تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

مطلقا ثم خص بغليظ الديباج ، ثم عرب.

وتقدما في قوله (يَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) في سورة الكهف [٣١] فارجع إليه. و (مِنْ) لبيان الجنس ، والمبيّن محذوف دل عليه (يَلْبَسُونَ). والتقدير : ثيابا من سندس وإستبرق.

ثم وصف نعيم نفوسهم بعضهم مع بعض في مجالسهم ومحادثاتهم بقوله : (مُتَقابِلِينَ) لأن الحديث مع الأصحاب والأحبّة نعيم للنّفس فأغنى قوله : (مُتَقابِلِينَ) عن ذكر اجتماعهم وتحابهم وحديث بعضهم مع بعض وأن ذلك شأنهم أجمعين بأن ذكر ما يستلزم ذلك وهو صيغة متقابلين ومادته على وجه الإيجاز البديع.

[٥٤ ـ ٥٧] (كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧))

(كَذلِكَ).

اعتراض وقد تقدم بيان معناه عن قوله تعالى : (كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً) في سورة الكهف [٩١]. وتقدم نظيره آنفا في هذه السورة.

(وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى).

معنى (زَوَّجْناهُمْ) جعلناهم أزواجا جمع زوج ضد الفرد ، أي جعلنا كل فرد من المتقين زوجا بسبب نساء حور العيون.

والزوج هنا كناية عن القرين ، أي قرنّا بكل واحد نساء حورا عينا ، وليس فعل (زَوَّجْناهُمْ) هنا مشتقا من الزوج الشائع إطلاقه على امرأة الرجل وعلى رجل المرأة لأن ذلك الفعل يتعدى بنفسه يقال : زوجه ابنته وتزوج بنت فلان ، قال تعالى : (زَوَّجْناكَها) [الأحزاب : ٣٧] ، وليس ذلك بمراد هنا إذ لا طائل تحته ، إذ ليس في الجنة عقود نكاح ، وإنما المراد أنهم مأنوسون بصحبة حبائب من النساء كما أنسوا بصحبة الأصحاب والأحبة من الرجال استكمالا لمتعارف الأنس بين الناس. وفي كلا الأنسين نعيم نفساني منجرّ للنفس من النعيم الجثماني ، وهذا معنى سام من معاني الانبساط الروحي وإنما أفسد بعضه في

٣٤١

الدّنيا ما يخالط بعضه من أحوال تجرّ إلى فساد منهي عنه مثل ارتكاب المحرم شرعا ومثل الاعتداء على المرأة قسرا ، ومن مصطلحات متكلفة ، وقد سمى الله سكونا فقال : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم : ٢١].

والحور : جمع الحوراء ، وهي البيضاء ، أي بنساء بضيضات الجلد.

والعين : جمع العيناء ، وهي واسعة العين ، وتقدم في سورة الصافات. وشمل الحور العين النساء اللاء كنّ أزواجهن في الدنيا ، ونساء يخلقهن الله لأجل الجنة قال تعالى : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) [الواقعة : ٣٥] وقال تعالى : (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ) [يس : ٥٦].

ومعنى (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ) أي هم يأمرون بأن تحضر لهم الفاكهة ، أي فيجابون.

والدعاء نوع من الأمر أي يأذنون بكل فاكهة ، أي بإحضار كل فاكهة. وكل هنا مستعملة في الكثرة الشديدة لكل واحد منهم ويجوز أن تكون بمعنى الإحاطة ، أي بكل صنف من أصناف الفاكهة.

والفاكهة : ما يتفكه به ، أي يتلذذ بطعمه من الثمار ونحوها.

وجملة (يَدْعُونَ) حال من (الْمُتَّقِينَ) [الدخان : ٥١] ، و (آمِنِينَ) حال من ضمير (يَدْعُونَ). والمراد هنا أمن خاص غير الذي في قوله : (فِي مَقامٍ أَمِينٍ) [الدخان : ٥١] وهو الأمن من الغوائل والآلام من تلك الفواكه على خلاف حال الإكثار من الطعام في الدنيا كقوله في خمر الجنة (لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) [الصافات: ٤٧] ، أو آمنين من نفاد ذلك وانقطاعه.

وجملة (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) حال أخرى. وهذه بشارة بخلود النعمة لأن الموت يقطع ما كان في الحياة من النعيم لأصحاب النعيم كما كان الإعلام بأن أهل الشرك لا يموتون نذارة بدوام العذاب.

والاستثناء في قوله : (إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) من تأكيد الشيء بما يشبه ضده لزيادة تحقيق انتفاء ذوق الموت عن أجل الجنة فكأنه قيل لا يذوقون الموت البتة وقرينة ذلك وصفها ب (الْأُولى). والمراد ب (الْأُولى) السالفة ، كما تقدم آنفا في قوله : (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) [الدخان : ٣٥].

٣٤٢

(وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٥٧).

عطف على (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) وهذا تذكير بنعمة السلامة مما ارتبك فيه غيرهم. وذلك مما يحمد الله عليه كما ورد أن من آداب من يرى غيره في شدة أو بأس أن يقول : الحمد لله الذي عافاني مما هو فيه. وضمير (وَقاهُمْ) عائد إلى ضمير المتكلم في (وَزَوَّجْناهُمْ) على طريقة الالتفات.

و (فَضْلاً) حال من المذكورات. والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وذكر الرب إظهار في مقام الإضمار ومقتضى الظاهر أن يقال : فضلا منه أو منا. ونكتة هذا الإظهار تشريف مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإيماء إلى أن ذلك إكرام له لإيمانهم به.

وجملة (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) تذييل ، والإشارة في (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) لتعظيم الفضل ببعد المرتبة. وأتي بضمير الفصل لتخصيص الفوز بالفضل المشار إليه وهو قصر لإفادة معنى الكمال كأنه لا فوز غيره.

[٥٨ ، ٥٩] (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩))

الفاء للتفريع إشارة إلى أن ما بعدها متفرّع عما قبلها حيث كان المذكور بعد الفاء فذلكة للسورة ، أي إجمال لأغراضها بعد تفصيلها فيما مضى إحضارا لتلك الأغراض وضبطا لترتّب علتها.

وضمير (يَسَّرْناهُ) عائد إلى الكتاب المفهوم من المقام والمذكور في قوله (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) [الدخان : ٢ ، ٣] إلخ ، والذي كان جلّ غرض السورة في إثبات إنزاله من الله كما أشار إليه افتتاحها بالحروف المقطعة ، وقوله : (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) ، فهذا التفريع مرتبط بذلك الافتتاح وهو من ردّ العجز على الصدر. فهذا التفريع تفريع لمعنى الحصر الذي في قوله : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) لبيان الحكمة في إنزال القرآن باللسان العربي فيكون تفريعا على ما تقدم في السورة وما تخلله وتبعه من المواعظ.

ويجوز أن يكون المفرع قوله : (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ). وقدم عليه ما هو توطئة له اهتماما بالمقدم وتقدير النظم فلعلهم يتذكّرون بهذا لما يسّرناه لهم بلسانهم.

والقصر المستفاد من (إنما) قصر قلب وهو رد على المشركين إذ قد سهّل لهم طريق

٣٤٣

فهمه بفصاحته وبلاغته فقابلوه بالشك والهزء كما قصه الله في أول السورة بقوله : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) [الدخان : ٩] أي إنا جعلنا فهمه يسيرا بسبب اللغة العربية الفصحى وهي لغتهم إلا ليتذكروا فلم يتذكروا. فمفعول (يَسَّرْناهُ) مضاف مقدر دل عليه السياق تقديره : فهمه.

والباء في (بِلِسانِكَ) للسببية ، أي بسبب لغتك ، أي العربية وفي إضافة اللسان إلى ضمير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عناية بجانبه وتعظيم له ، وإلا فاللسان لسان العرب كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) [إبراهيم : ٤].

وإطلاق اللسان وهو اسم الجارحة المعروفة في الفم على اللّغة مجاز شائع لأن أهم ما يستعمل فيه اللسان الكلام قال تعالى : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء : ١٩٥].

وأفصح قوله (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) عن الأمر بالتذكير بالقرآن. والتقدير : فذكّرهم به ولا تسأم لعنادهم فيه ودم على ذلك حتى يحصل التذكر ، فالتيسير هنا تسهيل الفهم ، وتقدم عند قوله تعالى : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ) إلخ في سورة مريم [٩٧].

و (لعلّ) مستعملة في التعليل ، أي لأجل أن يتذكّروا به ، وهذا كقوله : (وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا) لتنذر (الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) [الأحقاف : ١٢].

وفي هذا الكلام الموجز إخبار بتيسير القرآن للفهم لأن الغرض منه التذكر ، قال تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر : ١٧] ، وبأن سبب ذلك التيسير كونه بأفصح اللغات وكونه على لسان أفضل الرسل صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلذلك كان تسببه في حصول تذكرهم تسببا قريبا لو لم يكونوا في شك يلعبون. وباعتبار هذه المعاني المتوافرة حسن أن يفرع على هذه الجملة تأييد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهديد معانديه بقوله : (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) أي فارتقب النصر الذي سألته بأن تعان عليهم بسنين كسنين يوسف فإنهم مرتقبون ذلك وأشد منه وهو البطشة الكبرى.

وإطلاق الارتقاب على حال المعاندين استعارة تهكمية لأن المعنى أنهم لاقون ذلك لا محالة وقد حسنها اعتبار المشاكلة بين (ارتقب) و (مُرْتَقِبُونَ).

وجملة (إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) تعليل للأمر في قوله (فَارْتَقِبْ) أي ارتقب النصر بأنهم لاقوا العذاب بالقحط وقد أغنت (إنّ) التّسبب والتعليل.

وفي هذه الخاتمة ردّ العجز على الصدر إذ كان صدر السورة فيه ذكر إنزال الكتاب

٣٤٤

المبين وأنه رحمة من الله بواسطة رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان في صدرها الإنذار بارتقاب يوم تأتي السماء بدخان مبين وذكر البطشة الكبرى. فكانت خاتمة هذه السورة خاتمة عزيزة المنال اشتملت على حسن براعة المقطع وبديع الإيجاز.

٣٤٥

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٤٥ ـ سورة الجاثية

سميت هذه السورة في كثير من المصاحف العتيقة بتونس وكتب التفسير وفي «صحيح البخاري» سورة الجاثية معرّفا باللام.

وتسمى حم الجاثية لوقوع لفظ (جاثِيَةً) [الجاثية : ٢٨] فيها ولم يقع في موضع آخر من القرآن ، واقتران لفظ الجاثية بلام التعريف في اسم السورة مع أن اللفظ المذكور فيها خليّ عن لام التعريف لقصد تحسين الإضافة ، والتقدير : سورة هذه الكلمة ، أي السورة التي تذكر فيها هذه الكلمة ، وليس لهذا التعريف فائدة غير هذه. وذلك تسمية حم غافر ، وحم الزخرف.

وتسمى سورة شريعة لوقوع لفظ (شَرِيعَةٍ) [الجاثية : ١٨] فيها ولم يقع في موضع آخر من القرآن. وتسمّى سورة الدهر لوقوع (ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية : ٢٤] فيها ولم يقع لفظ الدهر في ذوات حم الأخر.

وهي مكية قال ابن عطية : بلا خلاف ، وفي «القرطبي» عن ابن عباس وقتادة استثناء قوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا) إلى (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [الجاثية : ١٤] نزلت بالمدينة. وعن ابن عباس أنها نزلت عن عمر بن الخطاب شتمه رجل من المشركين بمكة فأراد أن يبطش به فنزلت.

وهي السورة الرابعة والستون في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد ، نزلت بعد سورة الدخان وقبل الأحقاف. وعدد آيها في عدّ المدينة ومكة والشام والبصرة ست وثلاثون. وفي عدّ الكوفة سبع وثلاثون لاختلافهم في عدّ لفظ (حم) آية مستقلة.

أغراضها

الابتداء بالتحدّي بإعجاز القرآن وأنه جاء بالحق توطئة لما سيذكر بأنه حق كما

٣٤٦

اقتضاه قوله (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) [الجاثية : ٦]. وإثبات انفراد الله تعالى بالإلهية بدلائل ما في السماوات والأرض من آثار خلقه وقدرته في جواهر الموجودات وأعراضها وإدماج ما فيها مع ذلك من نعم يحق على الناس شكرها لا كفرها. ووعيد الذين كذبوا على الله والتزموا الآثام بالإصرار على الكفر والإعراض عن النظر في آيات القرآن والاستهزاء بها. والتنديد على المشركين إذ اتخذوا آلهة على حسب أهوائهم وإذ جحدوا البعث ، وتهديدهم بالخسران يوم البعث ، ووصف أهوال ذلك ، وما أعدّ فيه من العذاب للمشركين ومن رحمة للمؤمنين. ودعاء المسلمين للإعراض عن إساءة الكفار لهم والوعد بأن الله سيخزي المشركين.

ووصف بعض أحوال يوم الجزاء. ونظّر الذين أهملوا النظر في آيات الله مع تبيانها وخالفوا على رسولهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما فيه صلاحهم بحال بني إسرائيل في اختلافهم في كتابهم بعد أن جاءهم العلم وبعد أن اتبعوه فما ظنك بمن خالف آيات الله من أول وهلة تحذيرا لهم من أن يقعوا فيما وقع فيه بنو إسرائيل من تسليط الأمم عليهم وذلك تحذير بليغ. وذلك تثبيت للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن شأن شرعه مع قومه كشأن شريعة موسى لا تسلم من مخالف ، وأن ذلك لا يقدح فيها ولا في الذي جاء بها ، وأن لا يعبأ بالمعاندين ولا بكثرتهم إذ لا وزن لهم عند الله.

(حم (١))

تقدم القول في نظائره ، وهذه جملة مستقلة.

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢))

استئناف ابتدائي وهو جملة مركبة من مبتدأ وخبر. (الْكِتابِ) هو المعهود وهو ما نزل من القرآن إلى تلك الساعة.

والمقصود : إثبات أن القرآن موحى به من الله إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان مقتضى الظاهر أن يجعل القرآن مسندا إليه ويخبر عنه فيقال القرآن منزّل من الله العزيز الحكيم لأن كونه منزلا من الله هو محل الجدال فيقتضي أن يكون هو الخبر ولو أذعنوا لكونه تنزيلا لما كان منهم نزاع في أن تنزيله من الله ولكن خولف مقتضى الظاهر لغرضين :

أحدهما : التشويق إلى تلقي الخبر لأنهم إذا سمعوا الابتداء بتنزيل الكتاب استشرفوا إلى ما سيخبر عنه ؛ فأمّا الكافرون فيترقبون أنه سيلقى إليهم وصف جديد لأحوال تنزيل

٣٤٧

الكتاب فيتهيّئون لخوض جديد من جدالهم وعنادهم ، والمؤمنون يترقبون لما يزيدهم يقينا بهذا التنزيل.

والغرض الثاني : أن يدّعى أن كون القرآن تنزيلا أمر لا يختلف فيه فالذين خالفوا فيه كأنهم خالفوا في كونه منزّلا من عند الله وهل يكون التنزيل إلا من عند الله فيؤول إلى تأكيد الإخبار بأنه منزل من عند الله إذ لا فرق بين مدلول كونه تنزيلا وكونه من عند الله إلا باختلاف مفهوم المعنيين دون ماصدقيهما على طريقة قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : ٢].

وإيثار وصفي (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) بالذكر دون غيرهما من الأسماء الحسنى لإشعار وصف (الْعَزِيزِ) بأن ما نزل منه مناسب لعزته فهو كتاب عزيز كما وصفه تعالى بقوله : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) [فصلت : ٤١] ، أي هو غالب لمعانديه ، وذلك لأنه أعجزهم عن معارضته ، ولإشعار وصف (الْحَكِيمِ) بأن ما نزل من عنده مناسب لحكمته ، فهو مشتمل على دلائل اليقين والحقيقة ، ففي ذلك إيماء إلى أن إعجازه ، من جانب بلاغته إذ غلبت بلاغة بلغائهم ، ومن جانب معانيه إذ أعجزت حكمته حكمة الحكماء ، وقد تقدم مثيل هذا في طالعة سورة الزمر وقريب منه في طالعة سورة غافر.

[٣ ـ ٥] (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥))

موقع هذا الكلام موقع تفصيل المجمل لما جمعته جملة (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [الجاثية : ٢] باعتبار أن آيات السماوات والأرض وما عطف عليها إنما كانت آيات للمؤمنين الموقنين ، وللذين حصل لهم العلم بسبب ما ذكرهم به القرآن ، ومما يؤيد ذلك قوله تعالى : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ) [الجاثية : ٦].

وأكد ب (إِنَ) وإن كان المخاطبون غير منكريه لتنزيلهم منزلة المنكر لذلك بسبب عدم انتفاعهم بما في هذه الكائنات من دلالة على وحدانية الله تعالى وإلا فقد قال الله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) في سورة الزّخرف [٩].

والخطاب موجه إلى المشركين ولذلك قال : (لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) وقال : (آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) دون أن يقال : لآيات لكم أو آيات لكم ، أي هي آيات لمن يعلمون دلالتها من

٣٤٨

المؤمنين ومن الذين يوقنون إشارة إلى أن تلك الآيات لا أثر لها في نفوس من هم بخلاف ذلك. والمراد بكون الآيات في السماوات والأرض أن ذات السماوات والأرض وعداد صفاتها دلائل على الوحدانية فجعلت السماوات والأرض بمنزلة الظرف لما أودعته من الآيات لأنها ملازمة لها بأدنى نظر وجعلت الآيات للمؤمنين لأنهم الذين انتفعوا بدلالتها وعلموا منها أن موجدها ومقدر نظامها واحد لا شريك له.

وعطف جملة (وَفِي خَلْقِكُمْ) إلخ على جملة (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) عطف خاص على عام لما في هذا الخاص من التذكير بنعمة إيجاد النوع استدعاء للشكر عليه.

والبث : التوزيع والإكثار وهو يقتضي الخلق والإيجاد فكأنه قيل وفي خلق الله ما يبثّ من دابة. وتقدم البث في قوله تعالى : (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) في سورة البقرة [١٦٤].

وعبر بالمضارع في (يَبُثُ) ليفيد تجدد البث وتكرره باعتبار اختلاف أجناس الدواب وأنواعها وأصنافها. والدابة تطلق على كل ما يدبّ على الأرض غير الإنسان وهذا أصل إطلاقها وقد تطلق على ما يدب بالأرجل دون الطائر كقوله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨].

والرزق أطلق هنا على المطر على طريقة المجاز المرسل لأن المطر سبب وجود الأقوات. والرزق : القوت. وقد ذكر في آية سورة البقرة [١٦٤] (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ). وتقدمت نظائر هذه الآية في أواسط سورة البقرة وفي مواضع عدّة.

والمراد ب (المؤمنين) ، وب (قوم يوقنون) ، وب (قوم يعقلون) واحد ، وهم المؤمنون بتوحيد الله فحصل لهم اليقين وكانوا يعقلون ، أي يعلمون دلالة الآيات.

والمعنى : أن المؤمنين والذين يوقنون ، أي يعلمون ولا يكابرون ، والذين يعقلون دلالة الآثار على المؤثر ونظروا النظر الصحيح في شواهد السماوات والأرض فعلموا أن لا بد لها من صانع وأنه واحد فأيقن بذلك العاقل منهم الذي كان مترددا ، وازداد إيمانا من كان مؤمنا فصار موقنا. فالمعنى : أن الذين انتفعوا بالآيات هم المؤمنون العاقلون ، فوزعت هذه الأوصاف على فواصل هذه الآي لأن ذلك أوقع في نفس السامع من إتلاء بعضها لبعض.

٣٤٩

وقدم المتصفون بالإيمان لشرفه وجعل خلق الناس والدواب آية للموصوفين بالإيقان لأن دلالة الخلق كائنة في نفس الإنسان وما يحيط به من الدواب ، وجعل اختلاف الليل والنهار واختلاف حوادث الجو آية للذين اتصفوا بالعقل لأن دلالتها على الوحدانية بواسطة لوازم مترتبة بإدراك العقل. وقد أومأ ذكر هذه الصفات إلى أن الذين لم يهتدوا بهذه الآيات ليسوا من أصحاب هذه الصفات ولذلك أعقبه بقوله : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) [الجاثية : ٦] استفهاما إنكاريا بمعنى النفي.

واعلم أن هذا الكلام وإن كان موجها إلى قوم لا ينكرون وجود الإله وإنما يزعمون له شركاء ، وكان مقصودا منه ابتداء إثبات الوحدانية ، فهو أيضا صالح لإقامة الحجة على المعطّلين الذين ينفون وجود الصانع المختار وفي العرب فريق منهم. فإن أحوال السماوات كلها متغيرة دالة على تغير ما اتصفت بها ، والتغير دليل الحدوث وهو الحاجة إلى الفاعل المختار الذي يوجدها بعد العدم ثم يعدمها.

وقرأ الجمهور قوله : (آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) وقوله : (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) برفع (آياتٌ) فيهما على أنهما مبتدءان وخبراهما المجروران. وتقدّر (في) محذوفة في قوله (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) لدلالة أختها عليها التي في قوله : (وَفِي خَلْقِكُمْ). والعطف في كلتا الجملتين عطف جملة لا عطف مفرد.

وقرأها حمزة والكسائي وخلف لآيات في الموضعين بكسرة نائبة عن الفتحة فآيات الأول عطف على اسم (إِنَ) و (فِي خَلْقِكُمْ) عطف على خبر (إِنَ) فهو عطف على معمولي عامل واحد ولا إشكال في جوازه وأما (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) فكذلك ، إلا أنه عطف على معمولي عاملين مختلفين ، أي ليسا مترادفين هما (إنّ) و (في) على اعتبار أن الواو عاطفة (آياتٌ) وليست عاطفة جملة (فِي خَلْقِكُمْ) الآية ، وهو جائز عند أكثر نحاة الكوفة وممنوع عند أكثر نحاة البصرة ، ولذلك تأول سيبويه هذه القراءة بتقدير (في) عند قوله : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) لدلالة أختها عليها وتبقى الواو عاطفة (آياتٌ) على اسم (إنّ) فلا يكون من العطف على معمولي عاملين.

والحق ما ذهب إليه جمهور الكوفيين وهو كثير كثرة تنبو عن التأويل. وجعل ابن الحاجب في «أماليه» قراءة الجمهور برفع (آياتٌ) في الموضعين أيضا من العطف على معمولي عاملين لأن الرفع يحتاج إلى عامل كما أن النصب يحتاج إلى عامل قال : وأكثر الناس يفرض الإشكال في قراءة النصب لكون العامل لفظيّا وهما سواء. وقرأ يعقوب

٣٥٠

(آياتٌ) الثانية فقط بكسر التاء على أنه حال متعدد من اختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق وتصريف الرياح ، والسحاب.

(تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦))

يجوز أن تكون الإشارة وبيانها بآيات الله إشارة إلى الآيات المذكورة في قوله (لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الجاثية : ٣] وقوله : (آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [الجاثية : ٤] وقوله : (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الجاثية : ٥].

وإضافتها إلى اسم الجلالة لأن خالقها على تلك الصفات التي كانت لها آيات للمستنصرين.

وجملة (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) في موضع الحال من (آياتُ اللهِ) والعامل في اسم الإشارة من معنى الفعل على نحو قوله تعالى : (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود : ٧٢].

والتلاوة : القراءة. ومعنى كون الآيات متلوة أنّ في ألفاظ القرآن المتلوة دلالة عليها فاستعمال فعل (نتلو) مجاز عقلي لأن المتلو ما يدل عليها.

ويجوز أن تكون الإشارة إلى حاضر في الذهن غير مذكور لما دل عليه قوله : (الْكِتابِ) [الجاثية : ٢] أي تلك آيات الله المنزلة في القرآن ، فيكون استعمال فعل (نَتْلُوها) في حقيقته.

وإسناد التلاوة إلى الله مجاز عقلي أيضا لأن الله موجد القرآن المتلو الدال على تلك الآيات.

وقوله : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) ، و (بَعْدَ) هنا بمعنى (دون). فالمعنى : فبأي حديث دون الله وآياته ، وتقدم قوله تعالى : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) في سورة الشورى [٤٤] ، وفي الأعراف [١٨٥] (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ). والاستفهام في قوله : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ) مستعمل في التأييس والتعجيب كقول الأعشى :

فمن أيّ ما تأتي الحوادث أفرق

وإضافة (بَعْدَ) إلى اسم الجلالة على تقدير مضاف دل عليه ما تقدم من قوله : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ) ، والتقدير : بعد حديث الله ، أي بعد سماعه ، كقول النابغة :

وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي

على وعل في ذي المطارة عاقل

٣٥١

أي على مخافة وعل.

واسم (بَعْدَ) مستعمل في حقيقته.

والمراد بالحديث : الكلام ، يعني القرآن كقوله : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) [الزمر: ٢٣] وكما وقع إضافة حديث إلى ضمير القرآن في قوله في الأعراف [١٨٥] (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) وفي آخر المرسلات [٥٠] (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ).

وعطف و (آياتِهِ) على (حَدِيثٍ) لأن المراد بها الآيات غير القرآن من دلائل السموات والأرض مما تقدم في قوله : (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الجاثية : ٣].

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص وأبو جعفر وروح عن يعقوب (يُؤْمِنُونَ) بالتحتية. وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر ورويس عن يعقوب بالتاء الفوقية فهو التفات.

[٧ ـ ١٠] (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠))

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً).

أعقب ذكر المؤمنين الموقنين العاقلين المنتفعين بدلالة آيات الله وما يفيده مفهوم تلك الصفات التي أجريت عليهم من تعريض بالذين لم ينتفعوا بها ، بصريح ذكر أولئك الذين لم يؤمنوا ولم يعقلوها كما وصف لذلك قوله : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) [الجاثية : ٦].

وافتتح ذكره بالويل له تعجيلا لإنذاره وتهديده قبل ذكر حاله. و (ويل له) كلمة دعاء بالشكر وأصل الويل الشر وحلوله.

و (الأفّاك) القويّ الإفك ، أي الكذب. والأثيم مبالغة أو صفة مشبهة وهو يدل على المبالغ في اقتراف الآثام ، أي الخطايا. وفسره الفيروزآبادىّ في «القاموس» بالكذّاب وهو

٣٥٢

تسامح وإنما الكذب جزئي من جزئيات الأثيم.

وجعلت حالته أنه يسمع آيات الله ثم يصرّ مستكبرا لأن تلك الحالة وهي حالة تكرر سماعه آيات الله وتكرر إصراره مستكبرا عنها تحمله على تكرير تكذيب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم وتكرير الإثم ، فلا جرم أن يكون أفاكا أثيما بله ما تلبس به من الشرك الذي كله كذب وإثم.

والمراد بكل (أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) جميع المشركين الذين كذبوا دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعاندوا في معجزة القرآن وقالوا (لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) [سبإ : ٣١] وبخاصة زعماء أهل الشرك وأئمة الكفر مثل النضر بن الحارث ، وأبي جهل وقرنائهم. و (آياتِ اللهِ) أي القرآن فإنها المتلوة. و (ثُمَ) للتراخي الرتبي لأن ذلك الإصرار بعد سماع مثل تلك الآيات أعظم وأعجب ، فهو يصر عند سماع آيات الله وليس إصراره متأخرا عن سماع الآيات.

والإصرار : ملازمة الشيء وعدم الانفكاك عنه ، وحذف متعلق (يُصِرُّ) لدلالة المقام عليه ، أي يصرّون على كفرهم كما دل على ذلك قوله : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) [الجاثية : ٦].

وشبه حالهم في عدم انتفاعهم بالآيات بحالهم في انتفاء سماع الآيات ، وهذا التشبيه كناية عن وضوح دلالة آيات القرآن بحيث أن من يسمعها يصدق بما دلت عليه فلو لا إصرارهم واستكبارهم لانتفعوا بها.

و (كَأَنْ) أصلها (كأنّ) المشددة فخففت فقدر اسمها وهو ضمير الشأن. وفرّع على حالتهم هذه إنذارهم بالعذاب الأليم وأطلق على الإنذار اسم البشارة التي هي الإخبار بما يسر على طريقة التهكم.

والمراد بالعلم في قوله : (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً) السمع ، أي إذا ألقى سمعه إلى شيء من القرآن اتخذه هزؤا ، أي لا يتلقى شيئا من القرآن إلا ليجعله ذريعة للهزء به ، ففعل (عَلِمَ) هنا متعدّ إلى واحد لأنه بمعنى عرف.

وضمير التأنيث في (اتَّخَذَها) عائد إلى (آياتِنا) ، أي اتخذ الآيات هزؤا لأنه يستهزئ بما علمه منها وبغيره ، فهو إذا علم شيئا منها استهزأ بما علمه وبغيره.

ومعنى اتخاذهم الآيات هزؤا : أنهم يلوكونها بأفواههم لوك المستهزئ بالكلام ، وإلا فإن مطلق الاستهزاء بالآيات لا يتوقف على العلم بشيء منها. ومن الاستهزاء ببعض

٣٥٣

الآيات تحريفها على مواضعها وتحميلها غير المراد منها عمدا للاستهزاء ، كقول أبي جهل لما سمع (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) [الدخان : ٤٣ ، ٤٤] تجاهل بإظهار أن الزقوم اسم لمجموع الزبد والتمر فقال : «زقّمونا» ، وقوله : لما سمع قوله تعالى : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) [المدثر : ٣٠] : أنا ألقاهم وحدي.

(أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٠).

جيء باسم الإشارة للتنبيه على أن ما ذكر من الأوصاف من قوله تعالى : (لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) إلى قوله (هُزُواً) على أن المشار إليهم أحرياء به لأجل ما قبل اسم الإشارة من الأوصاف.

وجملة (مِنْ وَرائِهِمْ) بيان لجملة (لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ). وفي قوله : (مِنْ وَرائِهِمْ) تحقيق لحصول العذاب وكونه قريبا منهم وأنهم غافلون عن اقترابه كغفلة المرء عن عدوّ يتبعه من ورائه ليأخذه فإذا نظر إلى أمامه حسب نفسه آمنا. ففي الوراء استعارة تمثيلية للاقتراب والغفلة ، ومنه قوله تعالى : (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) [الكهف : ٧٩] ، وقول لبيد :

أليس ورائي إن تراخت منيتي

لزوم العصا تحنى عليها الأصابع

ومن فسر وراء بقدّام ، فما رعى حق الكلام.

وعطف جملة (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً) على جملة (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) لأن ذلك من جملة العذاب المهين فإن فقدان الفداء وفقدان الوليّ مما يزيد العذاب شدة ويكسب المعاقب إهانة. ومعنى الإغناء في قوله : (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ) الكفاية والنفع ، أي لا ينفعهم.

وعدي بحرف (عن) لتضمينه معنى يدفع فكأنّه عبّر بفعلين لا يغنيهم وبالدفع عنهم ، وتقدم في قوله : (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) في سورة آل عمران [١٠].

و (ما كَسَبُوا) : أموالهم. و (شَيْئاً) منصوب على المفعولية المطلقة ، أي شيئا من الإغناء لأن (شَيْئاً) من أسماء الأجناس العالية فهو مفسر بما وقع قبله أو بعده ، وتنكيره للتقليل ، أي لا يدفع عنهم ولو قليلا من جهنم ، أي عذابها.

٣٥٤

(وَلا مَا اتَّخَذُوا) عطف على (ما كَسَبُوا) وأعيد حرف النفي للتأكيد ، و (أَوْلِياءَ) مفعول ثان ل (اتَّخَذُوا). وحذف مفعوله الأول وهو ضميرهم لوقوعه في حيز الصلة فإن حذف مثله في الصلة كثير.

وأردف (عَذابٌ مُهِينٌ) بعطف (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) لإفادة أن لهم عذابا غير ذلك وهو عذاب الدنيا بالقتل والأسر ، فالعذاب الذي في قوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) غير العذاب الذي في قوله : (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ).

(هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١))

جملة (هذا هُدىً) استئناف ابتدائي انتقل به من وصف القرآن في ذاته بأنه منزل من الله وأنه من آيات الله إلى وصفه بأفضل صفاته بأنه هدى ، فالإشارة بقوله : (هذا) إلى القرآن الذي هو في حال النزول والتلاوة فهو كالشيء المشاهد ، ولأنه قد سبق من أوصافه من قوله : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [الجاثية : ٢] وقوله : (تِلْكَ آياتُ اللهِ) [الجاثية : ٦] إلى آخره ما صيره متميزا شخصا بحسن الإشارة إليه. ووصف القرآن بأنه (هُدىً) من الوصف بالمصدر للمبالغة ، أي : هاد للناس ، فمن آمن فقد اهتدى ومن كفر به فله عذاب لأنه حرم نفسه من الهدى فكان في الضلال وارتبق في المفاسد والآثام.

فجملة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) عطف على جملة (هذا هُدىً) والمناسبة أن القرآن من جملة آيات الله وأنه مذكّر بها ، فالذين كفروا بآيات الله كفروا بالقرآن في عموم الآيات ، وهذا واقع موقع التذييل لما تقدمه ابتداء من قوله : (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) [الجاثية : ٧]. وجيء بالموصول وصلته لما تشعر به الصلة من أنهم حقيقون بالعقاب.

واستحضروا في هذا المقام بعنوان الكفر دون عنواني الإصرار والاستكبار اللذين استحضروا بهما في قوله : (ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً) [الجاثية : ٨] لأن الغرض هنا النعي عليهم إهمالهم الانتفاع بالقرآن وهو النعمة العظمى التي جاءتهم من الله فقابلوها بالكفران عوضا عن الشكر ، كما جاء في قوله تعالى : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة : ٨٢].

والرجز : أشد العذاب ، قال تعالى : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) [البقرة : ٥٩]. ويجوز أن يكون حرف (مِنْ) للبيان فالعذاب هو الرجز ويجوز أن يكون للتبعيض ، أي عذاب مما يسمى بالرجز وهو أشده.

و (أَلِيمٌ) يجوز أن يكون وصفا ل (عَذابٌ) فيكون مرفوعا وكذلك قرأه الجمهور.

٣٥٥

ويجوز أن يكون وصفا ل (رِجْزٍ) فيكون مجرورا كما قرأه ابن كثير وحفص عن عاصم.

(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢))

استئناف ابتدائي للانتقال من التذكير بما خلق الله من العوالم وتصاريف أحوالها من حيث إنها دلالات على الوحدانية ، إلى التذكير بما سخر الله للناس من المخلوقات وتصاريفها من حيث كانت منافع للناس تقتضي أن يشكروا مقدّرها فجحدوا بها إذ توجهوا بالعبادة إلى غير المنعم عليهم ، ولذلك علق بفعلي (سَخَّرَ) في الموضعين مجرور بلام العلة بقوله : (لَكُمُ) ؛ على أن هذه التصاريف آيات أيضا مثل اختلاف الليل والنهار ، وما أنزل الله من السماء من ماء ، وتصريف الرياح ، ولكن لوحظ هنا ما فيها من النعم كما لوحظ هنالك ما فيها من الدلالة ، والفطن يستخلص من المقامين كلا الأمرين على ما يشبه الاحتباك. ومناسبة هذا الانتقال واضحة.

واسم الجلالة مسند إليه والموصول مسند ، وتعريف الجزأين مفيد الحصر وهو قصر قلب بتنزيل المشركين منزلة من يحسب أن تسخير البحر وتسخير ما في السماوات والأرض إنعام من شركائهم كقوله تعالى : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) [الروم: ٤٠] ، فكان هذا القصر إبطالا لهذا الزعم الذي اقتضاه هذا التنزيل.

وقوله : (لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ) بدل اشتمال من (لَكُمُ) لأن في قوله : (لَكُمُ) إجمالا أريد تفصيله. فتعريف (الْفُلْكُ) تعريف الجنس ، وليس جري الفلك في البحر بنعمة على الناس إلا باعتبار أنهما يجرونهما للسفر في البحر فلا حاجة إلى جعل الألف واللام عوضا عن المضاف إليه من باب (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٤١].

وعطف عليه (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) باعتبار ما فيه من عموم الاشتمال ، فحصل من مجموع ذلك أن تسخير البحر لجري الفلك فيه للسفر لقضاء مختلف الحاجات حتى التنزه وزيارة الأهل.

وعطف (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) على قوله : (لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ) لا باعتبار ما اشتمل عليه إجمالا ، بل باعتبار لفظه في التعليق بفعله. وهذا مناط سوّق هذا الكلام ، أي لعلكم تشكرون فكفرتم ، وتقدم نظير مفردات هذه الآية غير مرة ما أغنى عن إعادته.

٣٥٦

(وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣))

(وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ).

هذا تعميم بعد تخصيص اقتضاه الاهتمام أولا ثم التعميم ثانيا. و (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) عام مخصوص بما تحصل للناس فائدة من وجوده : كالشمس للضياء ، والمطر للشراب ، أو من بعض أحواله : كالكواكب للاهتداء بها في ظلمات البر والبحر ، والشجر للاستظلال ، والأنعام للركوب والحرث ونحو ذلك. وأما ما في السماوات والأرض مما لا يفيد الناس فغير مراد مثل الملائكة في السماء والأهوية المنحبسة في باطن الأرض التي يأتي منها الزلزال.

وانتصب (جَمِيعاً) على الحال من (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ). وتنوينه تنوين عوض عن المضاف إليه ، أي جميع ذلك مثل تنوين (كل) في قوله : (كُلًّا هَدَيْنا) [الأنعام : ٨٤].

و (من) ابتدائية ، أي جميع ذلك من عند الله ليس لغيره فيه أدنى شركة. وموقع قوله: (مِنْهُ) موقع الحال من المضاف إليه المحذوف المعوّض عنه التنوين أو من ضمير (جَمِيعاً) لأنه في معنى مجموعا.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

أي في ذلك المذكور من تسخير البحر وتسخير ما في السموات والأرض دلائل على تفرد الله بالإلهية فهي وإن كانت مننا يحق أن يشكرها الناس فإنها أيضا دلائل إذا تفكر فيها المنعم عليهم اهتدوا بها ، فحصلت لهم منها ملائمات جسمانية ومعارف نفسانية ، وبهذا الاعتبار كانت في عداد الآيات المذكورة قبلها من قوله : (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الجاثية : ٣] ، وإنما أخرت عنها لأنها ذكرت في معرض الامتنان بأنها نعم ، ثم عقبت بالتنبيه على أنها أيضا دلائل على تفرد الله بالخلق.

وأوثر التفكر بالذكر في آخر صفات المستدلين بالآيات ، لأن الفكر هو منبع الإيمان والإيقان والعلم المتقدمة في قوله : (لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الجاثية : ٣] (آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [الجاثية : ٤] (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الجاثية : ٥].

٣٥٧

[١٤ ، ١٥] (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥))

إن كانت هذه متصلة بالآي التي قبلها في النزول ولم يصح ما روي عن ابن عباس في سبب نزولها فمناسبة وقعها هنا أن قوله : (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) إلى قوله : (لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) [الجاثية : ٧ ـ ١١] يثير غضب المسلمين على المستهزئين بالقرآن. وقد أخذ المسلمون يعتزون بكثرتهم فكان ما ذكر من استهزاء المشركين بالقرآن واستكبارهم عن سماعه يتوقع منه أن يبطش بعض المسلمين ببعض المشركين ، ويحتمل أن يكون بدر من بعض المسلمين غضب أو توعد وأن الله علم ذلك من بعضهم.

قال القرطبي والسدي : نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل مكة أصابهم أذى شديد من المشركين فشكوا ذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمرهم الله بالتجاوز عن ذلك لمصلحة في استبقاء الهدوء بمكة والمتاركة بين المسلمين والمشركين ففي ذلك مصالح جمّة من شيوع القرآن بين أهل مكة وبين القبائل النازلين حولها فإن شيوعه لا يخلو من أن يأخذ بمجامع قلوبهم بالرغم على ما يبدونه من إعراض واستكبار واستهزاء فتتهيّأ نفوسهم إلى الدخول في الدين عند زوال ممانعة سادتهم بعد هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة وبعد استئصال صناديد قريش يوم بدر. وقد تكرر في القرآن مثل هذا من الأمر بالصفح عن المشركين والعفو عنهم والإعراض عن أذاهم ، ولكن كان أكثر الآيات أمرا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفسه وكانت هذه أمرا له بأن يبلغ للمؤمنين ذلك ، وذلك يشعر بأن الآية نزلت في وقت كان المسلمون قد كثروا فيه وأحسّوا بعزتهم. فأمروا بالعفو وأن يكلوا أمر نصرهم إلى الله تعالى ، وإن كانت نزلت على سبب خاص عرض في أثناء نزول السورة فمناسبتها لأغراض السورة واضحة لأنها تعليم لما يصلح به مقام المسلمين بمكة بين المضادين لهم واحتمال ما يلاقونه من صلفهم وتجبرهم إلى أن يقضي الله بينهم.

وقد روي في سبب نزولها أخبار متفاوتة الضعف ، فروى مكي بن أبي طالب أن رجلا من المشركين شتم عمر بن الخطاب فهمّ أن يبطش به قال ابن العربي : «وهذا لم يصح». وفي «الكشاف» أن عمر شتمه رجل من غفار فهمّ أن يبطش به فنزلت. وعن سعيد بن المسيب «كنا بين يدي عمر بن الخطاب فقرأ قارئ هذه الآية فقال عمر : ليجزي عمر بما صنع» يعني أنه سبب نزول الآية. وروى الواحدي والقشيري عن ابن عباس : إنها نزلت في غزوة بني المصطلق : نزلوا على بئر يقال لها : المريسيع فأرسل عبد الله بن أبيّ

٣٥٨

غلامه ليستقي من البئر فأبطأ ، فلما أتاه قال : ما حسبك. قال : غلام عمر قعد على فم البئر فما ترك أحدا يسقي حتى ملأ قرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرب أبي بكر وملأ لمولاه ، فقال عبد الله بن أبيّ : ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قال القائل : «سمّن كلبك يأكلك» فهمّ عمر بن الخطاب بقتله ، فنزلت. وروى ابن مهران عن ابن عباس لما نزل قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [البقرة : ٢٤٥] الآية قال فنحاص اليهودي : احتاج ربّ محمد ، فلما سمع عمر بذلك اشتمل على سيفه وخرج في طلبه فنزلت الآية ، فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في طلبه فلما جاء قال : ضع سيفك. وهاتان روايتان ضعيفتان ومن أجلهما روي عن عطاء وقتادة وابن عباس أن هذه الآية مدنية.

وأقرب هذه الأخبار ما قاله مكي بن أبي طالب. ولو صحت ما كان فيه ما يفكك انتظام الآيات سواء صادف نزولها تلك الحادثة أو أمر الله بوضعها في هذا الموضع.

وجزم (يَغْفِرُوا) على تقدير لام الأمر محذوفا ، أي قل لهم ليغفروا ، أو هو مجزوم في جواب (قُلْ) ، والمقول محذوف دل عليه الجواب. والتقدير : قل للذين آمنوا اغفروا يغفروا. وهذا ثقة بالمؤمنين أنهم إذا قال لهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم امتثلوا. والوجهان يتأتّيان في مثل هذا التركيب كلما وقع في الكلام ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) في سورة إبراهيم [٣١].

و (لِلَّذِينَ لا) يرجون (أَيَّامَ اللهِ) يراد بهم المشركون من أهل مكة.

والرجاء : ترقب وتطلب الأمر المحبوب ، وهذا أشهر إطلاقاته وهو الظاهر في هذه الآية.

والأيام : جمع يوم ، وهذا الجمع أو مفرده إذا أضيف إلى اسم أحد أو قوم أو قبيلة كان المراد به اليوم الذي حصل فيه لمن أضيف هو إليه نصر وغلب على معاند أو مقاتل ، ومنه أطلق على أيام القتال المشهورة بين قبائل العرب : أيام العرب ، أي التي كان فيها قتال بين قبائل منهم فانتصر بعضهم على بعض ، كما يقال أيام عبس ، وأيام داحس والغبراء ، وأيام البسوس ، قال عمرو بن كلثوم :

وأيام لنا غرّ طوال

عصينا الملك فيها إن ندينا

فإذا قالوا : أيام بني فلان ، أرادوا الأيام التي انتصر فيها من أضيفت الأيام إلى اسمه ، ويقولون : أيام بني فلان على بني فلان فيريدون أن المجرور بحرف الاستعلاء

٣٥٩

مغلوب لتضمن لفظ (أَيَّامَ) أو (يوم) معنى الانتصار والغلب. وبذلك التضمّن كان المجرور متعلقا بلفظ (أَيَّامَ) أو (يوم) وإن كان جامدا ، فمعنى (أَيَّامَ اللهِ) على هذا هو من قبيل قولهم : أيام بني فلان ، فيحصل من محمل الرجاء على ظاهر استعماله.

ومحمل (أَيَّامَ اللهِ) على محمل أمثاله أن معنى الآية للذين لا تترقب نفوسهم أيام نصر الله ، أي نصر الله لهم : إما لأنهم لا يتوكلون على الله ولا يستنصرونه بل توجّههم إلى الأصنام ، وإما لأنهم لا يخطر ببالهم إلا أنهم منصورون بحولهم وقوتهم فلا يخطر ببالهم سؤال نصر الله أو رجاؤه وهم معروفون بهذه الصلة بين المسلمين فلذلك أجريت عليهم هنا وعرفوا بها. وأوثر تعريفهم بهذه الصلة ليكون في ذلك تعريض بأن الله ينصر الذين يرجون أيام نصره وهم المؤمنون. والغرض من هذا التعريض الإيماء بالموصول إلى وجه أمر المؤمنين أن يغفروا للمشركين ويصفحوا عن أذى المشركين ولا يتكلفوا الانتصار لأنفسهم لأن الله ضمن لهم النصر.

وقد يطلق (أَيَّامَ اللهِ) في القرآن على الأيام التي حصل فيها فضله ونعمته على قوم ، وهو أحد تفسيرين لقوله تعالى : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) [إبراهيم : ٥].

ومعنى (لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) على هذا التأويل أنهم في شغل عن ترقب نعم الله بما هم فيه من إسناد فعل الخير إلى أصنامهم بانكبابهم على عبادة الأصنام دون عبادة الله ويأتي في هذا الوجه من التعريض والتحريض مثل ما ذكر في الوجه الأول لأن المؤمنين هم الذين يرجون نعمة الله. وفسر به قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) [الفرقان : ٢١] وقوله : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) [نوح : ١٣] ، فيكون المراد ب (أَيَّامَ اللهِ) : أيام جزائه في الآخرة لأنها أيام ظهور حكمه وعزته فهي تقارب الأيام بالمعنى الأول ، ومنه قوله تعالى : (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُ) [النبأ : ٣٩] ، أي ذلك يوم النصر الذي يحق أن يطلق عليه (يوم) فيكون معنى هذه الآية : أنهم لا يخافون تمكن الله من عقابهم لأنهم لا يؤمنون بالبعث.

ومعنى الآية أن المؤمنين أمروا بالعفو عن أذى المشركين وقد تكرر ذلك في القرآن قال تعالى : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [آل عمران : ١٨٦]. وفي «صحيح البخاري» عن أسامة بن زيد في هذه الآية : وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى.

٣٦٠