تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

وقد صيغ النهي عن اتباع الشيطان في صدّه إياهم بصيغة نهي الشيطان عن أن يصدهم ، للإشارة إلى أن في مكنتهم الاحتفاظ من الارتباق في شباك الشيطان ، فكني بنهي الشيطان عن صدّهم عن نهيهم عن الطاعة له بأبلغ من توجيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ، على طريقة قول العرب : لا أعرفنّك تفعل كذا ، ولا ألفينّك في موضع كذا.

وجملة (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) تعليل للنهي عن أن يصدهم الشيطان فإن شأن العاقل أن يحذر من مكائد عدوه. وعداوة الشيطان للبشر ناشئة من خبث كينونته مع ما انضمّ إلى ذلك الخبث من تنافي العنصرين فإذا التقى التنافي مع خبث الطبع نشأ من مجموعهما القصد بالأذى ، وقد أذكى تلك العداوة حدث قارن نشأة نوع الإنسان عند تكوينه ، في قصته مع آدم كما قصه القرآن غير مرة. وحرف (إنّ) هنا موقعه موقع فاء التسبب في إفادة التعليل.

[٦٣ ، ٦٤] (وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤))

قد علمت آنفا أن هذا هو المقصود من ذكر عيسى عليه‌السلام فهو عطف على قصة إرسال موسى.

ولم يذكر جواب (لَمَّا) فهو محذوف لدلالة بقية الكلام عليه. وموقع حرف (لَمَّا) هنا أن مجيء عيسى بالبينات صار معلوما للسامع مما تقدم في قوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) [الزخرف : ٥٩] الآية ، أي لما جاءهم عيسى اختلف الأحزاب فيما جاء به ، فحذف جواب (لَمَّا) لأن المقصود هو قوله : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) [الزخرف : ٦٥] لأنه يفيد أن سنن الأمم المبعوث إليهم الرسل لم يختلف فإنه لم يخل رسول عن قوم آمنوا به وقوم كذبوه ثم كانوا سواء في نسبة الشركاء في الإلهية بمزاعم النصارى أن عيسى ابن لله تعالى كما أشار إليه قوله : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) [الزخرف : ٦٥] أي أشركوا كما هو اصطلاح القرآن غالبا. فتم التشابه بين الرسل السابقين وبين محمد صلى الله عليهم أجمعين ، فحصل في الكلام إيجاز تدل عليه فاء التفريع.

وفي قصة عيسى مع قومه تنبيه على أن الإشراك من عوارض أهل الضلالة لا يلبث أن يخامر نفوسهم وإن لم يكن عالقا بها من قبل ، فإن عيس بعث إلى قوم لم يكونوا

٢٨١

يدينون بالشرك إذ هو قد بعث لبني إسرائيل وكلهم موحّدون فلما اختلف أتباعه بينهم وكذبت به فرق وصدقه فريق ثم لم يتبعوا ما أمرهم به لم يلبثوا أن حدثت فيهم نحلة الإشراك.

وجملة (قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) مبيّنة لجملة (جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ) وليست جوابا لشرط (لَمَّا) الذي جعل التفريع في قوله : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) [مريم : ٣٧] دليلا عليه. وفي إيقاع جملة (قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) بيانا لجملة (جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ) إيماء إلى أنه بادأهم بهذا القول ، لأن شأن أهل الضلالة أن يسرعوا إلى غاياتها ولو كانت مبادئ الدعوة تنافي عقائدهم ، أي لم يدعهم عيسى إلى أكثر من اتباع الحكمة وبيان المختلف فيه ولم يدعهم إلى ما ينافي أصول شريعة التوراة ومع ذلك لم يخل حاله من صدود مريع عنه وتكذيب.

وابتداؤه بإعلامهم أنه جاءهم بالحكمة والبيان وهو إجمال حال رسالته ترغيب لهم في وعي ما سيلقيه إليهم من تفاصيل الدعوة المفرع بعضها على هذه المقدمة بقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ).

والحكمة هي معرفة ما يؤدي إلى الحسن ويكفّ عن القبيح وهي هنا النبوءة ، وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) في سورة البقرة [٢٦٩]. وقد جاء عيسى بتعليمهم حقائق من الأخلاق الفاضلة والمواعظ.

وقوله : (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ) ، عطف على (بِالْحِكْمَةِ) لأن كليهما متعلّق بفعل (جِئْتُكُمْ). واللام للتعليل. والتبيين : تجلية المعاني الخفيّة لغموض أو سوء تأويل ، والمراد ما بيّنه عيسى في الإنجيل وغيره مما اختلفت فيه أفهام اليهود من الأحكام المتعلقة بفهم التوراة أو بتعيين الأحكام للحوادث الطارئة. ولم يذكر في هذه الآية قوله المحكي في آية سورة آل عمران [٥٠] (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) لأن ذلك قد قاله في مقام آخر.

والمقصود حكاية ما قاله لهم مما ليس شأنه أن يثير عليه قومه بالتكذيب فهم كذبوه في وقت لم يذكر لهم فيه أنه جاء بنسخ بعض الأحكام من التوراة ، أي كذبوه في حال ظهور آيات صدقه بالمعجزات وفي حال انتفاء ما من شأنه أن يثير عليه شكا. وإنما قال : (بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) ، إمّا لأن الله أعلمه بأن المصلحة لم تتعلق ببيان كل ما اختلفوا فيه بل يقتصر على البعض ثم يكمّل بيان الباقي على لسان رسول يأتي من بعده

٢٨٢

يبيّن جميع ما يحتاج إلى البيان. وإما لأنّ ما أوحي إليه من البيان غير شامل لجميع ما هم مختلفون في حكمه وهو ينتظر بيانه من بعد تدريجا في التشريع كما وقع في تدريج تحريم الخمر في الإسلام.

وقيل : المراد ب (بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) ما كان الاختلاف فيه راجعا إلى أحكام الدّين دون ما كان من الاختلاف في أمور الدنيا.

وفي قوله : (بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) تهيئة لهم لقبول ما سيبيّن لهم حينئذ أو من بعد.

وهذه الآية تدل على جواز تأخير البيان فيما له ظاهر وفي ما يرجع إلى البيان بالنسخ ، والمسألة من أصول الفقه.

وفرع على إجمال فاتحة كلامه قوله : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ). وهذا كلام جامع لتفاصيل الحكمة وبيان ما يختلفون فيه ، فإن التقوى مخافة الله. وقد جاء في الأثر «رأس الحكمة مخافة الله» (١) ، وطاعة الرّسول تشمل معنى (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فإذا أطاعوه عملوا بما يبين لهم فيحصل المقصود من البيان وهو العمل. وأجمع منه قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لسفيان الثقفي وقد سأله أن يقول له في الإسلام قولا لا يسأل عنه أحدا غيره «قل آمنت بالله ثم استقم» ، لأنه أليق بكلمة جامعة في شريعة لا يترقب بعدها مجيء شريعة أخرى ، بخلاف قول عيسى عليه‌السلام (وَأَطِيعُونِ) فإنه محدود بمدة وجوده بينهم.

وجملة (إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) تعليل لجملة (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) لأنه إذا ثبت تفرده بالربوبية توجه الأمر بعبادته إذ لا يخاف الله إلا من اعترف بربوبيته وانفراده بها.

وضمير الفصل أفاد القصر ، أي الله ربّي لا غيره. وهذا إعلان بالوحدانية وإن كان القوم الذين أرسل إليهم عيسى موحّدين ، لكن قد ظهرت بدعة في بعض فرقهم الذين قالوا : عزير ابن الله. وتأكيد الجملة ب (إِنَ) لمزيد الاهتمام بالخبر فإن المخاطبين غير منكرين ذلك.

وتقديم نفسه على قومه في قوله : (رَبِّي وَرَبُّكُمْ) لقصد سدّ ذرائع الغلوّ في تقديس

__________________

(١) رواه الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» عن ابن مسعود مرفوعا وضعفه البيهقي.

٢٨٣

عيسى ، وذلك من معجزاته لأن الله علم أنه ستغلو فيه فرق من أتباعه فيزعمون بنوّته من الله على الحقيقة ، ويضلّون بكلمات الإنجيل التي يقول فيها عيسى : أبي ، مريدا به الله تعالى.

وفرع على إثبات التوحيد لله الأمر بعبادته بقوله : (فَاعْبُدُوهُ) فإن المنفرد بالإلهية حقيق بأن يعبد.

والإشارة ب (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) إلى مضمون قوله : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) ، أي هذا طريق الوصول إلى الفوز عن بصيرة ودون تردد ، كما أن الصراط المستقيم لا ينبهم السير فيه على السائر.

(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥))

هذا التفريع هو المقصود من سوق القصة مساق التنظير بين أحوال الرسل ، أي عقب دعوته اختلاف الأحزاب من بين الأمة الذين بعث إليهم والذين تقلدوا ملته طلبا للاهتداء.

وهذا التفريع دليل على جواب (لمّا) المحذوف.

وضمير (بَيْنِهِمْ) مراد به الذين جاءهم عيسى لأنهم معلومون من سياق القصة من قوله : (جاءَ عِيسى) [الزخرف : ٦٣] فإن المجيء يقتضي مجيئا إليه وهم اليهود.

و (مِنْ) يجوز أن تكون مزيدة لتأكيد مدلول (بَيْنِهِمْ) أي اختلفوا اختلاف أمة واحدة ، أي فمنهم من صدق عيسى وهم : يحيى بن زكرياء ومريم أم عيسى والحواريون الاثنا عشر وبعض نساء مثل مريم المجدلية ونفر قليل ، وكفر به جمهور اليهود وأحبارهم ، وكان ما كان من تألب اليهود عليه حتى رفعه الله. ثم انتشر الحواريون يدعون إلى شريعة عيسى فاتبعهم أقوام في بلاد رومية وبلاد اليونان ولم يلبثوا أن اختلفوا من بينهم في أصول الديانة فتفرقوا ثلاث فرق : نسطورية ، ويعاقبة ، وملكانيّة. فقالت النسطورية : عيسى ابن الله ، وقالت اليعاقبة : عيسى هو الله ، أي بطريق الحلول ، وقالت الملكانية وهم الكاثوليك : عيسى ثالث ثلاثة مجموعها هو الإله ، وتلك هي : الأب الله ، والابن عيسى ، وروح القدس جبريل فالإله عندهم أقانيم ثلاثة.

وقد شملت الآية كلا الاختلافين فتكون الفاء مستعملة في حقيقة التعقيب ومجازه بأن يكون شمولها للاختلاف الأخير مجازا علاقته المشابهة لتشبيه مفاجأة طروّ الاختلاف

٢٨٤

بين أتباعه مع وجود الشريعة المانعة من مثله كأنه حدث عقب بعثة عيسى وإن كان بينه وبينها زمان طويل دبّت فيه بدعتهم ، واستعمال اللّفظ في حقيقته ومجازه شائع لأن المدار على أن تكون قرينة المجاز مانعة من إرادة المعنى الحقيقي وحده على التحقيق. وهذا الاختلاف أجمل هنا ووقع تفصيله في آيات كثيرة تتعلق بما تلقّى به اليهود دعوة عيسى ، وآيات تتعلق بما أحدثه النصارى في دين عيسى من زعم بنوّته من الله وإلهيته.

ويجوز أن تكون (مِنْ) في قوله : (مِنْ بَيْنِهِمْ) ابتدائية متعلقة ب (اختلف) أي نشأ الاختلاف من بينهم دون أن يدخله عليهم غيرهم ، أي كان دينهم سالما فنشأ فيهم الاختلاف.

وعلى هذا الوجه يختص الخلاف بأتباع عيسى عليه‌السلام من النصارى إذ اختلفوا فرقا وابتدعوا قضية بنوّة عيسى من الله فتكون الفاء خالصة للتعقيب المجازي.

وفرع على ذكر الاختلاف تهديد بوعيد للذين ظلموا بالعذاب يوم القيامة تفريع التذييل على المذيّل ، فالذين ظلموا يشمل جميع الذين أشركوا مع الله غيره في الإلهية (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] ، وهذا إطلاق الظلم غالبا في القرآن ، فعلم أن الاختلاف بين الأحزاب أفضى بهم أن صار أكثرهم مشركين بقرينة ما هو معروف في الاستعمال من لزوم مناسبة التذييل للمذيّل ، بأن يكون التذييل يعمّ المذيّل وغيره فيشمل عموم هذا التذييل مشركي العرب المقصودين من هذه الأمثال والعبر ، ألا ترى أنه وقع في سورة مريم [٣٧] قوله (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) فجعلت الصلة فعل (كَفَرُوا) لأن المقصود من آية سورة مريم الذين كفروا من النصارى ولذلك أردف بقوله : (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [مريم : ٣٨] لمّا أريد التخلص إلى إنذار المشركين بعد إنذار النصارى.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦))

استئناف بياني بتنزيل سامع قوله : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) [الزخرف : ٦٥] منزلة من يطلب البيان فيسأل : متى يحلّ هذا اليوم الأليم؟ وما هو هذا الويل؟ فوردت جملة (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) جوابا عن الشقّ الأول من السؤال ، وسيجيء الجواب عن الشق الثاني في قوله : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [الزخرف : ٦٧] وفي قوله : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ) [الزخرف : ٧٤] الآيات.

٢٨٥

وقد جرى الجواب على طريقة الأسلوب الحكيم ، والمعنى : أن هذا العذاب واقع لا محالة سواء قرب زمان وقوعه أم بعد ، فلا يريبكم عدم تعجيله قال تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) [يونس : ٥٠] ، وقد أشعر بهذا المعنى تقييد إتيان الساعة بقيد (بَغْتَةً) فإن الشيء الذي لا تسبقه أمارة لا يدرى وقت حلوله.

و (يَنْظُرُونَ) بمعنى ينتظرون ، والاستفهام إنكاري ، أي لا ينتظرون بعد أن أشركوا لحصول العذاب إلا حلول الساعة. وعبر عن اليوم بالساعة تلميحا لسرعة ما يحصل فيه.

والتعريف في (السَّاعَةَ) تعريف العهد. والبغتة : الفجأة ، وهي : حصول الشيء عن غير ترقّب.

و (أَنْ تَأْتِيَهُمْ) بدل من (السَّاعَةَ) بدلا مطابقا فإن إتيان الساعة هو عين الساعة لأن مسمى الساعة حلول الوقت المعيّن ، والحلول هو المجيء المجازي المراد هنا.

وجملة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) في موضع الحال من ضمير النصب في (تَأْتِيَهُمْ).

والشعور : العلم بحصول الشيء الحاصل.

ولما كان مدلول (بَغْتَةً) يقتضي عدم الشعور بوقوع الساعة حين تقع عليهم كانت جملة الحال مؤكدة للجملة التي قبلها.

[٦٧ ـ ٧٣] (الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١))

(وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣))

استئناف يفيد أمرين :

أحدهما : بيان بعض الأهوال التي أشار إليها إجمال التهديد في قوله : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) [الزخرف : ٦٥].

وثانيهما : موعظة المشركين بما يحصل يوم القيامة من الأهوال لأمثالهم والحبرة

٢٨٦

للمؤمنين. وقد أوثر بالذكر هنا من الأهوال ما له مزيد تناسب لحال المشركين في تألبهم على مناواة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودين الإسلام ، فإنهم ما ألّبهم إلا تناصرهم وتوادّهم في الكفر والتباهي بذلك بينهم في نواديهم وأسمارهم ، قال تعالى حكاية عن إبراهيم : (وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [العنكبوت : ٢٥] وتلك شنشنة أهل الشرك من قبل.

وفي معنى هذه الآية قوله المتقدم آنفا (حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) [الزخرف : ٣٨].

و (الْأَخِلَّاءُ) : جمع خليل ، وهو الصاحب الملازم ، قيل : إنه مشتق من التخلل لأنه كالمتخلّل لصاحبه والممتزج به ، وتقدم في قوله : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) في سورة النساء [١٢٥]. والمضاف إليه (إذ) من قوله : (يَوْمَئِذٍ) هو المعوّض عنه التنوين دلّ عليه المذكور قبله في قوله : (مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) [الزخرف : ٦٥].

والعدوّ : المبغض ، ووزنه فعول بمعنى فاعل ، أي عاد ، ولذلك استوى جريانه على الواحد وغيره ، والمذكر وغيره ، وتقدم عند قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ) في سورة النساء [٩٢].

وتعريف (الْأَخِلَّاءُ) تعريف الجنس وهو مفيد استغراقا عرفيا ، أي الأخلّاء من فريقي المشركين والمؤمنين أو الأخلاء من قريش المتحدّث عنهم ، وإلّا فإن من الأخلاء غير المؤمنين من لا عداوة بينهم يوم القيامة وهم الذين لم يستخدموا خلتهم في إغراء بعضهم بعضا على الشرك والكفر والمعاصي وإن افترقوا في المنازل والدرجات يوم القيامة.

و (يَوْمَئِذٍ) ظرف متعلق بعدوّ ، وجملة (يا عِبادِ) مقولة لقول محذوف دلت عليه صيغة الخطاب ، أي نقول لهم أو يقول الله لهم. وقرأ الجمهور يا عبادي بإثبات الياء على الأصل. وقرأه حفص والكسائي بحذف (ياء) المتكلم تخفيفا. قال ابن عطية قال أبو علي : وحذفها حسن لأنها في موضع تنوين وهي قد عاقبته فكما يحذف التنوين في الاسم المفرد المنادى كذلك تحذف الياء هنا.

ومفاتحة خطابهم بنفي الخوف عنهم تأنيس لهم ومنة بإنجائهم من مثله وتذكير لهم بسبب مخالفة حالهم لحال أهل الضلالة فإنهم يشاهدون ما يعامل به أهل الضلالة

٢٨٧

والفساد.

و (لا خَوْفٌ) مرفوع منون في جميع القراءات المشهورة ، وإنما لم يفتح لأن الفتح على تضمين (من) الزائدة المؤكدة للعموم وإذ قد كان التأكيد مفيدا التنصيص على عدم إرادة نفي الواحد ، وكان المقام غير مقام التردد في نفي جنس الخوف عنهم لأنه لم يكن واقعا بهم حينئذ مع وقوعه على غيرهم ، فأمارة نجاتهم منه واضحة ، لم يحتج إلى نصب اسم (لا) ، ونظيره قول الرابعة من نساء حديث أمّ زرع : زوجي كليل تهامه ، لا حرّ ولا قرّ ولا مخافة ولا سآمة. روايته برفع الأسماء الأربعة لأن انتفاء تلك الأحوال عن ليل تهامة مشهور ، وإنما أرادت بيان وجوه الشبه من قولها كليل تهامة.

وجيء في قوله : (وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) بالمسند إليه مخبرا عنه بالمسند الفعلي لإفادة التقويّ في نفي الحزن عنهم ، فالتقوي أفاد تقوّي النفي لا نفي قوة الحزن الصادق بحزن غير قوي. هذا هو طريق الاستعمال في نفس صيغ المبالغة كما في قوله تعالى : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦] ، تطمينا لأنفسهم بانتفاء الحزن عنهم في أزمنة المستقبل ، إذ قد يهجس بخواطرهم هل يدوم لهم الأمن الذي هم فيه.

وجملة (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا) نعت للمنادى من قوله : (يا عِبادِ) جيء فيها بالموصول لدلالة الصلة على علة انتفاء الخوف والحزن عنهم ، وعطف على الصلة قوله : (وَكانُوا مُسْلِمِينَ). والمخالفة بين الصلتين إذ كانت أولاهما فعلا ماضيا والثانية فعل كون مخبرا عنه باسم فاعل لأن الإيمان : عقد القلب يحصل دفعة واحدة وأما الإسلام فهو الإتيان بقواعد الإسلام الخمس كما جاء تفسيره في حديث سؤال جبريل ، فهو معروض للتمكن من النفس فلذلك أوثر بفعل (كان) الدّال على اتحاد خبره باسمه حتى كأنه من قوام كيانه.

وعطف أزواجهم عليهم في الإذن بدخول الجنّة من تمام نعمة التمتع بالخلة التي كانت بينهم وبين أزواجهم في الدنيا.

و (تُحْبَرُونَ) مبني للمجهول مضارع حبر بالبناء للمجهول ، وفعله حبره ، إذا سره ، ومصدره الحبر بفتح فسكون ، والاسم الحبور والحبرة ، وتقدم في قوله تعالى : (فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) في سورة الروم [١٥].

وجملة (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ) إلخ معترضة بين أجزاء القول فليس في ضمير

٢٨٨

(عَلَيْهِمْ) التفات بل المقام لضمير الغيبة.

والصحاف : جمع صحفة ، وهي : إناء مستدير واسع الفم ينتهي أسفله بما يقارب التكوير. والصحفة : إناء لوضع الطعام أو الفاكهة مثل صحاف الفغفوري الصيني تسع شبع خمسة ، وهي دون القصعة التي تسع شبع عشرة. وقد ورد أن عمر بن الخطاب اتخذ صحافا على عدد أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يؤتى إليه بفاكهة أو طرفة إلا أرسل إليهن منها في تلك الصحاف.

والأكواب : جمع كوب بضم الكاف وهو إناء للشراب من ماء أو خمر مستطيل الشكل له عنق قصير في أعلى ذلك العنق فمه وهو مصبّ ما فيه ، وفمه أضيق من جوفه ، والأكثر أن لا تكون له عروة يمسك منها فيمسك بوضع اليد على عنقه ، وقد تكون له عروة قصيرة ، وهو أصغر من الإبريق إلا أنه لا خرطوم له ولا عروة في الغالب. وأما الإبريق فله عروة وخرطوم.

وحذف وصف الأكواب لدلالة وصف صحاف عليه ، أي وأكواب من ذهب. وهذه الأكواب تكون للماء وتكون للخمر.

وجملة (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ) إلخ حال من (الْجَنَّةَ) ، هي من بقية القول.

وضمير (فِيها) عائد إلى (الْجَنَّةُ) ، وقد عمّ قوله : (ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ) كلّ ما تتعلق الشهوات النفسية بنواله وتحصيله ، والله يخلق في أهل الجنة الشهوات اللائقة بعالم الخلود والسمو.

و (تَلَذُّ) مضارع لذّ بوزن علم : إذا أحسّ لذة ، وحق فعله أن يكون قاصرا فيعدّى إلى الشيء الذي به اللّذة بالباء فيقال : لذ به ، وكثر حذف الباء وإيصال الفعل إلى المجرور بنفسه فينتصب على نزع الخافض ، وكثر ذلك في الكلام حتى صار الفعل بمنزلة المتعدي فقالوا : لذّه. ومنه قوله هنا : (وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) التقدير ، وتلذّه الأعين. والضمير المحذوف هو رابط الصلة بالموصول. ولذة الأعين في رؤية الأشكال الحسنة والألوان التي تنشرح لها النفس ، فلذّة الأعين وسيلة للذة النفوس فعطف (وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) على (ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ) عطف ما بينه وبين المعطوف عليه عموم وخصوص ، فقد تشتهي الأنفس ما لا تراه الأعين كالمحادثة مع الأصحاب وسماع الأصوات الحسنة والموسيقى. وقد تبصر الأعين ما لم تسبق للنفس شهوة رؤيته أو ما اشتهت النفس طعمه أو سمعه فيؤتى به في

٢٨٩

صور جميلة إكمالا للنعمة. و (الْأَنْفُسُ) فاعل (تَلَذُّ) وحذف المفعول لظهوره من المقام.

وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم وأبو جعفر (ما تَشْتَهِيهِ) بهاء ضمير عائد إلى (ما) الموصولة وكذلك هو مرسوم في مصحف المدينة ومصحف الشام ، وقرأه الباقون (ما تَشْتَهِي) بحذف هاء الضمير ، وكذلك رسم في مصحف مكة ومصحف البصرة ومصحف الكوفة. والمروي عن عاصم قارئ الكوفة روايتان : إحداهما أخذ بها حفص والأخرى أخذ بها أبو بكر. وحذف العائد المتصل المنصوب بفعل أو وصف من صلة الموصول كثير في الكلام.

وقوله : (وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) بشارة لهم بعدم انقطاع الحبرة وسعة الرزق ونيل الشهوات ، وجيء فيه بالجملة الاسمية الدالة على الدوام والثبات تأكيدا لحقيقة الخلود لدفع توهم أن يراد به طول المدة فحسب.

وتقديم المجرور للاهتمام ، وعطف على بعض ما يقال لهم مقول آخر قصد منه التنويه بالجنة وبالمؤمنين إذ أعطوها بسبب أعمالهم الصالحة ، فأشير إلى الجنة باسم إشارة البعيد تعظيما لشأنها وإلا فإنها حاضرة نصب أعينهم.

وجملة (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها) الآية تذييل للقول. واسم الإشارة مبتدأ و (الْجَنَّةُ) خبره ، أي تلك التي ترونها هي الجنة التي سمعتم بها ووعدتم بدخولها. وجملة (الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) صفة للجنة.

واستعير (أُورِثْتُمُوها) لمعنى : أعطيتموها دون غيركم ، بتشبيه إعطاء الله المؤمنين دون غيرهم نعيم الجنة بإعطاء الحاكم مال الميت لوارثه دون غيره من القرابة لأنه أولى به وآثر بنيله.

والباء في (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) للسببية وهي سببية بجعل الله ووعده ، ودل قوله (كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) على أن عملهم الذي استحقّوا به الجنة أمر كائن متقرر ، وأن عملهم ذلك متكرر متجدد ، أي غير منقطع إلى وفاتهم.

وجملة (لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ) صفة ثانية للجنة. والفاكهة : الثمار رطبها ويابسها ، وهي من أحسن ما يستلذّ من المآكل ، وطعومها معروفة لكل سامع.

ووجه تكرير الامتنان بنعيم المأكل والمشرب في الجنة : أن ذلك من النعيم الذي لا تختلف الطباع البشرية في استلذاذه ، ولذلك قال : (مِنْها تَأْكُلُونَ) كقوله تعالى : (كُلُوا مِنْ

٢٩٠

ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) [الأنعام : ١٤١].

[٧٤ ، ٧٥] (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥))

لهذه الجملة موقعان :

أحدهما : إتمام التفصيل لما أجمله الوعيد الذي في قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) [الزخرف : ٦٥] عقب تفصيل بعضه بقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) [الزخرف : ٦٦] إلخ. وبقوله : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [الزخرف: ٦٧] حيث قطع إتمام تفصيله بالاعتناء بذكر وعد المؤمنين المتقين فهي في هذا الموقع بيان لجملة الوعيد وتفصيل لإجمالها.

الموقع الثاني : أنها كالاستئناف البياني يثيره ما يسمع من وصف أحوال المؤمنين المتقين من التساؤل : كيف يكون حال أضدادهم المشركين الظالمين.

والموقعان سواء في كون الجملة لا محلّ لها من الإعراب.

وافتتاح الخبر ب (إِنَ) للاهتمام به ، أو لتنزيل السائل المتلهف للخبر منزلة المتردّد في مضمونه لشدة شوقه إليه ، أو نظرا إلى ما في الخبر من التعريض بإسماعه المشركين وهم ينكرون مضمونه فكأنه قيل : إنكم أيها المجرمون في عذاب جهنم خالدون.

والمجرمون : الذين يفعلون الإجرام ، وهو الذنب العظيم. والمراد بهم هنا : المشركون المكذبون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن السياق لهم ، ولأن الجملة بيان لإجمال وعيدهم في قوله : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) [الزخرف : ٦٥] ، ولأن جواب الملائكة نداءهم بقولهم : (لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) [الزخرف : ٧٨] لا ينطبق على غير المكذبين ، أي كارهون للإسلام والقرآن ، فذكر المجرمين إظهار في مقام الإضمار للتنبيه على أن شركهم إجرام.

وجملة (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ) في موضع الحال من (عَذابِ جَهَنَّمَ) و (يُفَتَّرُ) مضاعف فتر ، إذا سكن ، وهو بالتضعيف يتعدّى إلى مفعول. والمعنى : لا يفتّره أحد.

وجملة (وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) عطف على جملة (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ).

٢٩١

والإبلاس : اليأس والذل ، وتقدم في سورة الأنعام : وزاد الزمخشري في معنى الإبلاس قيد السكوت ولم يذكره غيره ، والحق أن السكوت من لوازم معنى الإبلاس وليس قيدا في المعنى.

(وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦))

جملة معترضة في حكاية أحوال المجرمين قصد منها نفي استعظام ما جوزوا به من الخلود في العذاب ونفي الرقة لحالهم المحكية بقوله : (وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) [الزخرف :٧٥].

والظلم هنا : الاعتداء ، وهو الإصابة بضرّ بغير موجب مشروع أو معقول ، فنفيه عن الله في معاملته إياهم بتلك المعاملة لأنها كانت جزاء على ظلمهم فلذلك عقب بقوله : (وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) أي المعتدين إذ اعتدوا على ما أمر الله من الاعتراف له بالإلهية ، وعلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ كذبوه ولمزوه ، كما تقدم في قوله : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) في سورة لقمان [١٣].

و (هُمْ) ضمير فصل لا يطلب معادا لأنه لم يجتلب للدلالة على معاد لوجود ضمير (كانُوا) دالا على المعاد فضمير الفصل مجتلب لإفادة قصر صفة الظلم على اسم (كان) ، وإذ قد كان حرف الاستدراك بعد النفي كافيا في إفادة القصر كان اجتلاب ضمير الفصل تأكيدا للقصر بإعادة صيغة أخرى من صيغ القصر. وجمهور العرب يجعلون ضمير الفصل في الكلام غير واقع في موقع إعراب فهو بمنزلة الحرف ، وهو عند جمهور النحاة حرف لا محل له من الإعراب ويسميه نحاة البصرة فصلا ، ويسميه نحاة الكوفة عمادا.

واتفق القراء على نصب (الظَّالِمِينَ) على أنه خبر (كانُوا) وبنو تميم يجعلونه ضميرا طالبا معادا وصدرا لجملته مبتدأ ويجعلون جملته في محل الإعراب الذي يقتضيه ما قبله ، وعلى ذلك قرأ عبد الله بن مسعود وأبو زيد النحوي (وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) على أن هم مبتدأ والجملة منه ومن خبره خبر (كانُوا). وحكى سيبويه أن رؤبة بن العجاج كان يقول : أظن زيدا هو خير منك ، برفع خير.

[٧٧ ، ٧٨] (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨))

جملة (وَنادَوْا) حال من ضمير (وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) [الزخرف : ٧٥] ، أو عطف على

٢٩٢

جملة (وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ). وحكي نداؤهم بصيغة الماضي مع أنه مما سيقع يوم القيامة ، إما لأن إبلاسهم في عذاب جهنم وهو اليأس يكون بعد أن نادوا يا مالك وأجابهم بما أجاب به ، وذلك إذا جعلت جملة (وَنادَوْا) حالية ، وإمّا لتنزيل الفعل المستقبل منزلة الماضي في تحقيق وقوعه تخريجا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر نحو قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) [النمل : ٨٧] (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الزمر : ٦٨] وهذا إن كانت جملة (وَنادَوْا) إلخ معطوفة.

و (مالك) المنادى اسم الملك الموكّل بجهنم خاطبوه ليرفع دعوتهم إلى الله تعالى شفاعة.

واللام في (لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) لام الأمر بمعنى الدعاء. وتوجيه الأمر إلى الغائب لا يكون إلا على معنى التبليغ كما هنا ، أو تنزيل الحاضر منزلة الغائب لاعتبار ما مثل التعظيم في نحو قول الوزير للخليفة : لير الخليفة رأيه.

والقضاء بمعنى : الإماتة كقوله : (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) [القصص : ١٥] ، سألوا الله أن يزيل عنهم الحياة ليستريحوا من إحساس العذاب. وهم إنما سألوا الله أن يميتهم فأجيبوا بأنهم ماكثون جوابا جامعا لنفي الإماتة ونفي الخروج فهو جواب قاطع لما قد يسألونه من بعد.

ومن النوادر المتعلقة بهذه الآية ما روي أن ابن مسعود قرأ (ونادوا يا مال) بحذف الكاف على الترخيم ، فذكرت قراءته لابن عباس فقال : ما كان أشغل أهل النار عن الترخيم ، قال في «الكشاف» : وعن بعضهم : حسّن الترخيم أنهم يقتطعون بعض الاسم لضعفهم وعظم ما هم فيه ا ه. وأراد ببعضهم ابن جني فيما ذكره الطّيبي أن ابن جنّي قال : وللترخيم في هذا الموضع سرّ وذلك أنهم لعظم ما هم عليه ضعفت وذلّت أنفسهم وصغر كلامهم فكان هذا من مواضع الاختصار. وفي «صحيح البخاري» عن يعلى بن أمية سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ على المنبر (وَنادَوْا يا مالِكُ) بإثبات الكاف. قال ابن عطية : وقراءة (ونادوا يا مال) رواها أبو الدرداء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ بالوجهين وتواترت قراءة إثبات الكاف وبقيت الأخرى مروية بالآحاد فلم تكن قرآنا.

وجملة (لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِ) إلى آخرها في موضع العلة لجملة (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) باعتبار تمام الجملة وهو الاستدراك بقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ).

٢٩٣

وضمير (جِئْناكُمْ) للملائكة ، والحق : الوحي الذي نزل به جبريل فنسب مالك المجيء بالحق إلى جمع الملائكة على طريقة اعتزاز الفريق والقبيلة بمزايا بعضها ، وهي طريقة معروفة في كلام العرب كقول الحارث بن حلزة :

وفككنا غلّ امرئ القيس عنه

بعد ما طال حبسه والعناء (١)

وإنما نسبت كراهة الحق إلى أكثرهم دون جميعهم لأن المشركين فريقان أحدهما سادة كبراء لملة الكفر وهم الذين يصدون الناس عن الإيمان بالإرهاب والترغيب مثل أبي جهل حين صدّ أبا طالب عند احتضاره عن قول لا إله إلا الله وقال : أترغب عن ملة عبد المطلب ، وثانيهما دهماء وعامة وهم تبع لأئمة الكفر. وقد أشارت إلى ذلك آيات كثيرة منها قوله في سورة البقرة [١٦٦] (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) الآيات فالفريق الأول هم المراد من قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) وأولئك إنما كرهوا الحق لأنه يرمي إلى زوال سلطانهم وتعطيل منافعهم.

وتقديم (لِلْحَقِ) على (كارِهُونَ) للاهتمام بالحق تنويها به ، وفيه إقامة الفاصلة أيضا.

(أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩))

(أَمْ) منقطة للإضراب الانتقالي من حديث إلى حديث مع اتحاد الغرض. انتقل من حديث ما أعد لهم من العذاب يوم القيامة ما أعد لهم من الخزي في الدنيا. فالجملة عطف على جملة (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) [الزخرف : ٦٦] إلخ.

والكلام بعد (أَمْ) استفهام حذفت منه أداة الاستفهام وهو استفهام تقريري وتهديد ، أي أأبرموا أمرا. وضمير (أَبْرَمُوا) مراد به المشركون الذين ناوءوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم. وضمير (إنّا) ضمير الجلالة.

والفاء في قوله : (فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) للتفريع على ما اقتضاه الاستفهام من تقدير حصول المستفهم عنه فيؤول الكلام إلى معنى الشرط ، أي إن أبرموا أمرا من الكيد فإن الله مبرم لهم أمرا من نقض الكيد وإلحاق الأذى بهم ، ونظيره وفي معناه قوله : (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً

__________________

(١) يريد إمرأ القيس بن المنذر أخا عمرو بن هند وكان : أسره ملك من غسان فأغار عمرو بن هند أخوه في جيش من بكر بن وائل قبيلة الشاعر وقتلوا الملك وأنقذوا إمرأ القيس.

٢٩٤

فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) [الطور : ٤٢].

وعن مقاتل نزلت هذه الآية في تدبير قريش بالمكر بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دار الندوة حين استقرّ أمرهم على ما أشار به أبو جهل عليهم أن يبرز من كل قبيلة رجل ليشتركوا في قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى لا يستطيع بنو هاشم المطالبة بدمه ، وقتل الله جميعهم في بدر.

والإبرام حقيقته : القتل المحكم ، وهو هنا مستعار لإحكام التدبير والعزم على ما دبروه.

والمخالفة بين (أَبْرَمُوا) و (مُبْرِمُونَ) لأن إبرامهم واقع ، وأما إبرام الله جزاء لهم فهو توعد بأن الله قدّر نقض ما أبرموه فإن اسم الفاعل حقيقة في زمن الحال ، أي نحن نقدّر لهم الآن أمرا عظيما ، وذلك إيجاد أسباب وقعة بدر التي استؤصلوا فيها.

والأمر : العمل العظيم الخطير ، وحذف مفعول (مُبْرِمُونَ) لدلالة ما قبله عليه.

(أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠))

(أَمْ) والاستفهام المقدر بعدها في قوله : (أَمْ يَحْسَبُونَ) هما مثل ما تقدم في قوله: (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً) [الزخرف : ٧٩].

وحرف (بَلى) جواب للنفي من قوله : (أَنَّا لا نَسْمَعُ) ، أي بلى نحن نسمع سرهم ونجواهم.

والسمع هو : العلم بالأصوات.

والمراد بالسر : ما يسرونه في أنفسهم من وسائل المكر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالنجوى ما يتناجون به بينهم في ذلك بحديث خفيّ.

وعطف (وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) ليعلموا أن علم الله بما يسرّون علم يترتب عليه أثر فيهم وهو مؤاخذتهم بما يسرّون لأن كتابة الأعمال تؤذن بأنها ستحسب لهم يوم الجزاء. والكتابة يجوز أن تكون حقيقة ، وأن تكون مجازا ، أو كناية عن الإحصاء والاحتفاظ.

والرسل : هم الحفظة من الملائكة لأنهم مرسلون لتقصّي أعمال النّاس ولذلك قال : (لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) كقوله : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق : ١٨] ، أي رقيب

٢٩٥

[٨١ ، ٨٢] (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢))

لما جرى ذكر الذين ظلموا بادعاء بنوة الملائكة في قوله : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) [الزخرف : ٦٥] عقب قوله : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً) [الزخرف : ٥٧] ، وعقب قوله قبله (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ) عند (الرَّحْمنِ إِناثاً) [الزخرف : ١٩].

وأعقب بما ينتظرهم من أهوال القيامة وما أعد للذين انخلعوا عن الإشراك بالإيمان ، أمر الله رسوله أن ينتقل من مقام التحذير والتهديد إلى مقام الاحتجاج على انتفاء أن يكون لله ولد ، جمعا بين الرد على بعض المشركين الذين عبدوا الملائكة ، والذين زعموا أن بعض أصنامهم بنات الله مثل اللات والعزّى ، فأمره بقوله : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) أي قل لهم جدلا وإفحاما ، ولقّنه كلاما يدل على أنه ما كان يعزب عنه أن الله ليس له ولد ولا يخطر بباله أن لله ابنا. والذين يقول لهم هذا المقول هم المشركون الزاعمون ذلك فهذا غرض الآية على الإجمال لأنها افتتحت بقوله : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) مع علم السامعين أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يروج عنده ذلك. ونظم الآية دقيق ومعضل ، وتحته معان جمّة:

وأولها وأولاها : أنه لو يعلم أن لله أبناء لكان أول من يعبدهم ، أي أحق منكم بأن أعبدهم ، أي لأنه ليس أقل فهما من أن يعلم شيئا ابنا لله ولا يعترف لذلك بالإلهية لأن ابن الله يكون منسلا من ذات إلهية فلا يكون إلا إلها وأنا أعلم أن الإله يستحق العبادة ، فالدليل مركب من ملازمة شرطية ، والشرط فرضيّ ، والملازمة بين الجواب والشرط مبنية على أن المتكلم عاقل داع إلى الحق والنجاة فلا يرضى لنفسه ما يورطه ، وأيضا لا يرضى لهم إلا ما رضيه لنفسه ، وهذا منتهى النصح لهم ، وبه يتمّ الاستدلال ويفيد أنه ثابت القدم في توحيد الإله.

ونفي التعدد بنفي أخص أحوال التعدد وهو التعدد بالأبوة والبنوة كتعدد العائلة ، وهو أصل التعدد فينتفي أيضا تعدد الآلهة الأجانب بدلالة الفحوى. ونظيره قول سعيد بن جبير للحجاج. وقد قال له الحجاج حين أراد أن يقتله : لأبدّلنّك بالدنيا نارا تلظّى فقال سعيد : لو عرفت أن ذلك إليك ما عبدت إلها غيرك ، فنبهه إلى خطئه بأن إدخال النار من خصائص الله تعالى.

٢٩٦

والحاصل أن هذا الاستدلال مركب من قضية شرطية أول جزأيها وهو المقدم باطل ، وثانيهما وهو التالي باطل أيضا ، لأن بطلان التالي لازم لبطلان المقدّم ، كقولك : إن كانت الخمسة زوجا فهي منقسمة بمتساويين ، والاستدلال هنا ببطلان التالي على بطلان المقدم لأن كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عابدا لمزعوم بنوته لله أمر منتف بالمشاهدة فإنه لم يزل ناهيا إياهم عن ذلك. وهذا على وزان الاستدلال في قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] ، إلا أن تلك جعل شرطها بأداة صريحة في الامتناع ، وهذه جعل شرطها بأداة غير صريحة في الامتناع. والنكتة في العدول عن الأداة الصريحة في الامتناع هنا إيهامهم في بادئ الأمر أن فرض الولد لله محل نظر ، وليتأتى أن يكون نظم الكلام موجها حتى إذا تأملوه وجدوه ينفي أن يكون لله ولد بطريق المذهب الكلامي. ويدل لهذا ما رواه في الكشاف» أن النضر بن عبد الدار بن قصي قال : إن الملائكة بنات الله فنزل قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ). فقال النضر : ألا ترون أنه قد صدّقني ، فقال له الوليد بن المغيرة : ما صدّقك ولكن قال : ما كان للرحمن ولد فأنا أول الموحدين من أهل مكة. وروي مجمل هذا المعنى عن السدّي فكان في نظم الآية على هذا النظم إيجاز بديع ، وإطماع للخصوم بما إن تأملوه استبان وجه الحق فإن أعرضوا بعد ذلك عد إعراضهم نكوصا.

وتحتمل الآية وجوها أخر من المعاني. منها : أن يكون المعنى إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول العابدين لله ، أي فأنا أول المؤمنين بتكذيبكم ، قاله مجاهد ، أي بقرينة تذييله بجملة (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية.

ومنها ، أن يكون حرف (إِنْ) للنفي دون الشرط ، والمعنى : ما كان للرحمن ولد فتفرع عليه : أنا أول العابدين لله ، أي أتنزه عن إثبات الشريك له ، وهذا عن ابن عباس وقتادة وزيد بن أسلم وابنه. ومنها : تأويل (الْعابِدِينَ) أنه اسم فاعل من عبد يعبد من باب فرح ، أي أنف وغضب ، قاله الكسائي ، وطعن فيه نفطويه بأنه إنما يقال في اسم فاعل عبد يعبد عبد وقلما يقولون : عابد والقرآن لا يأتي بالقليل من اللّغة. وقرأ الجمهور (وَلَدٌ) بفتح الواو وفتح اللام. وقرأه حمزة والكسائي (وَلَدٌ) بضم الواو وسكون اللام جمع ولد.

وجملة (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) ، يجوز أن تكون تكملة لما أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقوله ، أي قل : إن كان للرحمن ولد على الفرض ،

٢٩٧

والتقدير : مع تنزيه عن تحقق ذلك في نفس الأمر. فيكون لهذه الجملة حكم التالي في جزأي القياس الشرطي الاستثنائي. وليس في ضمير (يَصِفُونَ) التفات لأن تقدير الكلام: قل لهم إن كان للرحمن ولد.

ويجوز أن تكون كلاما مستأنفا من جانب الله تعالى لإنشاء تنزيهه عما يقولون فتكون معترضة بين جملة (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) وجملة (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ) [الزخرف : ٨٤]. ولهذه الجملة معنى التذييل لأنها نزهت الله عن جميع ما يصفونه به من نسبة الولد وغير ذلك.

ووصفه بربوبية أقوى الموجودات وأعمها وأعظمها ، لأنه يفيد انتفاء أن يكون له ولد لانتفاء فائدة الولادة ، فقد تم خلق العوالم ونظام نمائها ودوامها ، وعلم من كونه خالقها أنه غير مسبوق بعدم وإلا لاحتاج إلى خالق يخلقه ، واقتضى عدم السبق بعدم أنه لا يلحقه فناء فوجود الولد له يكون عبثا.

(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣))

اعتراض بتفريع عن تنزيه الله عما ينسبونه إليه من الولد والشركاء ، وهذا تأييس من إجداء الحجة فيهم وأن الأولى به متاركتهم في ضلالهم إلى أن يحين يوم يلقون فيه العذاب الموعود. وهذا متحقق في أئمة الكفر الذين ماتوا عليه ، وهم الذين كانوا متصدين لمحاجّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومجادلته والتشغيب عليه مثل أبي جهل وأمية بن خلف وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة والوليد بن المغيرة والنضر بن عبد الدار ممن قتلوا يوم بدر.

و (اليوم) هنا محتمل ليوم بدر وليوم القيامة وكلاهما قد وعدوه ، والوعد هنا بمعنى الوعيد كما دل عليه السياق.

والخوض حقيقته : الدخول في لجّة الماء ماشيا ، ويطلق مجازا على كثرة الحديث ، والأخبار والاقتصار على الاشتغال بها ، وتقدم في قوله : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) في سورة الأنعام [٦٨].

والمعنى : فأعرض عنهم في حال خوضهم في الأحاديث ولعبهم في مواقع الجد حين يهزءون بالإسلام. واللعب : المزح والهزل.

٢٩٨

وجزم فعل (يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا) بلام الأمر محذوفة وهو أولى من جعله جزما في جواب الأمر ، وقد تكرر مثله في القرآن فالأمر هنا مستعمل في التهديد من قبيل (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠].

وقرأ الجمهور (يُلاقُوا) بضم الياء وبألف بعد اللام ، وصيغة المفاعلة مجاز في أنه لقاء محقق. وقرأه أبو جعفر (يُلْقُوا) بفتح الياء وسكون اللام على أنه مضارع المجرد.

(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤))

(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ).

عطف على جملة (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) [الزخرف : ٨١] والجملتان اللتان بينهما اعتراضان ، قصد من العطف إفادة نفي الشريك في الإلهية مطلقا بعد نفي الشريك فيها بالبنوة ، وقصد بذكر السماء والأرض الإحاطة بعوالم التدبير والخلق لأن المشركين جعلوا لله شركاء في الأرض وهم أصنامهم المنصوبة ، وجعلوا له شركاء في السماء وهم الملائكة إذ جعلوهم بنات لله تعالى فكان قوله : (فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) إبطالا للفريقين مما زعمت إلهيتهم. وكان مقتضى الظاهر بهذه الجملة أن يكون أوّلها (الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ) على أنه وصف للرحمن من قوله : (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) [الزخرف : ٨١] ، فعدل عن مقتضى الظاهر بإيراد الجملة معطوفة لتكون مستقلة غير صفة ، وبإيراد مبتدأ فيها لإفادة قصر صفة الإلهية في السماء وفي الأرض على الله تعالى لا يشاركه في ذلك غيره ، لأن إيراد المسند إليه معرفة والمسند معرفة طريق من طرق القصر. فالمعنى وهو لا غيره الذي في السماء إله وفي الأرض إله ، وصلة (الَّذِي) جملة اسمية حذف صدرها ، وصدرها ضمير يعود إلى معاد ضمير (وَهُوَ) وحذف صدر الصلة استعمال حسن إذا طالت الصلة كما هنا. والتقدير : الذي هو في السماء إله.

والمجروران يتعلقان ب (إِلهٌ) باعتبار ما يتضمنه من معنى المعبود لأنه مشتق من أله ، إذا عبد فشابه المشتق. وصح تعلق المجرور به فتعلقه بلفظ إله كتعلق الظرف بغربال وأقوى من تعلق المجرور بكانون في قول الحطيئة يهجو أمه من أبيات :

أغربالا إذا استودعت سرّا

وكانونا على المتحدّثينا (١)

__________________

(١) الرواية بنصب غربالا وكانونا بتقدير : أتكونين ، ويجوز رفعهما بتقدير : أأنت.

٢٩٩

(وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ).

بعد أن وصف الله بالتفرد بالإلهية أتبع بوصفه ب (الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) تدقيقا للدليل الذي في قوله : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) ، حيث دل على نفي إلهية غيره في السماء والأرض واختصاصه بالإلهية فيهما لما في صيغة القصر من إثبات الوصف له ونفيه عمن سواه ، فكان قوله : (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) تتميما للدليل واستدلالا عليه ، ولذلك سميناه تدقيقا إذ التدقيق في الاصطلاح هو ذكر الشيء بدليل دليله وأما التحقيق فذكر الشيء بدليله لأن الموصوف بتمام الحكمة وكمال العلم مستغن عما سواه فلا يحتاج إلى ولد ولا إلى بنت ولا إلى شريك.

(وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥))

عطف على (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الزخرف : ٨٢] ، قصد منه اتباع إنشاء التنزيه بإنشاء الثناء والتمجيد.

و (تَبارَكَ) خبر مستعمل في إنشاء المدح لأن معنى (تَبارَكَ) كان متصفا بالبركة اتصافا قويا لما يدل عليه صيغة تفاعل من قوة حصول المشتق منه لأن أصلها أن تدل على صدور فعل من فاعلين مثل : تقاتل وتمارى ، فاستعملت في مجرد تكرر الفعل ، وذلك مثل : تسامى وتعالى.

والبركة : الزيادة في الخير.

وقد ذكر مع التنزيه أنه رب السماوات والأرض لاقتضاء الربوبية التنزيه عن الولد المسوق الكلام لنفيه ، وعن الشريك المشمول لقوله : (عَمَّا يَصِفُونَ) [الزخرف : ٨٢] ، وذكر مع التبريك والتعظيم أن له ملك السماوات والأرض لمناسبة الملك للعظمة وفيض الخير ، فلا يريبك أنّ (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الزخرف : ٨٢] مغن عن (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، لأن غرض القرآن التذكير وأغراض التذكير تخالف أغراض الاستدلال والجدل ، فإن التذكير يلائم التنبيه على مختلف الصفات باختلاف الاعتبارات والتعرض للاستمداد من الفضل. ثم إنّ صيغة (تَبارَكَ) تدل على أن البركة ذاتية لله تعالى فيقتضي استغناءه عن الزيادة باتخاذ الولد واتخاذ الشريك ، فبهذا الاعتبار كانت هذه الجملة

استدلالا آخر تابعا لدليل قوله : (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا

٣٠٠