تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

طرفه الثاني وهو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ الآية متمثلا بها فإن ذلك يؤوّل قول ابن مسعود فأنزل الله تعالى الآية ، ويبين وجه قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياها عند ما أخبره ابن مسعود بأنه قرأها تحقيقا لمثال من صور معنى الآية ، وهو أن مثل هذا النفر ممن يشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم ، وذلك قاض بأن هؤلاء النفر كانوا مشركين يومئذ ، والآية تحق على من مات منهم كافرا مثل ربيعة بن أمية بن خلف.

وعلى بعض احتمالات هذا التفسير يكون فعل (تَسْتَتِرُونَ) مستعملا في حقيقته أي تستترون بأعمالكم عن سمعكم وأبصاركم وجلودكم ، وذلك توبيخ كناية عن أنهم ما كانوا يرون ما هم عليه قبيحا حتى يستتروا منه وعلى بعض الاحتمالات فيما ذكر يكون فعل (تَسْتَتِرُونَ) مستعملا في حقيقته ومجازه ، ولا يعوزك توزيع أصناف هذه الاحتمالات : أن بعضها مع بعض في كل تقدير تفرضه. وحاصل معنى الآية على جميع الاحتمالات : أن الله عليم بأعمالكم ونياتكم لا يخفى عليه شيء منها إن جهرتم أو سترتم وليس الله بحاجة إلى شهادة جوارحكم عليكم وما أوقعكم في هذا الضر إلا سوء ظنكم بجلال الله.

(وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ) الإشارة إلى الظن المأخوذ من فعل (ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) ، ويستفاد من الإشارة إليه تمييزه أكمل تمييز وتشهير شناعته للنداء على ضلالهم. وأتبع اسم الإشارة بالبدل بقوله : (ظَنُّكُمُ) لزيادة بيانه ليتمكن ما يعقبه من الخبر ، والخبر هو فعل (أَرْداكُمْ) وما تفرع عليه.

و (الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ) صفة ل (ظَنُّكُمُ). والإتيان بالموصول لما في الصلة من الإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو (أَرْداكُمْ) وما تفرع عليه ، أي الذي ظننتم بربكم ظنا باطلا. والعدول عن اسم الله العلم إلى (بِرَبِّكُمْ) للتنبيه على ضلال ظنهم ، إذ ظنوا خفاء بعض أعمالهم عن علمه مع أنه ربهم وخالقهم فكيف يخلقهم وتخفى عنه أعمالهم ، وهو يشير إلى قوله : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك : ١٤] ، ففي وصف (بِرَبِّكُمْ) إيماء إلى هذا المعنى.

والإرداء : الإهلاك ، يقال : ردي كرضي ، إذا هلك ، أي مات ، والإرداء مستعار للإيقاع في سوء الحالة بحيث أصارهم مثل الأموات فإن ذلك أقصى ما هو متعارف بين الناس في سوء الحالة وفي الإتيان بالمسند فعلا إفادة قصر ، أي ما أرداكم إلا ظنكم ذلك ، وهو قصر إضافي ، أي لم تردكم شهادة جوارحكم حتى تلوموها بل أرداكم ظنكم أن الله لا يعلم أعمالكم فلم تحذروا عقابه.

٤١

وقوله : (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) تمثيل لحالهم إذ يحسبون أنهم وصلوا إلى معرفة ما يحق أن يعرفوه من شئون الله ووثقوا من تحصيل سعادتهم ، وهم ما عرفوا الله حق معرفته فعاملوا الله بما لا يرضاه فاستحقوا العذاب من حيث ظنوا النجاة ، فشبه حالهم بحال التاجر الذي استعدّ للربح فوقع في الخسارة.

والمعنى : أنه نعي عليهم سوء استدلالهم وفساد قياسهم في الأمور الإلهية ، وقياسهم الغائب على الشاهد ، تلك الأصول التي استدرجتهم في الضلالة فأحالوا رسالة البشر عن الله ونفوا البعث ، ثم أثبتوا شركاء لله في الإلهية ، وتفرع لهم من ذلك كله قطع نظرهم عما وراء الحياة الدنيا وأمنهم من التبعات في الحياة الدنيا ، فذلك جماع قوله تعالى : (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ).

واعلم أن أسباب الضلال في العقائد كلها إنما تأتي على الناس من فساد التأمل وسرعة الإيقان وعدم التمييز بين الدلائل الصائبة والدلائل المشابهة وكل ذلك يفضي إلى الوهم المعبر عنه بالظن السيّئ ، أو الباطل. وقد ذكر الله مثله في المنافقين وأن ظنهم هو ظن أهل الجاهلية فقال : (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) [آل عمران : ١٥٤] ، فليحذر المؤمنون من الوقوع في مثل هذه الأوهام فيبوءوا ببعض ما نعي على عبدة الأصنام.

وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» يريد الظن الذين لا دليل عليه. و (أصبحتم) بمعنى : صرتم ، لأن أصبح يكثر أن تأتي بمعنى : صار.

(فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤))

تفريع على جواب (إِذا) [فصلت : ٢٠] على كلا الوجهين المتقدمين ، أو تفريع على جملة (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) [فصلت : ٢١] ، أو هو جواب (إِذا) ، وما بينهما اعتراض على حسب ما يناسب الوجوه المتقدمة. والمعنى على جميع الوجوه : أن حاصل أمرهم أنهم قد زجّ بهم في النار فإن صبروا واستسلموا فهم باقون في النار ، وإن اعتذروا لم ينفعهم العذر ولم يقبل منهم تنصل.

وقوله : (فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) دليل جواب الشرط لأن كون النار مثوى لهم ليس مسبّبا على حصول صبرهم وإنما هو من باب قولهم : إن قبل ذلك فذاك ، أي فهو على ذلك الحال ، فالتقدير : فإن يصبروا فلا يسعهم إلا الصبر لأن النار مثوى لهم.

٤٢

ومعنى (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا) إن يسألوا العتبى (بضم العين وفتح الموحدة مقصورا اسم مصدر الإعتاب) وهي رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب. وفي المثل «ما مسيء من أعتب» أي من رجع عمّا أساء به فكأنه لم يسئ. وقلما استعملوا المصدر الأصلي بمعنى الرجوع استغناء عنه باسم المصدر وهو العتبى. والعاتب هو اللائم ، والسين والتاء فيه للطلب لأن المرء لا يسأل أحدا أن يعاتبه وإنما يسأله ترك المعاتبة ، أي يسأله الصفح عنه فإذا قبل منه ذلك قيل : أعتبه أيضا ، وهذا من غريب تصاريف هذه المادة في اللغة ولهذا كادوا أن يميتوا مصدر : أعتب بمعنى رجع وأبقوه في معنى قبل العتبى ، وهو المراد في قوله تعالى : (فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) أي أن الله لا يعتبهم ، أي لا يقبل منهم.

(وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥))

عطف على جملة ويوم نحشر (أَعْداءُ اللهِ) [فصلت : ١٩] ، وذلك أنه حكي قولهم المقتضي إعراضهم عن التدبر في دعوة الإيمان ثم ذكر كفر هم بخالق الأكوان بقوله (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت : ٩] ثم ذكر مصيرهم في الآخرة بقوله ويوم نحشر (أَعْداءُ اللهِ) ثم عقب ذلك بذكر سبب ضلالهم الذي نشأت عنه أحوالهم بقوله : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ). وتخلل بين ما هنالك وما هنا أفانين من المواعظ والدلائل والمنن والتعاليم والقوارع والإيقاظ.

وقيّض : أتاح وهيّأ شيئا للعمل في شيء. والقرناء جمع : قرين ، وهو الصاحب الملازم ، والقرناء هنا : هم الملازمون لهم في الضلالة : إمّا في الظاهر مثل دعاة الكفر وأئمته ، وإما في باطن النفوس مثل شياطين الوسواس الذين قال الله فيهم : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) ويأتي في سورة الزخرف [٣٦]. ومعنى تقييضهم لهم : تقديرهم لهم ، أي خلق المناسبات التي يتسبب عليها تقارن بعضهم مع بعض لتناسب أفكار الدعاة والقابلين كما يقول الحكماء «استفادة القابل من المبدإ تتوقف على المناسبة بينهما». فالتقييض بمعنى التقدير عبارة جامعة لمختلف المؤثرات والتجمعات التي توجب التآلف والتحابّ بين الجماعات ، ولمختلف الطبائع المكوّنة في نفوس بعض الناس فيقتضي بعضها جاذبية الشياطين إليها وحدوث الخواطر السيئة فيها. وللإحاطة بهذا المقصود أوثر التعبير هنا ب (قَيَّضْنا) دون غيره من نحو : بعثنا ، وأرسلنا.

٤٣

والتزيين : التحسين ، وهو يشعر بأن المزيّن غير حسن في ذاته. و (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) يستعار للأمور المشاهدة ، وما خلفهم يستعار للأمور المغيبة.

والمراد ب (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أمور الدنيا ، أي زينوا لهم ما يعملونه في الدنيا من الفساد مثل عبادة الأصنام ، وقتل النفس بلا حق ، وأكل الأموال ، والعدول على الناس باليد واللسان ، والميسر ، وارتكاب الفواحش ، والوأد. فعوّدوهم باستحسان ذلك كله لما فيه من موافقة الشهوات والرغبات العارضة القصيرة المدى ، وصرفوهم عن النظر فيما يحيط بأفعالهم تلك من المفاسد الذاتية الدائمة.

والمراد ب (ما خَلْفَهُمْ) الأمور المغيبة عن الحس من صفات الله ، وأمور الآخرة من البعث والجزاء مثل الشرك بالله ونسبة الولد إليه ، وظنهم أنه يخفى عليه مستور أعمالهم ، وإحالتهم بعثة الرسل ، وإحالتهم البعث والجزاء. ومعنى تزيينهم هذا لهم تلقينهم تلك العقائد بالأدلة السفسطائية مثل قياس الغائب على الشاهد ، ونفي الحقائق التي لا تدخل تحت المدركات الحسية كقولهم : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) [الصافات : ١٦ ، ١٧].

و (حَقَّ عَلَيْهِمُ) أي تحقق فيهم القول وهو وعيد الله إياهم بالنار على الكفر ، فالتعريف في (الْقَوْلُ) للعهد. وفي هذا العهد إجمال لأنه وإن كان قد ورد في القرآن ما يعهد منه هذا القول مثل قوله : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ) [الزمر : ١٩] وقوله: (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ) [الصافات : ٣١] ، فإنه يمكن أن لا تكون الآيات المذكورة قد سبقت هذه الآية.

وقوله : (فِي أُمَمٍ) حال من ضمير (عَلَيْهِمُ) ، أي حق عليهم حالة كونهم في أمم أمثالهم قد سبقوهم. والظرفية هنا مجازية ، وهي بمعنى التبعيض ، أي هم من أمم قد خلت من قبلهم حق عليهم القول. ومثل هذا الاستعمال قول عمرو بن أذينة :

إن تك عن أحسن الصنيعة مأفو

كا ففي آخرين قد أفكوا

أي فأنت من جملة آخرين قد صرفوا عن أحسن الصنيعة.

و (مِنْ) في قوله : (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) بيانية ، فيجوز أن يكون بيانا ل (أُمَمٍ) ، أي من أمم من البشر ومن الشياطين فيكون مثل قوله تعالى : (قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص : ٨٤ ، ٨٥] ، وقوله : (قالَ ادْخُلُوا فِي

٤٤

أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ) [الأعراف : ٣٨] ويجوز أن يكون بيانا ل (قُرَناءَ) أي ملازمين لهم ملازمة خفية وهي ملازمة الشياطين لهم بالوسوسة وملازمة أئمة الكفر لهم بالتشريع لهم ما لم يأذن به الله.

وجملة (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) يجوز أن تكون بيانا للقول مثل نظيرتها (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ) في سورة الصافات [٣١] ، ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن جملة (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ) والمعنيان متقاربان.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦))

عطف على جملة (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) [فصلت : ٥] عطف القصة على القصة ، ومناسبة التخلص إليه أن هذا القول مما ينشأ عن تزيين قرنائهم من الإنس ، أو هو عطف على جملة (فَزَيَّنُوا لَهُمْ) [فصلت : ٢٥]. وهذا حكاية لحال أخرى من أحوال إعراضهم عن الدعوة المحمدية بعد أن وصف إعراضهم في أنفسهم انتقل إلى وصف تلقينهم الناس أساليب الإعراض ، فالذين كفروا هنا هم أئمة الكفر يقولون لعامتهم : لا تسمعوا لهذا القرآن ، فإنهم علموا أن القرآن كلام هو أكمل الكلام شريف معان وبلاغة تراكيب وفصاحة ألفاظ ، وأيقنوا أن كل من يسمعه وتداخل نفسه جزالة ألفاظه وسموّ أغراضه قضى له فهمه أنه حق اتباعه ، وقد أدركوا ذلك بأنفسهم ولكنهم غالبتهم محبة الدوام على سيادة قومهم فتمالئوا ودبروا تدبيرا لمنع الناس من استماعه ، وذلك خشية من أن ترقّ قلوبهم عند سماع القرآن فصرفوهم عن سماعه.

وهذا من شأن دعاة الضلال والباطل أن يكمّوا أفواه الناطقين بالحق والحجة ، بما يستطيعون من تخويف وتسويل ، وترهيب وترغيب ولا يدعوا الناس يتجادلون بالحجة ويتراجعون بالأدلة لأنهم يوقنون أن حجة خصومهم أنهض ، فهم يسترونها ويدافعونها لا بمثلها ولكن بأساليب من البهتان والتضليل ، فإذا أعيتهم الحيل ورأوا بوارق الحق تخفق خشوا أن يعمّ نورها الناس الذين فيهم بقية من خير ورشد عدلوا إلى لغو الكلام ونفخوا في أبواق اللغو والجعجعة لعلهم يغلبون بذلك على حجج الحق ويغمرون الكلام القول الصالح باللغو ، وكذلك شأن هؤلاء.

فقولهم : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) تحذيرا واستهزاء بالقرآن ، فاسم الإشارة مستعمل في التحقير كما فيما حكي عنهم (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) [الأنبياء : ٣٦].

٤٥

وتسميتهم إياه بالقرآن حكاية لما يجري على ألسنة المسلمين من تسميته بذلك. وتعدية فعل (تَسْمَعُوا) باللام لتضمينه معنى : تطمئنوا أو تركنوا.

واللغو : القول الذي لا فائدة فيه ، ويسمى الكلام الذي لا جدوى له لغوا ، وهو واوي اللام ، فأصل (وَالْغَوْا) : والغوا استثقلت الضمة على الواو فحذفت والتقى ساكنان فحذف أولهما وسكنت الواو الثانية سكونا حيّا ، والواو علامة الجمع. وهذا الجاري على ظاهر كلام «الصحاح» و «القاموس» في «الكشاف» أنه يقال : لغي يلغى ، كما يقال : لغا يلغو فهو إذن واوي ويائي. فمعنى (وَالْغَوْا فِيهِ) قولوا أقوالا لا معنى لها أو تكلموا كلاما غير مراد منه إفادة أو المقصود إحداث أصوات تغمر صوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقرآن. ولما كان المقصود بتخلّل أصواتهم صوت القارئ حتى لا يفقهه السامعون عدّي اللغو بحرف (في) الظرفية لإفادة إيقاع لغوهم في خلال صوت القارئ وقوع المظروف في الظرف على وجه المجاز. وأدخل حرف الظرفية على اسم القرآن دون اسم شيء من أحواله مثل صوت أو كلام ليشمل كل ما يخفي ألفاظ القرآن أو يشكك في معانيها أو نحو ذلك. وهذا نظم له مكانة من البلاغة.

قال ابن عباس : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بمكة إذا قرأ القرآن يرفع صوته فكان أبو جهل وغيره يطردون الناس عنه ويقولون لهم : لا تسمعوا له والغوا فيه ، فكانوا يأتون بالمكاء والصفير والصياح وإنشاد الشعر والأراجيز وما يحضرهم من الأقوال التي يصخبون بها». وقد ورد في «الصحيح» «أنهم قالوا لمّا استمعوا إلى قراءة أبي بكر وكان رقيق القراءة : إنا نخاف أن يفتن أبناءنا ونساءنا».

ومعنى (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) رجاء أن تغلبوا محمدا بصرف من يتوقع أن يتبعه إذا سمع قراءته. وهذا مشعر بأنهم كانوا يجدون القرآن غالبهم إذ كان الذين يسمعونه يداخل قلوبهم فيؤمنون ، أي فإن لم تفعلوا فهو غالبكم.

[٢٧ ، ٢٨] (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨))

دلت الفاء على أن ما بعدها مفرع عما قبلها : فإمّا أن يكون تفريعا على آخر ما تقدم وهو قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) [فصلت : ٢٦] الآية ، وإمّا أن يكون مفرعا على جميع ما تقدم ابتداء من قوله : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ)

٤٦

[فصلت : ٥] الآية وقوله : (فَإِنْ أَعْرَضُوا) [فصلت : ١٣] الآية وقوله : ويوم نحشر (أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ) [فصلت : ١٩] الآية وقوله : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ) [فصلت : ٢٥] الآية وقوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا) [فصلت : ٢٦] إلخ. وعلى كلا الوجهين يتعين أن يكون المراد ب (الَّذِينَ كَفَرُوا) هنا : المشركين الذين الكلام عنهم.

ف (الَّذِينَ كَفَرُوا) إظهار في مقام الإضمار لقصد ما في الموصول من الإيماء إلى علة إذاقة العذاب ، أي لكفرهم المحكي بعضه فيما تقدم. وإذاقة العذاب : تعذيبهم ، استعير له الإذاقة على طريق المكنية والتخييلية. والعذاب الشديد عن ابن عباس : أنه عذاب يوم بدر فهو عذاب الدنيا.

وعطف (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) عن ابن عباس : لنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون في الآخرة. و (أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) منصوب على نزع الخافض. والتقدير : على أسوأ ما كانوا يعملون ، ولك أن تجعله منصوبا على النيابة عن المفعول المطلق تقديره : جزاء مماثلا أسوأ الذي كانوا يعملون.

وأسوأ : اسم تفضيل مسلوب المفاضلة ، وإنما أريد به السّيّئ ، فصيغ بصيغة التفضيل للمبالغة في سوئه. وإضافته إلى (الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) من إضافة البعض إلى الكل وليس من إضافة اسم التفضيل إلى المفضل عليه.

والإشارة ب (ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ) إلى ما تقدم وهو الجزاء والعذاب الشديد على أسوأ أعمالهم. وأعداء الله : هم المشركون الذين تقدم ذكرهم بقوله تعالى : ويوم نحشر (أَعْداءُ اللهِ) [فصلت : ١٩].

والنار عطف بيان من (جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ).

و (دارُ الْخُلْدِ) : النار. فقوله : (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) جاء بالظرفية بتنزيل النار منزلة ظرف لدار الخلد وما دار الخلد إلّا عين النار. وهذا من أسلوب التجريد ليفيد مبالغة معنى الخلد في النار. وهو معدود من المحسنات البديعية ، ومنه قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب : ٢١] وقول أبي حامد العتّابي :

وفي الرحمن للضعفاء كافي

أي والرحمن كاف للضعفاء.

٤٧

و (الْخُلْدِ) : طول البقاء ، وأطلق في اصطلاح القرآن على البقاء المؤبد الذي لا نهاية له.

وانتصب (جَزاءُ) على الحال من (دارُ الْخُلْدِ). والباء للسببية. و (ما) مصدرية ، أي جزاء بسبب كونهم يجحدون بآياتنا.

وصيغة المضارع في (يَجْحَدُونَ) دالّة على تجدد الجحود حينا فحينا وتكرره. وعدي فعل (يَجْحَدُونَ) بالباء لتضمينه معنى : يكذّبون. وتقديم (بِآياتِنا) للاهتمام وللرعاية على الفاصلة.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩))

عطف على جملة (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) [فصلت : ٢٨] ، أي ويقولون في جهنم ، فعدل عن صيغة الاستقبال إلى صيغة المضيّ للدلالة على تحقيق وقوع هذا القول وهو في معنى قوله تعالى : (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) [الأعراف : ٣٨] ، فالقائلون (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا) : هم عامّة المشركين ، كما يدل عليه قوله : (الَّذَيْنِ أَضَلَّانا).

ومعنى (أَرِنَا) عيّن لنا ، وهو كناية عن إرادة انتقامهم منهم ولذلك جزم (نَجْعَلْهُما) في جواب الطلب على تقدير : إن ترناهما نجعلهما تحت أقدامنا.

والجعل تحت الأقدام : الوطء بالأقدام والرفس ، أي نجعل آحادهم تحت أقدام آحاد جماعتنا ، فإن الدهماء أكثر من القادة فلا يعوزهم الانتقام منهم. وكان الوطء بالأرجل من كيفيات الانتقام والامتهان ، قال ابن وعلة الجرمي :

ووطئنا وطأ على حنق

وطأ المقيّد نابت الهرم

وإنما طلبوا أن يروهما لأن المضلين كانوا في دركات من النار أسفل من دركات أتباعهم فلذلك لم يعرفوا أين هم.

والتعليل (لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) توطئة لاستجابة الله تعالى لهم أن يريهموهما لأنهم علموا من غضب الله عليهم أنه أشد غضبا على الفريقين المضلين فتوسلوا بعزمهم على الانتقام منهم إلى تيسير تمكينهم من الانتقام منهم. والأسفلون : الذين هم أشد حقارة من

٤٨

حقارة هؤلاء الذين كفروا ، أي ليكونوا أحقر منا جزاء لهم ، فالسفالة مستعارة للإهانة والحقارة.

وقرأ الجمهور (أَرِنَا) بكسر الراء. وقرأه ابن كثير وابن عامر والسوسي عن أبي عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب بسكون الراء للتخفيف من ثقل الكسرة ، كما قالوا : فخذ في فخذ. وعن الخليل إذا قلت : أرني ثوبك بكسر الراء ، فالمعنى : بصّرنيه ، وإذا قلته بسكون الراء فهو استعطاء ، معناه : أعطنيه. وعلى هذا يكون معنى قراءة ابن كثير وابن عامر ومن وافقهما : مكّنا من الذين أضلّانا كي نجعلهما تحت أقدامنا ، أي ائذن لنا بإهانتهما وخزيهما. وقرأ ابن كثير (الَّذِينَ) بتشديد النون من اسم الموصول وهي لغة ، وتقدم في قوله تعالى : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) في سورة النساء [١٦].

[٣٠ ـ ٣٢] (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢))

بعد استيفاء الكلام على ما أصاب الأمم الماضية المشركين المكذبين من عذاب الدنيا وما أعدّ لهم من عذاب الآخرة مما فيه عبرة للمشركين الذين كذبوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق التعريض ، ثم أنذروا بالتصريح بما سيحلّ بهم في الآخرة ، ووصف بعض أهواله ، تشوّف السامع إلى معرفة حظ المؤمنين ووصف حالهم فجاء قوله : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) إلخ ، بيانا للمترقب وبشرى للمتطلب ، فالجملة استئناف بياني ناشئ عما تقدم من قوله : ويوم نحشر (أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ) [فصلت : ١٩] إلى قوله : (مِنَ الْأَسْفَلِينَ) [فصلت : ٢٩].

وافتتاح الجملة بحرف التوكيد منظور فيه إلى إنكار المشركين ذلك ، ففي توكيد الخبر زيادة قمع لهم. ومعنى (قالُوا رَبُّنَا اللهُ) أنهم صدعوا بذلك ولم يخشوا أحدا بإعلانهم التوحيد ، فقولهم تصريح بما في اعتقادهم لأن المراد بهم قالوا ذلك عن اعتقاد ، فإن الأصل في الكلام الصدق وهو مطابقة الخبر الواقع وما في الوجود الخارجي.

وقوله : (رَبُّنَا اللهُ) يفيد الحصر بتعريف المسند إليه والمسند ، أي لا ربّ لنا إلا الله ، وذلك جامع لأصل الاعتقاد الحق لأن الإقرار بالتوحيد يزيل المانع من تصديق

٤٩

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما جاء به إذ لم يصدّ المشركين عن الإيمان بما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أنه أمرهم بنبذ عبادة غير الله ، ولأن التكذيب بالبعث تلقوه من دعاة الشرك.

والاستقامة حقيقتها : عدم الاعوجاج والميل ، والسين والتاء فيها للمبالغة في التقوّم ، فحقيقة استقام : استقل غير مائل ولا منحن. وتطلق الاستقامة بوجه الاستعارة على ما يجمع معنى حسن العمل والسيرة على الحق والصدق قال تعالى : (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) [فصلت : ٦] وقال : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) [هود : ١١٢] ، ويقال : استقامت البلاد للملك ، أي أطاعت ، ومنه قوله تعالى : (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) [التوبة : ٧]. ف (اسْتَقامُوا) هنا يشمل معنى الوفاء بما كلفوا به وأول ما يشمل من ذلك أن يثبتوا على أصل التوحيد ، أي لا يغيروا ولا يرجعوا عنه.

ومن معنى هذه الآية ما روي في «صحيح مسلم» عن سفيان الثقفي قال : قلت : يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك. قال : «قل آمنت بالله ثم استقم». وعن أبي بكر (ثُمَّ اسْتَقامُوا) : لم يشركوا بالله شيئا. وعن عمر : استقاموا على الطريقة لطاعته ثم لم يروغوا روغان الثعالب. وقال عثمان : ثم أخلصوا العمل لله. وعن علي: ثم أدّوا الفرائض. فقد تولى تفسير هذه الآية الخلفاء الأربعة رضي‌الله‌عنهم. وكل هذه الأقوال ترجع إلى معنى الاستقامة في الإيمان وآثاره ، وعناية هؤلاء الأربعة أقطاب الإسلام ببيان الاستقامة مشير إلى أهميتها في الدين.

وتعريب المسند إليه بالموصولية دون أن يقال : إن المؤمنين ونحوه لما في الصلة من الإيماء إلى أنها سبب ثبوت المسند للمسند إليه فيفيد أن تنزل الملائكة عليهم بتلك الكرامة مسبّب على قولهم : (رَبُّنَا اللهُ) واستقامتهم فإن الاعتقاد الحق والإقبال على العمل الصالح هما سبب الفوز.

و (ثُمَ) للتراخي الرتبي لأن الاستقامة زائدة في المرتبة على الإقرار بالتوحيد لأنها تشمله وتشمل الثبات عليه والعمل بما يستدعيه ، ولأن الاستقامة دليل على أن قولهم : (رَبُّنَا اللهُ) كان قولا منبعثا عن اعتقاد الضمير والمعرفة الحقيقية.

وجمع قوله : (قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) أصلي الكمال الإسلامي ، فقوله : (قالُوا رَبُّنَا اللهُ) مشير إلى الكمال النفساني وهو معرفة الحق للاهتداء به ، ومعرفة الخير لأجل العمل به ، فالكمال علم يقيني وعمل صالح ، فمعرفة الله بالإلهية هي أساس العلم اليقيني. وأشار قوله : (اسْتَقامُوا) إلى أساس الأعمال الصالحة وهو الاستقامة على الحق ، أي أن

٥٠

يكون وسطا غير مائل إلى طرفي الإفراط والتفريط قال تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة : ٦] وقال : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] على أن كمال الاعتقاد راجع إلى الاستقامة ، فالاعتقاد الحق أن لا يتوغل في جانب النفي إلى حيث ينتهي إلى التعطيل ، ولا يتوغل في جانب الإثبات إلى حيث ينتهي إلى التّشبيه والتمثيل بل يمشي على الخط المستقيم الفاصل بين التشبيه والتعطيل ، ويستمر كذلك فاصلا بين الجبريّ والقدريّ ، وبين الرجاء والقنوط ، وفي الأعمال بين الغلوّ والتفريط.

وتنزّل الملائكة على المؤمنين يحتمل أن يكون في وقت الحشر كما دل عليه قولهم : (الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) ، وكما يقتضيه كلامهم لهم لأن ظاهر الخطاب أنه حقيقة ، فذلك مقابل قوله : ويوم نحشر (أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) [فصلت : ١٩] ، فأولئك تلاقيهم الملائكة بالوزع ، والمؤمنون تتنزل عليهم الملائكة بالأمن. وذكر التنزل هنا للتنويه بشأن المؤمنين أن الملائكة ينزلون من علوياتهم لأجلهم فأما أعداء الله فهم يجدون الملائكة حضّرا في المحشر يزعونهم وليسوا يتنزلون لأجلهم فثبت للمؤمنين بهذا كرامة ككرامة الأنبياء والمرسلين إذ ينزّل الله عليهم الملائكة. والمعنى : أنه يتنزل على كل مؤمن ملكان هما الحافظان اللذان كانا يكتبان أعماله في الدنيا. ولتضمن (تَتَنَزَّلُ) معنى القول وردت بعده (أن) التفسيرية والتقدير : يقولون لا تخافوا ولا تحزنوا. ويجوز أن يكون تنزل الملائكة عليهم في الدنيا ، وهو تنزل خفيّ يعرف بحصول آثاره في نفوس المؤمنين ويكون الخطاب ب (أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) بمعنى إلقائهم في روعهم عكس وسوسة الشياطين القرناء بالتزيين ، أي يلقون في أنفس المؤمنين ما يصرفهم عن الخوف والحزن ويذكرهم بالجنة فتحل فيهم السكينة فتنشرح صدورهم بالثقة بحلولها ، ويلقون في نفوسهم نبذ ولاية من ليسوا من حزب الله ، فذلك مقابل قوله : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ) [فصلت : ٢٥] الآية فإنه تقييض في الدنيا. وهذا يقتضي أن المؤمنين الكاملين لا يخافون غير الله ، ولا يحزنون على ما يصيبهم ، ويوقنون أن كل شيء بقدر ، وهم فرحون بما يترقبون من فضل الله.

وعلى هذا المعنى فقوله : (الَّتِي كُنْتُمْ) تعتبر (كان) فيه مزيدة للتأكيد ، ويكون المضارع في (تُوعَدُونَ) على أصل استعماله للحال والاستقبال ، ويكون قولهم : (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) تأييدا لهم في الدنيا ووعدا بنفعهم في الآخرة.

و (لا) ناهية ، والمقصود من النهي عن الخوف : النهي عن سببه ، وهو توقع الضر ، أي لا تحسبوا أن الله معاقبكم ، فالنهي كناية عن التأمين من جانب الله تعالى لأنهم إذا

٥١

تحققوا الأمن زال خوفهم ، وهذا تطمين من الملائكة لأنفس المؤمنين.

والخوف : غمّ في النفس ينشأ عن ظن حصول مكروه شديد. والحزن : غمّ في النفس ينشأ عن وقوع مكروه بفوات نفع أو حصول ضرّ.

وألحقوا بتأمينهم بشارتهم ، لأن وقع النعيم في النفس موقع المسرة إذا لم يخالطه توقع المكروه.

ووصف الجنة ب (الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) تذكير لهم بأعمالهم التي وعدوا عليها بالجنة ، وتعجيل لهم بمسرة الفوز برضى الله ، وتحقيق وعده ، أي التي كنتم توعدونها في الدنيا. وفي ذكر فعل الكون تنبيه على أنهم متأصلون في الوعد بالجنة وذلك من سابق إيمانهم وأعمالهم.

وفي التعبير بالمضارع في (تُوعَدُونَ) إفادة أنهم قد تكرر وعدهم بها ، وذلك بتكرر الأعمال الموعود لأجلها وبتكرر الوعد في مواقع التذكير والتبشير.

وقول الملائكة : (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) تعريف بأنفسهم للمؤمنين تأنيسا لهم.

فإن العلم بأن المتلقّي صاحب قديم يزيد نفس القادم انشراحا وأنسا ويزيل عنه دهشة القدوم ، يخفف عنه من حشمة الضيافة ، ويزيل عنه وحشة الاغتراب ، أي نحن الذين كنا في صحبتكم في الدنيا ، إذ كانوا يكتبون حسناتهم ويشهدون عند الله بصلاتهم كما في حديث : «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم : كيف تركتم عبادي؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلّون وتركناهم وهم يصلون». وقد حفظوا العهد فكانوا أولياء المؤمنين في الآخرة ، وقد جيء بهذا القول معترضا بين صفات الجنة ليتحقق المؤمنون أن بشارتهم بالجنة بشارة محب يفرح لحبيبه بالخير ويسعى ليزيده.

واعلم أن قوله : (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) إشارة إلى مقابلة قوله في المشركين (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ) [فصلت : ٢٥] فكما قيّض للكافر قرناء في الدنيا قيّض للمؤمنين ملائكة يكونون قرناءهم في الدنيا ، وكما أنطق أتباعهم باللائمة عليهم أنطق الملائكة بالثناء على المؤمنين. وهذه الآية تقتضي أن هذا الصنف من الملائكة خاص برفقة المؤمنين وولائهم ولا حظ للكافرين فيهم ، فإن كان الحفظة من خصائص المؤمنين كما نقله ابن ناجي في «شرح الرسالة» فمعنى ولايتهم للمؤمنين ظاهر ، وإن كان الحفظة موكّلين على المؤمنين والكافرين

٥٢

كما مشى عليه الجمهور وهو ظاهر قوله تعالى : (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) [الانفطار : ٩ ـ ١٢] فهذا صنف من الملائكة موكّل بحفظ المؤمنين في الدنيا ، وهم غير الحفظة ، وقد يكون هذا الصنف من الملائكة هو المسمى بالمعقبات في قوله تعالى : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) حسب ما تقدم في سورة الرعد [١١].

وقد دلت عدة آثار متفاوتة في القبول على أن الملائكة الذين لهم علاقة بالناس عموما أو بالمؤمنين خاصة أصناف كثيرة. وعن عثمان «أنه سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كم من ملك على الإنسان ، فذكر له عشرين ملكا». ولعل وصف الملائكة المتنزلين بأنهم أولياء يقتضي أن عملهم مع المؤمن عمل صلاح وتأييد مثل إلهام الطاعات ومحاربة الشياطين ونحو ذلك ، وبذلك تتم مقابلة تنزلهم على المؤمنين بذكر تقييض القرناء للكافرين ، وهذا أحسن.

وجملة (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) عطف على (الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) وما بينهما جملة معترضة كما بينته آنفا.

ومعنى (ما تَدَّعُونَ) : ما تتمنون. يقال : ادّعى ، أي تمنى ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) في سورة يس [٥٧]. والمعنى : لكم فيها ما تشتهونه مما يقع تحت الحسّ وما تتمنونه في نفوسكم من كل ما يخطر بالبال مما يجول في الخيال ، فما يدّعون غير ما تشتهيه أنفسهم.

ولهذه المغايرة أعيد (لَكُمْ) ليؤذن باستقلال هذا الوعد عن سابقه ، فلا يتوهم أن العطف عطف تفسير أو عطف عام على خاص.

والنزل بضم النون وضم الزاي : ما يهيّأ للضيف من القرى ، وهو مشتق من النزول لأنه كرامة النزيل ، وهو هنا مستعار لما يعطونه من الرغائب سواء كانت رزقا أم غيره. ووجه الشبه سرعة إحضاره كأنه مهيّأ من قبل أن يشتهوه أو يتمنوه.

و (مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) صفة (نُزُلاً) ، و (مِنْ) ابتدائية.

وانتصب (نُزُلاً) على الحال من (ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ). و (ما تَدَّعُونَ) حال كونه كالنزل المهيّأ للضيف ، أي تعطونه كما يعطى النزل للضيف.

وأوثرت صفتا (الغفور الرحيم) هنا للإشارة إلى أن الله غفر لهم أو لأكثرهم اللمم وما تابوا منه ، وأنه رحيم بهم لأنهم كانوا يحبونه ويخافونه ويناصرون دينه.

٥٣

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣))

ليس هذا من حكاية خطاب الملائكة للمؤمنين في الآخرة وإنما هو موجه من الله فالأظهر أنه تكملة للثناء على (الَّذِينَ قالُوا : رَبُّنَا اللهُ) [فصلت : ٣٠] ، واستقاموا ، وتوجيه لاستحقاقهم تلك المعاملة الشريفة ، وقمع للمشركين إذ تقرع أسماعهم ، أي كيف لا يكونون بتلك المثابة وقد قالوا أحسن القول وعملوا أحسن العمل. وذكر هذا الثناء عليهم بحسن قولهم عقب ذكر مذمة المشركين ووعيدهم على سوء قولهم : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) [فصلت : ٢٦] ، مشعر لا محالة بأن بين الفريقين بونا بعيدا ، طرفاه : الأحسن المصرح به ، والأسوأ المفهوم بالمقابلة ، أي فلا يستوي الذين قالوا أحسن القول وعملوا أصلح العمل مع الذين قالوا أسوأ القول وعملوا أسوأ العمل ، ولهذا عقب بقوله : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) [فصلت : ٣٤].

والواو إما عاطفة على جملة (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) [فصلت : ٣٠] ، أو حاليّة من (الَّذِينَ قالُوا). والمعنى : أنهم نالوا ذلك إذ لا أحسن منهم قولا وعملا. و (مَنْ) استفهام مستعمل في النفي ، أي لا أحد أحسن قولا من هذا الفريق كقوله : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) الآية في سورة النساء [١٢٥].

و (مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) : كل أحد ثبت له مضمون هذه الصلة. والدعاء إلى شيء : أمر غيرك بالإقبال على شيء ، ومنه قولهم : الدعوة العباسية والدعوة العلوية ، وتسمية الواعظ عند بني عبيد بالداعي لأنه يدعو إلى التشيّع لآل علي بن أبي طالب. فالدعاء إلى الله : تمثيل لحال الآمر بإفراد الله بالعبادة ونبذ الشرك بحال من يدعو أحدا بالإقبال إلى شخص ، وهذا حال المؤمنين حين أعلنوا التوحيد وهو ما وصفوا به آنفا في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا) [فصلت : ٣٠] كما علمت وقد كان المؤمنون يدعون المشركين إلى توحيد الله ، وسيّد الداعين إلى الله هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقوله : (مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) (من) فيه تفضيلية لاسم (أَحْسَنُ) ، والكلام على حذف مضاف تقديره : من قول من دعا إلى الله. وهذا الحذف كالذي في قول النابغة :

وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي

على وعل في ذي المطارة عاقل

أي لا تزيد مخافتي على مخافة وعل ، ومنه قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ)

٥٤

الآية في سورة البقرة [١٧٧].

والعمل الصالح : هو العمل الذي يصلح عامله في دينه ودنياه صلاحا لا يشوبه فساد ، وذلك العمل الجاري على وفق ما جاء به الدين ، فالعمل الصالح : هو ما وصف به المؤمنون آنفا في قوله : (ثُمَّ اسْتَقامُوا) [فصلت : ٣٠].

وأما (وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فهو ثناء على المسلمين بأنهم افتخروا بالإسلام واعتزوا به بين المشركين ولم يتستروا بالإسلام.

والاعتزاز بالدين عمل صالح ولكنه خص بالذكر لأنه أريد به غيظ الكافرين. ومثال هذا ما وقع يوم أحد حين صاح أبو سفيان : اعل هبل ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قولوا : «الله أعلى وأجلّ» فقال أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قولوا الله مولانا ولا مولى لكم». وإنما لم يذكر نظير هذا القول في الصلة المشيرة إلى سبب تنزّل الملائكة على المؤمنين بالكرامة وهي (الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) [فصلت : ٣٠] لأن المقصود من ذكرها هنا الثناء عليهم بتفاخرهم على المشركين بعزة الإسلام ، وذلك من آثار تلك الصلة فلا حاجة إلى ذكره هنالك بخلاف موقعه هنا.

وفي هذه الآية منزع عظيم لفضيلة علماء الدين الذين بينوا السنن ووضحوا أحكام الشريعة واجتهدوا في التوصل إلى مراد الله تعالى من دينه ومن خلقه. وفيها أيضا منزع لطيف لتأييد قول الماتريدي وطائفة من علماء القيروان وعلى رأسهم محمد بن سحنون : أن المسلم يقول : أنا مؤمن ولا يقول إن شاء الله خلافا لقول الأشعري وطائفة من علماء القيروان وعلى رأسهم محمد بن عبدوس فنقل أنه كان يقول : أنا مؤمن إن شاء الله. وقد تطاير شرر هذا الخلاف بين علماء القيروان مدة قرن. والحق إنه خلاف لفظي كما بينه الشيخ أبو محمد بن أبي زيد ونقله عياض في «المدارك» ووافقه. وذكرنا المسألة مفصلة عند قوله تعالى : (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) في سورة الأعراف [٨٩] وبذلك فلا حجة في هذه الآية لأحد الفريقين وإنما الحجة في آية سورة الأعراف على الماتريدي ومحمد بن سحنون. والقول في قوله : (وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) كالقول في (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) [فصلت : ٣٠].

(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤))

٥٥

عطف هذه الجملة له موقع عجيب ، فإنه يجوز أن يكون عطفا على جملة (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) [فصلت : ٣٣] إلخ تكملة لها فإن المعطوف عليها تضمنت الثناء على المؤمنين إثر وعيد المشركين وذمّهم ، وهذه الجملة فيها بيان التفاوت بين مرتبة المؤمنين وحال المشركين ، فإن الحسنة اسم منقول من الصفة فتلمّح الصفة مقارن له ، فالحسنة حالة المؤمنين والسيئة حالة المشركين ، فيكون المعنى كمعنى آيات كثيرة من هذا القبيل مثل قوله تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) [غافر : ٥٨] ، فعطف هذه الجملة على التي قبلها على هذا الاعتبار يكون من عطف الجمل التي يجمعها غرض واحد وليس من عطف غرض على غرض. ويجوز أن تكون عطفا على جملة (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت : ٢٦] الواقعة بعد جملة (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) [فصلت : ٥] إلى قوله : (فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) [فصلت : ٥] فإن ذلك مثير في نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الضجر من إصرار الكافرين على كفرهم وعدم التأثر بدعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الحق فهو بحال من تضيق طاقة صبره على سفاهة أولئك الكافرين ، فأردف الله ما تقدم بما يدفع هذا الضيق عن نفسه بقوله : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) الآية.

فالحسنة تعم جميع أفراد جنسها وأولاها تبادرا إلى الأذهان حسنة الدعوة إلى الإسلام لما فيها من جمّ المنافع في الآخرة والدنيا ، وتشمل صفة الصفح عن الجفاء الذي يلقى به المشركون دعوة الإسلام لأن الصفح من الإحسان ، وفيه ترك ما يثير حميتهم لدينهم ويقرب لين نفوس ذوي النفوس اللينة. فالعطف على هذا من عطف غرض على غرض ، وهو الذي يعبر عنه بعطف القصة على القصة ، وهي تمهيد وتوطئة لقوله عقبها (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الآية.

وقد علمت غير مرة أن نفي الاستواء ونحوه بين شيئين يراد به غالبا تفضيل أحدهما على مقابله بحسب دلالة السياق كقوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) [السجدة : ١٨]. وقول الأعشى :

ما يجعل الجدّ الظّنون الذي

جنّب صوب اللّجب الماطر

مثل الفراتيّ إذا ما طما

يقذف بالبوصيّ والماهر

فكان مقتضى الظاهر أن يقال : ولا تستوي الحسنة والسيئة ، دون إعادة (لا) النافية بعد الواو الثانية كما قال تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) [غافر : ٥٨] ، فإعادة

٥٦

(لَا) النافية تأكيد لأختها السابقة. وأحسن من اعتبار التأكيد أن يكون في الكلام إيجاز حذف مؤذن باحتباك في الكلام ، تقديره : وما تستوي الحسنة والسيئة ولا السيئة والحسنة. فالمراد بالأول نفي أن تلتحق فضائل الحسنة مساوئ السيئة ، والمراد بالثاني نفي أن تلتحق السيئة بشرف الحسنة. وذلك هو الاستواء في الخصائص ، وفي ذلك تأكيد وتقوية لنفي المساواة ليدل على أنه نفي تام بين الجنسين : جنس الحسنة وجنس السيئة لا مبالغة فيه ولا مجاز ، وقد تقدم الكلام على نظيره في سورة فاطر.

وفي التعبير بالحسنة والسيئة دون المحسن والمسيء إشارة إلى أن كل فريق من هذين قد بلغ الغاية في جنس وصفه من إحسان وإساءة على طريقة الوصف بالمصدر ، وليتأتى الانتقال إلى موعظة تهذيب الأخلاق في قوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، فيشبه أن يكون إيثار نفي المساواة بين الحسنة والسيئة توطئة للانتقال إلى قوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).

وقوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) يجري موقعه على الوجهين المتقدمين في عطف جملة (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ).

فالجملة على الوجه الأول من وجهي موقع جملة (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) تخلص من غرض تفضيل الحسنة على السيئة إلى الأمر بخلق الدفع بالتي هي أحسن لمناسبة أن ذلك الدفع من آثار تفضيل الحسنة على السيئة إرشادا من الله لرسوله وأمته بالتخلق بخلق الدفع بالحسنى. وهي على الوجه الثاني من وجهي موقع جملة (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) واقعة موقع النتيجة من الدليل والمقصد من المقدمة ، فمضمونها ناشئ عن مضمون التي قبلها.

وكلا الاعتبارين في الجملة الأولى مقتض أن تكون جملة (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) مفصولة غير معطوفة.

وإنما أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك لأن منتهى الكمال البشري خلقه كما قال : «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». وقالت عائشة لما سئلت عن خلقه (كان خلقه القرآن) لأنه أفضل الحكماء.

والإحسان كما ذاتي ولكنه قد يكون تركه محمودا في الحدود ونحوها فذلك معنى خاص. والكمال مطلوب لذاته فلا يعدل عنه ما استطاع ما لم يخش فوات كمال أعظم ، ولذلك قالت عائشة : «ما انتقم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنفسه قط إلّا أن تنتهك حرمات الله فيغضب

٥٧

لله». وتخلّق الأمة بهذا الخلق مرغوب فيه قال تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [الشورى : ٤٠].

وروى عياض في «الشفاء» وهو مما رواه ابن مردويه عن جابر بن عبد الله وابن جرير في «تفسيره» لما نزل قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ) [الأعراف : ١٩٩] سأل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل عن تأويلها فقال له : حتى أسأل العالم ، فأتاه فقال : «يا محمد إن الله يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك».

ومفعول (ادْفَعْ) محذوف دل عليه انحصار المعنى بين السيئة والحسنة ، فلما أمر بأن تكون الحسنة مدفوعا بها تعيّن أن المدفوع هو السيئة ، فالتقدير : ادفع السيئة بالتي هي أحسن كقوله تعالى : (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) في سورة الرعد [٢٢] وقوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) في سورة المؤمنين [٩٦].

و (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) هي الحسنة ، وإنما صيغت بصيغة التفضيل ترغيبا في دفع السيئة بها لأن ذلك يشق على النفس فإن الغضب من سوء المعاملة من طباع النفس وهو يبعث على حب الانتقام من المسيء فلما أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يجازي السيئة بالحسنة أشير إلى فضل ذلك. وقد ورد في صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح». وقد قيل : إن ذلك وصفه في التوراة. وفرع على هذا الأمر قوله : (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) لبيان ما في ذلك الأمر من الصلاح ترويضا على التخلق بذلك الخلق الكريم ، وهو أن تكون النفس مصدرا للإحسان. ولما كانت الآثار الصالحة تدل على صلاح مثارها. وأمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالدفع بالتي هي أحسن أردفه بذكر بعض محاسنه وهو أن يصير العدو كالصديق ، وحسن ذلك ظاهر مقبول فلا جرم أن يدل حسنه على حسن سببه.

ولذكر المثل والنتائج عقب الإرشاد شأن ظاهر في تقرير الحقائق وخاصة التي قد لا تقبلها النفوس لأنها شاقة عليها ، والعداوة مكروهة والصداقة والولاية مرغوبة ، فلما كان الإحسان لمن أساء يدنيه من الصداقة أو يكسبه إياها كان ذلك من شواهد مصلحة الأمر بالدفع بالتي هي أحسن.

و (إذا) للمفاجأة ، وهي كناية عن سرعة ظهور أثر الدفع بالتي هي أحسن في انقلاب العدوّ صديقا. وعدل عن ذكر العدوّ معرفا بلام الجنس إلى ذكره باسم الموصول ليتأتى تنكير عداوة للنوعية وهو أصل التنكير فيصدق بالعداوة القوية ودونها ، كما أن ظرف

٥٨

(بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ) يصدق بالبين القريب والبين البعيد ، أعني ملازمة العداوة أو طروّها.

وهذا تركيب من أعلى طرف البلاغة لأنه يجمع أحوال العداوات فيعلم أن الإحسان ناجع في اقتلاع عداوة المحسن إليه للمحسن على تفاوت مراتب العداوة قوة وضعفا ، وتمكنا وبعدا ، ويعلم أنه ينبغي أن يكون الإحسان للعدوّ قويا بقدر تمكن عداوته ليكون أنجع في اقتلاعها. ومن الأقوال المشهورة : النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها.

والتشبيه في قوله : (كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) ، تشبيه في زوال العداوة ومخالطة شوائب المحبة ، فوجه الشبه هو المصافاة والمقاربة وهو معنى متفاوت الأحوال ، أي مقول على جنسه بالتشكيك على اختلاف تأثر النفس بالإحسان وتفاوت قوة العداوة قبل الإحسان ، ولا يبلغ مبلغ المشبّه به إذ من النادر أن يصير العدوّ وليّا حميما ، فإن صاره فهو لعوارض غير داخلة تحت معنى الإسراع الذي آذنت به (إذا) الفجائية. والعداوة التي بين المشركين وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عداوة في الدين ، فالمعنى : فإذا الذي بينك وبينه عداوة لكفره ، فلذلك لا تشمل الآية من آمنوا بعد الكفر فزالت عداوتهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأجل إيمانهم كما زالت عداوة عمر رضي‌الله‌عنه بعد إسلامه حتى قال يوما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لأنت أحب إليّ من نفسي التي بين جنبيّ ، وكما زالت عداوة هند بنت عتبة زوج أبي سفيان إذ قالت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما كان أهل خباء أحبّ إليّ من أن يذلّوا من أهل خبائك واليوم ما أهل خباء أحبّ إليّ من أن يعزّوا من أهل خبائك فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأيضا ، أي وستزيدين حبا.

وعن مقاتل : أنه قال : هذه الآية نزلت في أبي سفيان كان عدوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجاهلية فصار بعد إسلامه وليا مصافيا. وهو وإن كان كما قالوا فلا أحسب أن الآية نزلت في ذلك لأنها نزلت في اكتساب المودة بالإحسان.

والولي : اسم مشتق من الولاية بفتح الواو ، والولاء ، وهو : الحليف والناصر ، وهو ضد العدو ، وتقدم في غير آية من القرآن.

والحميم : القريب والصديق. ووجه الجمع بين (وَلِيٌّ حَمِيمٌ) أنه جمع خصلتين كلتاهما لا تجتمع مع العداوة وهما خصلتا الولاية والقرابة.

(وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥))

عطف على جملة (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [فصلت : ٣٤] ، أو حال من (التي هي أحسن) ، وضمير (يُلَقَّاها) عائد إلى (التي هي أحسن) باعتبار تعلقها بفعل (ادفع) ، أي

٥٩

بالمعاملة والمدافعة التي هي أحسن ، فأما مطلق الحسنة فقد يحصل لغير الذين صبروا.

وهذا تحريض على الارتياض بهذه الخصلة بإظهار احتياجها إلى قوة عزم وشدة مراس للصبر على ترك هوى النفس في حب الانتقام ، وفي ذلك تنويه بفضلها بأنها تلازمها خصلة الصبر وهي في ذاتها خصلة حميدة وثوابها جزيل كما علم من عدة آيات في القرآن ، وحسبك قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر : ٢ ، ٣]. فالصابر مرتاض بتحمل المكاره وتجرع الشدائد وكظم الغيظ فيهون عليه ترك الانتقام.

و (يُلَقَّاها) يجعل لاقيا لها ، أي كقوله تعالى : (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) [الإنسان : ١١] ، وهو مستعار للسعي لتحصيلها لأن التحصيل على الشيء بعد المعالجة والتخلق يشبه السعي لملاقاة أحد فيلقاه. وجيء في (يُلَقَّاها) بالمضارع في الموضعين باعتبار أن المأمور بالدفع بالتي هي أحسن مأمور بتحصيل هذا الخلق في المستقبل ، وجيء في الصلة وهي (الَّذِينَ صَبَرُوا) بالماضي للدلالة على أن الصبر خلق سابق فيهم هو العون على معاملة المسيء بالحسنى ، ولهذه النكتة عدل عن أن يقال : إلا الصابرون ، لنكتة كون الصبر سجية فيهم متأصلة. ثم زيد في التنويه بها بأنها ما تحصل إلا لذي حظ عظيم.

والحظ : النصيب من الشيء مطلقا ، وقيل : خاص بالنصيب من خير ، والمراد هنا : نصيب الخير ، بالقرينة أو بدلالة الوضع ، أي ما يحصل دفع السيئة بالحسنة إلا لصاحب نصيب عظيم من الفضائل ، أي من الخلق الحسن والاهتداء والتقوى.

فتحصّل من هذين أن التخلق بالصبر شرط في الاضطلاع بفضيلة دفع السيئة بالتي هي أحسن ، وأنه ليس وحده شرطا فيها بل وراءه شروط أخر يجمعها قوله : (حَظٍّ عَظِيمٍ) ، أي من الأخلاق الفاضلة ، والصبر من جملة الحظ العظيم لأن الحظ العظيم أعمّ من الصبر ، وإنما خص الصبر بالذكر لأنه أصلها ورأس أمرها وعمودها.

وفي إعادة فعل (وَما يُلَقَّاها) دون اكتفاء بحرف العطف إظهار لمزيد الاهتمام بهذا الخبر بحيث لا يستتر من صريحه شيء تحت العاطف.

وأفاد (ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أن الحظ العظيم من الخير سجيته وملكته كما اقتضته إضافة (ذُو). وحاصل ما أشار إليه الجملتان أنّ مثلك من يتلقى هذه الوصية وما هي بالأمر الهيّن لكل أحد.

٦٠