تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

وإنما وصفت البلدة وهي مؤنث بالميت وهو مذكّر لكونه على زنة الوصف الذي أصله مصدر نحو : عدل وزور فحسن تجريده من علامة التأنيث على أن الموصوف مجازي التأنيث.

وجملة (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) معترضة بين المتعاطفين وهو استطراد بالاستدلال على ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إثبات البعث ، بمناسبة الاستدلال على تفرد الله بالإلهية بدلائل في بعضها دلالة على إمكان البعث وإبطال إحالتهم إياه. والإشارة بذلك إلى الانتشار المأخوذ من (فَأَنْشَرْنا) ، أي مثل ذلك الانتشار تخرجون من الأرض بعد فنائكم ، ووجه الشبه هو إحداث الحي بعد موته. والمقصود من التشبيه إظهار إمكان المشبه كقول أبي الطيب :

فإن تفق الأنام وأنت منهم

فإنّ المسك بعض دم الغزال

وقرأ الجمهور (تُخْرَجُونَ) بالبناء للنائب. وقرأه حمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر (تُخْرَجُونَ) بالبناء للفاعل والمعنى واحد.

[١٢ ـ ١٤] (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤))

هذا الانتقال من الاستدلال والامتنان بخلق وسائل الحياة إلى الاستدلال بخلق وسائل الاكتساب لصلاح المعاش ، وذكر منها وسائل الإنتاج وأتبعها بوسائل الاكتساب بالأسفار للتجارة. وإعادة اسم الموصول لما تقدم في نظيره آنفا.

والأزواج : جمع زوج ، وهو كل ما يصير به الواحد ثانيا ، فيطلق على كل منهما أنه زوج للآخر مثل الشفع. وغلب الزوج على الذكر وأنثاه من الحيوان ، ومنه (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) في سورة الأنعام [١٤٣] ، وتوسع فيه فأطلق الزوج على الصنف ومنه قوله : (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) [الرعد : ٣]. وكلا الاطلاقين يصح أن يراد هنا ، وفي أزواج الأنعام منافع بألبانها وأصوافها وأشعارها ولحومها ونتاجها.

ولما كان المتبادر من الأزواج بادئ النظر أزواج الأنعام وكان من أهمها عندهم الرواحل عطف عليها ما هو منها وسائل للتنقل برّا وأدمج معها وسائل السفر بحرا. فقال : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) فالمراد ب (ما تَرْكَبُونَ) بالنسبة إلى الأنعام

٢٢١

هو الإبل لأنها وسيلة الأسفار قال تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا) ذرياتهم (فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) [يس : ٤١ ، ٤٢] وقد قالوا : الإبل سفائن البر.

وجيء بفعل (جَعَلَ) مراعاة لأن الفلك مصنوعة وليست مخلوقة ، والأنعام قد عرف أنها مخلوقة لشمول قوله : (خَلَقَ الْأَزْواجَ) إياها. ومعنى جعل الله الفلك والأنعام مركوبة : أنه خلق في الإنسان قوة التفكير التي ينساق بها إلى استعمال الموجودات في نفعه فاحتال كيف يصنع الفلك ويركب فيها واحتال كيف يروض الأنعام ويركبها.

وقدم الفلك على الأنعام لأنها لم يشملها لفظ الأزواج فذكرها ذكر نعمة أخرى ولو ذكر الأنعام لكان ذكره عقب الأزواج بمنزلة الإعادة. فلما ذكر الفلك بعنوان كونها مركوبا عطف عليها الأنعام فصار ذكر الأنعام مترقبا للنفس لمناسبة جديدة ، وهذا كقول امرئ القيس :

كأني لم أركب جوادا للذة

ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال

ولم أسبإ الراح الكميت ولم أقل

لخيلي كرّي كرّة بعد إجفال

إذ أعقب ذكر ركوب الجواد بذكر تبطّن الكاعب للمناسبة ، ولم يعقبه بقوله : ولم أقل لخيلي كري كرة ، لاختلاف حال الركوبين : ركوب اللّذة وركوب الحرب.

والركوب حقيقته : اعتلاء الدابّة للسير ، وأطلق على الحصول في الفلك لتشبيههم الفلك بالدابّة بجامع السير فركوب الدابة يتعدّى بنفسه وركوب الفلك يتعدّى ب (في) للفرق بين الأصيل واللاحق ، وتقدم عند قوله تعالى : (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها) في سورة هود [٤١].

و (مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ) بيان لإبهام (ما) الموصولة في قوله : (ما تَرْكَبُونَ). وحذف عائد الصلة لأنه متصل منصوب ، وحذف مثله كثير في الكلام. وإذ قد كان مفعول (تَرْكَبُونَ) هنا مبيّنا بالفلك والأنعام كان حق الفعل أن يعدى إلى أحدهما بنفسه وإلى الآخر ب (في) فغلّبت التعدية المباشرة على التعدية بواسطة الحرف لظهور المراد ، وحذف العائد بناء على ذلك التغليب. واستعمال فعل (تَرْكَبُونَ) هنا من استعمال اللّفظ في حقيقته ومجازه.

والاستواء الاعتلاء. والظهور : جمع ظهر ، والظهر من علائق الأنعام لا من علائق الفلك ، فهذا أيضا من التغليب. والمعنى : على ظهوره وفي بطونه. فضمير (ظُهُورِهِ) عائد إلى (ما) الموصولة الصادق بالفلك والأنعام كما هو قضية البيان ، على أن السفائن

٢٢٢

العظيمة تكون لها ظهور ، وهي أعاليها المجعولة كالسطوح لتقي الراكبين المطر وشدة الحر والقرّ. ولذلك فجمع الظهور من جمع المشترك والتعدية بحرف (عَلى) بنيت على أن للسفينة ظهرا قال تعالى : (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) [المؤمنون : ٢٨].

وقد جعل قوله : (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) توطئة وتمهيدا للإشارة إلى ذكر نعمة الله في قوله : (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) أي حينئذ ، فإن ذكر النعمة في حال التلبّس بمنافعها أوقع في النفس وأدعى للشكر عليها. وأجدر بعدم الذهول عنها ، أي جعل لكم ذلك نعمة لتشعروا بها فتشكروه عليها ، فالذكر هنا هو التذكر بالفكر لا الذكر باللسان.

وهذا تعريض بالمشركين إذ تقلبوا في نعم الله وشكروا غيره إذ اتخذوا له شركاء في الإلهية وهم لم يشاركوه في الأنعام. وذكر النعمة كناية عن شكرها لأن شكر المنعم لازم للإنعام عرفا فلا يصرف عنه إلّا نسيانه فإذا ذكره شكر النعمة.

وعطف على (تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ) قوله : (وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) ، أي لتشكروا الله في نفوسكم وتعلنوا بالشكر بألسنتكم ، فلقنهم صيغة شكر عناية به كما لقّنهم صيغة الحمد في سورة الفاتحة وصيغة الدعاء في آخر سورة البقرة.

وافتتح هذا الشكر اللّساني بالتسبيح لأنه جامع للثناء إذ التسبيح تنزيه الله عما لا يليق ، فهو يدلّ على التنزيه عن النقائص بالصريح ويدلّ ضمنا على إثبات الكمالات لله في المقام الخطابي. واستحضار الجلالة بطريق الموصولية لما يؤذن به الموصول من علة التسبيح حتى يصير الحمد الذي أفاده التسبيح شكرا لتعليله بأنه في مقابلة التسخير لنا. واسم الإشارة موجه إلى المركوب حينما يقول الراكب هذه المقالة من دابّة أو سفينة.

والتسخير : التذييل والتطويع. وتسخير الله الدواب هو خلقه إيّاها قابلة للترويض فاهمة لمراد الرّاكب ، وتسخير الفلك حاصل بمجموع خلق البحر صالحا لسبح السفن على مائه ، وخلق الرياح تهبّ فتدفع السفن على الماء ، وخلق حيلة الإنسان لصنع الفلك ، ورصد مهابّ الرياح ، ووضع القلوع والمجاذيف ، ولو لا ذلك لكانت قوة الإنسان دون أن تبلغ استخدام هذه الأشياء القوية. ولهذا عقب بقوله : (وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) أي مطيقين ، أي بمجرد القوة الجسدية ، أي لو لا التسخير المذكور ، فجملة (وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) في موضع الحال من ضمير (لَنا) أي سخرها لنا في حال ضعفنا بأن كان تسخيره قائما مقام القوة.

٢٢٣

والمقرن : المطيق ، يقال : أقرن ، إذا أطاق ، قال عمرو بن معديكرب :

لقد علم القبائل ما عقيل

لنا في النائبات بمقرنينا

وختم هذا الشكر والثناء بالاعتراف بأن مرجعنا إلى الله ، أي بعد الموت بالبعث للحساب والجزاء ، وهذا إدماج لتلقينهم الإقرار بالبعث. وفيه تعريض بسؤال إرجاع المسافر إلى أهله فإن الذي يقدر على إرجاع الأموات إلى الحياة بعد الموت يرجى لإرجاع المسافر سالما إلى أهله.

والانقلاب : الرجوع إلى المكان الذي يفارقه. والجملة معطوفة على جملة التنزيه عطف الخبر على الإنشاء. وفي هذا تعريض بتوبيخ المشركين على كفران نعمة الله بالإشراك وبنسبة العجز عن الإحياء بعد الموت لأن المعنى : وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتشكروا بالقلب واللّسان فلم تفعلوا ، ولملاحظة هذا المعنى أكد الخبر. وفيه تعريض بالمؤمنين بأن يقولوا هذه المقالة كما شكروا لله ما سخر لهم من الفلك والأنعام. وفيه إشارة إلى أن حق المؤمن أن يكون في أحواله كلها ملاحظا للحقائق العالية ناظرا لتقلبات الحياة نظر الحكماء الذين يستدلون ببسائط الأمور على عظيمها.

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥))

هذا متصل بقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الزخرف : ٩] أي ولئن سألتهم عن خالق الأشياء ليعترفن به وقد جعلوا له مع ذلك الاعتراف جزءا.

فالواو للعطف على جملة (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ). ويجوز كونها للحال على معنى : وقد جعلوا له من عباده جزءا ، ومعنى الحال تفيد تعجيبا منهم في تناقض آرائهم وأقوالهم وقلبهم الحقائق ، وهي غبارة في الرأي تعرض للمقلدين في العقائد الضالّة لأنهم يلفقون عقائدهم من مختلف آراء الدعاة فيجتمع للمقلد من آراء المختلفين في النظر ما لو اطلع كل واحد من المقتدين بهم على رأي غيره منهم لأبطله أو رجع عن الرأي المضادّ له.

فالمشركون مقرّون بأن الله خالق الأشياء كلّها ومع ذلك جعلوا له شركاء في الإلهية ، وكيف يستقيم أن يكون المخلوق إلها ، وجعلوا لله بنات ، والبنوة تقتضي المماثلة في الماهية ، وكيف يستقيم أن يكون لخالق الأشياء كلّها بنات فهنّ لا محالة مخلوقات له فإن لم يكنّ مخلوقات لزم أن يكنّ موجودات بوجوده فكيف تكنّ بناته. وإلى هذا التناقض

٢٢٤

الإشارة بقوله : (مِنْ عِبادِهِ) أي من مخلوقاته ، أو ليست العبودية الحقة إلّا عبودية المخلوق جزءا ، أي قطعة.

والجزء : بعض من كلّ ، والقطعة منه. والولد كجزء من الوالد لأنه منفصل منه ، ولذلك يقال للولد : بضعة. فهم جمعوا بين اعتقاد حدوث الملائكة وهو مقتضى أنها عباد الله وبين اعتقاد إلهيتها وهو مقتضى أنها بنات الله لأن البنوة تقتضي المشاركة في الماهية.

ولما كانت عقيدة المشركين معروفة لهم ومعروفة للمسلمين كان المراد من الجزء : البنات ، لقول المشركين : إن الملائكة بنات الله من سروات الجنّ ، أي أمهاتهم سروات الجنّ ، أي شريفات الجنّ فسروات جمع سريّة. وحكى القرطبي أن المبرد قال : الجزء هاهنا البنات ، يقال: أجزأت المرأة ، إذا ولدت أنثى. وفي «اللّسان» عن الزجاج أنه قال : أنشدت بيتا في أن معنى جزء معنى الإناث ولا أدري البيت أقديم أم مصنوع ، وهو :

إن أجزأت حرة يوما فلا عجب

قد تجزئ الحرّة المذكار أحيانا

وفي «تاج العروس» : أن هذا البيت أنشده ثعلب ، وفي «اللّسان» أنشد أبو حنيفة :

زوّجتها من بنات الأوس مجزئة

للعوسج الرطب في أبياتها زجل

ونسبه الماوردي في تفسيره إلى أهل اللّغة. وجزم صاحب «الكشاف» بأن هذا المعنى كذب على العرب وأن البيتين مصنوعان.

والجعل هنا معناه : الحكم على الشيء بوصفه حكما لا مستند له فكأنه صنع باليد والصنع باليد يطلق عليه الجعل.

وجملة (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) تذييل يدل على استنكار ما زعموه بأنه كفر شديد. والمراد ب (الْإِنْسانَ) هؤلاء النّاس خاصة.

والمبين : الموضّح كفره في أقواله الصريحة في كفر نعمة الله.

[١٦ ، ١٧] (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧))

(أَمِ) للإضراب وهو هنا انتقالي لانتقال الكلام من إبطال معتقدهم بنوة الملائكة لله تعالى بما لزمه من انتقاص حقيقة الإلهية ، إلى إبطاله بما يقتضيه من انتقاص ينافي الكمال الذي تقتضيه الإلهية. والكلام بعد (أَمِ) استفهام ، وهو استفهام إنكاري كما اقتضاه قوله:

٢٢٥

(وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ). ومحل الاستدلال أن الإناث مكروهة عندهم فكيف يجعلون لله أبناء إناثا وهلّا جعلوها ذكورا. وليست لهم معذرة عن الفساد المنجرّ إلى معتقدهم بالطريقين لأن الإبطال الأول نظري يقيني والإبطال الثاني جدليّ بديهي قال تعالى : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) [النجم : ٢١ ، ٢٢]. فهذه حجة ناهضة عليهم لاشتهارها بينهم.

ولما ادّعت سجاح بنت الحارث النبوءة في بني تميم أيام الردة وكان قد ادّعى النبوءة قبلها مسيلمة الحنفي ، والأسود العنسي ، وطليحة بن خويلد الأسدي ، قال عطارد بن حاجب التميمي :

أضحت نبيئتنا أنثى نطيف بها

وأصبحت أنبياء النّاس ذكرانا

وأوثر فعل (اتَّخَذَ) هنا لأنه يشمل الاتخاذ بالولادة ، أي بتكوين الانفصال عن ذات الله تعالى بالمزاوجة مع سروات الجنّ ، ويشمل ما هو دون ذلك وهو التبنّي فعلى كلا الفرضين يتوجه إنكار أن يكون ما هو لله أدون مما هو لهم كما قال تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) [النحل : ٦٢]. وقد أشار إلى هذا قوله : (وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) ، فهذا ارتقاء في إبطال معتقدهم بإبطال فرض أن يكون الله تبنّى الملائكة ، سدّا على المشركين باب التأول والتنصل من فساد نسبتهم البنات إلى الله ، فلعلّهم يقولون : ما أردنا إلا التبني ، كما تنصلوا حين دمغتهم براهين بطلان إلهية الأصنام فقالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، وقالوا : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨].

واعلم أن ما تؤذن به (أَمِ) حيثما وقعت من تقدير استفهام بعدها هو هنا استفهام في معنى الإنكار وتسلط الإنكار على اتخاذ البنات مع عدم تقدم ذكر البنات لكون المعلوم من جعل المشركين لله جزءا أن المجعول جزءا له هو الملائكة وأنهم يجعلون الملائكة إناثا ، فذلك معلوم من كلامهم. وجملة (وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) في موضع الحال.

والنفي الحاصل من الاستفهام الإنكاري منصبّ إلى قيد الحال ، فحصل إبطال اتخاذ الله البنات بدليلين ، لأن إعطاءهم البنين واقع فنفي اقترانه باتخاذه لنفسه البنات يقتضي انتفاء اتخاذه البنات فالمقصود اقتران الإنكار بهذا القيد. وبهذا يتضح أن الواو في جملة (وَأَصْفاكُمْ) ليست واو العطف لأن إنكار أن يكون أصفاهم بالبنين لا يقتضي نفي الأولاد الذكور عن الله تعالى. والخطاب في (وَأَصْفاكُمْ) موجه إلى الذين جعلوا له من عباده جزءا ، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب ليكون الإنكار والتوبيخ أوقع عليهم لمواجهتهم به.

٢٢٦

وتنكير (بَناتٍ) لأن التنكير هو الأصل في أسماء الأجناس. وأما تعريف (بِالْبَنِينَ) باللام فهو تعريف الجنس المتقدم في قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) في سورة الفاتحة [٢]. والمقصود منه هنا الإشارة إلى المعروف عندهم المتنافس في وجوده لديهم وتقدم عند قوله (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) في سورة الشورى [٤٩].

وتقديم البنات في الذكر على البنين لأن ذكرهن أهم هنا إذ هو الغرض المسوق له الكلام بخلاف مقام قوله : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً) في سورة الإسراء [٤٠]. ولما في التقديم من الردّ على المشركين في تحقيرهم البنات وتطيّرهم منهن مثل ما تقدم في سورة الشورى.

والإصفاء : إعطاء الصفوة ، وهي الخيار من شيء.

وجملة (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ) يجوز أن تكون في موضع الحال من ضمير النصب في و (أَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) ، ومقتضى الظاهر أن يؤتى بضمير الخطاب في قوله : (أَحَدُهُمْ) فعدل عن ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة على طريق الالتفات ليكونوا محكيا حالهم إلى غيرهم تعجيبا من فساد مقالتهم وتشنيعا بها إذ نسبوا لله بنات دون الذّكور وهو نقص ، وكانوا ممن يكره البنات ويحقرهنّ فنسبتها إلى الله مفض إلى الاستخفاف بجانب الإلهية.

والمعنى : أأتّخذ مما يخلق بنات الله وأصفاكم بالبنين في حال أنكم إذا بشّر أحدكم بما ضربه للرحمن مثلا ظلّ وجهه مسودّا. ويجوز أن تكون اعتراضا بين جملة (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ) وجملة (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) [الزخرف : ١٨].

واستعمال البشارة هنا تهكّم بهم كقوله : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الانشقاق : ٢] لأن البشارة إعلام بحصول أمر مسرّ.

و (ما) في قوله : (بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) موصولة ، أي بشر بالجنس الذي ضربه ، أي جعله مثلا وشبها لله في الإلهية ، وإذ جعلوا جنس الأنثى جزءا لله ، أي منفصلا منه فالمبشّر به جنس الأنثى ، والجنس لا يتعين. فلا حاجة إلى تقدير بشر بمثل ما ضربه للرحمن مثلا.

والمثل : الشبيه.

والضرب : الجعل والصنع ، ومنه ضرب الدينار ، وقولهم : ضربة لازب ، فما صدق

٢٢٧

(بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) هو الإناث.

ومعنى (ظَلَ) هنا : صار ، فإن الأفعال الناقصة الخمسة المفتتح بها باب الأفعال الناقصة ، تستعمل بمعنى صار.

واسوداد الوجه من شدة الغضب والغيظ إذ يصعد الدم إلى الوجه فتصير حمرته إلى سواد ، والمعنى : تغيّظ.

والكظيم : الممسك ، أي عن الكلام كربا وحزنا.

(أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨))

عطف إنكار على إنكار ، والواو عاطفة الجملة على الجملة وهي مؤخرة عن همزة الاستفهام لأن للاستفهام الصدر وأصل الترتيب : وأمن ينشأ. وجملة الاستفهام معطوفة على الإنكار المقدّر بعد (أَمِ) في قوله : (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ) [الزخرف : ١٦]. ولذلك يكون (مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) في محل نصب بفعل محذوف دلّ عليه فعل (اتَّخَذَ) في قوله : (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ) [الزخرف : ١٦]. والتقدير : أأتّخذ من ينشأ في الحلية إلخ. ولك أن تجعل (مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) بدلا من قوله (بَناتٍ) بدلا مطابقا وأبرز العامل في البدل لتأكيد معنى الإنكار لا سيما وهو قد حذف من المبدل منه. وإذ كان الإنكار إنما يتسلط على حكم الخبر كان موجب الإنكار الثاني مغايرا لموجب الإنكار الأول وإن كان الموصوف بما لوصفين اللذين تعلق بهما الإنكار موصوفا واحدا وهو الأنثى.

ونشء الشيء في حالة أن يكون ابتداء وجوده مقارنا لتلك الحالة فتكون للشيء بمنزلة الظرف. ولذلك اجتلب حرف في الدّالة على الظرفية وإنما هي مستعارة لمعنى المصاحبة والملابسة فمعنى (مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) من تجعل له الحلية من أول أوقات كونه ولا تفارقه ، فإن البنت تتّخذ لها الحلية من أول عمرها وتستصحب في سائر أطوارها ، وحسبك أنها شقّت طرفا أذنيها لتجعل لها فيهما الأقراط بخلاف الصبي فلا يحلّى بمثل ذلك وما يستدام له. والنّشء في الحلية كناية عن الضعف عن مزاولة الصعاب بحسب الملازمة العرفية فيه. والمعنى : أن لا فائدة في اتخاذ الله بنات لا غناء لهن فلا يحصل له باتخاذها زيادة عزّة ، بناء على متعارفهم ، فهذا احتجاج إقناعي خطابي.

و (الْخِصامِ) ظاهره : المجادلة والمنازعة بالكلام والمحاجّة ، فيكون المعنى : أن المرأة لا تبلغ المقدرة على إبانة حجتها. وعن قتادة : ما تكلمت امرأة ولها حجة إلا

٢٢٨

جعلتها على نفسها ، وعنه : (مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) هنّ الجواري يسفّههن بذلك ، وعلى هذا التفسير درج جميع المفسرين.

والمعنى عليه : أنّهن غير قوادر على الانتصار بالقول فبالأولى لا يقدرن على ما هو أشد من ذلك في الحرب ، أي فلا جدوى لاتّخاذهن أولادا.

ويجوز عندي : أن يحمل الخصام على التقاتل والدّفاع باليد فإن الخصم يطلق على المحارب ، قال تعالى : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) [الحج : ١٩] فسّر بأنهم نفر من المسلمين مع نفر من المشركين تقاتلوا يوم بدر.

فمعنى (غَيْرُ مُبِينٍ) غير محقق النصر. قال بعض العرب وقد بشر بولادة بنت : «والله ما هي بنعم الولد بزّها بكاء ونصرها سرقة».

والمقصود من هذا فضح معتقدهم الباطل وأنهم لا يحسنون إعمال الفكر في معتقداتهم وإلا لكانوا حين جعلوا لله بنوة أن لا يجعلوا له بنوة الإناث وهم يعدّون الإناث مكروهات مستضعفات. وتذكير ضمير (وَهُوَ فِي الْخِصامِ) مراعاة للفظ (مَنْ) الموصولة.

و (الْحِلْيَةِ) : اسم لما يتحلّى به ، أي يتزين به ، قال تعالى : وتستخرجون (مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) [النحل : ١٤].

وقرأ الجمهور ينشأ بفتح الياء وسكون النون. وقرأه حفص وحمزة والكسائي (يُنَشَّؤُا) بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين ومعناه : يعوده على النشأة في الحلية ويربّى.

(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩))

عطف على (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) [الزخرف : ١٥] ، أعيد ذلك مع تقدم ما يغني عنه من قوله : (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ) [الزخرف : ١٦] ليبنى عليه الإنكار عليهم بقوله : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) استقراء لإبطال مقالهم إذ أبطل ابتداء بمخالفته لدليل العقل وبمخالفته لما يجب لله من الكمال ، فكمل هنا إبطاله بأنه غير مستند لدليل الحس.

وجملة الذين هم عند الرحمن صفة الملائكة. قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب عند بعين فنون ودال مفتوحة والعندية عندية تشريف ، أي الذين هم معدودون في حضرة القدس المقدسة بتقديس الله فهم يتلقون الأمر من الله بدون وساطة

٢٢٩

وهم دائبون على عبادته ، فكأنهم في حضرة الله ، وهذا كقوله : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ) [الأنبياء : ١٩] وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) [الأعراف : ٢٠٦] ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تحاجّ آدم وموسى عند الله عزوجل»

الحديث ، فالعندية مجاز والقرينة هي شأن من أضيف إليه عند.

وقرأ الباقون (عِبادُ الرَّحْمنِ) بعين وموحدة بعدها ألف ثم دال مضمومة على معنى: الذين هم عباد مكرمون ، فالإضافة إلى اسم الرحمن تفيد تشريفهم قال تعالى : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء : ٢٦] والعبودية عبودية خاصة وهي عبودية القرب كقوله تعالى : (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) [القمر : ٩].

وجملة (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) معترضة بين جملة (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ) وجملة (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) [الزخرف : ٢٠].

وقرأ نافع وأبو جعفر بهمزتين أولاهما مفتوحة والأخرى مضمومة وسكون شين (أَشَهِدُوا) مبنيا للنائب وكيفية أداء الهمزتين يجري على حكم الهمزتين في قراءة نافع ، وعلى هذه القراءة فالهمزة للاستفهام وهو للإنكار والتوبيخ. وجيء بصيغة النائب عن الفاعل دون صيغة الفاعل لأن الفاعل معلوم أنه الله تعالى لأن العالم العلوي الذي كان فيه خلق الملائكة لا يحضره إلا من أمر الله بحضوره ، ألا ترى إلى ما ورد في حديث الإسراء من قول كلّ ملك موكّل بباب من أبواب السماوات لجبريل حين يستفتح» من أنت؟ قال : جبريل ، قال : ومن معك؟ قال : محمد قال : وقد أرسل إليه؟ قال : نعم ، قال : مرحبا ونعم المجيء جاء وفتح له».

والمعنى : أأشهدهم الله خلق الملائكة وكقوله تعالى : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الكهف : ٥١].

وقرأه الباقون بهمزة مفتوحة فشين مفتوحة بصيغة الفعل ، فالهمزة لاستفهام الإنكار دخلت على فعل شهد ، أي ما حضروا خلق الملائكة على نحو قوله تعالى : (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ) [الصافات : ١٥٠].

وجملة (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ) بدل اشتمال من جملة (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) لأن ذلك الإنكار يشتمل على الوعيد. وهذا خبر مستعمل في التوعد. وكتابة الشهادة كناية عن تحقق العقاب على كذبهم كما تقدم آنفا في قوله : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ)

٢٣٠

[الزخرف : ٤] ومنه قوله تعالى : (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) [آل عمران : ١٨١]. والسّين في (سَتُكْتَبُ) لتأكيد الوعيد.

والمراد بشهادتهم : ادعاؤهم أن الملائكة إناثا ، وأطلق عليها شهادة تهكما بهم.

والسؤال سؤال تهديد وإنذار بالعقاب وليس مما يتطلب عنه جواب كقوله تعالى : (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) [التكاثر : ٨] ، ومنه قول كعب بن زهير :

لذاك أهيب عندي إذ أكلمه

وقيل إنّك منسوب ومسئول

أي مسئول عما سبق منك من التكذيب الذي هو معلوم للسائل.

(وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠))

عطف على جملة (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [الزخرف : ٩] ، فإنها استدلال على وحدانية الله تعالى وعلى أن معبوداتهم غير أهل لأن تعبد. فحكي هنا ما استظهروه من معاذيرهم عند نهوض الحجة عليهم يرومون بها إفحام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين فيقولون : لو شاء الله ما عبدنا الأصنام ، أي لو أن الله لا يحب أن نعبدها لكان الله صرفنا عن أن نعبدها ، وتوهموا أن هذا قاطع لجدال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم لأنهم سمعوا من دينه أن الله هو المتصرف في الحوادث فتأولوه على غير المراد منه. فضمير الغيبة في (ما عَبَدْناهُمْ) عائد إلى معلوم من المقام ومن ذكر فعل العبادة لأنهم كانوا يعبدون الأصنام وهم الغالب ، وأقوام منهم يعبدون الجنّ قال تعالى : (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) [سبأ : ٤١].

قال ابن مسعود : كان نفر من العرب يعبدون الجنّ ، وأقوام يعبدون الملائكة مثل بني مليح بضم الميم وفتح اللام وبحاء مهملة وهم حيّ من خزاعة. فضمير جمع المذكر تغليب وليس عائدا إلى الملائكة لأنهم كانوا يزعمون الملائكة إناثا فلو أرادوا الملائكة لقالوا ما عبدناها أو ما عبدنا هنّ. وهذا هو الوجه في معنى الآية. ومثله مروي عن مجاهد وابن جريج واقتصر عليه الطبري وابن عطية ، ومن المفسرين من جعل معاد الضمير (الْمَلائِكَةَ) [الزخرف : ١٩] ولعلهم حملهم على ذلك وقوع هذا الكلام عقب حكاية قولهم في الملائكة : إنهم إناث وليس اقتران كلام بكلام بموجب اتحاد محمليهما. وعلى هذا التفسير درج صاحب «الكشاف» وهو بعيد من اللّفظ لتذكير الضمير كما علمت ، ومن

٢٣١

الواقع لأن العرب لم يعبد منهم الملائكة إلا طوائف قليلة عبدوا الجن والملائكة مع الأصنام وليست هي الديانة العامة للعرب. وهذه المقالة مثارها تخليط العامة والدهماء من عهد الجاهلية بين المشيئة والإرادة ، وبين الرضى والمحبة ، فالعرب كانوا يقولون : شاء الله وإن شاء الله ، وقال طرفة :

فلو شاء ربّي كنت قيس بن عاصم

ولو شاء ربّي كنت عمرو بن مرثد

فبنوا على ذلك تخليطا بين مشيئة الله بمعنى تعلق إرادته بوقوع شيء ، وبين مشيئته التي قدّرها في نظام العالم من إناطة المسببات بأسبابها ، واتصال الآثار بمؤثراتها التي رتبها الله بقدر حين كوّن العالم ونظّمه وأقام له سننا ونواميس لا تخرج عن مدارها إلّا إذا أراد الله قلب نظمها لحكمة أخرى. فمشيئة الله بالمعنى الأول يدل عليها ما أقامه من نظام أحوال العالم وأهله. ومشيئته بالمعنى الثاني تدل عليها شرائعه المبعوث بها رسله.

وهذا التخليط بين المشيئتين هو مثار خبط أهل الضلالات من الأمم ، ومثار حيرة أهل الجهالة والقصور من المسلمين في معنى القضاء والقدر ومعنى التكليف والخطاب. وقد بيّنا ذلك عند قوله تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) في سورة الأنعام [١٤٨].

وهذا القول الصادر منهم ينتظم منه قياس استثنائي أن يقال : لو شاء الله ما عبدنا الأصنام ، بدليل أن الله هو المتصرف في شئوننا وشئون الخلائق لكنا عبدنا الأصنام بدليل المشاهدة فقد شاء الله أن نعبد الأصنام.

وقد أجيبوا عن قولهم بقوله تعالى : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) أي ليس لهم مستند ولا حجة على قياسهم لأن مقدّم القياس الاستثنائي وهو (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) مبنيّ على التباس المشيئة التكوينية بالمشيئة التكليفية فكان قياسهم خليا عن العلم وهو اليقين ، فلذلك قال الله : (ما لَهُمْ بِذلِكَ) أي بقولهم ذلك (مِنْ عِلْمٍ) بل هو من جهالة السفسطة واللّبس. والإشارة إلى الكلام المحكي بقوله : (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ).

وجملة (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) بيان لجملة (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ).

والخرص : التوهم والظنّ الذي لا حجة فيه قال تعالى : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) [الذاريات : ١٠].

(أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١))

٢٣٢

إضراب انتقالي ، عطف على جملة (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) [الزخرف : ٢٠] فبعد أن نفى أن يكون قولهم (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) [الزخرف : ٢٠] مستندا إلى حجة العقل ، انتقل إلى نفي أن يكون مستندا إلى حجة النقل عن إخبار العالم بحقائق الأشياء التي هي من شئونه.

واجتلب للإضراب حرف (أَمْ) دون (بل) لما تؤذن به (أَمْ) من استفهام بعدها ، وهو إنكاري. والمعنى : وما آتيناهم كتابا من قبله. وضمير (مِنْ قَبْلِهِ) عائد إلى القرآن المذكور في أوّل السورة. وفي قوله : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) [الزخرف : ٤]. وفي هذا ثناء ثالث على القرآن ضمني لاقتضائه أن القرآن لا يأتي إلا بالحق الذي يستمسك به.

وهذا تمهيد للتخلص إلى قوله تعالى : (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) [الزخرف : ٢٢].

و (مِنْ) مزيدة لتوكيد معنى (قبل). والضمير المضاف إليه (قبل) ضمير القرآن ولم يتقدم له معاد في اللّفظ ولكنه ظاهر من دلالة قوله : (كِتاباً).

و (مُسْتَمْسِكُونَ) مبالغة في (ممسكون) يقال : أمسك بالشيء ، إذا شدّ عليه يده ، وهو مستعمل مجازا في معنى الثبات على الشيء كقوله تعالى : (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) [الزخرف : ٤٣].

(بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢))

هذا إضراب إبطال عن الكلام السابق من قوله تعالى : (فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) [الزخرف : ٢١] فهو إبطال للمنفي لا للنفي ، أي ليس لهم علم فيما قالوه ولا نقل. فكان هذا الكلام مسوقا مساق الذمّ لهم إذ لم يقارنوا بين ما جاءهم به الرّسول وبين ما تلقوه من آبائهم فإن شأن العاقل أن يميّز ما يلقى إليه من الاختلاف ويعرضه على معيار الحق.

والأمة هنا بمعنى الملة والدّين ، كما في قوله تعالى في سورة الأنبياء [٩٢] (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) ، وقول النابغة :

وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع

أي ذو دين.

٢٣٣

و (عَلى) استعارة تبعية للملابسة والتمكن.

وقوله : (عَلى آثارِهِمْ) خبر (إنّ). و (مُهْتَدُونَ) خبر ثان. ويجوز أن يكون (عَلى آثارِهِمْ) متعلقا ب (مُهْتَدُونَ) بتضمين (مُهْتَدُونَ) معنى سائرون ، أي أنهم لا حجة لهم في عبادتهم الأصنام إلا تقليد آبائهم ، وذلك ما يقولونه عند المحاجّة إذ لا حجة لهم غير ذلك. وجعلوا اتّباعهم إياهم اهتداء لشدة غرورهم بأحوال آبائهم بحيث لا يتأملون في مصادفة أحوالهم للحق.

(وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣))

جملة معترضة لتسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تمسك المشركين بدين آبائهم والإشارة إلى المذكور من قولهم : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) [الزخرف : ٢٢] ، أي ومثل قولهم ذلك ، قال المترفون من أهل القرى المرسل إليهم الرسل من قبلك.

والواو للعطف أو للاعتراض وما الواو الاعتراضية في الحقيقة إلا تعطف الجملة المعترضة على الجملة التي قبلها عطفا لفظيا.

والمقصود أن هذه شنشنة أهل الضلال من السابقين واللاحقين ، قد استووا فيه كما استووا في مثاره وهو النظر القاصر المخطئ ، كما قال تعالى : (أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) [الذاريات : ٥٣] ، أي بل هم اشتركوا في سببه الباعث عليه وهو الطغيان. ويتضمن هذا تسلية للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما لقيه من قومه ، بأن الرّسل من قبله لقوا مثل ما لقي.

وكاف التشبيه متعلق بقوله : (قالَ مُتْرَفُوها). وقدم على متعلّقه للاهتمام بهذه المشابهة والتشويق لما يرد بعد اسم الإشارة.

وجملة (إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) في موضع الحال لأن الاستثناء هنا من أحوال مقدّرة أي ما أرسلنا إلى أهل قرية في حال من أحوالهم إلا في حال قول قاله مترفوها : إنا وجدنا آباءنا إلخ.

والمترفون : جمع المترف وهو الذي أعطي الترف ، أي النعمة ، وتقدم في قوله تعالى : (وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) في سورة الأنبياء [١٣].

٢٣٤

والمعنى : أنهم مثل قريش في الازدهاء بالنّعمة التي هم فيها ، أي في بطر نعمة الله عليهم. فالتشبيه يقتضي أنهم مثل الأمم السالفة في سبب الازدهاء وهو ما هم فيه من نعمة حتى نسوا احتياجهم إلى الله تعالى ، قال تعالى : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) [المزمل : ١١].

وقد جاء في حكاية قول المشركين الحاضرين وصفهم أنفسهم بأنهم مهتدون بآثار آبائهم ، وجاء في حكاية أقوال السابقين وصفهم أنفسهم بأنهم بآبائهم مقتدون ، لأن أقوال السابقين كثيرة مختلفة يجمع مختلفها أنها اقتداء بآبائهم ، فحكاية أقوالهم من قبيل حكاية القول بالمعنى ، وحكاية القول بالمعنى طريقة في حكاية الأقوال كثر ورودها في القرآن وكلام العرب.

(قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤))

قل (أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ).

قرأ الجمهور قل بصيغة فعل الأمر لمفرد فيكون أمرا للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقوله جوابا عن قول المشركين (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٢].

وقرأ ابن عامر وحفص (قالَ) بصيغة فعل المضي المسند إلى المفرد الغائب فيكون الضمير عائدا إلى نذير الذين قالوا (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣]. فحصل من القراءتين أن جميع الرّسل أجابوا أقوامهم بهذا الجواب ، وعلى كلتا القراءتين جاء فعل قل أو (قالَ) مفصولا غير معطوف لأنه واقع في مجال المحاورة كما تقدم غير مرة ، منها قوله تعالى : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) في سورة البقرة [٣٠].

وقرأ الجمهور (جِئْتُكُمْ) بضمير تاء المتكلم. وقرأ أبو جعفر جئناكم بنون ضمير المتكلم المشارك وأبو جعفر من الذين قرءوا قل بصيغة الأمر فيكون ضمير جئناكم عائدا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم المخاطب بفعل قل لتعظيمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جانب ربّه تعالى الذي خاطبه بقوله : قل.

والواو في قوله : (أَوَلَوْ) عاطفة الكلام المأمور به على كلامهم ، وهذا العطف مما

٢٣٥

يسمى عطف التلقين ، ومنه قوله تعالى عن إبراهيم : (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [البقرة : ١٢٤]. والهمزة للاستفهام التقريري المشوب بالإنكار. وقدمت على الواو لأجل التصدير.

و (لَوْ) وصلية ، و (لَوْ) الوصلية تقتضي المبالغة بنهاية مدلول شرطها كما تقدم عند قوله تعالى : (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) في آل عمران [٩١] ، أي لو جئتكم بأهدى من دين آبائكم تبقون على دين آبائكم وتتركون ما هو أهدى.

والمقصود من الاستفهام تقريرهم على ذلك لاستدعائهم إلى النظر فيما اتبعوا فيه آباءهم لعل ما دعاهم إليه الرّسول أهدى منهم. وصوغ اسم التفضيل من الهدي إرخاء للعنان لهم ليتدبروا ، نزّل ما كان عليهم آباؤهم منزلة ما فيه شيء من الهدى استنزالا لطائر المخاطبين ليتصدّوا للنظر كقوله : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٢٤].

(قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ).

بدل من جملة (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣] ، لأن ذلك يشتمل على معنى : لا نتبعكم ونترك ما وجدنا عليه آباءنا ، وضمير (قالُوا) راجع إلى (مُتْرَفُوها) [الزخرف : ٢٣] لأن موقع جملة (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) [الزخرف : ٢٥] يعين أن هؤلاء القائلين وقع الانتقام منهم فلا يكون منهم المشركون الذين وقع تهديدهم بأولئك.

وقولهم : (ما أرسلتم به) يجوز أن يكون حكاية لقولهم ، فإطلاقهم اسم الإرسال على دعوة رسلهم تهكم مثل قوله : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ) [الفرقان : ٧] ويجوز أن يكون حكاية بالمعنى وإنما قالوا إنّا بما زعمتم أنكم مرسلون به ، وما أرسلوا به توحيد الإله.

(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥))

تفريع على جملة (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) [الزخرف : ٢٤] ، أي انتقمنا منهم عقب تصريحهم بتكذيب الرّسل. وهذا تهديد بالانتقام من الذين شابهوهم في مقالهم ، وهم كفار قريش.

والانتقام افتعال من النّقم وهو المكافأة بالسوء ، وصيغة الافتعال لمجرد المبالغة ، يقال : نقم كعلم وضرب ، إذا كافأ على السوء بسوء ، وفي المثل : هو كالأرقم إن يترك

٢٣٦

يلقم وإن يقتل ينقم. الأرقم : ضرب من الحيات يعتقد العرب أنه من الجن فإن تركه المرء يتسور عليه فيلسعه ويقتله وإن قتله المرء انتقم بتأثيره فأمات قاتله وهذا من أوهام العرب.

والمراد بالانتقام استئصالهم وانقراضهم. وتقدم في قوله تعالى : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِ) في سورة الأعراف [١٣٦]. ولذلك فالنظر في قوله : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) نظر التفكر والتأمل فيما قصّ الله على رسوله من أخبارهم كقوله تعالى : (قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) في سورة النمل [٢٧] ، وليس نظر البصر إذ لم ير النبي حالة الانتقام فيهم. ويجوز أن يكون الخطاب لغير معيّن ، أي لكل من يتأتى منه التأمل.

و (كَيْفَ) استفهام عن الحالة وهو قد علّق فعل النظر عن مفعوله.

[٢٦ ، ٢٧] (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧))

لما ذكّرهم الله بالأمم الماضية وشبه حالهم بحالهم ساق لهم أمثالا في ذلك من مواقف الرسل مع أممهم منها قصة إبراهيم عليه‌السلام مع قومه. وابتدأ بذكر إبراهيم وقومه إبطالا لقول المشركين : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٢] ، بأن أولى آبائهم بأن يقتدوا به هو أبوهم الذي يفتخرون بنسبته إبراهيم.

وجملة (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) عطف على عموم الكلام السابق من قوله : (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ) [الزخرف : ٢٣] إلى قوله : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) ، وهو عطف الغرض على الغرض.

و (إِذْ) ظرف متعلق بمحذوف ، تقديره : واذكر إذ قال إبراهيم ، ونظائر هذا كثيرة في القرآن كما تقدم في قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) في سورة البقرة [٣٠].

والمعنى : واذكر زمان قول إبراهيم لأبيه وقومه قولا صريحا في التبرّؤ من عبادة الأصنام. وخصّ أبو إبراهيم بالذكر قبل ذكر قومه وما هو إلا واحد منهم اهتماما بذكره لأن براءة إبراهيم مما يعبد أبوه أدلّ على تجنب عبادة الأصنام بحيث لا يتسامح فيها ولو كان الذي يعبدها أقرب النّاس إلى موحّد الله بالعبادة مثل الأب ، ولتكون حكاية كلام

٢٣٧

إبراهيم قدوة لإبطال قول المشركين (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٢] قال تعالى : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [الممتحنة : ٤] أي فما كان لكم أن تقتدوا بآبائكم المشركين وهلا اقتديتم بأفضل آبائكم وهو إبراهيم.

والبراء بفتح الباء مصدر بوزن الفعال مثل الظّماء والسّماع يخبر به ويوصف به في لغة أهل العالية ـ وهي ما فوق نجد إلى أرض تهامة مما وراء مكّة ـ وأما أهل نجد فيقولون بريء.

والاستثناء في قوله : (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) استثناء من (ما تعبدون) ، و (ما) موصولة أي من الذين تعبدونهم فإن قوم إبراهيم كانوا مشركين مثل مشركي العرب. وقد بسطنا ذلك فيما تقدم عند قوله : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) [الأنعام : ٧٤].

وفرع على هذا قوله : (فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) لأن قوله : (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) يتضمن معنى : إنني اهتديت إلى بطلان عبادتكم الأصنام بهدي من الله. وسين الاستقبال مؤذنة بأنه أخبرهم بأن هداية الله إياه قد تمكنت وتستمر في المستقبل ، ويفهم أنها حاصلة الآن بفحوى الخطاب.

وتوكيد الخبر ب (إنّ) منظور فيه إلى حال أبيه وقومه لأنهم ينكرون أنه الآن على هدى فهم ينكرون أنه سيكون على هدى في المستقبل.

(وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨))

عطف على (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) [الزخرف : ٢٦] أي أعلن تلك المقالة في قومه معاصريه وجعلها كلمة باقية في عقبه ينقلونها إلى معاصريهم من الأمم. إذ أوصى بها بنيه وأن يوصوا بنيهم بها ، قال تعالى في سورة البقرة [١٣١ ـ ١٣٢] (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ، فبتلك الوصية أبقى إبراهيم توحيد الله بالإلهية والعبادة في عقبه يبثونه في النّاس. ولذلك قال يوسف لصاحبيه في السجن (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [يوسف : ٣٩] وقال لهما (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) إلى قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [يوسف : ٣٧ ـ ٤٠].

٢٣٨

فضمير الرفع في (جَعَلَها) عائد إلى إبراهيم وهو الظاهر من السياق والمناسب لقوله: (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ولأنه لم يتقدم اسم الجلالة ليعود عليه ضمير (جَعَلَها). وحكى في «الكشاف» إنه قيل : الضمير عائد إلى الله وجزم به القرطبي وهو ظاهر كلام أبي بكر بن العربي.

والضمير المنصوب في قوله : (وَجَعَلَها) عائد إلى الكلام المتقدم. وأنث الضمير لتأويل الكلام بالكلمة نظرا لوقوع مفعوله الثاني لفظ (كَلِمَةً) لأن الكلام يطلق عليه (كَلِمَةً) كقوله تعالى في سورة المؤمنين [١٠٠] (إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) ، أي قول الكافر (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) [المؤمنون : ٩٩ ، ١٠٠]. وقال تعالى : (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) [الكهف : ٥] وهي قولهم : (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) [البقرة : ١١٦] وقد قال تعالى : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) [البقرة : ١٣٢] ، أي بقوله : (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [البقرة : ١٣١] فأعاد عليها ضمير التأنيث على تأويل (الكلمة).

واعلم أنه إنّما يقال للكلام كلمة إذا كان كلاما سائرا على الألسنة متمثلا به ، كما في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل» ، أو كان الكلام مجعولا شعارا كقولهم : لا إله إلا الله كلمة الإسلام ، وقال تعالى : (وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) [التوبة : ٧٤]».

فالمعنى : جعل إبراهيم قوله : (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) [الزخرف : ٢٦ ، ٢٧] شعارا لعقبه ، أي جعلها هي وما يرادفها قولا باقيا في عقبه على مرّ الزمان فلا يخلو عقب إبراهيم من موحدين لله نابذين للأصنام. وأشعر حرف الظرفية بأن هاته الكلمة لم تنقطع بين عقب إبراهيم دون أن تعمّ العقب ، فإن أريد بالعقب مجموع أعقابه فإن كلمة التوحيد لم تنقطع من اليهود وانقطعت من العرب بعد أن تقلدوا عبادة الأصنام إلّا من تهوّد منهم أو تنصّر ، وإن أريد من كل عقب فإن العرب لم يخلو من قائم بكلمة التوحيد مثل المتنصّرين منهم كالقبائل المتنصرة وورقة بن نوفل ، ومثل المتحنفين كزيد بن عمرو بن نفيل ، وأمية بن أبي الصلت. وذلك أن (فِي) ترد للتبعيض كما ذكرناه في قوله تعالى : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) في سورة النساء [٥]. وقال سبرة بن عمرو الفقعسي من الحماسة :

ونشرب في أثمانها ونقامر

والعقب : الذرية الذين لا ينفصلون من أصلهم بأنثى ، أي جعل إبراهيم كلمة التوحيد باقية في عقبه بالوصاية عليها راجيا أنهم يرجعون ، أي يتذكرون بها التوحيد إذا ران رين

٢٣٩

على قلوبهم ، أو استحسنوا عبادة الأصنام كما قال قوم موسى : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨] فيهتدون بتلك الكلمة حين يضيق الزّمن عن بسط الحجة. وهذا شأن الكلام الذي يجعل شعارا لشيء فإنه يكون أصلا موضوعا قد تبيّن صدقه وإصابته ، فاستحضاره يغني عن إعادة بسط الحجة له.

وجملة (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) بدل اشتمال من جملة (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) لأن جعله كلمة (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) [الزخرف : ٢٦] باقية في عقبه ، أراد منه مصالح لعقبه منها أنه رجا بذلك أن يرجعوا إلى نبذ عبادة الأصنام إن فتنوا بعبادتها أو يتذكروا بها الإقلاع عن عبادة الأصنام إن عبدوها ، فمعنى الرجوع ، العود إلى ما تدل عليه تلك الكلمة. ونظيره قوله تعالى : (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الزخرف : ٤٨]، أي لعلهم يرجعون عن كفرهم.

فحرف (لعل) لإنشاء الرجاء ، والرجاء هنا رجاء إبراهيم لا محالة ، فتعيّن أن يقدر معنى قول صادر من إبراهيم بإنشاء رجائه ، بأن يقدر : قال : (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ، أو قائلا : (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). والرّجوع مستعار إلى تغيير اعتقاد طارئ باعتقاد سابق ، شبه ترك الاعتقاد الطارئ والأخذ بالاعتقاد السابق برجوع المسافر إلى وطنه أو رجوع الساعي إلى بيته.

والمعنى : يرجع كل من حاد عنها إليها ، وهذا رجاؤه قد تحقق في بعض عقبه ولم يتحقق في بعض كما قال تعالى : (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة: ١٢٤] أي المشركين. ولعل ممن تحقق فيه رجاء إبراهيم عمود نسب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما كانوا يكتمون دينهم تقية من قومهم ، وقد بسطت القول في هذا المعنى وفي أحوال أهل الفترة في هذه الآية في رسالة «طهارة النسب النبوي من النقائص» (١).

وفي قوله : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) إشعار بأن وحدانية الله كانت غير مجهولة للمشركين ، فيتجه أن الدعوة إلى العلم بوجود الله ووحدانيته كانت بالغة لأكثر الأمم بما تناقلوه من أقوال الرّسل السابقين ، ومن تلك الأمم العرب ، فيتجه مؤاخذة المشركين على الإشراك قبل بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهم أهملوا النظر فيما هو شائع بينهم أو تغافلوا عنه أو أعرضوا. فيكون أهل الفترة مؤاخذين على نبذ التوحيد في الدّنيا ومعاقبين عليه في الآخرة

__________________

(١) نشرت في مجلة ........ ببغداد سنة.

٢٤٠