تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

لا يفيد هذا النظم المركب على التعاقب والتوالي ، والثاني باطل لأنه لو تكلم الله بها على التوالي كانت محدثة ، فلما سمع مني هذا الكلام قال : «الواجب علينا أن نقرّ ونمرّ» يعني نقرّ بأن القرآن قديم ونمرّ على هذا الكلام على وفق ما سمعناه قال : فتعجبت من سلامة قلب ذلك القائل.

ومن الغريب جدا ما يعزى إلى محمد بن كرّام وأصحابه الكرّامية من القول بأن كلام الله حروف وأصوات قائمة بذاته تعالى ، وقالوا : لا يلزم أن كل صفة لله قديمة ، ونسب مثل هذا إلى الحشوية ، وأما المعتزلة فأثبتوا لله أنه متكلم ومنعوا أن تكون له صفة تسمى الكلام ، والذي دعاهم إلى ذلك هو الجمع بين ما شاع في القرآن والسنة وعند السلف من إسناد الكلام إلى الله وإضافته إليه وقالوا : إن اشتقاق الوصف لا يستلزم قيام المصدر بالموصوف ، وتلك طريقتهم في صفات المعاني كلها ، وزادوا فقالوا : معنى كونه متكلما أنه خالق الكلام.

وأما الأشعري وأصحابه فلم يختلفوا في أن الكلام الذي نقول : إنه كلام الله المركب من حروف وأصوات ، المتلوّ بألسنتنا ، المكتوب في مصاحفنا ، إنه حادث وليس هو صفة الله تعالى وإنما صفة الله مدلول ذلك الكلام المركب من الحروف والأصوات من المعاني من أمر ونهي ووعد ووعيد. وتقريب ذلك عندي أن الكلام الحادث الذي خلقه الله دال على مراد الله تعالى وأن مراد الله صفة لله.

قال أبو بكر الباقلاني عن الشيخ : إن كلام الله الأزلي مقروء بألسنتنا ، محفوظ في قلوبنا ، مسموع بآذاننا ، مكتوب في مصاحفنا غير حالّ في شيء من ذلك ، كما أن الله معلوم بقلوبنا مذكور بألسنتنا معبود في محاريبنا وهو غير حال في شيء من ذلك. والقراءة والقارئ مخلوقان ، كما أن العلم والمعرفة مخلوقان ، والمعلوم والمعروف قديمان ا ه. يعني أن الألفاظ المقروءة والمكتوبة دوالّ وهي مخلوقة والمدلول وهو كون الله مريدا لمدلولات تلك التراكيب هو وصف الله تعالى ليصحّ أن الله أراد من النّاس العمل بالمدلولات التي دلّت عليها تلك التراكيب. وقد اصطلح الأشعري على تسمية ذلك المدلول كلاما نفسيّا وهو إرادة المعاني التي دلّ عليها الكلام اللفظي ، وقد استأنس لذلك بقول الأخطل :

إن الكلام لفي الفؤاد وإنّما

جعل اللّسان على الفؤاد دليلا

وأما أبو منصور الماتريدي فنقل الفخر عنه كلاما مزيجا من كلام الأشعري وكلام

٢٠١

المعتزلة ، والبعض نقل عنه مثل قول السلف. وسبب اختلاف النقل عنه هو أن الماتريدي تابع في أصول الدّين أبا حنيفة. وقد اضطرب أتباعه في فهم عبارته الواقعة في العقيدة المنسوبة إليه المسماة : الفقه الأكبر ـ إن صحّ عزوها إليه ـ إذ كانت عبارة يلوح عليها التضارب ولعله مقصود. وتأويلها بما يوافق كلام الأشعري هو التحقيق.

وتحقيق هذا المقام بوجه واضح قريب أن نقول : إن ثبوت صفة الكلام لله هو مثل ثبوت صفة الإرادة وصفة القدرة له تعالى ، في الأزل وهو أشبه باتصافه بالإرادة فكما أن معنى ثبوت صفة الإرادة لله إنه تعالى متى تعلق علمه بإيجاد شيء لم يكن موجودا ، أو بإعدام شيء كان موجودا ، أنه لا يحول دون تنفيذ ما تعلق علمه بإيجاده أو إعدامه حائل ولا يمنعه منه مانع ، ومتى تعلق علمه بإبقاء المعدوم في حالة العدم أو الموجود في حالة الوجود ، لا يكرهه على ضد ذلك مكره. فكذلك ثبوت الكلام لله معناه أنه كلما تعلق علمه بأنه يأمر أو ينهى أحدا لم يحل حائل دون إيجاد ما يبلغ مراده إلى المأمورين أو المنهيين ، وكلما تعلق علمه بأن يترك توجيه أمر أو نهي إلى النّاس لم يكرهه مكره على أن يأمرهم أو ينهاهم.

وكما أن للإرادة تعلقا صلاحيا أزليّا وتعلّقا تنجيزيا حادثا حين تتوجه الإرادة إلى إيجاد بواسطة القدرة. كذلك نجد لكلام الله تعلّقا صلاحيا أزليا وتعلّقا تنجيزيّا حين اقتضاء علم الله توجيه أمره أو نهيه أو نحوهما إلى بعض عباده. فالكلام الذي ينطق به الرّسول وينسبه إلى الله تعالى هو حادث وهو أثر التعلق التنجيزي الحادث ، والكلام الذي نعتقد أن الله أراده وأراد من النّاس العمل به هو الصفة الأزلية القديمة ولها التعلق الصلاحي القديم. وفي «الرسالة الخاقانية» للعلامة عبد الحكيم السلكوتي نقل عن بعض العلماء بأن لكلام الله تعلقا تنجيزيا حادثا ، وهذا من التحقيق بمكان.

والتحقيق : أن ذلك الكلام الأزلي يتنوع إلى أنواع المدلولات من أمر ونهي وخبر ووعد ووعيد ونحو ذلك.

وخلاصة معنى الآية أن الله قد يخلق في نفس جبريل أو غيره من الملائكة علما بمراد الله على كيفية لا نعلمها ، وعلما بأن الله سخره إبلاغ مراده إلى النبي ، والملك يبلغ إلى النبي ما أمر بتبليغه امتثالا للأمر التسخيري ، بألفاظ معينة ألقاها الله في نفس الملك مثل ألفاظ القرآن ، أو بألفاظ من صنعة الملك كالتي حكى الله عن زكرياء بقوله : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) [آل عمران : ٣٩]. أو يخلق في سمع النبي كلاما يعلم علم اليقين أنه غير صادر إليه من متكلم ، فيوقن أنه من عند الله

٢٠٢

بدلالة المعجزة أول مرة وبدلالة تعوّده بعد ذلك. وهذا مثل الكلام الذي كلم الله به موسى ألا ترى إلى قوله تعالى : (أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) [القصص : ٣٠ ، ٣١] الآية ، فقرن خطابه الخارق للعادة بالمعجزة الخارقة للعادة ليوقن موسى أن ذلك كلام من عند الله. أو يخلق في نفس النبي علما قطعيا بأن الله أراد منه كذا كما يخلق في نفس الملك في الحالة المذكورة أولا.

فعلى هذه الكيفيات يأتي الوحي للأنبياء ويختص القرآن بمزية أن الله تعالى يخلق كلاما يعيه الملك ويؤمر بإبلاغه بنصه دون تغير إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والقول في موقع جملة (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) كالقول في جملة (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) [الشورى : ٥٠] السابقة ، وإنما أوثر هنا صفة العلي الحكيم لمناسبتهما للغرض لأن العلوّ في صفة العليّ علوّ عظمة فائقة لا تناسبها النفوس البشرية التي لم تحظ من جانب القدس بالتصفية فما كان لها أن تتلقى من الله مراده مباشرة فاقتضى علوّه أن يكون توجيه خطابه إلى البشر بوسائط يفضي بعضها إلى بعض لأن ذلك كما يقول الحكماء : استفادة القابل من المبدإ تتوقف عن المناسبة بينهما. وأمّا وصف الحكيم فلأن معناه المتقن للصنع العالم بدقائقه وما خطابه البشر إلّا لحكمة إصلاحهم ونظام عالمهم ، وما وقوعه على تلك الكيفيات الثلاث إلا من أثر الحكمة لتيسير تلقّي خطابه ، ووعيه دون اختلال فيه ولا خروج عن طاقة المتلقّين.

وانظر ما تقدم عند قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) في سورة الأعراف [١٤٣] ، وعند قوله : (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) في سورة براءة [٦].

[٥٢ ، ٥٣] (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣))

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا).

عطف على جملة (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) [الشورى : ٥١] الآية ، وهذا دليل عليهم أن القرآن أنزل من عند الله أعقب به إبطال شبهتهم التي تقدم لإبطالها قوله : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) الآية ، أي كان وحينا إليك مثل كلامنا الذي

٢٠٣

كلّمنا به من قبلك على ما صرح به في قوله تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ) والنبيئين من بعده [النساء : ١٦٣]. والمقصود من هذا هو قوله : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ).

والإشارة إلى سابق في الكلام وهو المذكور آنفا في قوله : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) [الشورى : ٥١] الآية ، أي ومثل الذي ذكر من تكليم الله وحينا إليك روحا من أمرنا ، فيكون على حد قول الحارث بن حلزة :

مثلها تخرج النصيحة للقوم

فلاة من دونها أفلاء

أي مثل نصيحتنا التي نصحناها للملك عمرو بن هند تكون نصيحة الأقوام بعضهم لبعض لأنها نصيحة قرابة ذوي أرحام (١). ويجوز أن تكون الإشارة إلى ما يأتي من بعد وهو الإيحاء المأخوذ من (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) ، أي مثل إيحائنا إليك أوحينا إليك ، أي لو أريد تشبيه إيحائنا إليك في رفعة القدر والهدى ما وجد له شبيه إلا نفسه على طريقة قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) كما تقدم في سورة البقرة [١٤٣]. والمعنى : إنّ ما أوحينا إليك هو أعزّ وأشرف وحي بحيث لا يماثله غيره.

وكلا المعنيين صالح هنا فينبغي أن يكون كلاهما محملا للآية على نحو ما ابتكرناه في المقدمة التاسعة من هذا التفسير. ويؤخذ من هذه الآية أن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أعطي أنواع الوحي الثلاثة ، وهو أيضا مقتضى الغرض من مساق هذه الآيات.

والروح : ما به حياة الإنسان ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) في سورة الإسراء [٨٥]. وأطلق الروح هنا مجازا على الشريعة التي بها اهتداء النفوس إلى ما يعود عليهم بالخير في حياتهم الأولى وحياتهم الثانية ، شبهت هداية عقولهم بعد الضلالة بحلول الروح في الجسد فيصير حيّا بعد أن كان جثّة.

ومعنى (مِنْ أَمْرِنا) مما استأثرنا بخلقه وحجبناه عن النّاس فالأمر المضاف إلى الله بمعنى الشأن العظيم ، كقولهم : أمر أمر فلان ، أي شأنه ، وقوله تعالى : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) [القدر : ٤].

__________________

(١) على إحدى روايتين وهي رواية نصب (مثلها) وفتح تاء (تخرج). و (فلاة) حال من (النصيحة). ومعنى (فلاة من دونها أفلاء) أن قرابتهم بالملك مشتبكة كالفلاة ، أي الأرض الواسعة التي تتصل بها فلوات. والأفلاء جمع فلوات.

٢٠٤

والمراد بالروح من أمر الله : ما أوحي به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الإرشاد والهداية سواء كان بتلقين كلام معين مأمور بإبلاغه إلى النّاس بلفظه دون تغيّر وهو الوحي القرآني المقصود منه أمران : الهداية والإعجاز ، أم كان غير مقيد بذلك بل الرّسول مأمور بتبليغ المعنى دون اللّفظ وهو ما يكون بكلام غير مقصود به الإعجاز ، أو بإلقاء المعنى إلى الرّسول بمشافهة الملك ، وللرّسول في هذا أن يتصرف من ألفاظ ما أوحي إليه بما يريد التعبير به أو برؤيا المنام أو بالإلقاء في النّفس كما تقدم. واختتام هذه السورة بهذه الآية مع افتتاحها بقوله : (كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [الشورى : ٧] الآية فيه محسن ردّ العجز على الصدر.

وجملة (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ) في موضع الحال من ضمير (أَوْحَيْنا) أي أوحينا إليك في حال انتفاء علمك بالكتاب والإيمان ، أي أفضنا عليك موهبة الوحي في حال خلوّك عن علم الكتاب وعلم الإيمان. وهذا تحدّ للمعاندين ليتأملوا في حال الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيعلموا أن ما أوتيه من الشريعة والآداب الخلقية هو من مواهب الله تعالى التي لم تسبق له مزاولتها ، ويتضمن امتنانا عليه وعلى أمته المسلمين.

ومعنى عدم دراية الكتاب : عدم تعلق علمه بقراءة كتاب أو فهمه. ومعنى انتفاء دراية الإيمان : عدم تعلق علمه بما تحتوي عليه حقيقة الإيمان الشرعي من صفات الله وأصول الدين وقد يطلق الإيمان على ما يرادف الإسلام كقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣] وهو الإيمان الذي يزيد وينقص كما في قوله تعالى : (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) [المدثر : ٣١]. فيزاد في معنى عدم دراية الإيمان انتفاء تعلق علم الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بشرائع الإسلام. فانتفاء درايته بالإيمان مثل انتفاء درايته بالكتاب ، أي انتفاء العلم بحقائقه ولذلك قال : (ما كُنْتَ تَدْرِي) ولم يقل : ما كنت مؤمنا.

وكلا الاحتمالين لا يقتضي أن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن مؤمنا بوجود الله ووحدانية إلهيته قبل نزول الوحي عليه إذ الأنبياء والرّسل معصومون من الشرك قبل النبوءة فهم موحّدون لله ونابذون لعبادة الأصنام ، ولكنهم لا يعلمون تفاصيل الإيمان ، وكان نبيئنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عهد جاهلية قومه يعلم بطلان عبادة الأصنام ، وإذ قد كان قومه يشركون مع الله غيره في الإلهية فبطلان إلهية الأصنام عنده تمحّضه لإفراد الله بالإلهية لا محالة.

وقد أخبر بذلك عن نفسه فيما رواه أبو نعيم في «دلائل النبوءة» عن شداد بن أوس وذكره عياض في «الشفاء» غير معزو : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمّا نشأت ـ أي عقلت ـ بغّضت إليّ الأوثان وبغض إليّ الشعر ، ولم أهمّ بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين

٢٠٥

فعصمني الله منهما ثم لم أعد». وعلى شدة منازعة قريش إياه في أمر التوحيد فإنهم لم يحاجّوه بأنه كان يعبد الأصنام معهم. وفي هذه الآية حجة للقائلين بأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن متعبدا قبل نبوءته بشرع.

وإدخال (لَا) النافية في قوله : (وَلَا الْإِيمانُ) تأكيد لنفي درايته إيّاه ، أي ما كنت تدري الكتاب ولا الإيمان ، للتنصيص على أن المنفي دراية كل واحد منهما.

وقوله : (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً) عطف على جملة (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ). وضمير (جَعَلْناهُ) عائد إلى الكتاب في قوله : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ). والتقدير: وجعلنا الكتاب نورا. وأقحم في الجملة المعطوفة حرف الاستدراك للتنبيه على أن مضمون هذه الجملة عكس مضمون جملة (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ).

والاستدراك ناشئ على ما تضمنته جملة (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ) لأن ظاهر نفي دراية الكتاب أن انتفاءها مستمر فاستدرك بأن الله هداه بالكتاب وهدى به أمته ، فالاستدراك واقع في المحزّ. والتقدير : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ثم هديناك بالكتاب ابتداء وعرفناك به الإيمان وهديت به النّاس ثانيا فاهتدى به من شئنا هدايته ، أي وبقي على الضلال من لم نشأ له الاهتداء ، كقوله تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) [البقرة : ٢٦].

وشبه الكتاب بالنّور لمناسبة الهدي به لأن الإيمان والهدى والعلم تشبّه بالنور ، والضلال والجهل والكفر تشبه بالظلمة ، قال تعالى : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة : ٢٥٧]. وإذا كان السائر في الطريق في ظلمة ضل عن الطريق فإذا استنار له اهتدى إلى الطريق ، فالنّور وسيلة الاهتداء ولكن إنما يهتدي به من لا يكون له حائل دون الاهتداء وإلا لم تنفعه وسيلة الاهتداء ولذلك قال تعالى : (نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) ، أي نخلق بسببه الهداية في نفوس الذين أعددناهم للهدى من عبادنا. فالهداية هنا هداية خاصة وهي خلق الإيمان في القلب.

(وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).

أي نهدي به من نشاء بدعوتك وواسطتك فلما أثبت الهدي إلى الله وجعل الكتاب سببا لتحصيل الهداية عطف عليه وساطة الرّسول في إيصال ذلك الهدي تنويها بشأن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢٠٦

فجملة (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي) عطف على جملة (نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا). في الكلام تعريض بالمشركين إذ لم يهتدوا به وإذ كبر عليهم ما يدعوهم إليه مع أنه يهديهم إلى صراط مستقيم.

والهداية في قوله : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي) هداية عامة. وهي : إرشاد النّاس إلى طريق الخير فهي تخالف الهداية في قوله : (نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ). وحذف مفعول (لَتَهْدِي) للعموم ، أي لتهدي جميع النّاس ، أي ترشدهم إلى صراط مستقيم ، وهذا كقوله : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) [البلد : ١٠ ، ١١].

وتأكيد الخبر ب (إنّ) للاهتمام به لأن الخبر مستعمل في تثبيت قلب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالشهادة له بهذا المقام العظيم فالخبر مستعمل في لازم معناه ، على أنه مستعمل أيضا للتعريض بالمنكرين لهداه فيكون في التأكيد ملاحظة تحقيقه وإبطال إنكارهم. فكما أن الخبر مستعمل في لازمين من لوازم معناه فكذلك التأكيد ب (إنّ) مستعمل في غرضين من أغراضه ، وكلا الأمرين مما ألحق باستعمال المشترك في معنييه.

وتنكير (صِراطٍ) للتعظيم مثل تنكير (عظم) في قول أبي خراش :

فلا وأبي الطير المربّة في الضحى

على خالد لقد وقعن على عظم

ولأن التنكير أنسب بمقام التعريض بالذين لم يأبهوا بهدايته.

وعدل عن إضافة (صِراطِ) إلى اسم الجلالة ابتداء لقصد الإجمال الذي يعقبه التفصيل بأن يبدل منه بعد ذلك (صِراطِ اللهِ) ليتمكن بهذا الأسلوب المعنى المقصود فضل تمكّن على نحو قوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة : ٦ ، ٧].

وإجراء وصف اسم الجلالة باسم الموصول وصلته للإيماء إلى أن سبب استقامة الصراط الذي يهدي إليه النبي بأنه صراط الذي يملك ما في السماوات وما في الأرض فلا يعزب عنه شيء مما يليق بعباده ، فلما أرسل إليهم رسولا بكتاب لا يرتاب في أن ما أرسل لهم فيه صلاحهم.

(أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ).

تذييل وتنهية للسورة بختام ما احتوت عليه من المجادلة والاحتجاج بكلام قاطع جامع منذر بوعيد للمعرضين فاجع ومبشر بالوعد لكل خاشع. وافتتحت الجملة بحرف

٢٠٧

التنبيه لاسترعاء أسماع النّاس. وتقديم المجرور لإفادة الاختصاص ، أي إلى الله لا إلى غيره.

والمصير : الرّجوع والانتهاء ، واستعير هنا لظهور الحقائق كما هي يوم القيامة فيذهب تلبيس الملبسين ، ويهن جبروت المتجبرين ، ويقرّ بالحق من كان فيه من المعاندين ، وهذا كقوله تعالى : (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) [لقمان : ٢٢] وقوله : (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) [هود : ١٢٣]. والأمور : الشئون والأحوال والحقائق وكل موجود من الذوات والمعاني.

وقد أخذ هذا المعنى الكميت في قوله :

فالآن صرت إلى أمية والأمور إلى مصائر

وفي تنهية السورة بهذه الآية محسن حسن الختام.

٢٠٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٤٣ ـ سورة الزخرف

سميت في المصاحف العتيقة والحديثة سورة الزخرف وكذلك وجدتها في جزء عتيق من مصحف كوفي الخط مما كتب في أواخر القرن الخامس ، وبذلك ترجم لها الترمذي في كتاب التفسير من «جامعه» ، وسميت كذلك في كتب التفسير. وسماها البخاري في كتاب التفسير من «صحيحه» سورة حم الزخرف بإضافة كلمة (حم) إلى الزخرف على نحو ما بيّناه في تسمية سورة حم المؤمن ، روى الطبرسي عن الباقر أنه سماها كذلك. ووجه التسمية أن كلمة (وَزُخْرُفاً) [٣٥] وقعت فيها ولم تقع في غيرها من سور القرآن فعرّفوها بهذه الكلمة. وهي مكية. وحكى ابن عطية الاتفاق على أنّها مكية. وأما ما روي عن قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن آية (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) [الزخرف : ٤٥] نزلت بالمسجد الأقصى فإذا صح لم يكن منافيا لهذا لأن المراد بالمكّي ما أنزل قبل الهجرة.

وهي معدودة السورة الثانية والستين في ترتيب نزول السور ، نزلت بعد سورة فصّلت وقبل سورة الدخان. وعدّت آيها عند العادّين من معظم الأمصار تسعا وثمانين ، وعدّها أهل الشام ثمانيا وثمانين.

أغراضها

أعظم ما اشتملت عليه هذه السورة من الأغراض :

التحدي بإعجاز القرآن لأنه آية صدق الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما جاء به والتنويه به عدة مرات وأنه أوحى الله به لتذكيرهم وتكرير تذكيرهم وإن أعرضوا كما أعرض من قبلهم عن رسلهم.

٢٠٩

وإذ قد كان باعثهم على الطعن في القرآن تعلقهم بعبادة الأصنام التي نهاهم القرآن عنها كان من أهم أغراض السورة ، التعجيب من حالهم إذ جمعوا بين الاعتراف بأن الله خالقهم والمنعم عليهم وخالق المخلوقات كلّها وبين اتخاذهم آلهة يعبدونها شركاء لله ، حتى إذا انتقض أساس عنادهم اتضح لهم ولغيرهم باطلهم. وجعلوا بنات لله مع اعتقادهم أن البنات أحطّ قدرا من الذكور فجمعوا بذلك بين الإشراك والتنقيص. وإبطال عبادة كل ما دون الله على تفاوت درجات المعبودين في الشرف فإنهم سواء في عدم الإلهيّة للألوهية ولبنوة الله تعالى. وعرّج على إبطال حججهم ومعاذيرهم ، وسفّه تخييلاتهم وترّهاتهم. وذكرهم بأحوال الأمم السابقين مع رسلهم ، وأنذرهم بمثل عواقبهم ، وحذّرهم من الاغترار بإمهال الله وخص بالذكر رسالة إبراهيم وموسى وعيسى عليهم‌السلام. وخص إبراهيم بأنه جعل كلمة التوحيد باقية في جمع من عقبه وتوعد المشركين وأنذرهم بعذاب الآخرة بعد البعث الذي كان إنكارهم وقوعه من مغذيات كفرهم وإعراضهم لاعتقادهم أنّهم في مأمن بعد الموت.

وقد رتبت هذه الأغراض وتفاريعها على نسج بديع وأسلوب رائع في التقديم والتأخير والأصالة والاستطراد على حسب دواعي المناسبات التي اقتضتها البلاغة ، وتجديد نشاط السامع لقبول ما يلقى إليه. وتخلّل في خلاله من الحجج والأمثال والمثل والقوارع والترغيب والترهيب شيء عجيب ، مع دحض شبه المعاندين بأفانين الإقناع بانحطاط ملّة كفرهم وعسف معوّج سلوكهم. وأدمج في خلال ذلك ما في دلائل الوحدانية من النعم على النّاس والإنذار والتبشير.

وقد جرت آيات هذه السورة على أسلوب نسبة الكلام إلى الله تعالى عدا ما قامت القرينة على الإسناد إلى غيره.

(حم (١))

تقدم القول في نظائره ومواقعها قبل ذكر القرآن وتنزيله.

[٢ ، ٣] (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣))

أقسم بالكتاب المبين وهو القرآن على أن القرآن جعله الله عربيا واضح الدلالة فهو حقيق بأن يصدّقوا به لو كانوا غير مكابرين ، ولكنّهم بمكابرتهم كانوا كمن لا يعقلون.

٢١٠

فالقسم بالقرآن تنويه بشأنه وهو توكيد لما تضمنه جواب القسم إذ ليس القسم هنا برافع لتكذيب المنكرين إذ لا يصدّقون بأن المقسم هو الله تعالى فإن المخاطب بالقسم هم المنكرون بدليل قوله : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وتفريع (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) [الزخرف : ٥] عليه. وتوكيد الجواب ب (إنّ) زيادة توكيد للخبر أن القرآن من جعل الله.

وفي جعل المقسم به القرآن بوصف كونه مبينا ، وجعل جواب القسم أن الله جعله مبينا ، تنويه خاص بالقرآن إذ جعل المقسم به هو المقسم عليه ، وهذا ضرب عزيز بديع لأنه يومئ إلى أن المقسم على شأنه بلغ غاية الشرف فإذا أراد المقسم أن يقسم على ثبوت شرف له لم يجد ما هو أولى بالقسم به للتناسب بين القسم والمقسم عليه. وجعل صاحب «الكشاف» من قبيله قول أبي تمام :

وثناياك إنها اغريض

ولآل تؤم وبرق وميض

إذ قدر الزمخشري جملة (إنها اغريض) جواب القسم وهو الذي تبعه عليه الطيبي والقزويني في شرحيهما «للكشاف» ، وهو ما فسر به التبريزي في شرحه لديوان أبي تمام ، ولكن التفتازانيّ أبطل ذلك في شرح «الكشاف» وجعل جملة (إنها اغريض) استئنافا أي اعتراضا لبيان استحقاق ثناياها أن يقسم بها ، وجعل جواب القسم قوله بعد أبيات ثلاثة :

لتكادني غمار من الأح

داث لم أدر أيّهن أخوض

والنكت والخصوصيات الأدبية يكفي فيها الاحتمال المقبول فإن قوله قبله :

وارتكاض الكرى بعينيك في الن

وم فنونا وما بعيني غموض

يجوز أن يكون قسما ثانيا فيكون البيت جوابا له.

وإطلاق اسم الكتاب على القرآن باعتبار أن الله أنزله ليكتب وأنّ الأمة مأمورون بكتابته وإن كان نزوله على الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لفظا غير مكتوب. وفي هذا إشارة إلى أنه سيكتب فى المصاحف ، والمراد ب (الْكِتابِ) ما نزل من القرآن قبل هذه السورة وقد كتبه كتّاب الوحي.

وضمير (جَعَلْناهُ) عائد إلى (الْكِتابِ) ، أي إنا جعلنا الكتاب المبين قرآنا والجعل : الإيجاد والتكوين ، وهو يتعدّى إلى مفعول واحد.

والمعنى : أنه مقروء دون حضور كتاب فيقتضي أنه محفوظ في الصدور ولو لا ذلك

٢١١

لما كانت فائدة للإخبار بأنه مقروء لأن كل كتاب صالح لأن يقرأ. والإخبار عن الكتاب بأنه قرآن مبالغة في كون هذا الكتاب مقروءا ، أي ميسّرا لأن يقرأ لقوله : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) [القمر : ١٧] وقوله : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) [القيامة : ١٧]. وقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩].

فحصل بهذا الوصف أن الكتاب المنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جامع لوصفين : كونه كتابا ، وكونه مقروءا على ألسنة الأمة. وهذا مما اختص به كتاب الإسلام. و (عَرَبِيًّا) نسبة إلى العرب ، وإذ قد كان المنسوب كتابا ومقروءا فقد اقتضى أن نسبته إلى العرب نسبة الكلام واللّغة إلى أهلها ، أي هو مما ينطق العرب بمثل ألفاظه ، وبأنواع تراكيبه.

وانتصب (قُرْآناً) على الحال من مفعول (جَعَلْناهُ).

ومعنى جعله (قُرْآناً عَرَبِيًّا) تكوينه على ما كونت عليه لغة العرب ، وأن الله بباهر حكمته جعل هذا الكتاب قرآنا بلغة العرب لأنها أشرف اللّغات وأوسعها دلالة على عديد المعاني ، وأنزله بين أهل تلك اللّغة لأنهم أفهم لدقائقها ، ولذلك اصطفى رسوله من أهل تلك اللّغة لتتظاهر وسائل الدلالة والفهم فيكونوا المبلغين مراد الله إلى الأمم. وإذا كان هذا القرآن بهاته المثابة فلا يأبى من قبوله إلا قوم مسرفون في الباطل بعداء عن الإنصاف والرشد ، ولكن الله أراد هديهم فلا يقطع عنهم ذكره حتى يتمّ مراده ويكمل انتشار دينه فعليهم أن يراجعوا عقولهم ويتدبروا إخلاصهم فإن الله غير مؤاخذهم بما سلف من إسرافهم إن هم ثابوا إلى رشدهم.

والمقصود بوصف الكتاب بأنه عربي غرضان : أحدهما التنويه بالقرآن ، ومدحه بأنه منسوج على منوال أفصح لغة ، وثانيهما التورّك على المعاندين من العرب حين لم يتأثروا بمعانيه بأنهم كمن يسمع كلاما بلغة غير لغته ، وهذا تأكيد لما تضمنه الحرفان المقطعان المفتتحة بهما السورة من معنى التحدّي بأن هذا كتاب بلغتكم وقد عجزتم عن الإتيان بمثله.

وحرف (لعلّ) مستعار لمعنى الإرادة وتقدم نظيره في قوله : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) في أوائل سورة البقرة [٧٣].

والعقل الفهم. والغرض : التعريض بأنهم أهملوا التدبر في هذا الكتاب وأن كماله في البيان والإفصاح نستأهل العناية به لا الإعراض عنه فقوله : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) مشعر

٢١٢

بأنهم لم يعقلوا.

والمعنى : أنّا يسرنا فهمه عليكم لعلكم تعقلون فأعرضتم ولم تعقلوا معانيه ، لأنه قد نزل مقدار عظيم لو تدبروه لعقلوا ، فهذا الخبر مستعمل في التعريض على طريقة الكناية.

(وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤))

عطف على جملة (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [الزخرف : ٣] ، فهو زيادة في الثناء على هذا الكتاب ثناء ثانيا للتنويه بشأنه رفعة وإرشادا.

و (أُمِّ الْكِتابِ) : أصل الكتاب. والمراد ب (أُمِّ الْكِتابِ) علم الله تعالى كما في قوله : (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) في سورة الرعد [٣٩] ، لأن الأمّ بمعنى الأصل والكتاب هنا بمعنى المكتوب ، أي المحقق الموثق وهذا كناية عن الحق الذي لا يقبل التغيير لأنهم كانوا إذا أرادوا أن يحققوا عهدا على طول مدة كتبوه في صحيفة ، قال الحارث بن حلزة :

حذر الجور والتطاخي وهل ين

قض ما في المهارق الأهواء

وعلي أصله المرتفع ، وهو هنا مستعار لشرف الصفة وهي استعارة شائعة.

و (حَكِيمٌ) : أصله الذي الحكمة من صفات رأيه ، فهو هنا مجاز لما يحوي الحكمة بما فيه من صلاح أحوال النفوس والقوانين المقيّمة لنظام الأمة.

ومعنى كون ذلك في علم الله : أن الله علمه كذلك وما علمه الله لا يقبل الشك. ومعناه : أن ما اشتمل عليه القرآن من المعاني هو من مراد الله وصدر عن علمه. ويجوز أيضا أن يفيد هذا شهادة بعلوّ القرآن وحكمته على حد قولهم في اليمين : الله يعلم ، وعلم الله.

وتأكيد الكلام ب (إنّ) لردّ إنكار المخاطبين إذ كذّبوا أن يكون القرآن موحى به من الله.

و (لَدَيْنا) ظرف مستقر هو حال من ضمير (إِنَّهُ) أو من (أُمِّ الْكِتابِ) والمقصود : زيادة تحقيق الخبر وتشريف المخبر عنه. وقرأ الجمهور في (أُمِّ الْكِتابِ) بضمّ همزة (أُمِ). وقرأه حمزة والكسائي بكسر همزة (أُمِّ الْكِتابِ) في الوصل اتباعا لكسرة (فِي) ، فلو وقف على (فِي) لم يكسر الهمزة.

٢١٣

(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥))

الفاء لتفريع الاستفهام الإنكاري على جملة (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الزخرف : ٣] ، أي أتحسبون أن إعراضكم عما نزل من هذا الكتاب يبعثنا على أن نقطع عنكم تجدد التذكير بإنزال شيء آخر من القرآن. فلما أريدت إعادة تذكيرهم وكانوا قد قدم إليهم من التذكير ما فيه هديهم لو تأملوا وتدبروا ، وكانت إعادة التذكير لهم موسومة في نظرهم بقلة الجدوى بيّن لهم أن استمرار إعراضهم لا يكون سببا في قطع الإرشاد عنهم لأن الله رحيم بهم مريد لصلاحهم لا يصده إسرافهم في الإنكار عن زيادة التقدم إليهم بالمواعظ والهدي.

والاستفهام إنكاري ، أي لا يجوز أن نضرب عنكم الذكر صفحا من جراء إسرافكم.

والضرب حقيقته قرع جسم بآخر ، وله إطلاقات أشهرها : قرع البعير بعصا ، وهو هنا مستعار لمعنى القطع والصرف أخذا من قولهم : ضرب الغرائب عن الحوض ، أي أطردها وصرفها لأنها ليست لأهل الماء ، فاستعاروا الضرب للصرف والطرد ، وقال طرفة :

أضرب عنك الهموم طارقها

ضربك بالسّيف قونس الفرس (١)

والذكر : التذكير ، والمراد به القرآن.

والصّفح : الإعراض بصفح الوجه وهو جانبه وهو أشد الإعراض عن الكلام لأنه يجمع ترك استماعه وترك النظر إلى المتكلم.

وانتصب (صَفْحاً) على النيابة عن الظرف ، أي في مكان صفح ، كما يقال : ضعه جانبا ، ويجوز أن يكون (صَفْحاً) مصدر صفح عن كذا ، إذا أعرض ، فينتصب على المفعول المطلق لبيان نوع الضرب بمعنى الصرف والإعراض.

والإسراف : الإفراط والإكثار ، وأغلب إطلاقه على الإكثار من الفعل الضائر. ولذلك قيل «لا سرف في الخير» والمقام دال على أنّهم أسرفوا في الإعراض عن القرآن.

وقرأ نافع وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف إن كنتم بكسر همزة إن فتكون

__________________

(١) (اضرب) فعل أمر فهمزته همزة وصل مكسورة. وجاء به مفتوح الآخر على تقدير نون التوكيد ضرورة ، و (طارقها) بدل من (الهموم) أي التي تحدث لك في الليل ، و (القونس) عظم ناتئ بين أذني الفرس إذا ضرب بالسيف في الحرب هلك الفرس ، أراد : اضرب الهموم ضربا قاطعا.

٢١٤

إن شرطية ، ولما كان الغالب في استعمال إن الشرطية أن تقع في الشرط الذي ليس متوقعا وقوعه بخلاف (إذا) التي هي للشرط المتيقن وقوعه ، فالإتيان بإن في قوله : إن كنتم قوما مسرفين لقصد تنزيل المخاطبين المعلوم إسرافهم منزلة من يشك في إسرافه لأن توفر الأدلّة على صدق القرآن من شأنه أن يزيل إسرافهم وفي هذا ثقة بحقّيّة القرآن وضرب من التوبيخ على إمعانهم في الإعراض عنه. وقرأه ابن كثير وابن عامر وعاصم وأبو عمرو ويعقوب بفتح الهمزة على جعل (إِنَ) مصدرية وتقدير لام التعليل محذوفا ، أي لأجل إسرافكم ، أي لا نترك تذكيركم بسبب كونكم مسرفين بل لا نزال نعيد التذكير رحمة بكم.

وإقحام (قَوْماً) قبل (مُسْرِفِينَ) للدلالة على أن هذا الإسراف صار طبعا لهم وبه قوام قوميتهم ، كما قدمناه عند قوله تعالى : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في سورة البقرة [١٦٤].

[٦ ـ ٨] (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨))

لما ذكر إسرافهم في الإعراض عن الإصغاء لدعوة القرآن وأعقبه بكلام موجه إلى الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسلية عما يلاقيه منهم في خلال الإعراض من الأذى والاستهزاء بتذكيره بأن حاله في ذلك حال الرّسل من قبله وسنة الله في الأمم ، ووعد للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنصر على قومه بتذكيره بسنة الله في الأمم المكذّبة رسلهم. وجعل للتسلية المقام الأول من هذا الكلام بقرينة العدل عن ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة في قوله : (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ) كما سيأتي ، ويتضمن ذلك تعريضا بزجرهم عن إسرافهم في الإعراض عن النظر في القرآن.

فجملة (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ) نبيء معطوفة على جملة (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [الزخرف : ٣] وما بعدها إلى هنا عطف القصة على القصة.

و (كَمْ) اسم دال على عدد كثير مبهم ، وموقع (كَمْ) نصب بالمفعولية ل (أَرْسَلْنا) ، وهو ملتزم تقديمه لأن أصله اسم استفهام فنقل من الاستفهام إلى الإخبار على سبيل الكناية.

وشاع استعماله في ذلك حتى صار الإخبار بالكثرة معنى من معاني (كَمْ). والداعي

٢١٥

إلى اجتلاب اسم العدد الكثير أن كثرة وقوع هذا الحكم أدخل في زجرهم عن مثله وأدخل في تسلية الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتحصيل صبره ، لأن كثرة وقوعه تؤذن بأنه سنة لا تتخلف ، وذلك أزجر وأسلى.

و (الْأَوَّلِينَ) جمع الأوّل ، وهو هنا مستعمل في معنى الماضين السابقين كقوله تعالى: (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) [الصافات : ٧١] فإنّ الذين أهلكوا قد انقرضوا بقطع النظر عمن عسى أن يكون خلفهم من الأمم.

والاستثناء في قوله : (إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) استثناء من أحوال ، أي ما يأتيهم نبيء في حال من أحوالهم إلا يقارن استهزاؤهم إتيان ذلك النبي إليهم.

وجملة (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ) نبيء (إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) في موضع الحال من (الْأَوَّلِينَ) ، وهذا الحال هو المقصود من الإخبار. وجملة (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) تفريع وتسبب عن جملة (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ) نبيء (فِي الْأَوَّلِينَ).

وضمير (أَشَدَّ مِنْهُمْ) عائد إلى قوم مسرفين الذين تقدم خطابهم فعدل عن استرسال خطابهم إلى توجيهه إلى الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن الغرض الأهم من هذا الكلام هو تسلية الرّسول ووعده بالنصر. ويستتبع ذلك التعريض بالذين كذبوه فإنهم يبلغهم هذا الكلام كما تقدم.

ويظهر أن تغيير أسلوب الإضمار تبعا لتغيير المواجهة بالكلام لا ينافي اعتبار الالتفات في الضمير لأن مناط الالتفات هو اتحاد مرجع الضميرين مع تأتّي الاقتصار على طريقة الإضمار الأولى ، وهل تغيير توجيه الكلام إلا تقوية لمقتضى نقل الإضمار ، ولا تفوت النكتة التي تحصل من الالتفات وهي تجديد نشاط السامع بل تزداد قوة بازدياد مقتضياتها.

وكلام «الكشاف» ظاهر في أن نقل الضمير هنا التفات وعلى ذلك قرره شارحوه ، ولكن العلامة التفتازانيّ قال : ومثل هذا ليس من الالتفات في شيء ا ه. ولعله يرى أن اختلاف المواجهة بالكلام الواقع فيه الضّميران طريقة أخرى غير طريقة الالتفات ، وكلام «الكشاف» فيه احتمال ، وخصوصيات البلاغة واسعة الأطراف. والذين هم أشد بطشا من كفار مكّة : هم الذين عبر عنهم ب (الْأَوَّلِينَ) ووصفوا بأنهم يستهزءون بمن يأتيهم من نبيء. وهذا ترتيب بديع في الإيجاز لأن قوله : (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) يقتضي كلاما مطويا تقديره : فلا نعجز عن إهلاك هؤلاء المسرفين وهم أقل بطشا.

وهذا في معنى قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ

٢١٦

أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ) [محمد : ١٣].

والبطش : الإضرار القويّ.

وانتصب (بَطْشاً) على التمييز لنسبة الأشدّيّة.

و (مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) حالهم العجيبة. ومعنى (مَضى) : انقرض ، أي ذهبوا عن بكرة أبيهم ، فمضيّ المثل كناية عن استئصالهم لأن مضي الأحوال يكون بمضي أصحابها ، فهو في معنى قوله تعالى : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) [الأنعام : ٤٥]. وذكر (الْأَوَّلِينَ) إظهار في مقام الإضمار لتقدم قوله : (فِي الْأَوَّلِينَ). ووجه إظهاره أن يكون الإخبار عنهم صريحا وجاريا مجرى المثل.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩))

لما كان قوله : (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ) نبيء (فِي الْأَوَّلِينَ) [الزخرف : ٦] موجها إلى الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للتسلية والوعد بالنصر ، عطف عليه خطاب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم صريحا بقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) الآية ، لقصد التعجيب من حال الذين كذّبوه فإنهم إنما كذبوه لأنه دعاهم إلى عبادة إله واحد ونبذ عبادة الأصنام ، ورأوا ذلك عجبا مع أنهم يقرّون لله تعالى بأنّه خالق العوالم وما فيها. وهل يستحق العبادة غير خالق العابدين ، ولأنّ الأصنام من جملة ما خلق الله في الأرض من حجارة ، فلو سألهم الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في محاجّته إياهم عن خالق الخلق لما استطاعوا غير الإقرار بأنه الله تعالى.

فجملة (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) معطوفة على جملة (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ) نبيء (فِي الْأَوَّلِينَ) [الزخرف : ٦] عطف الغرض ، وهو انتقال إلى الاحتجاج على بطلان الإشراك بإقرارهم الضمنيّ : أن أصنامهم خالية عن صفة استحقاق أن تعبد. وتأكيد الكلام باللام الموطئة للقسم ولام الجواب ونون التوكيد لتحقيق أنهم يجيبون بذلك تنزيلا لغير المتردد في الخبر منزلة المتردّد ، وهذا التنزيل كناية عن جدارة حالتهم بالتعجيب من اختلال تفكيرهم وتناقض عقائدهم وإنّما فرض الكشف عن عقيدتهم في صورة سؤالهم عن خالقهم للإشارة إلى أنهم غافلون عن ذلك في مجرى أحوالهم وأعمالهم ودعائهم حتى إذا سألهم السائل عن خالقهم لم يتريّثوا أن يجيبوا بأنه الله ثم يرجعون إلى شركهم.

٢١٧

وتاء الخطاب في (سَأَلْتَهُمْ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ظاهر سياق التسلية ، أو يكون الخطاب لغير معيّن ليعمّ كل مخاطب يتصور منه أن يسألهم.

و (الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) هو الله تعالى. وليس ذكر الصفتين العليتين من مقول جوابهم وإنما حكي قولهم بالمعنى ، أي ليقولن خلقهنّ الذي الصفتان من صفاته ، وإنما هم يقولون : خلقهن الله ، كما حكي عنهم في سورة لقمان [٢٥] و (لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ). وذلك هو المستقرى من كلامهم نثرا وشعرا في الجاهلية. وإنما عدل عن اسم العليّ إلى الصفتين زيادة في إفحامهم بأن الذي انصرفوا عن توحيده بالعبادة عزيز عليم ، فهو الذي يجب أن يرجوه النّاس للشدائد لعزّته وأن يخلصوا له باطنهم لأنه لا يخفى عليه سرّهم ، بخلاف شركائهم فإنها أذلّة لا تعلم ، وإنهم لا ينازعون وصفه ب (الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ).

وتخصيص هاتين الصفتين بالذكر من بين بقية الصفات الإلهية لأنها مضادة لصفات الأصنام فإن الأصنام عاجزة عن دفع الأيدي.

والتقدير : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولنّ الله ، وإن سألتهم : أهو العزيز العليم.

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠))

هذا كلام موجه من الله تعالى ، هو تخلّص من الاستدلال على تفرده بالإلهية بأنه المنفرد بخلق السماوات والأرض إلى الاستدلال بأنه المنفرد بإسداء النعم التي بها قوام أود حياة الناس. فالجملة استئناف حذف منها المبتدأ ، والتقدير : هو الذي جعل لكم الأرض مهادا. وهذا الاستئناف معترض بين جملة (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الزخرف : ٩] الآية وجملة (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) [الزخرف : ١٥] الآية.

واسم الموصول خبر لمبتدإ محذوف تقديره : هو الذي جعل لكم وهو من حذف المسند إليه الوارد على متابعة الاستعمال في تسمية السكاكي حيث تقدم الحديث عن الله تعالى فيما قبل هذه الجملة. واجتلاب الموصول للاشتهار بمضمون الصلة فساوى الاسم العلم في الدلالة.

٢١٨

وذكرت صلتان فيهما دلالة على الانفراد بالقدرة العظيمة وعلى النعمة عليهم ، ولذلك أقحم لفظ (لَكُمُ) في الموضعين ولم يقل : الذي جعل الأرض مهادا وجعل فيها سبلا كما في قوله : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً) [النبأ : ٦ ، ٧] لأن ذلك مقام الاستدلال على منكري البعث ، فسيق لهم الاستدلال بإنشاء المخلوقات العظيمة التي لا تعدّ إعادة خلق الإنسان بالنسبة إليها شيئا عجيبا.

ولم يكرر اسم الموصول في قوله : (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) لأن الصلتين تجتمعان في الجامع الخيالي إذ كلتاهما من أحوال الأرض فجعلهما كجعل واحد. وضمائر الخطاب الأحد عشر الواقعة في الآيات الأربع من قوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ) مهادا إلى قوله (مُقْرِنِينَ) [الزخرف : ١٠ ـ ١٣] ليست من قبيل الالتفات بل هي جارية على مقتضى الظاهر.

والمهاد : اسم لشيء يمهد ، أي يوطأ ويسهل لما يحلّ فيه ، وتقدم في قوله : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ) في سورة الأعراف [٤١]. ووجه الامتنان أنه جعل ظاهر الأرض منبسطا وذلك الانبساط لنفع البشر الساكنين عليها. وهذا لا ينافي أن جسم الأرض كروي كما هو ظاهر لأن كرويتها ليست منفعة للنّاس. وقرأ عاصم (مَهْداً) بدون ألف بعد الهاء وهو مراد به المهاد.

والسبل : جمع سبيل ، وهو الطريق ، ويطلق السبيل على وسيلة الشيء كقوله (يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) [الشورى : ٤٤]. ويصح إرادة المعنيين هنا لأن في الأرض طرقا يمكن سلوكها ، وهي السهول وسفوح الجبال وشعابها ، أي لم يجعل الأرض كلها جبالا فيعسر على الماشين سلوكها ، بل جعل فيها سبلا سهلة وجعل جبالا لحكمة أخرى ولأن الأرض صالحة لاتخاذ طرق مطروقة سابلة.

ومعنى جعل الله تلك الطرق بهذا المعنى : أنه جعل للنّاس معرفة السير في الأرض واتباع بعضهم آثار بعض حتى تتعبد الطرق لهم وتتسهل ويعلم السائر ، أي تلك السبل يوصله إلى مقصده.

وفي تيسير وسائل السير في الأرض لطف عظيم لأن به تيسير التجمع والتعارف واجتلاب المنافع والاستعانة على دفع الغوائل والأضرار والسير في الأرض قريبا أو بعيدا من أكبر مظاهر المدنيّة الإنسانية ، ولأن الله جعل في الأرض معايش النّاس من النبات والثمر وورق الشجر والكمأة والفقع وهي وسائل العيش فهي سبل مجازية. وتقدم نظير

٢١٩

هذه الآية في سورة طه.

والاهتداء : مطاوع هداه فاهتدى. والهداية حقيقتها : الدلالة على المكان المقصود ، ومنه سمي الدال على الطرائق هاديا ، وتطلق على تعريف الحقائق المطلوبة ومنه (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) [المائدة : ٤٤]. والمقصود هنا المعنى الثاني ، أي رجاء حصول علمكم بوحدانية الله وبما يجب له ، وتقدم في (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة : ٦].

ومعنى الرجاء المستفاد من (لعل) استعارة تمثيلية تبعية ، مثّل حال من كانت وسائل الشيء حاضرة لديه بحال من يرجى لحصول المتوسل إليه.

(وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١))

انتقل من الاستدلال والامتنان بخلق الأرض إلى الاستدلال والامتنان بخلق وسائل العيش فيها ، وهو ماء المطر الذي به تنبت الأرض ما يصلح لاقتيات الناس.

وأعيد اسم الموصول للاهتمام بهذه الصلة اهتماما يجعلها مستقلة فلا يخطر حضورها بالبال عند حضور الصلتين اللتين قبلها فلا جامع بينها وبينهما في الجامع الخيالي. وتقدم الكلام على نظيره في سورة الرعد وغيرها فأعيد اسم الموصول لأن مصداقه هو فاعل جميعها.

والإنشاء : الإحياء كما في قوله : (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) [عبس : ٢٢].

وعن ابن عباس أنه أنكر على من قرأ (كَيْفَ نُنْشِزُها) [البقرة : ٢٥٩] بفتح النون وضم الشين وتلا (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) [عبس : ٢٢] فأصل الهمزة فيه للتعدية وفعله المجرد نشر بمعنى حيي ، يقال : نشر الميت ، برفع الميت قال الأعشى :

حتى يقول النّاس مما رأوا

يا عجبا للميّت الناشر

وأصل النشر بسط ما كان مطويا وتفرعت من ذلك معاني الإعادة والانتشار.

والنشر هنا مجاز لأن الإحياء للأرض مجاز ، وزاده حسنا هنا أن يكون مقدمة لقوله : (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ).

وضمير (فَأَنْشَرْنا) التفات من الغيبة إلى التكلم. والميّت ضدّ الحي. ووصف البلدة به مجاز شائع قال تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها) [يس : ٣٣].

٢٢٠