق له آخر عند قوله تعالى : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) في سورة البقرة [٣١].

وبني فعل (يُعْرَضُونَ) للمجهول لأن المقصود حصول الفعل لا تعيين فاعله. والذين يعرضون الكافرين على النار هم الملائكة كما دلت عليه آيات أخرى.

وضمير (عَلَيْها) عائد إلى العذاب بتأويل أنه النار أو جهنم أو عائد إلى جهنم المعلومة من المقام.

وانتصب (خاشِعِينَ) على الحال من ضمير الغيبة في (تَراهُمْ) لأنها رؤية بصرية.

والخشوع : التطامن وأثر انكسار النفس من استسلام واستكانة فيكون للمخافة ، وللمهابة ، وللطاعة ، وللعجز عن المقاومة.

والخشوع مثل الخضوع إلّا أن الخضوع لا يسند إلّا إلى البدن فيقال : خضع فلان ، ولا يقال : خضع بصره إلا على وجه الاستعارة ، كما في قوله تعالى : (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) [الأحزاب : ٣٢] ، وأما الخشوع فيسند إلى البدن كقوله تعالى : (خاشِعِينَ لِلَّهِ) في آخر سورة آل عمران [١٩٩]. ويسند إلى بعض أعضاء البدن كقوله تعالى : (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) في سورة القمر [٧] ، وقوله : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) في سورة طه [١٠٨].

والمراد بالخشوع في هذه الآية ما يبدو عليهم من أثر المذلة والمخافة. فقوله : (مِنَ الذُّلِ) متعلق ب (خاشِعِينَ) وتعلقه به يغني عن تعليقه ب (يَنْظُرُونَ) ويفيد ما لا يفيده تعليقه به.

١٨٣

و (مِنَ) للتعليل ، أي خاشعين خشوعا ناشئا عن الذل ، أي ليس خشوعهم لتعظيم الله والاعتراف له بالعبودية لأن ذلك الاعتقاد لم يكن من شأنهم في الدنيا.

وجملة (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) في موضع الحال من ضمير (خاشِعِينَ) لأن النظر من طرف خفيّ حالة للخاشع الذليل ، والمقصود من ذكرها تصوير حالتهم الفظيعة. وفي قريب من هذا المعنى قول النابغة يصف سبايا :

ينظرن شزرا إلى من جاء عن عرض

بأوجه منكرات الرقّ أحرار

وقول جرير :

فغضّ الطرف إنك من نمير

فلا كعبا بلغت ولا كلابا

والطرف : أصله مصدر ، وهو تحريك جفن العين ، يقال : طرف من باب ضرب ، أي حرّك جفنه ، وقد يطلق على العين من تسمية الشيء بفعله ، ولذلك لا يثنّى ولا يجمع قال تعالى : (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) [إبراهيم : ٤٣]. ووصفه في هذه الآية ب (خَفِيٍ) يقتضي أنه أريد به حركة العين ، أي ينظرون نظرا خفيّا ، أي لا حدّة له فهو كمسارقة النظر ، وذلك من هول ما يرونه من العذاب ، فهم يحجمون عن مشاهدته للروع الذي يصيبهم منها ، ويبعثهم ما في الإنسان من حب الاطلاع على أن يتطلعوا لما يساقون إليه كحال الهارب الخائف ممن يتبعه ، فتراه يمعن في الجري ويلتفت وراءه الفينة بعد الفينة لينظر هل اقترب منه الذي يجري وراءه وهو في تلك الالتفاتة أفات خطوات من جريه لكن حب الاطلاع يغالبه.

و (مِنَ) في قوله : (مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) للابتداء المجازي. والمعنى : ينظرون نظرا منبعثا من حركة الجفن الخفيّة. وحذف مفعول (يَنْظُرُونَ) للتعميم أي ينظرون العذاب ، وينظرون أهوال الحشر وينظرون نعيم المؤمنين من طرف خفيّ.

(وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ).

يترجح أن الواو للحال لا للعطف ، والجملة حال من ضمير الغيبة في (تَراهُمْ) ، أي تراهم في حال الفظاعة الملتبسين بها ، وتراهم في حال سماع الكلام الذامّ لهم الصادر من المؤمنين إليهم في ذلك المشهد. وحذفت (قد) مع الفعل الماضي لظهور قرينة الحال.

وهذا قول المؤمنين يوم القيامة إذ كانوا يومئذ مطمئنين من الأهوال شاكرين ما سبق

١٨٤

من إيمانهم في الدنيا عارفين بربح تجارتهم ومقابلين بالضد حالة الذين كانوا يسخرون بهم في الدنيا إذ كانوا سببا في خسارتهم يوم القيامة.

والظاهر : أن المؤمنين يقولون هذا بمسمع من الظالمين فيزيد الظالمين تلهيبا لندامتهم ومهانتهم وخزيهم. فهذا الخبر مستعمل في إظهار المسرّة والبهجة بالسلامة مما لحق الظالمين ، أي قالوه تحدثا بالنعمة واغتباطا بالسلامة يقوله كل أحد منهم أو يقوله بعضهم لبعض. وإنما جيء بحرف (إِنَ) مع أن القائل لا يشك في ذلك والسامع لا يشك فيه للاهتمام بهذا الكلام إذ قد تبيّنت سعادتهم في الآخرة وتوفيقهم في الدنيا بمشاهدة ضد ذلك في معانديهم.

والتعريف في (الْخاسِرِينَ) تعريف الجنس ، أي لا غيرهم. والمعنى : أنهم الأكملون في الخسران وتسمّى (أل) هذه دالة على معنى الكمال وهو مستفاد من تعريف الجزءين المفيد للقصر الادعائي حيث نزل خسران غيرهم منزلة عدم الخسران. فالمعنى : لا خسران يشبه خسرانهم ، فليس في قوله : (إِنَّ الْخاسِرِينَ) إظهار في مقام الإضمار كما توهم ، وقد تقدم نظيره في قوله : (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) في سورة الزمر [١٥].

والخسران : تلف مال التاجر ، واستعير هنا لانتفاء الانتفاع بما كان صاحبه يعده للنفع ، فإنهم كانوا يأملون نعيم أنفسهم والأنس بأهليهم حيثما اجتمعوا ، فكشف لهم في هذا الجمع عن انتفاء الأمرين ، أو لأنهم كانوا يحسبون أن لا يحيوا بعد الموت فحسبوا أنهم لا يلقون بعده ألما ولا توحشهم فرقة أهليهم فكشف لهم ما خيّب ظنهم فكانوا كالتاجر الذي أمّل الربح فأصابه الخسران. وقوله : (يَوْمَ الْقِيامَةِ) يتعلق بفعل (خَسِرُوا) لا بفعل (قالَ).

وجملة (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) تذييل للجمل التي قبلها من قوله : (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) [الشورى : ٤٤] الآيات. لأن حالة كونهم في عذاب مقيم أعم من حالة تلهفهم على أن يردّوا إلى الدنيا ، وذلهم وسماعهم الذم.

وإعادة لفظ (الظَّالِمِينَ) إظهار في مقام الإضمار اقتضاه أن شأن التذييل أن يكون مستقل الدلالة على معناه لأنه كالمثل. وليست هذه الجملة من قول المؤمنين إذ لا قبل للمؤمنين بأن يحكموا هذا الحكم ، على أن أسلوب افتتاحه يقتضي أنه كلام من بيده

١٨٥

الحكم يوم القيامة وهو ملك يوم الدين ، فهو كلام من جانب الله ، أي وهم مع الندم وذلك الذل والخزي بسماع ما يكرهون في عذاب مستمر. وافتتحت الجملة بحرف التنبيه لكثرة ذلك في التذييلات لأهميتها.

والمقيم : الذي لا يرتحل. ووصف به العذاب على وجه الاستعارة ، شبه المستمر الدائم بالذي اتخذ دار إقامة لا يبرحها.

(وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦))

(وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ).

عطف على جملة (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) [الشورى : ٤٥] أي هم في عذاب دائم لا يجدون منه نصيرا. وهو رد لمزاعمهم أن آلهتهم تنفعهم عند الله.

وجملة (يَنْصُرُونَهُمْ) صفة ل (أَوْلِياءَ) للدلالة على أن المراد هنا ولاية خاصة ، وهي ولاية النصر ، كما كان قوله سابقا (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) [الشورى: ٤٤] مرادا به ولاية الإرشاد.

و (مِنْ) زائدة في النفي لتأكيد نفي الولي لهم. وقوله : (مِنْ دُونِ اللهِ) صفة ثانية ل (أَوْلِياءَ) وهي صفة كاشفة. و (مِنْ) زائدة لتأكيد تعلق ظرف (دُونِ) بالفعل.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ).

تذييل لجملة (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ) ، وتقدم آنفا الكلام على نظيره وهو (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ).

و (سَبِيلٍ) نكرة في سياق النفي فيعم كل سبيل مخلص من الضلال ومن آثاره والمقصود هنا ابتداء هو سبيل الفرار من العذاب المقيم كما يقتضيه السياق. وبذلك لم يكن ما هنا تأكيدا لما تقدم من قوله : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ).

(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧))

بعد أن قطع خطابهم عقب قوله : (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الشورى :

١٨٦

٣٦] بما تخلّص به إلى الثناء على فرق المؤمنين ، وما استتبع ذلك من التسجيل على المشركين بالضلالة والعذاب ، ووصف حالهم الفظيع ، عاد الكلام إلى خطابهم بالدعوة الجامعة لما تقدم طلبا لتدارك أمرهم قبل الفوات ، فاستؤنف الكلام استئنافا فيه معنى النتيجة للمواعظ المتقدمة لأن ما تقدم من الزواجر يهيّئ بعض النفوس لقبول دعوة الإسلام.

والاستجابة : إجابة الداعي ، والسين والتاء للتوكيد. وأطلقت الاستجابة على امتثال ما يطالبهم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تبليغا عن الله تعالى على طريقة المجاز لأن استجابة النداء تستلزم الامتثال للمنادي فقد كثر إطلاقها على إجابة المستنجد. والمعنى : أطيعوا ربكم وامتثلوا أمره من قبل أن يأتي يوم العذاب وهو يوم القيامة لأن الحديث جار عليه.

واللام في (لِرَبِّكُمْ) لتأكيد تعدية الفعل إلى المفعول مثل : حمدت له وشكرت له.

وتسمى لام التبليغ ولام التبيين. وأصله استجابه ، قال كعب الغنوي :

وداع دعا يا من يجيب إلى النّدا

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

ولعل أصله استجاب دعاءه له ، أي لأجله له كما في قوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١] فاختصر لكثرة الاستعمال فقالوا : استجاب له وشكر له ، وتقدم في قوله : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) في سورة البقرة [١٨٦].

والمردّ : مصدر بمعنى الرد ، وتقدم آنفا في قوله : (هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) [الشورى : ٤٤]. (فَلا مَرَدَّ لَهُ) صفة (يَوْمٌ). والمعنى : لا مرد لإثباته بل هو واقع ، و (لَهُ) خبر (لا) النافية ، أي لا مرد كائنا له ، ولام (لَهُ) للاختصاص.

و (مِنْ) : في قوله : (مِنَ اللهِ) ابتدائية وهو ابتداء مجازي ، ومعناه : حكم الله به فكأنّ اليوم جاء من لدنه.

ويجوز تعليق المجرور بفعل (يَأْتِيَ). ويجوز أن يتعلق بالكون الذي في خبر (لا). والتقدير على هذا : لا مرد كائنا من الله له وليس متعلقا ب (مَرَدَّ) على أنه متمم معناه ، إذ لو كان كذلك كان اسم (لا) شبيها بالمضاف فكان منوّنا ولم يكن مبنيا على الفتح ، وما وقع في «الكشاف» مما يوهم هذا مؤوّل بما سمعت ، ولذلك سمّاه صلة ، ولم يسمه متعلقا.

وجملة (ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ) مستأنفة. والملجأ : مكان اللجأ ، واللجأ : المصير

١٨٧

والانحياز إلى الشيء ، فالملجأ : المكان الذي يصير إليه المرء للتوقّي فيه ، ويطلق مجازا على الناصر ، وهو المراد هنا ، أي ما لكم من شيء يقيكم من العذاب.

والنكير : اسم مصدر أنكر ، أي ما لكم إنكار لما جوزيتم به ، أي لا يسعكم إلّا الاعتراف دون تنصل.

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨))

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ).

الفاء للتفريع على قوله : (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) [الشورى : ٤٧] الآية ، وهو جامع لما تقدم كما علمت إذ أمر الله نبيئه بدعوتهم للإيمان من قوله في أول السورة (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) [الشورى : ٧] ثم قوله : (فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ) [الشورى : ١٥]. وما تخلل ذلك واعترضه من تضاعيف الأمر الصريح والضمني إلى قوله : (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) [الشورى : ٤٧] الآية ، ثم فرّع على ذلك كله إعلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمقامه وعمله إن أعرض معرضون من الذين يدعوهم وبمعذرته فيما قام به وأنه غير مقصر ، وهو تعريض بتسليته على ما لاقاه منهم ، والمعنى : فإن أعرضوا بعد هذا كله فما أرسلناك حفيظا عليهم ومتكفلا بهم إذ ما عليك إلا البلاغ.

وإذ قد كان ما سبق من الأمر بالتبليغ والدعوة مصدّرا بقوله أوائل السورة (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) [الشورى : ٦] ، لا جرم ناسب أن يفرع على تلك الأوامر بعد تمامها مثل ما قدم لها فقال : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ). وهذا الارتباط هو نكتة الالتفات من الخطاب الذي في قوله : (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) [الشورى : ٤٧] الآية ، إلى الغيبة في قوله هنا (فَإِنْ أَعْرَضُوا) وإلا لقيل : فإن أعرضتم.

والحفيظ تقدم في صدر السورة وقوله : (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) ليس هو جواب الشرط في المعنى ولكنه دليل عليه ، وقائم مقامه ، إذ المعنى : فإن أعرضوا فلست مقصرا في دعوتهم ، ولا عليك تبعة صدّهم إذ ما أرسلناك حفيظا عليهم ، بقرينة قوله : (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ). وجملة (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) بيان لجملة (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ

١٨٨

حَفِيظاً) باعتبار أنها دالّة على جواب الشرط المقدّر.

و (إِنْ) الثانية نافية. والجمع بينها وبين (إِنْ) الشرطية في هذه الجملة جناس تام.

و (الْبَلاغُ) : التبليغ ، وهو اسم مصدر ، وقد فهم من الكلام أنه قد أدى ما عليه من البلاغ لأن قوله (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) دلّ على نفي التبعة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من إعراضهم ، وأن الإعراض هو الإعراض عن دعوته ، فاستفيد أنه قد بلّغ الدعوة ولو لا ذلك ما أثبت لهم الإعراض.

(وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ).

تتصل هذه الجملة بقوله : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ). لما تضمنته هذه من التعريض بتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما لاقاه من قومه كما علمت ، ويؤذن بهذا الاتصال أن هاتين الجملتين جعلتا آية واحدة هي ثامنة وأربعون في هذه السورة ، فالمعنى : لا يحزنك إعراضهم عن دعوتك فقد أعرضوا عن نعمتي وعن إنذاري بزيادة الكفر ، فالجملة معطوفة على جملة (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) وابتداء الكلام بضمير الجلالة المنفصل مسندا إليه فعل دون أن يقال : وإذا أذقنا الإنسان إلخ ، مع أن المقصود وصف هذا الإنسان بالبطر بالنعمة وبالكفر عند الشدة ، لأن المقصود من موقع هذه الجملة هنا تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن جفاء قومه وإعراضهم ، فالمعنى : أن معاملتهم ربهم هذه المعاملة تسلّيك عن معاملتهم إياك على نحو قوله تعالى : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ) [النساء : ١٥٣] ، ولهذا لا تجد نظائر هذه الجملة في معناها مفتتحا بمثل هذا الضمير لأن موقع تلك النظائر لا تماثل موقع هذه وإن كان معناهما متماثلا ، فهذه الخصوصية خاصة بهذه الجملة. ولكن نظم هذه الآية جاء صالحا لإفادة هذا المعنى ولإفادة معنى آخر مقارب له وهو أن يكون هذا حكاية خلق للناس كلهم مرتكز في الجبلة لكن مظاهره متفاوتة بتفاوت أفراده في التخلق بالآداب الدينية ، فيحمل (الْإِنْسانَ) في الموضعين على جنس بني آدم ويحمل الفرح على مطلقه المقول عليه بالتشكيك حتى يبلغ مبلغ البطر ، وتحمل السيئة التي قدمتها أيديهم على مراتب السيئات إلى أن تبلغ مبلغ الإشراك ، ويحمل وصف (كَفُورٌ) على ما يشمل اشتقاقه من الكفر بتوحيد الله ، والكفر بنعمة الله.

ولهذا اختلفت محامل المفسرين للآية. فمنهم من حملها على خصوص الإنسان

١٨٩

الكافر بالله مثل الزمخشري والقرطبي والطيبي ، ومنهم من حملها على ما يعم أصناف الناس مثل الطبري والبغوي والنسفي وابن كثير. ومنهم من حملها على إرادة المعنيين على أن أولهما هو المقصود والثاني مندرج بالتبع وهذه طريقة البيضاوي وصاحب الكشف ومنهم من عكس وهي طريقة الكواشي في تلخيصه. وعلى الوجهين فالمراد ب (الْإِنْسانَ) في الموضع الأول والموضع الثاني معنى واحد وهو تعريف الجنس المراد به الاستغراق ، أي إذا أذقنا الناس ، وأن الناس كفورون ، ويكون استغراقا عرفيا أريد به أكثر جنس الإنسان في ذلك الزمان والمكان لأن أكثر نوع الإنسان يومئذ مشركون ، وهذا هو المناسب لقوله : (فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) أي شديد الكفر قويه ، ولقوله : (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي من الكفر. وإنما عدل عن التعبير بالناس إلى التعبير بالإنسان للإيماء إلى أن هذا الخلق المخبر به عنهم هو من أخلاق النوع لا يزيله إلا التخلق بأخلاق الإسلام فالذين لم يسلموا باقون عليه ، وذلك أدخل في التسلية لأن اسم الإنسان اسم جنس يتضمن أوصاف الجنس المسمى به على تفاوت في ذلك وذلك لغلبة الهوى. وقد تكرر ذلك في القرآن مرارا كقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) [المعارج : ١٩] وقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) [العاديات : ٦] وقوله : (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) [الكهف : ٥٤]. وتأكيد الخبر بحرف التأكيد لمناسبة التسلية بأن نزّل السامع الذي لا يشك في وقوع هذا الخبر منزلة المتردد في ذلك لاستعظامه إعراضهم عن دعوة الخير فشبّه بالمتردد على طريقة المكنية ، وحرف التأكيد من روادف المشبه به المحذوف.

والإذاقة : مجاز في الإصابة.

والمراد بالرحمة : أثر الرحمة ، وهو النعمة. فالتقدير : وإنا إذا رحمنا الإنسان فأصبناه بنعمة ، بقرينة مقابلة الرحمة بالسيئة كما قوبلت بالضراء في قوله : (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) في سورة فصّلت [٥٠].

والمراد بالفرح : ما يشمل الفرح المجاوز حد المسرة إلى حد البطر والتجبر ، على نحو ما استعمل في آيات كثيرة مثل قوله تعالى : (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) [القصص : ٧٦] لا الفرح الذي في مثل قوله تعالى : (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [آل عمران : ١٧٠].

وتوحيد الضمير في (فَرِحَ) لمراعاة لفظ الإنسان وإن كان معناه جمعا ، كقوله : (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) [الحجرات : ٩] أي الطائفة التي تبغي ، فاعتدّ بلفظ طائفة دون معناه مع

١٩٠

أنه قال قبله (اقْتَتَلُوا) [الحجرات : ٩]. ولذلك جاء بعده (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بضميري الجماعة ثم عاد فقال (فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ).

واجتلاب (إِذا) في هذا الشرط لأن شأن (إِذا) أن تدل على تحقق كثرة وقوع شرطها ، وشأن (إِنْ) أن تدل على ندرة وقوعه ، ولذلك اجتلب (إِنْ) في قوله : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) لأن إصابتهم بالسيئة نادرة بالنسبة لإصابتهم بالنعمة على حد قوله تعالى : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) [الأعراف : ١٣١].

ومعنى قوله : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) تقدم بسطه عند قوله آنفا (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠].

والحكم الذي تضمنته جملة (فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) هو المقصود من جملة الشرط كلها ، ولذلك أعيد حرف التأكيد فيها بعد أن صدّرت به الجملة المشتملة على الشرط ليحيط التأكيد بكلتا الجملتين ، وقد أفاد ذلك أن من عوارض صفة الإنسانية عروض الكفر بالله لها ، لأن في طبع الإنسان تطلب مسالك النفع وسدّ منافذ الضر مما ينجرّ إليه من أحوال لا تدخل بعض أسبابها في مقدوره ، ومن طبعه النظر في الوسائل الواقية له بدلائل العقل الصحيح ، ولكن من طبعه تحريك خياله في تصوير قوى تخوله تلك الأسباب فإذا أملى عليه خياله وجود قوى متصرفة في النواميس الخارجة عن مقدوره خالها ضالّته المنشودة ، فركن إليها وآمن بها وغاب عنه دليل الحق ، إمّا لقصور تفكيره عن دركه وانعدام المرشد إليه ، أو لغلبة هواه الذي يملي عليه عصيان المرشدين من الأنبياء والرسل والحكماء الصالحين إذ لا يتبعهم إلا القليل من الناس ولا يهتدي بالعقل من تلقاء نفسه إلا الأقل مثل الحكماء ، فغلب على نوع الإنسان الكفر بالله على الإيمان به كما بيناه آنفا في قوله : (وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها). ولذلك عقب هذا الحكم على النوع بقوله : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) [الشورى : ٤٩]. ولم يخرج عن هذا العموم إلا الصالحون من نوع الإنسان على تفاوت بينهم في كمال الخلق وقد استفيد خروجهم من آيات كثيرة كقوله : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [التين : ٤ ـ ٦].

وقد شمل وصف (كَفُورٌ) ما يشمل كفران النعمة وهما متلازمان في الأكثر.

١٩١

[٤٩ ، ٥٠] (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠))

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ).

استئناف بياني لأن ما سبقه من عجيب خلق الإنسان الذي لم يهذّبه الهدي الإلهي يثير في نفس السامع سؤالا عن فطر الإنسان على هاذين الخلقين اللذين يتلقى بهما نعمة ربه وبلاءه وكيف لم يفطر على الخلق الأكمل ليتلقى النعمة بالشكر ، والضرّ بالصبر والضراعة ، وسؤالا أيضا عن سبب إذاقة الإنسان النعمة مرة والبؤس مرّة فيبطر ويكفر وكيف لم يجعل حاله كفافا لا لذّات له ولا بلايا كحال العجماوات فكان جوابه : أن الله المتصرف في السماوات والأرض يخلق فيهما ما يشاء من الذوات وأحوالها. وهو جواب إجمالي إقناعي يناسب حضرة الترفع عن الدخول في المجادلة عن الشئون الإلهية.

وفي قوله : (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) من الإجمال ما يبعث المتأمل المنصف على تطلب الحكمة في ذلك فإن تطلّبها انقادت له كما أومأ إلى ذلك تذييل هذه الجملة بقوله : (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) ، فكأنه يقول : عليكم بالنظر في الحكمة في مراتب الكائنات وتصرف مبدعها ، فكما خلق الملائكة على أكمل الأخلاق في جميع الأحوال ، وفطر الدواب على حد لا يقبل كمال الخلق ، كذلك خلق الإنسان على أساس الخير والشر وجعله قابلا للزيادة منهما على اختلاف مراتب عقول أفراده وما يحيط بها من الاقتداء والتقليد ، وخلقه كامل التمييز بين النعمة وضدها ليرتفع درجات وينحط دركات مما يختاره لنفسه ، ولا يلائم فطر الإنسان على فطرة الملائكة حالة عالمه الماديّ إذ لا تأهل لهذا العالم لأن يكون سكانه كالملائكة لعدم الملاءمة بين عالم المادة وعالم الروح. ولذلك لما تم خلق الفرد الأول من الإنسان وآن أوان تصرفه مع قرينته بحسب ما بزغ فيهما من القوى ، لم يلبث أن نقل من عالم الملائكة إلى عالم المادة كما أشار إليه قوله تعالى : (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً) [طه : ١٢٣].

ولكن الله لم يسدّ على النوع منافذ الكمال فخلقه خلقا وسطا بين الملكيّة والبهيمية إذ ركبه من المادة وأودع فيه الروح ولم يخلّه عن الإرشاد بواسطة وسطاء وتعاقبهم في العصور وتناقل إرشادهم بين الأجيال ، فإن اتبع إرشادهم التحق بأخلاق الملائكة حتى يبلغ

١٩٢

المقامات التي أقامته في مقام الموازنة بين بعض أفراده وبين الملائكة في التفاضل. وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى : (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) [طه : ١٢٣ ، ١٢٤] ، وقوله : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) [البقرة : ٣٤].

(يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً).

بدل من جملة (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) بدل اشتمال لأن خلقه ما يشاء يشتمل على هبته لمن يشاء ما يشاء. وهذا الإبدال إدماج مثل جامع لصور إصابة المحبوب وإصابة المكروه فإن قوله (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) هو من المكروه عند غالب البشر ويتضمن ضربا من ضروب الكفران وهو اعتقاد بعض النعمة سيئة في عادة المشركين من تطيرهم بولادة البنات لهم ، وقد أشير إلى التعريض بهم في ذلك بتقديم الإناث على الذكور في ابتداء تعداد النعم الموهوبة على عكس العادة في تقديم الذكور على الإناث حيثما ذكرا في القرآن في نحو (إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) [الحجرات : ١٣] وقوله : (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [القيامة : ٣٩] فهذا من دقائق هذه الآية.

والمراد : يهب لمن يشاء إناثا فقط ويهب لمن يشاء الذكور فقط بقرينة قوله : (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً). وتنكير (إِناثاً) لأن التنكير هو الأصل في أسماء الأجناس وتعريف (الذُّكُورَ) باللام لأنهم الصنف المعهود للمخاطبين ، فاللام لتعريف الجنس وإنما يصار إلى تعريف الجنس لمقصد ، أي يهب ذلك الصنف الذي تعهدونه وتتحدثون به وترغبون فيه على حدّ قول العرب : أرسلها العراك ، وتقدم في أول الفاتحة. و (أَوْ) للتقسيم.

والتزويج قرن الشيء بشيء آخر فيصيران زوجا. ومن مجازه إطلاقه على إنكاح الرجل امرأة لأنهما يصيران كالزوج ، والمراد هنا : جعلهم زوجا في الهبة ، أي يجمع لمن يشاء فيهب له ذكرانا مشفّعين بإناث فالمراد التزويج بصنف آخر لا مقابلة كل فرد من الصنف بفرد من الصنف الآخر.

والضمير في (يُزَوِّجُهُمْ) عائد إلى كلا من الإناث والذكور. وانتصب (ذُكْراناً وَإِناثاً) على الحال من ضمير الجمع في (يُزَوِّجُهُمْ).

١٩٣

والعقيم : الذي لا يولد له من رجل أو امرأة ، وفعله عقم من باب فرح وعقم من باب كرم. وأصل فعله أن يتعدّى إلى المفعول يقال عقمها الله من باب ضرب ، ويقال عقمت المرأة بالبناء للمجهول ، أي عقمها عاقم لأن سبب العقم مجهول عندهم. فهو مما جاء متعديا وقاصرا ، فالقاصر بضم القاف وكسرها والمتعدي بفتحها ، والعقيم : فعيل بمعنى مفعول ، فلذلك استوى فيه المذكر والمؤنث غالبا ، وربما ظهرت التاء نادرا قالوا : رحم عقيمة.

(إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ).

جملة في موضع العلة للمبدل منه وهو (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) فموقع (إنّ) هنا موقع فاء التفريع. والمعنى : أن خلقه ما يشاء ليس خلقا مهملا عريا عن الحكمة لأنه واسع العلم لا يفوته شيء من المعلومات فخلقه الأشياء يجري على وفق علمه وحكمته. وهو (قَدِيرٌ) نافذ القدرة ، فإذا علم الحكمة في خلق شيء أراده ، فجرى على قدره. ولمّا جمع بين وصفي العلم والقدرة تعين أن هنالك صفة مطوية وهي الإرادة لأنه إنما تتعلق قدرته بعد تعلق إرادته بالكائن.

وتفصيل المعنى : أنه عليم بالأسباب والقوى والمؤثرات التي وضعها في العوالم ، وبتوافق آثار بعضها وتخالف بعض ، وكيف تتكون الكائنات على نحو ما قدّر لها من الأوضاع ، وكيف تتظاهر فتأتي الآثار على نسق واحد ، وتتمانع فينقص تأثير بعضها في آثاره بسبب ممانعة مؤثرات أخرى ، وكل ذلك من مظاهر علمه تعالى في أصل التكوين العالمي ومظاهر قدرته في الجري على وفاق علمه.

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١))

عطف على ما سبق من حكاية ترّهاتهم عطف القصة على القصة وهو عود إلى إبطال شبه المشركين التي أشار إليها قوله تعالى : (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الشورى : ٣] ، وقوله تعالى : (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) [الشورى : ١٣] ، وقد أشرنا إلى تفصيل ذلك فيما تقدم ، ويزيده وضوحا قوله عقبه (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢]. وهذه الآية تبطل الشبهة الثانية فيما عددناه من شبهاتهم في كون القرآن وحيا من الله إلى محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ زعموا أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو كان

١٩٤

مرسلا من الله لكانت معه ملائكة تصدق قوله أو لأنزل عليه كتاب جاهز من السماء يشاهدون نزوله قال تعالى : (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) [الفرقان : ٧] وقال (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) إلى أن قال : (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) [الإسراء : ٩٠ ـ ٩٣].

وإذ قد كان أهم غرض هذه السورة إثبات كون القرآن وحيا من الله إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أوحي من قبله للرسل كان العود إلى ذلك من قبيل ردّ العجز على الصدر. فبيّن الله للمكذبين أن سنة الله في خطاب رسله لا تعدو ثلاثة أنحاء من الخطاب ، منها ما جاء به القرآن فلم يكن ذلك بدعا مما جاءت به الرسل الأولون وما كان الله ليخاطب رسله على الأنحاء التي اقترحها المشركون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجيء بصيغة حصر مفتتحة بصيغة الجحود المفيدة مبالغة النفي وهي (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ) أي لم يتهيّأ لأحد من الرسل أن يأتيه خطاب من الله بنوع من هذه الثلاثة.

ودل ذلك على انتفاء أن يكون إبلاغ مراد الله تعالى لأمم الرسل بغير أحد هذه الأنواع الثلاثة أعني خصوص نوع إرسال رسول بدلالة فحوى الخطاب فإنه إذا كان الرسل لا يخاطبهم الله إلّا بأحد هذه الأنحاء الثلاثة فالأمم أولى بأن لا يخاطبوا بغير ذلك من نحو ما سأله المشركون من رؤية الله يخاطبهم ، أو مجيء الملائكة إليهم بل لا يتوجه إليهم خطاب الله إلّا بواسطة رسول منهم يتلقى كلام الله بنحو من الأنحاء الثلاثة وهو مما يدخل في قوله : (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) فإن الرسول يكون ملكا وهو الذي يبلّغ الوحي إلى الرسل والأنبياء.

وخطاب الله الرسل والأنبياء قد يكون لقصد إبلاغهم أمرا يصلحهم نحو قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) [المزمل : ١ ، ٢] ، وقد يكون لإبلاغهم شرائع للأمم مثل معظم القرآن والتوراة ، أو إبلاغهم مواعظ لهم مثل الزبور ومجلة لقمان.

والاستثناء في قوله : (إِلَّا وَحْياً) استثناء من عموم أنواع المتكلم التي دلّ عليها الفعل الواقع في سياق النفي وهو (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ).

فانتصاب (وَحْياً) على الصفة لمصدر محذوف دل عليه الاستثناء ، والتقدير : إلا كلاما وحيا أي موحى به كما تقول : لا أكلمه إلّا جهرا ، أو إلا إخفاتا ، لأن الجهر والإخفات صفتان للكلام.

١٩٥

والمراد بالتكلم بلوغ مراد الله إلى النبي سواء كان ذلك البلوغ بكلام يسمعه ولا يرى مصدره أو بكلام يبلغه إليه الملك عن الله تعالى ، أو بعلم يلقى في نفس النبي يوقن بأنه مراد الله بعلم ضروري يجعله الله في نفسه.

وإطلاق الكلام على هذه الثلاثة الأنواع : بعضه حقيقة مثل ما يسمعه النبي كما سمع موسى ، وبعضه مجاز قريب من الحقيقة وهو ما يبلغه إلى النبي فإنه رسالة بكلام ، وبعضه مجاز محض وهو ما يلقى في قلب النبي مع العلم ، فإطلاق فعل (يُكَلِّمَهُ) على جميعها من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه على طريقة استعمال المشترك في معانيه.

وإسناد فعل (يُكَلِّمَهُ) إلى الله إسناد مجازي عقلي. وبهذا الاعتبار صار استثناء الكلام الموصوف بأنه وحي استثناء متصلا.

وأصل الوحي : الإشارة الخفيّة ، ومنه (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) [مريم : ١١]. ويطلق على ما يجده المرء في نفسه دفعة كحصول معنى الكلام في نفس السامع قال عبيد بن الأبرص :

وأوحى إليّ الله أن قد تآمروا

بإبل أبي أوفى فقمت على رجل

وهذا الإطلاق هو المراد هنا بقرينة المقابلة بالنوعين الآخرين. ومن هنا أطلق الوحي على ما فطر الله عليه الحيوان من الإلهام المتقن الدقيق كقوله : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [النحل : ٦٨]. فالوحي بهذا المعنى نوع من أنواع إلقاء كلام الله إلى الأنبياء وهو النوع الأول في العدّ ، فأطلق الوحي على الكلام الذي يسمعه النبي بكيفية غير معتادة وهذا الإطلاق من مصطلح القرآن وهو الغالب في إطلاقات الكتاب والسنة ومنه قول زيد بن ثابت «فعلمت أنه يوحى إليه ثم سرّي عنه» فقرأ (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) [النساء : ٩٥] ، ولم يقل فنزل إليه جبريل.

والوحي بهذا المعنى غير الوحي الذي سيجيء في قوله : (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ). والمراد بالوحي هنا : إيقاع مراد الله في نفس النبي يحصل له به العلم بأنه من عند الله فهو حجة للنبي لمكان العلم الضروري ، وحجة للأمة لمكان العصمة من وسوسة الشيطان ، وقد يحصل لغير الأنبياء ولكنه غير مطرد ولا منضبط مع أنه واقع وقد قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدّثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر بن الخطاب» قال ابن وهب : محدّثون : ملهمون.

١٩٦

ومن هذا الوحي مرائي الأنبياء فإنها وحي ، وهي ليست بكلام يلقى إليهم ، ففي الحديث «إني رأيت دار هجرتكم وهي في حرّة ذات نخل فوقع في وهلي أنها اليمامة أو هجر فإذا هي طابة». وقد تشتمل الرؤيا على إلهام وكلام مثل حديث «رأيت بقرا تذبح ورأيت والله خير» في رواية رفع اسم الجلالة ، أي رأيت هذه الكلمة ، وقد أول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم رؤياه البقر التي تذبح بما أصاب المسلمين يوم أحد ، وأمّا «والله خير» فهو ما أتى الله به بعد ذلك من الخير.

ومن الإلهام مرائي الصالحين فإنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوءة.

وليس الإلهام بحجة في الدّين لأن غير المعصوم لا يوثق بصحة خواطره إذ ليس معصوما من وسوسة الشيطان. وبعض أهل التصوف وحكماء الإشراق يأخذون به في خاصّتهم ويدّعون أن أمارات تميز لهم بين صادق الخواطر وكاذبها ومنه قول قطب الدين الشيرازي في ديباجة شرحه على «المفتاح» «إني قد ألقي إليّ على سبيل الإنذار من حضرة الملك الجبار بلسان الإلهام لا كوهم من الأوهام» إلى أن قال «ما أورثني التجافي عن دار الغرور». ومنه ما ورد في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنّ روح القدس نفث في روعي أنّ نفسا لن تموت حتّى تستوفي أجلها ورزقها» على أحد تفسيرين فيه ، ولا ريب في أنه المراد هنا لأن ألفاظ هذا الحديث جرت على غير الألفاظ التي يحكى بها نزول الوحي بواسطة كلام جبريلعليه‌السلام.

والنوع الثاني : أن يكون الكلام من وراء حجاب يسمعه سامعه ولا يرى مصدره بأن يخلق الله كلاما في شيء محجوب عن سامعه وهو ما وصف الله هنا بقوله : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ).

والمعنى : أو محجوبا المخاطب ـ بالفتح ـ عن رؤية مصدر الكلام ، فالكلام كأنه من وراء حجاب ، وهذا مثل تكليم الله تعالى موسى في البقعة المباركة من الشجرة ، ويحصل علم المخاطب بأن ذلك الكلام من عند الله أول مرة بآية يريه الله إياها يعلم أنها لا تكون إلا بتسخير الله كما علم موسى ذلك بانقلاب عصاه حيّة ثم عودها إلى حالتها الأولى ، وبخروج يده من جيبه بيضاء ، كما قال تعالى : (آيَةً أُخْرى لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) [طه : ٢٢ ، ٢٤]. ثم يصير بعد ذلك عادة يعرف بها كلام الله.

واختص بهذا النوع من الكلام في الرسل السابقين موسى عليه‌السلام وهو المراد من قوله تعالى : (قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ) برسالتي وبكلامي [الأعراف :

١٩٧

١٤٤] وليس الوحي إلى موسى منحصرا في هذا النوع فإنه كان يوحى إليه الوحي الغالب لجميع الأنبياء والرسل وقد حصل هذا النوع من الكلام لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الإسراء ، فقد جاء في حديث الإسراء : أن الله فرض عليه وعلى أمته خمسين صلاة ثم خفّف الله منها حتى بلغت خمس صلوات وأنه سمع قوله تعالى : «أتممت فريضتي وخففت عن عبادي».

وأشارت إليه سورة النجم [٦ ، ١٢] بقوله تعالى : (فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى). والقول بأنه سمع كلام الله ليلة أسري به إلى السماء مرويّ عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس وجعفر بن محمد الصادق والأشعري والواسطي ، وهو الظاهر لأن فضل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جميع المرسلين يستلزم أن يعطيه الله من أفضل ما أعطاه رسلهعليهم‌السلام جميعا.

النوع الثالث : أن يرسل الله الملك إلى النبي فيبلغ إليه كلاما يسمعه النبي ويعيه ، وهذا هو غالب ما يوجه إلى الأنبياء من كلام الله تعالى ، قال تعالى في ذكر زكرياء (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) [آل عمران : ٣٩] ، وقال في إبراهيم (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) [الصافات : ١٠٤ ، ١٠٥] وهذا الكلام يأتي بكيفية وصفها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للحارث بن هشام وقد سأل رسول الله «كيف يأتيك الوحي؟ فقال : أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه عليّ فيفصم عنّي وقد وعيت عنه أي عن جبريل ما قال ، وأحيانا يتمثّل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول».

فالرسول في قوله تعالى : (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) : هو الملك جبريل أو غيره ، وقوله : (فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) سمّى هذا الكلام وحيا على مراعاة الإطلاق القرآني الغالب كما تقدم نحو قوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) [النجم: ٣ ـ ٥] وهو غير المراد من قوله : (إِلَّا وَحْياً) بقرينة التقسيم والمقابلة.

ومن لطائف نسج هذه الآية ترتيب ما دل على تكليم الله الرسل بدلالات فجيء بالمصدر أولا في قوله : (إِلَّا وَحْياً) وجيء بما يشبه الجملة ثانيا وهو قوله : (مِنْ وَراءِ حِجابٍ) ، وجيء بالجملة الفعلية ثالثا بقوله : (يُرْسِلَ رَسُولاً). وقرأ نافع (أَوْ يُرْسِلَ) برفع (يُرْسِلَ) على الخبرية ، والتقدير : أو هو مرسل رسولا. وقرأ (فَيُوحِيَ) بسكون الياء بعد كسرة الحاء. وقرأ الباقون (أَوْ يُرْسِلَ) بنصب الفعل على تقدير (أن) محذوفة دل عليها العطف على المصدر فصار الفعل المعطوف في معنى المصدر ، فاحتاج إلى تقدير

١٩٨

حرف السبك. وقرءوا (فَيُوحِيَ) بفتحة على الياء عطفا على (يُرْسِلَ).

وما صدق (ما يَشاءُ) كلام ، أي فيوحي كلاما يشاؤه الله فكانت هذه الجملة في معنى الصفة ل (كلاما) المستثنى المحذوف ، والرابط هو (ما يَشاءُ) لأنه في معنى : كلاما ، فهو كربط الجملة بإعادة لفظ ما هي له أو بمرادفه نحو (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ١ ، ٢]. والتقدير : أو إلّا كلاما موصوفا بأن الله يرسل رسولا فيوحي بإذنه كلاما يشاؤه فإن الإرسال نوع من الكلام المراد في هذه الآية.

والآية صريحة في أن هذه الأنواع الثلاثة أنواع لكلام الله الذي يخاطب به عباده. وذكر النوعين : الأول والثالث صريح في أن إضافة الكلام المنوع إليها إلى الله أو إسناده إليه حيثما وقع في ألفاظ الشريعة نحو قوله تعالى : (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦] وقوله : (قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ) برسالتي وبكلامي [الأعراف : ١٤٤] وقوله: (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤] يدل على أنه كلام له خصوصية هي أنه أوجده الله إيجادا بخرق العادة ليكون بذلك دليلا على أن مدلول ألفاظه مراد لله تعالى ومقصود له كما سمّي الروح الذي تكوّن به عيسى روح الله لأنه تكوّن على سبيل خرق العادة ، فالله خلق الكلام الذي يدلّ على مراده خلقا غير جار على سنة الله في تكوين الكلام ليعلم الناس أن الله أراد إعلامهم بأنه أراد مدلولات ذلك الكلام بآية أنه خرق فيه عادة إيجاد الكلام فكان إيجادا غير متولّد من علل وأسباب عادية فهو كإيجاد السماوات والأرض وإيجاد آدم في أنه غير متولد من علل وأسباب فطرية.

واعلم أن حقيقة الإلهية لا تقتضي لذاتها أن يكون الله متكلما كما تقتضي أنه واحد حيّ عالم قدير مريد ، ومن حاول جعل صفة الكلام من مقتضى الإلهية على تنظير الإله بالملك بناء على أن الملك يقتضي مخاطبة الرعايا بما يريد الملك منهم ، فقد جاء بحجة خطابية ، بل الحق أن الذي اقتضى إثبات كلام الله هو وضع الشرائع الإلهية ، أي تعلق إرادة الله بإرشاد الناس إلى اجتناب ما يخل باستقامة شئونهم بأمرهم ونهيهم وموعظتهم ووعدهم ووعيدهم ، من يوم نهي آدم عن الأكل من الشجرة وتوعده بالشقاء إن أكل منها ثم من إرسال الرسل إلى الناس وتبليغهم إياهم أمر الله ونهيه بوضع الشرائع وذلك من عهد نوح بلا شك أو من عهد آدم إن قلنا إن آدم بلّغ أهله أمر الله ونهيه. فتعين الإيمان بأن الله آمر وناه وواعد وموعد ، ومخبر بواسطة رسله وأنبيائه ، وأن مراده ذلك أبلغه إلى الأنبياء بكلام يلقى إليهم ويفهمونه وهو غير متعارف لهم قبل النبوءة وهو متفاوت الأنواع في

١٩٩

مشابهة الكلام المتعارف.

ولمّا لم يرد في الكتاب والسنة وصف الله بأنه متكلّم ولا إثبات صفة له تسمّى الكلام ، ولم تقتض ذلك حقيقة الإلهية ما كان ثمّة داع إلى إثبات ذلك عند أهل التأويل من الخلف من أشعرية وماتريدية إذ قالوا : إن الله متكلم وإن له صفة تسمّى الكلام وبخاصة المعتزلة إذ قالوا إنه متكلم ونفوا صفة الكلام وأمر المعتزلة أعجب إذ أثبتوا الصفات المعنوية لأجل القواطع من آيات القرآن وأنكروا صفات المعاني تورّعا وتخلّصا من مشابهة القول بتعدد القدماء بلا داع ، وقد كان لهم في عدم إثبات صفة المتكلم مندوحة لانتفاء الداعي إلى إثباتها ، خلافا لما دعا إلى إثبات غيرها من الصفات المعنوية ، وقد حكى فخر الدين في تفسير هذه السورة إجماع الأمة على أن الله تعالى متكلم. وقصارى ما ورد في القرآن إسناد فعل الكلام إلى الله أو إضافة مصدره إلى اسمه ، وذلك لا يوجب أن يشتق منه صفة لله تعالى ، فإنهم لم يقولوا لله صفة نافخ الأرواح لأجل قوله تعالى : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر : ٢٩] ، فالذي حدا مثبتي صفة الكلام لله هو قوة تعلق هذا الوصف بصفة العلم فخصّوا هذا التعلق باسم خاص وجعلوه صفة مستقلة مثل ما فعلوا في صفة السمع والبصر.

هذا ، واعلم أن مثبتي صفة الكلام قد اختلفوا في حقيقتها ، فذهب السلف إلى أنها صفة قديمة كسائر صفات الله. فإذا سئلوا عن الألفاظ التي هي الكلام : أقديمة هي أم حادثة؟ قالوا : قديمة ، وتعجب منهم فخر الدين الرازي ونبزهم ولا أحسبهم إلّا أنهم تحاشوا عن التصريح بأنها حادثة لئلا يؤدّي ذلك دهماء الأمة إلى اعتقاد حدوث صفات الله ، أو يؤدّي إلى إبطال أن القرآن كلام الله ، لأن تبيان حقيقة معنى الإضافة في قولهم : كلام الله ، دقيق جدا يحتاج مدركه إلى شحذ ذهنه بقواعد العلوم ، والعامة على بون من ذلك. واشتهر من أهل هذه الطريقة أحمد بن حنبل رحمه‌الله زمن فتنة خلق القرآن. وكان فقهاء المالكية في زمن العبيديين ملتزمين هذه الطريقة. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد في «الرسالة» : «وإن القرآن كلام الله ليس بمخلوق فيبيد ولا صفة لمخلوق فينفد». وقد نقشوا على أسطوانة من أساطين الجامع بمدينة سوسة هذه العبارة : «القرآن كلام الله وليس بمخلوق» وهي ماثلة إلى الآن.

قال فخر الدين : واتفق أني قلت يوما لبعض الحنابلة : لو تكلم الله بهذه الحروف ؛ إمّا أن يتكلم بها دفعة واحدة أو على التعاقب ، والأول باطل لأن التكلّم بها دفعة واحدة

٢٠٠