تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦))

عطف على جملة (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) [فصلت : ٣٥] ، فبعد أن أرشد إلى ما هو عون على تحصيل هذا الخلق المأمور به وهو دفع السيئة بالتي هي أحسن ، وبعد أن شرحت فائدة العمل بها بقوله : (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت : ٣٤] صرف العنان هنا إلى التحذير من عوائقها التي تجتمع كثرتها في حقيقة نزغ الشيطان ، فأمر بأنه إن وجد في نفسه خواطر تصرفه عن ذلك وتدعوه إلى دفع السيئة بمثلها فإن ذلك نزغ من الشيطان دواؤه أن تستعيذ بالله منه فقد ضمن الله له أن يعيذه إذا استعاذه لأنه أمره بذلك ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفائدة هذه الاستعاذة تجديد داعية العصمة المركوزة في نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن الاستعاذة بالله من الشيطان استمداد للعصمة وصقل لزكاء النفس مما قد يقترب منها من الكدرات. وهذا سر من الاتصال بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وربه وقد أشار إليه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة» ، فبذلك تسلم نفسه من أن يغشاها شيء من الكدرات ويلحق به في ذلك صالحو المؤمنين.

وفي الحديث القدسي عند الترمذي «ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينّه ولئن استعاذني لأعيذنّه». ثم يلتحق بذلك بقية المؤمنين على تفاوتهم كما دل عليه حديث ابن مسعود عند الترمذي قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن للشيطان لمّة بابن آدم وللملك لمّة ، فأما لمّة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله ، ومن وجد الأخرى فليستعذ بالله من الشيطان».

والنزغ : النخس ، وحقيقته : مسّ شديد للجلد بطرف عود أو إصبع ، فهو مصدر ، وهو هنا مستعار لاتصال القوة الشيطانية بخواطر الإنسان تأمره بالشر وتصرفه عن الخير ، وتقدم في قوله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) في سورة الأعراف [٢٠٠] وإسناد (يَنْزَغَنَّكَ) إلى (نَزْغٌ) مجاز عقلي من باب : جدّ جدّه ، و (مِنْ) ابتدائية. ويجوز أن يكون المراد بالنزغ هنا : النازغ ، وهو الشيطان ، وصف بالمصدر للمبالغة ، و (مِنْ) بيانية ، أي ينزغنّك النازغ الذي هو الشيطان. والمبالغة حاصلة

٦١

على التقديرين مع اختلاف جهتها.

وجيء في هذا الشرط ب (إن) التي الأصل فيها عدم الجزم بوقوع الشرط ترفيعا لقدر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن نزغ الشيطان له إنما يفرض كما يفرض المحال ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف : ٢٠١] فجاء في ذلك الشرط بحرف (إذا) التي الأصل فيها الجزم بوقوع الشرط أو بغلبة وقوعه. و (ما) زائدة بعد حرف الشرط لتوكيد الربط بين الشرط وجوابه وليست لتحقيق حصول الشرط فإنها تزاد كثيرا بعد (إن) دون أن تكون دالة على الجزم بوقوع فعل الشرط.

وضمير الفصل في قوله : (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) لتقوية الحكم وهو هنا حكم كنائي لأن المقصود لازم وصف السميع العليم وهو مؤاخذة من تصدر منهم أقوال وأعمال في أذى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكيد له ممن أمر بأن يدفع سيئاتهم بالتي هي أحسن. والمعنى : فإن سوّل لك الشيطان أن لا تعامل أعداءك بالحسنة وزين لك الانتقام وقال لك : كيف تحسن إلى أعداء الدين ، وفي الانتقام منهم قطع كيدهم للدين ، فلا تأخذ بنزغه وخذ بما أمرناك واستعذ بالله من أن يزلّك الشيطان فإن الله لا يخفى عليه أمر أعدائك وهو يتولى جزاءهم.

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧))

عطف على جملة (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت : ٩] الآية عطف القصة على القصة فإن المقصود من ذكر خلق العوالم أنها دلائل على انفراد الله بالإلهية ، فلذلك أخبر هنا عن المذكورات في هذه الجملة بأنها من آيات الله انتقالا في أفانين الاستدلال فإنه انتقال من الاستدلال بذوات من مخلوقاته إلى الاستدلال بأحوال من أحوال تلك المخلوقات ، فابتدئ ببعض الأحوال السماوية وهي حال الليل والنهار ، وحال طلوع الشمس وطلوع القمر ، ثم ذكر بعده بعض الأحوال الأرضية بقوله : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) [فصلت : ٣٩].

ويدل لهذا الانتقال أنه انتقل من أسلوب الغيبة من قوله : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً) إلى قوله : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) [فصلت : ١٣ ـ ٣٤] إلى أسلوب خطابهم رجوعا إلى خطابهم الذي في قوله : (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ) [فصلت : ٩].

٦٢

والآيات : الدلائل ، وإضافتها إلى ضمير الله لأنها دليل على وحدانيته وعلى وجوده.

واختلاف الليل والنهار آية من آيات القدرة التي لا يفعلها غير الله تعالى ، فلا جرم كانت دليلا على انفراده بالصنع فهو منفرد بالإلهية. وتقدم الكلام على الليل والنهار عند قوله تعالى في سورة البقرة [١٦٤] (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ).

والمراد بالشمس والقمر ابتداء هنا حركتهما المنتظمة المستمرة ، وأمّا خلقهما فقد علم من خلق السماوات والأرض كما تقدم آنفا في قوله : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) [فصلت : ١٢] ، فإن الشمس إحدى السماوات السبع والقمر تابع للشمس ، ولم يذكر ما يدل على بعض أحوال الشمس والقمر مثل طلوع أو غروب أو فلك أو نحو ذلك ليكون صالحا للاستدلال بأحوالهما وهو المقصود الأول ، ولخلقهما تأكيد لما استفيد من قوله : (قَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) توفيرا للمعاني.

ولما جرى الاعتبار بالشمس والقمر وكان في الناس أقوام عبدوا الشمس والقمر وهم الصابئة ومنبعهم من العراق من زمن إبراهيم عليه‌السلام ، وقد قصّ الله خبرهم في سورة الأنعام [٧٦] في قوله : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي) الآيات ، ثم ظهر هذا الدين في سبأ ، عبدوا الشمس كما قصه الله في سورة النمل. ولم أقف على أن العرب في زمن نزول القرآن كان منهم من يعبد الشمس والقمر ، ويظهر من كلام الزمخشري أنه لم يقف على ذلك لقوله هنا : (لعل ناسا منهم كانوا يسجدون للشمس والقمر) ا ه. ولكن وجود عبادة الشمس في اليمن أيام سبأ قبل أن يتهوّدوا يقتضي بقاء آثاره من عبادة الشمس في بعض بلاد العرب. وقد ذكر من أصنام العرب صنم اسمه (شمس) وبه سموا (عبد شمس) ، وكذلك جعلهم من أسماء الشمس الإلهة ، قالت ميّة بنت أم عتبة :

تروّحنا من اللّعباء عصرا

فأعجلنا الإلهة أن تؤوبا

وكان الصنم الذي اسمه شمس يعبده بنو تميم وضبة وتيم وعكل وأدّ. وكنت وقفت على أن بعض كنانة عبدوا القمر.

وفي «تلخيص التفسير» للكواشي : (وكان الناس يسجدون للشمس والقمر يزعمون أنهم يقصدون بذلك السجود لله كالصابئين فنهوا عن ذلك وأمروا أن يخصوه تعالى

٦٣

بالعبادة) وليس فيه أن هؤلاء الناس من العرب ، على أن هدي القرآن لا يختص بالعرب بل شيوع دين الصابئة في البلاد المجاورة لهم كاف في التحذير من السجود للشمس والقمر. وقد كان العرب يحسبون دين الإسلام دين الصابئة فكانوا يقولون لمن أسلم : صبأ ، وكانوا يصفون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصابئ ، فإذا لم يكن النهي في قوله : (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ) نهي إقلاع بالنسبة للذين يسجدون للشمس والقمر ، فهو نهي تحذير لمن لم يسجد لهما أن لا يتبعوا من يعبدونهما.

ووقوع قوله : (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ) بعد النهي عن السجود للشمس والقمر يفيد مفاد الحصر لأن النهي بمنزلة النفي ، ووقوع الإثبات بعده بمنزلة مقابلة النفي بالإيجاب ، فإنه بمنزلة النفي والاستثناء في إفادة الحصر كما تراه في قول السموأل أو عبد الملك الحارثي:

تسيل على حد الظبات نفوسنا

وليست على غير الظبات تسيل

فكأنه قيل : لا تسجدوا إلا لله ، أي دون الشمس والقمر.

فجملة (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ) إلى قوله : (تَعْبُدُونَ) معترضة بين جملة (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ) ، وبين جملة (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) [فصلت : ٣٨]. وفي هذه الآية موضع سجود من سجود التلاوة ، فقال مالك وأصحابه عدا ابن وهب : السجود عند قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) وهو قول علي بن أبي طالب وابن مسعود ، وروي عن الشافعي. وقال أبو حنيفة والشافعي في المشهور عنه وابن وهب : هي عند قوله : (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) [فصلت : ٣٨] ، وهو عن ابن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيب.

(فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨))

الفاء للتفريع على نهيهم عن السجود للشمس والقمر وأمر هم بالسجود لله وحده ، أي فإن استكبروا أن يتبعوك وصمموا على السجود للشمس والقمر ، أو فإن استكبروا عن الاعتراف بدلالة الليل والنهار والشمس والقمر على تفرد الله بالإلهية (فيعم ضمير (اسْتَكْبَرُوا) جميع المشركين) فالله غني عن عبادتهم إياه.

والاستكبار : قوة التكبر ، فالسين والتاء للمبالغة وأصل السين والتاء المستعملين للمبالغة هما السين والتاء للحسبان ، أي عدوا أنفسهم ذوي كبر شديد من فرط تكبرهم.

٦٤

وجملة : (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) دليل جواب الشرط. والتقدير : فإن تكبروا عن السجود لله فهو غني عن سجودهم ، لأن له عبيدا أفضل منهم لا يفترون عن التسبيح له بإقبال دون سآمة.

والمراد بالتسبيح : كل ما يدل على تنزيه الله تعالى عما لا يليق به بإثبات أضداد ما لا يليق به ، أو نفي ما لا يليق ، وذلك بالأقوال قال تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) [الشورى : ٥] ، أو بالأعمال قال : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [النحل : ٤٩ ـ ٥٠] وذلك ما يقتضيه قوله : (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) من كون ذلك التسبيح قولا وعملا وليس مجرد اعتقاد.

والعندية في قوله : (عِنْدَ رَبِّكَ) عندية تشريف وكرامة كقوله في سورة الأعراف [٢٠٦] (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ). وهؤلاء الملائكة هم العامرون للعوالم العليا التي جعلها الله مشرفة بأنها لا يقع فيها إلا الفضيلة فكانت بذلك أشد اختصاصا به تعالى من أماكن غيرها قصدا لتشريفها.

والسآمة : الضجر والملل من الإعياء. وذكر الليل والنهار هنا لقصد استيعاب الزمان ، أي يسبحون له الزمان كله.

وجملة : (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) في موضع الحال وهو أوقع من محمل العطف لأن كون الإخبار عنهم مقيدا بهذه الحال أشد من إظهار عجيب حالهم إذ شأن العمل الدائم أن يسلم منه عامله.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩))

(وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ)

عطف على جملة (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ) [فصلت : ٣٧] ، وهذا استدلال بهذا الصنع العظيم على أنه تعالى منفرد بفعله فهو دليل إلهيته دون غيره لأن من يفعل ما لا يفعله غيره هو الإله الحق وإذا كان كذلك لم يجز أن يتعدد لكون من لا يفعل مثل فعله ناقص القدرة ، والنقص ينافي الإلهية كما قال : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النحل : ١٧].

٦٥

والخطاب في قوله : (أَنَّكَ) لغير معيّن ليصلح لكل سامع.

والخشوع : التذلل ، وهو مستعار لحال الأرض إذا كانت مقحطة لا نبات عليها لأن حالها في تلك الخصاصة كحال المتذلّل ، وهذا من تشبيه المحسوس بالمعقول باعتبار ما يتخيله الناس من مشابهة اختلاف حالي القحولة والخصب بحالي التذلل والازدهاء.

والاهتزاز حقيقته : مطاوعة هزّه ، إذا حرّكه بعد سكونه فتحرّك. وهو هنا مستعار لربوّ وجه الأرض بالنبات ، شبّه حال إنباتها وارتفاعها بالماء والنبات بعد أن كانت منخفضة خامدة بالاهتزاز. ويؤخذ من مجموع ذلك أن هذا التركيب تمثيل ، شبه حال قحولة الأرض ثم إنزال الماء عليها وانقلابها من الجدوبة إلى الخصب والإنبات البهيج بحال شخص كان كاسف البال رثّ اللباس فأصابه شيء من الغنى فلبس الزينة واختال في مشيته زهوّا ، ولذا يقال : هز عطفيه ، إذا اختال في مشيته.

وفي قوله : (خاشِعَةً) و (اهْتَزَّتْ) مكنية بأن شبهت بشخص كان ذليلا ثم صار مهتزّا لعطفيه ورمز إلى المشبه بهما بذكر رديفيهما. فهذا من أحسن التمثيل وهو الذي يقبل تفريق أجزائه في أجزاء التشبيه.

وعطف (وَرَبَتْ) على (اهْتَزَّتْ) لأن المقصود من الاهتزاز هو ظهور النبات عليها وتحركه. والمقصود بالرّبو : انتفاخها بالماء واعتلاؤها.

وقرأ أبو جعفر وربأت بهمزة بعد الموحدة من (ربأ) بالهمز ، إذا ارتفع.

(إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

إدماج لإثبات البعث في أثناء الاستدلال على تفرده تعالى بالخلق والتدبير ، ووقوعه على عادة القرآن في التفنن وانتهاز فرص الهدى إلى الحق.

والجملة استئناف ابتدائي والمناسبة مشابهة الإحياءين ، وحرف التوكيد لمراعاة إنكار المخاطبين إحياء الموتى.

وتعريف المسند إليه بالموصولية لما في الموصول من تعليل الخبر ، وشبه إمداد الأرض بماء المطر الذي هو سبب انبثاق البزور التي في باطنها التي تصير نباتا بإحياء الميت ، فأطلق على ذلك (أَحْياها) على طريق الاستعارة التبعية ، ثم ارتقي من ذلك إلى جعل ذلك الذي سمي إحياء لأنه شبيه الإحياء دليلا على إمكان إحياء الموتى بطريقة قياس

٦٦

الشبه ، وهو المسمى في المنطق قياس التمثيل ، وهو يفيد تقريب المقيس بالمقيس عليه. وليس الاستدلال بالشبه والتمثيل بحجة قطعية ، بل هو إقناعي ولكنه هنا يصير حجة لأن المقيس عليه وإن كان أضعف من المقيس إذ المشبه لا يبلغ قوة المشبه به ، فالمشبه به حيث كان لا يقدر على فعله إلا الخالق الذي اتصف بالقدرة التامة لذاته فقد تساوى فيه قويّه وضعيفه ، وهم كانوا يحيلون إحياء الأموات استنادا للاستبعاد العادي ، فلما نظّر إحياء الأموات بإحياء الأرض المشبه تم الدليل الإقناعي المناسب لشبهتهم الإقناعية. وقد أشار إلى هذا تذييله بقوله: (إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠))

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا)

استئناف ابتدائي قصد به تهديد الذين أهملوا الاستدلال بآيات الله على توحيده.

وقوله : (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) مراد به الكناية عن الوعيد تذكيرا لهم بإحاطة علم الله بكل كائن ، وهو متصل المعنى بقوله آنفا : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ) [فصلت : ٢٢] الآية.

والإلحاد حقيقته : الميل عن الاستقامة ، والآيات تشمل الدلائل الكونية المتقدمة في قوله : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت : ٩] وقوله : (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ) [فصلت : ٣٧] إلخ. وتشمل الآيات الآيات القولية المتقدمة في قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) [فصلت : ٢٦]. فالإلحاد في الآيات مستعار للعدول والانصراف عن دلالة الآيات الكونية على ما دلت عليه. والإلحاد في الآيات القولية مستعار للعدول عن سماعها وللطعن في صحتها وصرف الناس عن سماعها.

وحرف (فِي) من قوله : (فِي آياتِنا) للظرفية المجازية لإفادة تمكن إلحادهم حتى كأنه مظروف في آيات الله حيثما كانت أو كلما سمعوها. ومعنى نفي خفائهم : نفي خفاء إلحادهم لا خفاء ذواتهم إذ لا غرض في العلم بذواتهم.

(أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ).

٦٧

تفريع على الوعيد في قوله : (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) لبيان أن الوعيد بنار جهنم تعريض بالمشركين بأنهم صائرون إلى النار ، وبالمؤمنين بأنهم آمنون من ذلك.

والاستفهام تقريع مستعمل في التنبيه على تفاوت المرتبتين.

وكنّي بقوله : (يَأْتِي آمِناً) أن ذلك الفريق مصيره الجنة إذ لا غاية للأمن إلا أنه في نعيم. وهذه كناية تعريضية بالذين يلحدون في آيات الله.

وفي الآية محسن الاحتباك ، إذ حذف مقابل : (من يلقى في النار) وهو : من يدخل الجنة ، وحذف مقابل : (مَنْ يَأْتِي آمِناً) وهو : من يأتي خائفا ، وهم أهل النار.

(اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)

الجملة تذييل لجملة (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) إلخ ، كما دل عليه قوله عقبه : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) [فصلت : ٤١] الآية ، أي لا يخفى علينا إلحادهم ولا غيره من سيّئ أعمالهم. وإنما خص الإلحاد بالذكر ابتداء لأنه أشنع أعمالهم ومصدر أسوائها.

والأمر في قوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) مستعمل في التهديد ، أو في الإغراء المكنّى به عن التهديد.

وجملة : (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وعيد بالعقاب على أعمالهم على وجه الكناية.

وتوكيده ب (إنّ) لتحقيق معنييه الكنائي والصريح ، وهو تحقيق إحاطة علم الله بأعمالهم لأنهم كانوا شاكين في ذلك كما تقدم في قصة الثلاثة الذين نزل فيهم قوله تعالى : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ) [فصلت : ٢٢] الآية.

والبصير : العليم بالمبصرات.

[٤١ ، ٤٢] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢))

أعقب تهديدهم على الإلحاد في آيات الله على وجه العموم بالتعرض إلى إلحادهم في آيات القرآن وهو من ذكر الخاص بعد العام للتنويه بخصال القرآن وأنه ليس بعرضة لأن يكفر به بل هو جدير بأن يتقبل بالاقتداء والاهتداء بهديه ، فلهذه الجملة اتصال في المعنى

٦٨

بجملة : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) [فصلت : ٤٠] واتصال في الموقع بجملة (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠].

وتحديد هذين الاتصالين اختلفت فيه آراء المفسرين ، وعلى اختلافهم فيهما جرى اختلافهم في موقعها من الإعراب وفي مواقع أجزائها من تصريح وتقدير.

فجعل صاحب «الكشاف» قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) بدلا من قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) ، وهو يريد أنه إبدال المفرد من المفرد بدلا مطابقا أو بدل اشتمال ، وأنه بتكرير العامل وهو حرف (إِنَ) وإن كانت إعادة العامل مع البدل غير مشهورة إلّا في حرف الجر كما قال الرضيّ ، فكلام الزمخشري في «المفصل» يقتضي الإطلاق ، وإن كان أتى بمثالين عاملهما حرف جر.

وعلى هذا القول لا يقدر خبر لأن الخبر عن المبدل منه خبر عن البدل وهو قوله : (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) [فصلت : ٤٠].

وعن أبي عمرو بن العلاء والكسائي وعمرو بن عبيد ما يقتضي أنهم يجعلون جملة : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) جملة مستقلة لأنهم جعلوا ل (إِنَ) خبرا. فأما أبو عمرو فقال : خبر (إِنَ) قوله : (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [فصلت : ٤٤]. حكي أن بلال بن أبي بردة سئل في مجلس أبي عمرو بن العلاء عن خبر (إِنَ) فقال : لم أجد لها نفاذا ، فقال له أبو عمرو : إنه منك لقريب : (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ). وهو يقتضي جعل الجمل التي بين اسم (إِنَ) وخبرها جملا معترضة وهي نحو سبع. وأما الكسائي وعمرو بن عبيد فقدروا خبرا لاسم (إِنَ) فقال الكسائي : الخبر محذوف دل عليه قوله قبله : (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ) [فصلت : ٤٠] ، فنقدر الخبر ، يلقون في النار ، مثلا. وسأل عيسى بن عمر عمرو بن عبيد عن الخبر ، فقال عمرو : معناه أن الذين كفروا بالذكر كفروا به وإنه لكتاب عزيز. فقال عيسى : أجدت يا أبا عثمان. ويجيء على قول هؤلاء أن تكون الجملة بدلا من جملة : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) بدل اشتمال إن أريد بالآيات في قوله : (فِي آياتِنا) مطلق الآيات ، أو بدلا مطابقا إن أريد بالآيات آيات القرآن. وقيل الخبر قوله : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) [فصلت : ٤٣] ، أي ما يقال لك فيهم إلا ما قد قلنا للرسل من قبلك في مكذبيهم ، أو ما يقولون إلا كما قاله الأمم للرسل من قبلك ، وما بينهما اعتراض.

٦٩

والكفر بالقرآن يشمل إنكار كل ما يوصف به القرآن من دلائل كونه من عند الله وما اشتمل عليه مما خالف معتقدهم ودين شركهم وذلك بالاختلافات التي يختلفونها كقولهم : سحر ، وشعر ، وقول كاهن ، وقول مجنون ، ولو نشاء لقلنا مثل هذا ، وأساطير الأولين ، وقلوبنا في أكنّة ، وفي آذاننا وقر. والأظهر أن تكون جملة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) إلخ واقعة موقع التعليل للتهديد بالوعيد في قوله : (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) [فصلت : ٤٠].

والمعنى : لأنهم جديرون بالعقوبة إذ كفروا بالآيات ، وهي آية القرآن المؤيد بالحق ، وبشهادة ما أوصي إلى الرسل من قوله.

وموقع (إِنَ) موقع فاء التعليل. وخبر (إِنَ) محذوف دل عليه سياق الكلام. والأحسن أن يكون تقديره بما تدل عليه جملة الحال من جلالة الذكر ونفاسته ، فيكون التقدير : خسروا الدنيا والآخرة ، أو سفهوا أنفسهم أو نحو ذلك مما تذهب إليه نفس السامع البليغ ، ففي هذا الحذف توفير للمعاني وإيجاز في اللفظ يقوم مقام عدة جمل ، وحذف خبر (إِنَ) إذا دل عليه دليل وارد في الكلام. وأجازه سيبويه في باب ما يحسن السكوت عليه من هذه الأحرف الخمسة ، وتبعه الجمهور ، وخالفه الفراء فشرطه بتكرر (إِنَ). ومن الحذف قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) الآية في سورة الحج [٢٥] ، وأنشد سيبويه :

يا ليت أيام الصبا رواجعا

إذ روي بنصب (رواجعا) على الحال فلم يذكر خبر (ليت).

وذكر أن العرب يقولون : «إنّ مالا وإنّ ولدا» أي إنّ لهم ، وقول الأعشى :

إنّ محلّا وإنّ مرتحلا

أي أن لنا في الدنيا حلولا ولنا عنها مرتحلا ، إذ ليس بقية البيت وهو قوله :

وإن في السّفر إذ مضوا مهلا

ما يصح وقوعه خبرا عن (إنّ) الأولى. وقال جميل :

وقالوا نراها يا جميل تنكرت

وغيّرها الواشي فقلت لعلّها

وقال الجاحظ في «البيان» في باب من الكلام المحذوف عن الحسن : أن المهاجرين قالوا : «يا رسول الله إن الأنصار آوونا ونصرونا ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تعرفون ذلك لهم ،

٧٠

قالوا : نعم ، قال : «فإن ذلك ليس في الحديث غير هذا» يريد فإن ذلك شكر ومكافأة ا ه. وفي المقامة الثالثة والأربعين «حسبك يا شيخ فقد عرفت فنّك ، واستبنت أنك» أي أنك أبو زيد. وقد مثل في «شرح التسهيل» لحذف خبر (إنّ) بهذه الآية.

وجملة : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ) إلخ في موضع الحال من الذّكر ، أي كفروا به في حاله هذا ، ويجوز أن تكون الجملة عطفا على جملة : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) على تقدير خبر (إِنَ) المحذوف. وقد أجري على القرآن ستة أوصاف ما منها واحد إلا وهو كمال عظيم : الوصف الأول : أنه ذكر ، أي يذكّر الناس كلهم بما يغفلون عنه مما في الغفلة عنه فوات فوزهم.

الوصف الثاني من معنى الذكر : أنه ذكر للعرب وسمعة حسنة لهم بين الأمم يخلد لهم مفخرة عظيمة وهو كونه بلغتهم ونزل بينهم كما قال تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف : ٤٤] وفي قوله : (لَمَّا جاءَهُمْ) إشارة إلى هذا المعنى الثاني.

الوصف الثالث : أنه كتاب عزيز ، والعزيز النفيس ، وأصله من العزة وهي المنعة لأن الشيء النفسي يدافع عنه ويحمى عن النبذ فإنه بيّن الإتقان وعلوّ المعاني ووضوح الحجة ومثل ذلك يكون عزيزا ، والعزيز أيضا : الذي يغلب ولا يغلب ، وكذلك حجج القرآن.

الوصف الرابع : أنه لا يتطرقه الباطل ولا يخالطه صريحه ولا ضمنيّه ، أي لا يشتمل على الباطل بحال. فمثّل ذلك ب (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ).

والمقصود استيعاب الجهات تمثيلا لحال انتفاء الباطل عنه في ظاهره وفي تأويله بحال طرد المهاجم ليضر بشخص يأتيه من بين يديه فإن صدّه خاتله فأتاه من خلفه ، وقد تقدم في قوله تعالى : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) [الأعراف : ١٧].

فمعنى : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ) لا يوجد فيه ولا يداخله ، وليس المراد أنه لا يدعى عليه الباطل.

الوصف الخامس : أنه مشتمل على الحكمة وهي المعرفة الحقيقية لأنه تنزيل من حكيم ، ولا يصدر عن الحكيم إلا الحكمة : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [البقرة : ٢٦٩] فإن كلام الحكيم يأتي محكما متقنا رصينا لا يشوبه الباطل.

الوصف السادس : أنه تنزيل من حميد ، والحميد هو المحمود حمدا كثيرا ، أي

٧١

مستحقّ الحمد الكثير ، فالكلام المنزل منه يستحق الحمد وإنما يحمد الكلام إذ يكون دليلا للخيرات وسائقا إليها لا مطعن في لفظه ولا في معناه ، فيحمده سامعه كثيرا لأنه يجده مجلبة للخير الكثير ، ويحمد قائله لا محالة خلافا للمشركين.

وفي إجراء هذه الأوصاف إيماء إلى حماقة الذين كفروا بهذا القرآن وسفاهة آرائهم إذ فرطوا فيه ففرطوا في أسباب فوزهم في الدنيا وفي الآخرة ولذلك جيء بجملة الحال من الكتاب عقب ذكر تكذيبهم إياه فقال : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) الآيات.

(ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣))

(ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ).

استئناف بياني جواب لسؤال يثيره قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) [فصلت : ٤٠] ، وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) [فصلت : ٤١] وما تخلل ذلك من الأوصاف فيقول سائل : فما بال هؤلاء طعنوا فيه؟ فأجيب بأن هذه سنة الأنبياء مع أممهم لا يعدمون معاندين جاحدين يكفرون بما جاءوا به. وإذا بنيت على ما جوزته سابقا أن يكون جملة : (ما يُقالُ) خبر (إِنَ) [فصلت : ٤١] كانت خبرا وليست استئنافا.

وهذا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق الكناية وأمر له بالصبر على ذلك كما صبر من قبله من الرسل بطريق التعريض. ولهذا الكلام تفسيران :

أحدهما : أن ما يقوله المشركون في القرآن والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو دأب أمثالهم المعاندين من قبلهم فما صدق (ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ) هو مقالات الذين كذبوهم ، أي تشابهت قلوب المكذبين فكانت مقالاتهم متماثلة قال تعالى : (أَتَواصَوْا بِهِ) [الذاريات : ٥٣].

التفسير الثاني : ما قلنا لك إلا ما قلناه للرسل من قبلك ، فأنت لم تكن بدعا من الرسل فيكون لقومك بعض العذر في التكذيب ولكنهم كذبوا كما كذب الذين من قبلهم ، فما صدق : (ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ) هو الدين والوحي فيكون من طريقة قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) [الأعلى : ١٨]. وكلا المعنيين وارد في القرآن فيحمل الكلام على كليهما.

وفي التعبير ب (ما) الموصولة وفي حذف فاعل القولين في قوله : (ما يُقالُ)

٧٢

وقوله : (ما قَدْ قِيلَ) نظم متين حمّل الكلام هذين المعنيين العظيمين ، وفي قوله : (إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ) تشبيه بليغ. والمعنى : إلا مثل ما قد قيل للرسل.

واجتلاب المضارع في (ما يُقالُ) لإفادة تجدد هذا القول منهم وعدم ارعوائهم عنه مع ظهور ما شأنه أن يصدهم عن ذلك.

واقتران الفعل ب (قَدْ) لتحقيق أنه قد قيل للرسل مثل ما قال المشركون للرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو تأكيد للازم الخبر وهو لزوم الصبر على قولهم. وهو منظور فيه إلى حال المردود عليهم إذ حسبوا أنهم جابهوا الرسول بما لم يخطر ببال غيرهم ، وهذا على حد قوله تعالى : (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) [الذاريات : ٥٢ ، ٥٣].

(إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ)

تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووعد بأن الله يغفر له. ووقوع هذا الخبر عقب قوله : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) يومئ إلى أن هذا الوعد جزاء على ما لقيه من الأذى في ذات الله وأن الوعيد للذين آذوه ، فالخبر مستعمل في لازمه.

ومعنى المغفرة له : التجاوز عما يلحقه من الحزن بما يسمع من المشركين من أذى كثير. وحرف (إِنَ) فيه لإفادة التعليل والتسبب لا للتأكيد.

وكلمة (ذُو) مؤذنة بأن المغفرة والعقاب كليهما من شأنه تعالى وهو يضعهما بحكمته في المواضع المستحقة لكل منهما.

ووصف العقاب ب (أَلِيمٍ) دون وصف آخر للاشارة إلى أنه مناسب لما عوقبوا لأجله فإنهم آلموا نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما عصوا وآذوا.

وفي جملة : (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) محسّن الجمع ثم التقسيم ، فقوله: (ما يُقالُ لَكَ) يجمع قائلا ومقولا له فكان الإيماء بوصف (ذو مغفرة) إلى المقول له ، ووصف (ذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) إلى القائلين ، وهو جار على طريقة اللف والنشر المعكوس وقرينة المقام ترد كلّا إلى مناسبه.

(وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ

٧٣

آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤))

(وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ).

اتصال نظم الكلام من أول السورة إلى هنا وتناسب تنقلاته بالتفريع والبيان والاعتراض والاستطراد يقتضي أن قوله : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا) إلى آخره تنقّل في درج إثبات أن قصدهم العناد فيما يتعللون به ليواجهوا إعراضهم عن القرآن والانتفاع بهديه بما يختلقونه عليه من الطعن فيه والتكذيب به ، وتكلّف الأعذار الباطلة ليتستروا بذلك من الظهور في مظهر المنهزم المحجوج ، فأخذ ينقض دعاويهم عروة عروة ، إذ ابتدئت السورة بتحدّيهم بمعجزة القرآن بقوله : (حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) إلى قوله (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) [فصلت : ١ ـ ٤] فهذا تحدّ لهم ووصف للقرآن بصفة الإعجاز.

ثم أخذ في إبطال معاذيرهم ومطاعنهم بقوله : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) [فصلت : ٥] ، فإن قولهم ذلك قصدوا به أن حجة القرآن غير مقنعة لهم إغاظة منهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم تمالئهم على الأعراض بقوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت : ٢٦] وهو عجز مكشوف بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) [فصلت : ٤٠] وبقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) [فصلت : ٤١] الآيات. فأعقبها بأوصاف كمال القرآن التي لا يجدون مطعنا فيها بقوله : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) [فصلت : ٤١] الآية.

وإذ قد كانت هذه المجادلات في أول السورة إلى هنا إبطالا لتعللاتهم ، وكان عماده على أن القرآن عربي مفصّل الدلالة المعروفة في لغتهم حسبما ابتدئ الكلام بقوله : (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [فصلت : ٣] وانتهى هنا بقوله : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ* لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) [فصلت : ٤١ ، ٤٢] ، فقد نهضت الحجة عليهم بدلالته على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هذه الجهة فانتقل إلى حجة أخرى عمادها الفرض والتقدير أن يكون قد جاءهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقرآن من لغة أخرى غير لغة العرب.

ولذلك فجملة : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا) معطوفة على جملة : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ

٧٤

عَزِيزٌ) [فصلت : ٤١] على الاعتبارين المتقدمين آنفا في موقع تلك الجملة.

ومعنى الآية متفرع على ما يتضمنه قوله : (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [فصلت : ٣] وقوله : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ) [الكهف : ١١٠] من التحدّي بصفة الأمية كما علمت آنفا ، أي لو جئناهم بلون آخر من معجزة الأمية فأنزلنا على الرسول قرآنا أعجميا ، وليس للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم علم بتلك اللغة من قبل ، لقلبوا معاذيرهم فقالوا : لو لا بينت آياته بلغة نفهمها وكيف يخاطبنا بكلام أعجمي. فالكلام جار على طريقة الفرض كما هو مقتضى حرف (لَوْ) الامتناعية. وهذا إبانة على أن هؤلاء القوم لا تجدي معهم الحجة ولا ينقطعون عن المعاذير لأن جدالهم لا يريدون به تطلب الحق وما هو إلا تعنت لترويج هواهم.

ومن هذا النوع في الاحتجاج قوله تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ* فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ١٩٨ ، ١٩٩] ، أي لو نزلناه بلغة العرب على بعض الأعجمين فقرأه عليهم بالعربية ، لاشتراك الحجتين في صفة الأمية في اللغة المفروض إنزال الكتاب بها ، إلا أن تلك الآية بينت على فرض أن ينزل هذا القرآن على رسول لا يعرف العربية ، وهذه الآية بنيت على فرض أن ينزل القرآن على الرسول العربيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بلغة غير العربية. وفي هذه الآية إشارة إلى عموم رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم للعرب والعجم فلم يكن عجبا أن يكون الكتاب المنزل عليه بلغة غير العرب لو لا أن في إنزاله بالعربية حكمة علمها الله ، فإن الله لما اصطفى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عربيا وبعثه بين أمة عربية كان أحقّ اللغات بأن ينزل بها كتابه إليه العربية ، إذ لو نزل كتابه بغير العربية لاستوت لغات الأمم كلها في استحقاق نزول الكتاب بها فأوقع ذلك تحاسدا بينها لأن بينهم من سوابق الحوادث في التاريخ ما يثير الغيرة والتحاسد بينهم بخلاف العرب إذ كانوا في عزلة عن بقية الأمم ، فلا جرم رجحت العربية لأنها لغة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولغة القوم المرسل بينهم فلا يستقيم أن يبقى القوم الذين يدعوهم لا يفقهون الكتاب المنزل إليهم.

ولو تعددت الكتب بعدد اللغات لفاتت معجزة البلاغة الخاصة بالعربية لأن العربية أشرف اللغات وأعلاها خصائص وفصاحة وحسن أداء للمعاني الكثيرة بالألفاظ الوجيزة. ثم العرب هم الذين يتولون نشر هذا الدين بين الأمم وتبيين معاني القرآن لهم. ووقع في «تفسير الطبري» عن سعيد بن جبير أنه قال : قالت قريش : لو لا أنزل هذا القرآن أعجميا وعربيا؟ فأنزل الله : (لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) بهمزة واحدة على غير مذهب

٧٥

الاستفهام ا ه. ولا أحسب هذا إلا تأويلا لسعيد بن جبير لأنه لم يسنده إلى راو ، ولم يرو عن غيره فرأى أن الآية تنبئ عن جواب كلام صدر عن المشركين المعبر عنهم بضمير (لَقالُوا). وسياق الآية ولفظها ينبو عن هذا المعنى ، وكيف و (لَوْ) الامتناعية تمتنع من تحمل هذا التأويل وتدفعه.

وأما ما ذكره في «الكشاف» : «أنهم كانوا لتعنتهم يقولون : هلا نزل القرآن بلغة العجم؟ فقيل : لو كان كما يقترحون لم يتركوا الاعتراض والتعنت ، وقالوا : لو لا فصّلت آياته إلخ». فلم نقف على من ذكر مثله من المفسرين وأصحاب أسباب النزول وما هو إلا من صنف ما روي عن سعيد. ولو كان كذلك لكان نظم الآية : وقالوا لو لا فصلت آياته ، ولم يكن على طريقة (لَوْ) وجوابها. ولا يظن بقريش أن يقولوا ذلك إلا إذا كان على سبيل التهكم والاستهزاء.

وضمير (جَعَلْناهُ) عائد إلى الذكر في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) [فصلت: ٤١].

وقوله : (أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) بقية ما يقولونه على فرض أن يجعل القرآن أعجميا ، أي أنهم لا يخلون من الطعن في القرآن على كل تقدير.

و (لَوْ لا) حرف تحضيض.

ومعنى : (فُصِّلَتْ) هنا : بيّنت ووضّحت ، أي لو لا جعلت آياته عربية نفهمها.

والواو في قوله : (وَعَرَبِيٌ) للعطف بمعنى المعية. والمعنى : وكيف يلتقي أعجمي وعربي ، أي كيف يكون اللفظ أعجميا والمخاطب به عربيا كأنهم يقولون : أيلقى لفظ أعجمي إلى مخاطب عربي.

ومعنى : (قُرْآناً) كتابا مقروءا. وورد في الحديث تسمية كتاب داود عليه‌السلام قرآنا ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن داود يسّر له القرآن فكان يقرأ القرآن كله في حين يسرج له فرسه (أو كما قال).

والأعجمي : المنسوب إلى أعجم ، والأعجم مشتق من العجمة وهي الإفصاح ، فالأعجم : الذي لا يفصح باللغة العربية ، وزيادة الياء فيه للوصف نحو : أحمري ودوّاري. فالأعجمي من صفات الكلام.

وأفرد (وَعَرَبِيٌ) على تأويله بجنس السامع ، والمعنى : أكتاب عربي لسامعين عرب

٧٦

فكان حق (عَرَبِيٌ) أن يجمع ولكنه أفرد لأن مبنى الإنكار على تنافر حالتي الكتاب والمرسل إليهم ، فاعتبر فيه الجنس دون أن ينظر إلى إفراد ، أو جمع. وحاصل معنى الآية : أنها تؤذن بكلام مقدر داخل في صفات الذّكر ، وهو أنه بلسان عربي بلغتكم إتماما لهداكم فلم تؤمنوا به وكفرتم وتعللتم بالتعلّلات الباطلة فلو جعلناه أعجميا لقلتم : هلا بينت لنا حتى نفهمه.

(قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ)

هذا جواب تضمنه قوله : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) [فصلت : ٤٣] ، أي ما يقال من الطعن في القرآن ، فجوابه : أن ذلك الذكر أو الكتاب للذين آمنوا هدى وشفاء ، أي أن تلك الخصال العظيمة للقرآن حرمهم كفرهم الانتفاع بها وانتفع بها المؤمنون فكان لهم هديا وشفاء. وهذا ناظر إلى ما حكاه عنهم من قولهم : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) [فصلت : ٥] ، فهو إلزام لهم بحكم على أنفسهم.

وحقيقة الشفاء : زوال المرض وهو مستعار هنا للبصارة بالحقائق وانكشاف الالتباس من النفس كما يزول المرض عند حصول الشفاء ، يقال : شفيت نفسه ، إذا زال حرجه ، قال قيس بن زهير :

شفيت النفس من حمل بن بدر

وسيفي من حذيفة قد شفاني

ونظيره قولهم : شفي غليله ، وبرد غليله ، فإن الكفر كالداء في النفس لأنه يوقع في العذاب ويبعث على السيئات.

وجملة : (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) إلخ معطوفة على جملة : (هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً) فهي مستأنفة استئنافا ابتدائيا ، أي وأما الذين لا يؤمنون فلا تتخلل آياته نفوسهم لأنهم كمن في آذانهم وقر دون سماعه ، وهو ما تقدم في حكاية قولهم : (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) [فصلت : ٥] ، ولهذا الاعتبار كان معنى الجملة متعلقا بأحوال القرآن مع الفريق غير المؤمن من غير تكلف لتقدير جعل الجملة خبرا عن القرآن. ويجوز أن تكون الجملة خبرا ثانيا عن ضمير الذكر ، أي القرآن ، فتكون من مقول القول وكذلك جملة (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى).

والإخبار عنه ب (وَقْرٌ) و (عَمًى) تشبيه بليغ ووجه الشبه هو عدم الانتفاع به مع سماع ألفاظه ، والوقر : داء فمقابلته بالشفاء من محسّن الطّباق.

وضمير (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) يتبادر أنه عائد إلى الذّكر أو الكتاب كما عاد ضمير

٧٧

(هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً). والعمى : عدم البصر ، وهو مستعار هنا لضد الاهتداء فمقابلته بالهدى فيها محسّن الطّباق.

والإسناد إلى القرآن على هذا الوجه في معاد الضمير بأنه عليهم عمى من الإسناد المجازي لأن عنادهم في قبوله كان سببا لضلالهم فكان القرآن سبب سبب ، كقوله تعالى :(وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٥].

ويجوز أن يكون ضمير (وَهُوَ) ضمير شأن تنبيها على فظاعة ضلالهم. وجملة (عَلَيْهِمْ عَمًى) خبر ضمير الشأن ، أي وأعظم من الوقر أن عليهم عمى ، أي على أبصارهم عمى كقوله : (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) [البقرة : ٧].

وإنما علق العمى بالكون على ذواتهم لأنه لما كان عمى مجازيا تعين أن مصيبته على أنفسهم كلها لا على أبصارهم خاصة فإن عمى البصائر أشدّ ضرا من عمى الأبصار كقوله تعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦].

وجملة (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) خبر ثالث عن (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ). والكلام تمثيل لحال إعراضهم عن الدعوة عند سماعها بحال من ينادى من مكان بعيد لا يبلغ إليه في مثله صوت المنادي على نحو قوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ) كما تقدم في سورة البقرة [١٧١]. وتقول العرب لمن لا يفهم : أنت تنادى من مكان بعيد. والإشارة ب (أُولئِكَ) إلى (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) لقصد التنبيه على أن المشار إليهم بعد تلك الأوصاف أحرياء بما سيذكر بعدها من الحكم من أجلها نظير (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥].

ويتعلق (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) ب (يُنادَوْنَ). وإذا كان النداء من مكان بعيد كان المنادى (بالفتح) في مكان بعيد لا محالة كما تقدم في تعلق (مِنَ الْأَرْضِ) ، بقوله : (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ) [الروم : ٢٥] أي دعاكم من مكانكم في الأرض ، ويذلك يجوز أن يكون (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) ظرفا مستقرا في موضع الحال من ضمير (يُنادَوْنَ) وذلك غير متأتّ في قوله : (إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ).

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥))

٧٨

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ).

اعتراض بتسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تكذيب المشركين وكفرهم بالقرآن بأنه ليس بأوحد في ذلك فقد أوتي موسى التوراة فاختلف الذين دعاهم في ذلك ، فمنهم من آمن به ومنهم من كفر.

والمقصود الاعتبار بالاختلاف في التوراة فإنه أشد من الاختلاف في القرآن فالاختلاف في التوراة كان على نوعين : اختلاف فيها بين مؤمن بها وكافر ، فقد كفر بدعوة موسى فرعون وقومه وبعض بني إسرائيل مثل قارون ومثل الذين عبدوا العجل في مغيب موسى للمناجاة ، واختلاف بين المؤمنين بها اختلافا عطلوا به بعض أحكامها كما قال تعالى : (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) [البقرة : ٢٥٣] ، وكلا الاختلافين موضع عبرة وأسوة لاختلاف المشركين في القرآن. وهذا ما عصم الله القرآن من مثله إذ قال : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [يوسف : ١٢] فالتسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا أوقع ، وهذا ناظر إلى قوله آنفا : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) [فصلت : ٤٣] على الوجه الثاني من معنييه بذكر فرد من أفراد ذلك العموم وهو الأعظم الأهم.

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ)

هذا متعلق بالذين كذبوا بالقرآن من العرب لأن قوله : (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) يقتضي أن الله أخر القضاء بينهم وبين المؤمنين إلى أجل اقتضته حكمته ، فأما قوم موسى فقد قضى بينهم باستئصال قوم فرعون ، وبتمثيل الأشوريين باليهود بعد موسى ، وبخراب بيت المقدس ، وزوال ملك إسرائيل آخرا. وهذا الكلام داخل في إتمام التسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين في استبطاء النصر.

والكلمة هي كلمة الإمهال إلى يوم القيامة بالنسبة لبعض المكذبين ، والإمهال إلى يوم بدر بالنسبة لمن صرعوا ببدر.

والتعبير عن الجلالة بلفظ (رَبِّكَ) لما في معنى الرب من الرأفة به والانتصار له ، ولما في الإضافة إلى ضمير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التشريف. وكلا الأمرين تعزيز للتسلية.

ولك أن تجعل كلمة (بين) دالة على أخرى مقدرة على سبيل إيجاز الحذف. والتقدير : بينهم وبين المؤمنين ، أي بما يظهر به انتصار المؤمنين ، فإنه يكثر أن يقال : بين كذا وبين كذا ، قال تعالى : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) [سبأ : ٥٤].

٧٩

ومعنى (سَبَقَتْ) أي تقدمت في علمه على مقتضى حكمته وإرادته.

والأجل المسمى : جنس يصدق بكل ما أجل به عقابهم في علم الله. وأما ضمير (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) فهو خاص بالمشركين الشاكين في البعث والشاكين في أن الله ينصر رسوله والمؤمنين.

والريب : الشك ، فوصف (شَكٍ) ب (مُرِيبٍ) من قبيل الإسناد المجازي لقصد المبالغة بأن اشتق له من اسمه وصف كقولهم : ليل أليل! وشعر شاعر.

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦))

هذا من مكملات التسلية ومن مناسبات ذكر الأجل المسمى. وفيه معنى التذييل لأن (مَنْ) في الموضعين مفيدة للعموم سواء اعتبرت شرطية أو موصولة. ووجود الفاء في الموضعين : إمّا لأنهما جوابان للشرط ، وإما لمعاملة الموصول معاملة الشرط وهو استعمال كثير. والمعنى : أن الإمهال إعذار لهم ليتداركوا أمرهم.

وتقديم قريب من هذه الآية في سورة الزمر ، كما تقدم نظير (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) لفظا ومعنى في سورة غافر [٣١].

وحرف (على) مؤذن بمؤاخذة وتحمّل أعباء كما أن اللام في قوله : (فَلِنَفْسِهِ) مؤذن بالعطاء.

والخطاب في (رَبُّكَ) للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفيه ما تقدم من تعزيز تسليته عند قوله آنفا : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) [فصلت : ٤٥] من العدول إلى لفظ الرب المضاف إلى ضمير المخاطب.

والمراد بنفي الظلم عن الله تعالى لعبيده : أنه لا يعاقب من ليس منهم بمجرم ، لأن الله لما وضع للناس شرائع وبيّن الحسنات والسيئات ، ووعد وأوعد فقد جعل ذلك قانونا ، فصار العدول عنه إلى عقاب من ليس بمجرم ظلما إذ الظلم هو الاعتداء على حق الغير في القوانين المتلقاة من الشرائع الإلهية أو القوانين الوضعية المستخرجة من العقول الحكيمة. وأما صيغة (ظلام) المقتضية المبالغة في الظلم فهي معتبرة قبل دخول النفي على الجملة التي وقعت هي فيها كأنه قيل : ليعذب الله المسيء لكان ظلّاما له وما هو بظلّام ، وهذا معنى قول علماء المعاني : إن النفي إذا توجه إلى كلام مقيّد قد يكون النفي نفيا للقيد وقد يكون القيد قيدا في النفي ومثلوه بهذه الآية. وهذا استعمال دقيق في الكلام البليغ في نفي

٨٠