تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

ثم إن كانت (ما) شرطية كانت دلالتها على عموم مفهومها المبين بحرف (مِنْ) البيانية أظهر لأن شرطها الماضي يصح أن يكون بمعنى المستقبل كما هو كثير في الشروط المصوغة بفعل المضيّ والتعليق الشرطي يمحّضها للمستقبل ، وإن كانت (ما) موصولة كانت دلالتها محتملة للعموم وللخصوص لأن الموصول يكون للعهد ويكون للجنس.

وأيّا ما كان فهو دال على أن من المصائب التي تصيب الناس في الدنيا ما سلطه الله عليهم جزاء على سوء أعمالهم وإذا كان ذلك ثابتا بالنسبة لأناس معيّنين كان فيه نذارة وتحذير لغيرهم ممن يفعل من جنس أفعالهم أن تحل بهم مصائب في الدنيا جزاء على أعمالهم زيادة في التنكيل بهم إلا أن هذا الجزاء لا يطّرد فقد يجازي الله قوما على أعمالهم جزاء في الدنيا مع جزاء الآخرة ، وقد يترك قوما إلى جزاء الآخرة ، فجزاء الآخرة في الخير الشر هو المطّرد الموعود به ، والجزاء في الدنيا قد يحصل وقد لا يحصل كما قال تعالى : (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) كما سنبينه.

وهذا المعنى قد تكرر ذكره في آيات وأحاديث كثيرة بوجه الكلية وبوجه الجزئية ، فممّا جاء بطريق الكلية قوله تعالى : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا) [الفجر : ١٥ ـ ١٩] الآية ، فقوله : (بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) مرتب على قوله : (كَلَّا) المرتب على قوله : (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) وقوله : (فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) ، فدل على أن الكرامة والإهانة إنما تسببا على عدم إكرام اليتيم والحضّ على طعام المسكين ، وقال تعالى : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم : ٤١].

وفي «سنن الترمذي» : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تصيب عبدا نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر». وهو ينظر إلى تفسير هذه الآية ، وأما ما جاء على وجه الجزئية فمنه قوله تعالى حكاية عن نوح (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) [نوح : ١٠ ـ ١٢] وقوله حكاية عنه (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) في سورة نوح [٣ ، ٤]. وقوله خطابا لبني إسرائيل (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) الآية في سورة البقرة [٨٥] ، وقوله (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ)

١٦١

[الأعراف : ١٥٢] وقال حكاية عن موسى (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) [الأعراف : ١٥٥] (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ) في الأعراف [١٦٧] ، وقال في فرعون (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) [النازعات : ٢٥] ، وقال في المنافقين (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) في براءة [١٢٦].

وفي حديث الترمذي قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نقل الأقدام إلى الجماعات ، وإسباغ الوضوء في المكروهات ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، من يحافظ عليهن عاش بخير ومات بخير». وفي باب العقوبات من آخر سنن ابن ماجه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه». وفي «البخاري» قال خبّاب بن الأرتّ «إنّا آمنا بالله وجاهدنا في سبيله فوجب أجرنا على الله فمنّا من ذهب لم يأخذ من أجره شيئا منهم مصعب بن عمير ، مات وما ترك إلا ... كنا إذا غطّينا بها رأسه بدت رجلاه وإذا غطّينا رجليه بدا رأسه فأمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نغطي بها رأسه ونضع على رجليه من الإذخر ، ومنهم من عجّلت له ثمرته فهو يهدبها».

وإذا كانت المصيبة في الدنيا تكون جزاء على فعل الشر فكذلك خيرات الدنيا قد تكون جزاء على فعل الخير قال تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) [يونس : ٦٢ ، ٦٤] ، وقال حكاية عن إخوة يوسف (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) [يوسف : ٩١] أي مذنبين ، أي وأنت لم تكن خاطئا ، وقال : (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) في آل عمران [١٤٨] وقال : (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) في سورة الكهف [٨٢] ، وقال : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) إلى قوله : (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) في سورة النور [٥٥].

وهذا كله لا ينقض الجزاء في الآخرة ، فمن أنكروا ذلك وقالوا : إن الجزاء إنما يحصل يوم القيامة لقوله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة : ٤] أي يوم الجزاء وإنما الدنيا دار تكليف والآخرة دار الجزاء ، فالجواب عن قولهم هو : أنه ليس كون ما يصيب من الشر والخير في الدنيا جزاء على عمل بمطّرد ، ولا متعيّن له فإن لذلك أسبابا كثيرة وتدفعه أو تدفع بعضا منه جوابر كثيرة والله يقدّر ذلك استحقاقا ودفعا ولكنه مما يزيده الله به

١٦٢

الجزاء إن شاء.

وقد تصيب الصالحين نكبات ومصائب وآلام فتكون بلوى وزيادة في الأجر ولما لا يعلمه إلا الله ، وقد تصيب المسرفين خيرات ونعم إمهالا واستدراجا ولأسباب غير ذلك مما لا يحصيه إلا الله وهو أعلم بخفايا خلقه ونواياهم ومقادير أعمالهم من حسنات وسيئات ، واستعداد نفوسهم وعقولهم لمختلف مصادر الخير والشر قال تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [الأنفال : ٢٣].

ومما اختبط فيه ضعفاء المعرفة وقصّار الأنظار أن زعم أهل القول بالتناسخ أن هذه المصائب التي لا نرى لها أسبابا والخيرات التي تظهر في مواطن تحفّ بها مقتضيات الشرور إنما هي بسبب جزاء الأرواح المودعة في الأجسام التي نشاهدها على ما كانت أصابته من مقتضيات الأحوال التي عرضت لها في مرآنا قبل أن توضع في هذه الأجساد التي نراها ، وقد عموا عما يرد على هذا الزعم من سؤال عن سبب إيداع الأرواح الشريرة في الأجساد الميسرة للصالحات والعكس فبئس ما يفترون.

فقوله : (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) عطف على جملة (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) ، وضمير (يَعْفُوا) عائد إلى ما عاد إليه ضمير (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ) [الشورى : ٢٩]. وهذا يشير إلى ما يتراءى لنا من تخلف إصابة المصيبة عن بعض الذين كسبت أيديهم جرائم ، ومن ضد ذلك مما تصيب المصائب بعض الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وهو إجمال يبيّنه على الجملة أن ما يعلمه الله من أحوال عباده وما تغلب من حسناتهم على سيئاتهم ، وما تقتضيه حكمة الله من إمهال بعض عباده أو من ابتلاء بعض المقربين ، وتلك مراتب كثيرة وأحوال مختلفة تتعارض وتتساقط والموفّق يبحث عن الأسباب فإن أعجزته فوّض العلم إلى الله.

والمعنى : أنه تعالى يعفو ، أي يصفح فلا يصيب كثيرا من عباده الذين استحقّوا جزاء السوء بعقوبات دنيوية لأنه يعلم أن ذلك أليق بهم. فالمراد هنا : العفو عن المؤاخذة في الدنيا ولا علاقة لها بجزاء الآخرة فإن فيه أدلة أخرى من الكتاب والسنة.

و (كَثِيرٍ) صفة لمحذوف ، أي عن خلق أو ناس.

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١))

١٦٣

عطف على جملة (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى : ٣٠] ، وهو احتراس ، أي يعفو عن قدرة فإنكم لا تعجزونه ولا تغلبونه ولكن يعفو تفضلا.

والمعجز : الغالب غيره بانفلاته من قبضته. والمعنى : ما أنتم بفالتين من قدرة الله. والخطاب للمشركين.

والمعنى : أن الله أصابكم بمصيبة القحط ثم عفا عنكم برفع القحط عنكم وما أنتم بمفلتين من قدرة الله إن شاء أن يصيبكم ، فهو من معنى قوله : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) [الدخان : ١٥] ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي سفيان حين دعا برفع القحط عنهم : تعودون بعد ، وقد عادوا فأصابهم الله ببطشة بدر قال : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) [الدخان : ١٦].

وتقييد النفي بقوله : (فِي الْأَرْضِ) لإرادة التعميم ، أي في أي مكان من الأرض لئلا يحسبوا أنهم في منعة بحولهم في مكة التي أمّنها الله تعالى ، وذلك أن العرب كانوا إذا خافوا سطوة ملك أو عظيم سكنوا الجهات الصعبة ، كما قال النابغة ذاكرا تحذيره قومه من ترصد النعمان بن المنذر لهم وناصحا لهم :

إمّا عصيت فإني غير منفلت

مني اللصاب فجنبا حرة النار

أو أضع البيت في صماء مظلمة

من المظالم تدعى أمّ صبار

تدافع الناس عنّا حين نركبها

تقيد العير لا يسري بها الساري

وجيء بالخبر جملة اسمية في قوله : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) للدلالة على ثبات الخبر ودوامه ، أي نفي إعجازهم ثابت لا يتخلف فهم في مكنة خالقهم.

ولما أفاد قوله : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أن يكون لهم منجى من سلطة الله أتبع بنفي أن يكون لهم ملجأ يلجئون إليه لينصرهم ويقيهم من عذاب الله فقال : (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي ليس لكم وليّ يتولاكم فيمنعكم من سلطان الله ولا نصير ينصركم على الله إن أراد إصابتكم فتغلبونه ، فجمعت الآية نفي ما هو معتاد بينهم من وجوه الوقاية.

و (مِنْ دُونِ اللهِ) ظرف مستقرّ هو خبر ثان عن (وَلِيٍ) و (نَصِيرٍ) ، والخبر الأول هو (لَكُمْ). وتقديم الخبرين للاهتمام بالخبر ولتعجيل يأسهم من ذلك.

١٦٤

[٣٢ ـ ٣٤] (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤))

لما جرى تذكيرهم بأنّ ما أصابهم من مصيبة هو مسبب عن اقتراف أعمالهم ، وتذكيرهم بحلول المصائب تارة وكشفها تارة أخرى بقوله : (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى : ٣٠] ، وأعقب بأنهم في الحالتين غير خارجين عن قبضة القدرة الإلهية سيق لهم ذكر هذه الآية جامعة مثالا لإصابة المصائب وظهور مخائلها المخيفة المذكّرة بما يغفلون عنه من قدرة الله والتي قد تأتي بما أنذروا به وقد تنكشف عن غير ضر ، ودليلا على عظيم قدرة الله تعالى وأنه لا محيص عن إصابة ما أراده ، وإدماجا للتذكير بنعمة السير في البحر وتسخير البحر للناس فإن ذلك نعمة ، قال تعالى : (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) في سورة البقرة [١٦٤] ، فكانت هذه الجملة اعتراضا مثل جملة (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الشورى : ٢٩].

والآيات : الأدلة الدالة على الحق.

والجواري : جمع جارية صفة لمحذوف دل عليه ذكر البحر ، أي السفن الجواري في البحر كقوله تعالى في سورة الحاقة [١١] (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ). وعدل عن : الفلك إلى (الْجَوارِ) إيماء إلى محل العبرة لأن العبرة في تسخير البحر لجريها وتفكير الإنسان في صنعها.

والأعلام : جمع علم وهو الجبل ، والمراد : بالجواري السفن العظيمة التي تسع ناسا كثيرين ، والعبرة بها أظهر والنعمة بها أكثر.

وكتبت كلمة (الْجَوارِ) في المصحف بدون ياء بعد الراء ولها نظائر كثيرة في القرآن في الرسم والقراءة ، وللقراء في أمثالها اختلاف هي التي تدعى عند علماء القراءات بالياءات الزوائد.

وقرأ نافع وأبو عمرو وأبو جعفر الجواري في هذه السورة بإثبات الياء في حالة الوصل وبحذفها في حالة الوقف. وقرأ ابن كثير ويعقوب بإثبات الياء في الحالين. وقرأ الباقون بحذفها في الحالين.

١٦٥

وإسكان الرياح : قطع هبوبها ، فإن الريح حركة وتموّج في الهواء فإذا سكن ذلك التموّج فلا ريح.

وقرأ نافع الرياح بلفظ الجمع. وقرأه الباقون (الرِّيحَ) بلفظ المفرد. وفي قراءة الجمهور ما يدل على أن الريح قد تطلق بصيغة الإفراد على الريح الخير ، وما قيل : إن الرياح للخير والريح للعذاب في القرآن هو غالب لا مطّرد. وقد قرئ في آيات أخرى الرياح والريح في سياق الخير دون العذاب.

وقرأ الجمهور (يَشَأْ) بهمزة ساكنة. وقرأه ورش عن نافع بألف على أنه تخفيف للهمزة.

والرواكد : جمع راكدة ، والركود : الاستقرار والثبوت.

والظهر : الصلب للإنسان والحيوان ، ويطلق على أعلى الشيء إطلاقا شائعا. يقال : ظهر البيت ، أي سطحه ، وتقدم في قوله تعالى : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) [البقرة : ١٨٩]. وأصله : استعارة فشاعت حتى قاربت الحقيقة ، فظهر البحر سطح مائه البادي للناظر ، كما أطلق ظهر الأرض على ما يبدو منها ، قال تعالى : (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) [فاطر : ٤٥].

وجعل ذلك آية لكل صبّار شكور لأن في الحالتين خوفا ونجاة ، والخوف يدعو إلى الصبر ، والنجاة تدعو إلى الشكر. والمراد : أن في ذلك آيات لكل مؤمن متخلق بخلق الصبر على الضرّاء والشكر للسرّاء ، فهو يعتبر بأحوال الفلك في البحر اعتبارا يقارنه الصبر أو الشكر.

وإنما جعل ذلك آية للمؤمنين لأنهم الذين ينتفعون بتلك الآية فيعلمون أن الله منفرد بالإلهية بخلاف المشركين فإنها تمر بأعينهم فلا يعتبرون بها.

وقوله : (أَوْ يُوبِقْهُنَ) عطف على جزاء الشرط.

و (يُوبِقْهُنَ) : يهلكهن. والإيباق : الإهلاك ، وفعله وبق كوعد. والمراد به هنا الغرق ، فيجوز أن يكون ضمير جماعة الإناث عائدا إلى (الْجَوارِ) على أن يستعار الإيباق للإغراق لأنّ الإغراق إتلاف. ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى الراكبين على تأويل معاد الضمير بالجماعات بقرينة قوله : (بِما كَسَبُوا) فهو كقوله : (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) [الحج : ٢٧].

١٦٦

والباء للسببية وهو في معنى قوله : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠].

و (يَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) عطف على (يُوبِقْهُنَ) فهو في معنى جزاء للشرط المقدّر ، أي وإن يشأ يعف عن كثير فلا يوبقهم مع استحقاقهم أن يوبقوا. وهذا العطف اعتراض.

(وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥))

قرأ نافع وابن عامر ويعقوب برفع (وَيَعْلَمَ) على أنه كلام مستأنف. وقرأه الباقون بالنصب.

فأما الاستئناف على قراءة نافع وابن عامر ويعقوب فمعناه أنه كلام أنف لا ارتباط له بما قبله ، وذلك تهديد للمشركين بأنهم لا محيص لهم من عذاب الله لأنه لما قال : (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ) [الشورى : ٣٢] صار المعنى : ومن آيات انفراده بالإلهية الجواري في البحر. والمشركون يجادلون في دلائل الوحدانية بالإعراض والانصراف عن سماعها فهددهم الله بأن أعلمهم أنهم لا محيص لهم ، أي من عذابه ، فحذف متعلق المحيص إبهاما له تهويلا للتهديد لتذهب النفس كل مذهب ممكن فيكون قوله : (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ) خبرا مرادا به الإنشاء والطلب فهو في قوة : وليعلم الذين يجادلون ، أو اعلموا يا من يجادلون ، وليس خبرا عنهم لأنهم لا يؤمنون بذلك حتى يعلموه.

وأما قراءة النصب فهي عند سيبويه وجمهور النحاة على العطف على فعل مدخول للام التعليل ، وتضمّن (أن) بعده. والتقدير : لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون إلخ. وسموا هذه الواو واو الصّرف لأنها تصرف ما بعدها عن أن يكون معطوفا على ما قبلها ، إلى أن يكون معطوفا على فعل متصيّد من الكلام ، وهذا قول سيبويه في باب ما يرتفع بين الجزمين وينجزم بينهما ، وتبعه في «الكشاف» ، وذهب الزجاج إلى أن الواو واو المعية التي ينصب الفعل المضارع بعدها ب (أن) مضمرة.

ويجوز أن يجعل الخبر مستعملا في مقاربة المخبر به كقولهم : قد قامت الصلاة ، فلما كان علمهم بذلك يوشك أن يحصل نزّل منزلة الحاصل فأخبر عنهم به ، وعلى هذا الوجه يكون إنذارا بعقاب يحصل لهم قريب وهو عذاب السيف والأسر يوم بدر.

وذكر فعل (يَعْلَمَ) للتنويه والاعتناء بالخبر كقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) في سورة البقرة [٢٢٣] ، وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) في سورة الأنفال [٤١] ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين رأى أبا مسعود الأنصاري يضرب غلاما له فناداه : «اعلم أبا مسعود!

١٦٧

اعلم أبا مسعود ، قال أبو مسعود : فالتفتّ فإذا هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا هو يقول : اعلم أبا مسعود. فألقيت السوط من يدي ، فقال لي : إن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام» رواه مسلم أواخر كتاب الإيمان. وتقدم معنى (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا) في هذه السورة.

و (ما) نافية ، وهي معلّقة لفعل (يَعْلَمَ) عن نصب المفعولين.

والمحيص : مصدر ميمي من حاص ، إذا أخذ في الفرار ومال في سيره ، وفي حديث أبي سفيان في وصف مجلس هرقل «فحاصوا حيصة حمر الوحش وأغلقت الأبواب». والمعنى : ما لهم من فرار ومهرب من لقاء الله. والمراد : ما لهم من محيد ولا ملجأ. وتقدم في قوله تعالى : (وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) في سورة النساء [١٢١].

(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦))

تفريع على جملة (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا) [الشورى : ٢٧] إلى آخرها ، فإنها اقتضت وجود منعم عليه ومحروم ، فذكّروا بأن ما أوتوه من رزق هو عرض زائل ، وأن الخير في الثواب الذي ادخره الله للمؤمنين ، مع المناسبة لما سبقه من قوله : (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى : ٣٤] من سلامة الناس من كثير من أهوال الأسفار البحرية فإن تلك السلامة نعمة من نعم الدنيا ، ففرعت عليه الذكرى بأن تلك النعمة الدنيوية نعمة قصيرة الزمان صائرة إلى الزوال فلا يجعلها الموفّق غاية سعيه وليسع لعمل الآخرة الذي يأتي بالنعيم العظيم الدائم وهو النعيم الذي ادّخره الله عنده لعباده المؤمنين الصالحين.

والخطاب في قوله : (أُوتِيتُمْ) للمشركين جريا على نسق الخطاب السابق في قوله : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠] وقوله : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [الشورى : ٣١] ، وينسحب الحكم على المؤمنين بلحن الخطاب ، ويجوز أن يكون الخطاب لجميع الأمة ، فالفاء الأولى للتفريع ، وما موصولة ضمنت معنى الشرط والفاء الثانية في قوله : (فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) داخلة على خبر (ما) الموصولة لتضمنها معنى الشرط وإنما لم نجعل (ما) شرطية لأن المعنى على الإخبار لا على التعليق ، وإنما تضمن معنى الشرط وهو مجرد ملازمة الخبر لمدلول اسم الموصول كما تقدم نظيره آنفا في قوله : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠] في قراءة غير نافع وابن عامر.

١٦٨

ويتعلق قوله : (خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا) على وجه التنازع ، واتبعت صلة (الذين آمنوا) بما يدل على عملهم بإيمانهم في اعتقادهم فعطف على الصلة أنهم يتوكلون على ربّهم دون غيره. وهذا التوكل إفراد لله بالتوجّه إليه في كل ما تعجز عنه قدرة العبد ، فإن التوجه إلى غيره في ذلك ينافي التوحيد لأن المشركين يتوكلون على آلهتهم أكثر من توكلهم على الله ، ولكون هذا متمّما لمعنى (الذين آمنوا) عطف على الصلة ولم يؤت معه باسم موصول بخلاف ما ورد بعده.

(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧))

أتبع الموصول السابق بموصولات معطوف بعضها على بعض كما تعطف الصفات للموصوف الواحد ، فكذلك عطف هذه الصلات وموصولاتها أصحابها متحدون وهم الذين آمنوا بالله وحده وقد تقدم نظيره عند قوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : ٣] ثم قوله : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) الآية في سورة البقرة [٤].

والمقصود من ذلك : هو الاهتمام بالصلات فيكرر الاسم الموصول لتكون صلته معتنى بها حتى كأنّ صاحبها المتّحد منزّل منزلة ذوات. فالمقصود : ما عند الله خير وأبقى للمؤمنين الذين هذه صفاتهم ، أي أتبعوا إيمانهم بها. وهذه صفات للمؤمنين باختلاف الأحوال العارضة لهم فهي صفات متداخلة قد تجتمع في المؤمن الواحد إذا وجدت أسبابها وقد لا تجتمع إذا لم توجد بعض أسبابها مثل (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) [٣٨].

وقرأ الجمهور (كَبائِرَ) بصيغة الجمع. وقرأه حمزة والكسائي وخلف كبير بالإفراد ، فكبائر الإثم : الفعلات الكبيرة من جنس الإثم وهي الآثام العظيمة التي نهى الشرع عنها نهيا جازما ، وتوعد فاعلها بعقاب الآخرة مثل القذف والاعتداء والبغي. وعلى قراءة كبيرة الإثم مراد به معنى كبائر الإثم لأن المفرد لما أضيف إلى معرّف بلام الجنس من إضافة الصفة إلى الموصوف كان له حكم ما أضيف هو إليه.

و (الْفَواحِشَ) : جمع فاحشة ، وهي : الفعلة الموصوفة بالشناعة والتي شدد الدّين في النهي عنها وتوعّد عليها بالعذاب أو وضع لها عقوبات في الدنيا للذي يظهر عليه من فاعليها. وهذه مثل قتل النفس ، والزنا ، والسرقة ، والحرابة. وتقدّم عند قوله : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا) في سورة الأعراف [٢٨].

وكبائر الإثم والفواحش قد تدعو إليها القوة الشاهية. ولما كان كثير من كبائر الإثم

١٦٩

والفواحش متسببا على القوة الغضبية مثل القتل والجراح والشتم والضرب أعقب الثناء على الذين يجتنبونها ، فذكر أن من شيمتهم المغفرة عند الغضب ، أي إمساك أنفسهم عن الاندفاع مع داعية الغضب فلا يغول الغضب أحلامهم.

وجيء بكلمة (إِذا) المضمنة معنى الشرط والدالّة على تحقق الشرط ، لأن الغضب طبيعة نفسية لا تكاد تخلو عنه نفس أحد على تفاوت. وجملة (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) عطف على جملة الصلة.

وقدم المسند إليه على الخبر الفعلي في جملة (هُمْ يَغْفِرُونَ) لإفادة التقوّي.

وتقييد المسند ب (إِذا) المفيدة معنى الشرط للدّلالة على تكرر الغفران كلما غضبوا. والمقصود من هذا معاملة المسلمين بعضهم مع بعض فلا يعارضه قوله الآتي (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) [الشورى : ٣٩] لأن ذلك في معاملتهم مع أعداء دينهم.

(وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨))

هذا موصول آخر وصلة أخرى. ومدلولهما من أعمال الذين آمنوا التي يدعوهم إليها إيمانهم ، والمقصود منها ابتداء هم الأنصار ، كما روي عن عبد الرحمن بن زيد. ومعنى ذلك أنهم من المؤمنين الذين تأصل فيهم خلق الشورى.

وأما الاستجابة لله فهي ثابتة لجميع من آمن بالله لأن الاستجابة لله هي الاستجابة لدعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه دعاهم إلى الإسلام مبلّغا عن الله فكأنّ الله دعاهم إليه فاستجابوا لدعوته. والسين والتاء في (اسْتَجابُوا) للمبالغة في الإجابة ، أي هي إجابة لا يخالطها كراهية ولا تردد.

ولام له للتقوية يقال : استجاب له كما يقال : استجابه ، فالظاهر أنه أريد منه استجابة خاصة ، وهي إجابة المبادرة مثل أبي بكر وخديجة وعبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص ونقباء الأنصار أصحاب ليلة العقبة.

وجعلت (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) عطفا على الصلة. وقد عرف الأنصار بذلك إذ كان التشاور في الأمور عادتهم فإذا نزل بهم مهمّ اجتمعوا وتشاوروا وكان من تشاورهم الذي أثنى الله عليهم به هو تشاورهم حين ورد إليهم نقباؤهم وأخبروهم بدعوة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم

١٧٠

بعد أن آمنوا هم به ليلة العقبة ، فلما أبلغوهم ذلك اجتمعوا في دار أبي أيوب الأنصاري فأجمع رأيهم على الإيمان به والنصر له.

وإذ قد كانت الشورى مفضية إلى الرشد والصواب وكان من أفضل آثارها أن اهتدى بسببها الأنصار إلى الإسلام أثنى الله بها على الإطلاق دون تقييد بالشورى الخاصّة التي تشاور بها الأنصار في الإيمان وأيّ أمر أعظم من أمر الإيمان.

والأمر : اسم من أسماء الأجناس العامة مثل : شيء وحادث. وإضافة اسم الجنس قد تفيد العموم بمعونة المقام ، أي جميع أمورهم متشاور فيها بينهم.

والإخبار عن الأمر بأنه شورى من قبيل الإخبار بالمصدر للمبالغة. والإسناد مجاز عقلي لأن الشورى تسند للمتشاورين ، وأما الأمر فهو ظرف مجازي للشورى ، ألا ترى أنه يقال : تشاورا في كذا ، قال تعالى : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) فاجتمع في قوله : (وَأَمْرُهُمْ شُورى) مجاز عقلي واستعارة تبعية ومبالغة.

والشورى مصدر كالبشرى والفتيا هي أن قاصد عمل يطلب ممن يظنّ فيه صواب الرأي والتدبير أن يشير عليه بما يراه في حصول الفائدة المرجوّة من عمله ، وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) في سورة آل عمران [١٥٩].

وقوله : (بَيْنَهُمْ) ظرف مستقر هو صفة ل (شُورى). والتشاور لا يكون إلا بين المتشاورين فالوجه أن يكون هذا الظرف إيماء إلى أن الشورى لا ينبغي أن تتجاوز من يهمهم الأمر من أهل الرأي فلا يدخل فيها من لا يهمه الأمر ، وإلى أنها سرّ بين المتشاورين قال بشار :

ولا تشهد الشورى أمرا غير كاتم

وقد كان شيخ الإسلام محمود ابن الخوجة أشار في حديث جرى بيني وبينه إلى اعتبار هذا الإيماء إشارة بيده حين تلا هذه الآية ، ولا أدري أذلك استظهار منه أم شيء تلقاه من بعض الكتب أو بعض أساتذته وكلا الأمرين ليس ببعيد عن مثله.

وأثنى الله عليهم بإقامة الصلاة ، فيجوز أن يكون ذلك تنويها بمكانة الصلاة بأعمال الإيمان ، ويجوز أن يكون المراد إقامة خاصة ، فإذا كانت الآية نازلة في الأنصار أو كان الأنصار المقصود الأول منها فلعل المراد مبادرة الأنصار بعد إسلامهم بإقامة الجماعة إذ سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرسل إليهم من يقرئهم القرآن ويؤمهم في الصلاة فأرسل إليهم مصعب بن عمير وذلك قبل الهجرة.

١٧١

وأثنى عليهم بأنهم ينفقون مما رزقهم الله ، وللأنصار الحظ الأوفر من هذا الثناء ، وهو كقوله فيهم (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) [الحشر : ٩]. وذلك أن الأنصار كانوا أصحاب أموال وعمل فلما آمنوا كانوا أول جماعة من المؤمنين لهم أموال يعينون بها ضعفاء المؤمنين منهم ومن المهاجرين الأولين قبل هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فأما المؤمنون من أهل مكة فقد صادر المشركون أموالهم لأجل إيمانهم ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وهل ترك لنا عقيل من دار». وقوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) إدماج للامتنان في خلال المدح وإلا فليس الإنفاق من غير ما يرزقه المنفق.

(وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩))

هذا موصول رابع وصلته خلق أراده الله للمسلمين ، والحظ الأول منه للمؤمنين الذين كانوا بمكة قبل أن يهاجرون فإنهم أصابهم بغي المشركين بأصناف الأذى من شتم وتحقير ومصادرة الأموال وتعذيب الذوات فصبروا عليه.

و (الْبَغْيُ) : الاعتداء على الحق ، فمعنى إصابته إياهم أنه سلّط عليهم ، أي بغي غيرهم عليهم وهذه الآية مقدّمة لقوله في سورة الحج [٣٩ ، ٤٠] (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ) فإن سورة الحج نزلت بالمدينة. وإنما أثنى الله عليهم بأنهم ينتصرون لأنفسهم تنبيها على أن ذلك الانتصار ناشئ على ما أصابهم من البغي فكان كل من السبب والمسبب موجب الثناء لأن الانتصار محمدة دينية إذ هو لدفع البغي اللاحق بهم لأجل أنهم مؤمنون ، فالانتصار لأنفسهم رادع للباغين عن التوغل في البغي على أمثالهم ، وذلك الردع عون على انتشار الإسلام ، إذ يقطع ما شأنه أن يخالج نفوس الراغبين في الإسلام من هواجس خوفهم من أن يبغى عليهم.

وبهذا تعلم أن ليس بين قوله هنا (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) وبين قوله آنفا (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) [الشورى : ٣٧] تعارض لاختلاف المقامين كما علمت آنفا.

وعن إبراهيم النّخعي : كان المؤمنون يكرهون أن يستذلّوا وكانوا إذا قدروا عفوا.

وأدخل ضمير الفصل بقوله : (هُمْ يَنْتَصِرُونَ) الذي فصل بين الموصول وبين خبره

١٧٢

لإفادة تقوّي الخبر ، أي لا ينبغي أن يترددوا في الانتصار لأنفسهم.

وأوثر الخبر الفعلي هنا دون أن يقال : منتصرون ، لإفادة معنى تجدد الانتصار كلما أصابهم البغي.

وأما مجيء الفعل مضارعا فلأن المضارع هو الذي يجيء معه ضمير الفصل.

(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠))

هذه جمل ثلاث معترضة الواحدة تلو الأخرى بين جملة (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ) [الشورى : ٣٩] إلخ وجملة (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) [الشورى : ٤١]. وفائدة هذا الاعتراض تحديد الانتصار والترغيب في العفو ثم ذم الظلم والاعتداء ، وهذا انتقال من الإذن في الانتصار من أعداء الدين إلى تحديد إجرائه بين الأمة بقرينة تفريع (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ) على جملة (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) إذ سمى ترك الانتصار عفوا وإصلاحا ولا عفو ولا إصلاح مع أهل الشرك.

وبقرينة الوعد بأجر من الله على ذلك العفو ولا يكون على الإصلاح مع أهل الشرك أجر.

و (سَيِّئَةٍ) صفة لمحذوف ، أي فعلة تسوء من عومل بها. ووزن (سَيِّئَةٍ) فيعلة مبالغة في الوصف مثل : هيّنة ، فعينها ياء ولامها همزة ، لأنها من ساء ، فلما صيغ منها وزن فيعلة التقت ياءان فأدغمتا ، أي أن المجازئ يجازئ من فعل معه فعلة تسوءه بفعلة سيئة مثل فعلته في السوء ، وليس المراد بالسيئة هنا المعصية التي لا يرضاها الله ، فلا إشكال في إطلاق السيئة على الأذى الذي يلحق بالظالم.

ومعنى (مِثْلُها) أنها تكون بمقدارها في متعارف الناس ، فقد تكون المماثلة في الغرض والصورة وهي المماثلة التامة وتلك حقيقة المماثلة مثل القصاص من القاتل ظلما بمثل ما قتل به ، ومن المعتدي بجراح عمد ، وقد تتعذر المماثلة التامة فيصار إلى المشابهة في الغرض ، أي مقدار الضرّ وتلك هي المقاربة مثل تعذر المشابهة التامة في جزاء الحروب مع عدوّ الدين إذ قد يلحق الضر بأشخاص لم يصيبوا أحدا بضرّ ويسلم أشخاص أصابوا الناس بضرّ ، فالمماثلة في الحرب هي انتقام جماعة من جماعة بمقدار ما يشفي

١٧٣

نفوس الغالبين حسبما اصطلح عليه الناس.

ومن ذلك أيضا إتلاف بعض الحواس بسبب ضرب على الرأس أو على العين فيصار إلى الدية إذ لا تضبط إصابة حاسّة الباغي بمثل ما أصاب به حاسّة المعتدى عليه. وكذلك إعطاء قيم المتلفات من المقوّمات إذ يتعسر أن يكلف الجاني بإعطاء مثل ما أتلفه.

ومن مشاكل المماثلة في العقوبة مسألة الجماعة يتمالئون على قتل أحد عمدا ، أو على قطع بعض أعضائه ؛ فإن اقتص من واحد منهم كان ذلك إفلاتا لبقية الجناة من عقوبة جرمهم ، وإن اقتص من كل واحد منهم كان ذلك زيادة في العقوبة لأنهم إنما جنوا على واحد.

فمن العلماء من لم يعتدّ بتلك الزيادة ونظر إلى أن كل واحد منهم جنى على المجني عليه فاستحق الجزاء بمثل ما ألحقه بالمجنيّ عليه ، وجعل التعدّد ملغى وراعى في ذلك سدّ ذريعة أن يتحيّل المجرم على التنصل من جرمه بضم جماعة إليه ، وهذا قول مالك والشافعي أخذا من قضاء عمر بن الخطاب ، وقوله : لو اجتمع على قتله أهل صنعاء لاقتصصت منهم.

ومنهم من عدل عن الزيادة مطلقا وهو قول داود الظاهري ، ومنهم من عدل عن تلك الزيادة في القطع ولم يعدل عنها في القتل ، ولعل ذلك لأن عمر بن الخطاب قضى به في القتل ولم يؤثر عن أحد في القطع. وربما ألغى بعضهم الزيادة إذا كان طريق ثبوت الجناية ضعيفا مثل القسامة مع اللوث عند من يرى القصاص بها فإن مالكا لم ير أن يقتل بالقسامة أكثر من رجل واحد.

واعلم أن المماثلة في نحو هذا تحقق بقيمة الغرم كما اعتبرت في الديات وأروش الجنايات.

وجملة (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) في موضع العلة لكلام محذوف دل عليه السياق فيقدر : أنه يحب العافين كما قال (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران : ١٣٤]. ونصره على ظالمه موكول إلى الله وهو لا يحب الظالمين ، أي فيؤجر الذين عفوا وينتصر لهم على الباغين لأنه لا يحب الظالمين فلا يهمل الظالم دون عقاب (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) [الإسراء: ٣٣]. وقد استفيد حبّ الله العافين من قوله : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) ، وعلى

١٧٤

هذا فما صدق الظالمين : هم الذين أصابوا المؤمنين بالبغي.

ويجوز أيضا أن يكون التعليل بقوله : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) منصرفا لمفهوم جملة (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) أي دون تجاوز المماثلة في الجزاء كقوله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) [النمل : ١٢٦] فيكون ما صدق (الظَّالِمِينَ) : الذين يتجاوزون الحد في العقوبة من المؤمنين على أن يكون تحذيرا من مجاوزة الحدّ ، كقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حام الحمى يوشك أن يقع فيه».

وقد شملت هذه الآية بموقعها الاعتراضي أصول الإرشاد إلى ما في الانتصار من الظالم وما في العفو عنه من صلاح الأمة ، ففي تخويل حق انتصار المظلوم من ظالمه ردع للظالمين عن الإقدام على الظلم خوفا من أن يأخذ المظلوم بحقه ، فالمعتدي يحسب لذلك حسابه حين الهمّ بالعدوان.

وفي الترغيب في عفو المظلوم عن ظالمه حفظ آصرة الأخوة الإسلامية بين المظلوم وظالمه كيلا تنثلم في آحاد جزئياتها بل تزداد بالعفو متانة كما قال تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت : ٣٤].

على أن الله تعالى لم يهمل جانب ردع الظالم فأنبأ بتحقيق أنه بمحل من غضب الله عليه إذ قال : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) ولا ينحصر ما في طي هذا من هول الوعيد.

وتنشأ على معنى هذه الآية مسألة غرّاء تجاذبتها أنظار السلف بالاعتبار ، وهي : تحليل المظلوم ظالمه من مظلمته. قال أبو بكر بن العربي في «الأحكام» : روى ابن القاسم وابن وهب عن مالك وسئل عن قول سعيد بن المسيّب : لا أحلّل أحدا ، فقال : ذلك يختلف. فقلت : الرجل يسلف الرجل فيهلك ولا وفاء له قال : أرى أن يحلله ، وهو أفضل عندي لقول الله تعالى : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) [الزمر : ١٨] ، وإن كان له فضل يتبع فقيل له : الرجل يظلم الرجل ، فقال : لا أرى ذلك ، وهو عندي مخالف للأول لقول الله تعالى : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) [الشورى : ٤٢] ، ويقول تعالى : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) [التوبة : ٩١] فلا أرى أن تجعله من ظلمه في حلّ.

قال ابن العربي فصار في المسألة ثلاثة أقوال : أحدها : لا يحلّله بحال قاله ابن المسيّب. والثاني : يحلّله ، قاله ابن سيرين ، زاد القرطبي وسليمان بن يسار ، الثالث : إن كان مالا حلّله وإن كان ظلما لم يحلّله وهو قول مالك.

١٧٥

وجه الأول : أن لا يحلّ ما حرم الله فيكون كالتبديل لحكم الله.

ووجه الثاني : أنه حقه له أن يسقطه.

ووجه الثالث : أن الرجل إذا غلب على حقك فمن الرفق به أن تحلله ، وإن كان ظالما فمن الحق أن لا تتركه لئلا يغترّ الظّلمة ويسترسلوا في أفعالهم القبيحة.

وذكر حديث مسلم عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال : خرجت أنا وأبي لطلب العلم في هذا الحيّ من الأنصار قبل أن يهلكوا فكان أول من لقينا أبو اليسر صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له أبي : أرى في وجهك سفعة من غضب فقال : أجل كان لي على فلان دين ، فأتيت أهله وقلت : أثمّ هو؟ قالوا : لا فخرج ابن له فقلت له : أين أبوك؟ فقال سمع صوتك فدخل أريكة أمي. فقلت : اخرج إليّ ، فخرج. فقلت : ما حملك على أن اختبأت مني؟ قال : خشيت والله أن أحدثك فأكذبك وأنت صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكنت والله معسرا. قال : فأتى بصحيفته فمحاها بيده ، قال : إن وجدت قضاء فاقض وإلّا فأنت في حلّ.

(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١))

يجوز أن تكون عطفا على جملة (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ) [الشورى : ٤٠] فيكون عذرا للذين لم يعفوا ، ويجوز أنها عطف على جملة (هُمْ يَنْتَصِرُونَ) [الشورى : ٣٩] وما بين ذلك اعتراض كما علمت ، فالجملة : إمّا مرتبطة بغرض انتصار المسلم على ظالمه من المسلمين تكملة لجملة (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [الشورى : ٤٠] ، وإمّا مرتبطة بغرض انتصار المؤمنين من بغي المشركين عليهم ، وهو الانتصار بالدفاع سواء كان دفاع جماعات وهو الحرب فيكون هذا تمهيدا للإذن بالقتال الذي شرع من بعد ، أم دفاع الآحاد أن تمكنوا منه فقد صار المسلمون بمكة يومئذ ذوي قوة يستطيعون بها الدفع عن أنفسهم آحادا كما قيل في عزّ الإسلام عمر بن الخطاب.

واللام في (وَلَمَنِ انْتَصَرَ) موطئة للقسم ، و (من) شرطية ، أو اللام لام ابتداء و (من) موصولة. وإضافة (ظُلْمِهِ) من إضافة المصدر إلى مفعوله ، أي بعد كونه مظلوما.

ومعنى (بَعْدَ ظُلْمِهِ) التنبيه على أن هذا الانتصار بعد أن تحقق أنهم ظلموا : فإمّا في غير الحروب فمن يتوقع أن أحدا سيعتدي عليه ليس له أن يبادر أحدا بأذى قبل أن يشرع في الاعتداء عليه ويقول : ظننت أنه يعتدي عليّ فبادرته بالأذى اتقاء لاعتدائه

١٧٦

المتوقع ، لأن مثل هذا يثير التهارج والفساد ، فنبه الله المسلمين على تجنبه مع عدوّهم إن لم تكن بينهم حرب.

وأما حال المسلمين بعضهم مع بعض فليس من غرض الآية ، فلو أن أحدا ساوره أحد ببادئ عمل من البغي فهو مرخّص له أن يدافعه عن إيصال بغيه إليه قبل أن يتمكن منه ولا يمهله حتى يوقع به ما عسى أن لا يتداركه فاعله من بعد ، وذلك مما يرجع إلى قاعدة أن ما قارب الشيء يعطى حكم حصوله ، أي مع غلبة ظنه بسبب ظهور بوادره ، وهو ما قال فيه الفقهاء : «يجوز دفع صائل بما أمكن».

ومحل هذه الرخصة هو الحالات التي يتوقع فيها حصول الضرّ حصولا يتعذر أو يعسر رفعه وتداركه. ومعلوم أن محلها هو الحالة التي لم يفت فيها فعل البغي ، فأما إن فات فإن حق الجزاء عليه يكون بالرفع للحاكم ولا يتولى المظلوم الانتصاف بنفسه ، وليس ذلك مما شملته هذه الآية ولكنه مستقرى من تصاريف الشريعة ومقاصدها ففرضناه هنا لمجرد بيان مقصد الآية لا لبيان معناها.

والمراد بالسبيل موجب المؤاخذة باللّائمة بين القبائل واللمز بالعدوان والتبعة في الآخرة على الفساد في الأرض بقتل المسالمين ، سمي بذلك سبيلا على وجه الاستعارة لأنه أشبه الطريق في إيصاله إلى المطلوب ، وكثر إطلاق ذلك حتى ساوى الحقيقة.

والفاء في قوله : (فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) فاء جواب الشرط فإن جعلت لام (لَمَنِ انْتَصَرَ) لام الابتداء فهو ظاهر ، وإن جعلت اللام موطئة للقسم كان اقتران ما بعدها بفاء الجواب ترجيحا للشرط على القسم عند اجتماعهما ، والأعرف أن يرجّح الأول منهما فيعطى جوابه ويحذف جواب الثاني ، وقد يقال : إن ذلك في القسم الصريح دون القسم المدلول باللام الموطئة.

وجيء باسم الإشارة في صدر جواب الشرط لتمييز الفريق المذكور أتمّ تمييز ، وللتنبيه على أن سبب عدم مؤاخذتهم هو أنهم انتصروا بعد أن ظلموا ولم يبدءوا الناس بالبغي.

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢))

استئناف بياني فإنه لما جرى الكلام السابق كله على الإذن للذين بغي عليهم أن

١٧٧

ينتصروا ممن بغوا عليهم ثم عقب بأن أولئك ما عليهم من سبيل كان ذلك مثار سؤال سائل عن الجانب الذي يقع عليه السبيل المنفي عن هؤلاء.

والقصر المفاد ب (إِنَّمَا) تأكيد لمضمون جملة (فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) [الشورى : ٤١] لأنه كان يكفي لإفادة معنى القصر أن يقابل نفي السبيل عن الذين انتصروا بعد ظلمهم بإثبات أنّ السبيل على الظالمين ، لأن إثبات الشيء لأحد ونفيه عمن سواه يفيد معنى القصر وهو الأصل في إفادة القصر بطريق المساواة أو الإطناب كقول السّموأل أو غيره :

تسيل على حدّ الظّبات نفوسنا

وليست على غير الظبات تسيل

وأما طرق القصر المعروفة في علم المعاني فهي من الإيجاز ، فلما أوردت أداة القصر هنا حصل نفي السبيل عن غيرهم مرة أخرى بمفاد القصر فتأكد حصوله الأول الذي حصل بالنفي ، ونظيره قوله تعالى : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) إلى قوله : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ) في سورة براءة [٩٣].

والمراد ب (السَّبِيلُ) عين المراد به في قوله : (فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) [الشورى : ٤١] بقرينة أنه أعيد معرّفا باللام بعد أن ذكر منكّرا فإن إعادة اللفظ النكرة معرّفا بلام التعريف يفيد أن المراد به ما ذكر أولا. وهذا السبيل الجزاء والتبعة في الدنيا والآخرة.

وشمل عموم (الَّذِينَ يَظْلِمُونَ) ، وعموم (النَّاسَ) كلّ ظالم ، وبمقدار ظلمه يكون جزاؤه. ويدخل ابتداء فيه الظالمون المتحدّث عنهم وهم مشركو أهل مكة ، والناس المتحدث عنهم وهم المسلمون يومئذ.

والبغي في الأرض : الاعتداء على ما وضعه الله في الأرض من الحق الشامل لمنافع الأرض التي خلقت للناس ، مثل تحجير الزرع والأنعام المحكي في قوله تعالى : (وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ) [الأنعام : ١٣٨] ، ومثل تسييب السائبة وتبحير البحيرة ، والشامل لمخالفة ما سنّه الله في فطرة البشر من الأحوال القويمة مثل العدل وحسن المعاشرة ، فالبغي عليها بمثل الكبرياء والصلف وتحقير الناس المؤمنين وطردهم عن مجامع القوم بغي في الأرض بغير الحق.

و (الْأَرْضِ) : أرض مكة ، أو جميع الكرة الأرضية وهو الأليق بعموم الآية ، كما قال تعالى : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها) [البقرة : ٢٠٥] وقال : (وَلا

١٧٨

تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) [الأعراف : ٨٥] ، فكل فساد وظلم يقع في جزء من الأرض فهو بغي مظروف في الأرض.

و (بِغَيْرِ الْحَقِ) متعلق ب (يَبْغُونَ) وهو لكشف حالة البغي لإفادة مذمته إذ لا يكون البغي إلّا بغير الحق فإن مسمى البغي هو الاعتداء على الحق ، وأما الاعتداء على المبطل لأجل باطله فلا يسمى بغيا ويسمّى اعتداء قال تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [البقرة : ١٩٤] ، ويقال : استعدى فلان الحاكم على خصمه ، أي طلب منه الحكم عليه.

وجملة (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) بيان جملة (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ) إن أريد ب (السَّبِيلُ) في قوله : (ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) [الشورى : ٤١] سبيل العقاب في الآخرة ، أو بدل اشتمال منها إن أريد ب (السَّبِيلُ) هنالك ما يشمل الملام في الدنيا ، أي السبيل الذي عليهم هو أن لهم عذابا أليما جزاء ظلمهم وبغيهم.

وحكم هذه الآية يشمل ظلم المشركين للمسلمين ويشمل ظلم المسلمين بعضهم بعضا ليتناسب مضمونها مع جميع ما سبق.

وجيء باسم الإشارة للتنبيه على أنهم أحرياء بما يذكر بعد اسم الإشارة لأجل ما ذكر قبله مع تمييزهم أكمل تمييز بهذا الوعيد.

(وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣))

عطف على جملة (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) [الشورى: ٤١] ، وموقع هذه الجملة موقع الاعتراض بين جملة (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) [الشورى : ٤٢] وجملة (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) [الشورى : ٤٤].

وهذ الجملة تفيد بيان مزية المؤمنين الذي تحملوا الأذى من المشركين وصبروا عليه ولم يؤاخذوا به من آمن ممن آذوهم مثل أخت عمر بن الخطاب قبل إسلامه ، ومثل صهره سعيد بن زيد فقد قال «لقد رأيتني وأن عمر لموثقي على الإسلام قبل أن يسلم عمر» ، فكان في صبر سعيد خير دخل به عمر في الإسلام ، ومزية المؤمنين الذين يصبرون على ظلم إخوانهم ويغفرون لهم فلا ينتصفون منهم ولا يستعدون عليهم على نحو ما تقدم في مسألة التحلل عند قوله تعالى : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [الشورى : ٤٠].

واللام الداخلة على (من) لام ابتداء و (من) موصولة. وجملة (إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ

١٧٩

الْأُمُورِ) خبر عن (من) الموصولة ، ولام (لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) لام الابتداء التي تدخل على خبر (إِنَ) وهي من لامات الابتداء.

وقد اشتمل هذا الخبر على أربعة مؤكدات هي : اللام ، وإنّ ، ولام الابتداء ، والوصف بالمصدر في قوله : (عَزْمِ الْأُمُورِ) تنويها بمضمونه ، وزيد تنويها باسم الإشارة في قوله (إِنَّ ذلِكَ) فصار فيه خمسة اهتمامات.

والعزم : عقد النية على العمل والثبات على ذلك والوصف بالعزم مشعر بمدح الموصوف لأن شأن الفضائل أن يكون عملها عسيرا على النفوس لأنها تعاكس الشهوات ، ومن ثمّ وصف أفضل الرسل بأولي العزم.

و (الْأُمُورِ) : جمع أمر. والمراد به هنا : الخلال والصفات وإضافة (عَزْمِ) إلى (الْأُمُورِ) من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أي من الأمور العزم.

ووصف (الْأُمُورِ) ب (العزم) من الوصف بالمصدر للمبالغة في تحقق المعنى فيها ، وهو مصدر بمعنى اسم الفاعل ، أي الأمور العامة العازم أصحابها مجازا عقليا.

والإشارة ب (ذلِكَ) إلى الصبر والغفران المأخوذين من (صَبَرَ وَغَفَرَ) والمتحملين لضمير (من) الموصولة فيكون صوغ المصدر مناسبا لما معه من ضمير ، والتقدير : إنّ صبره وغفره لمن عزم الأمور.

وهذا ترغيب في العفو والصبر على الأذى وذلك بين الأمة الإسلامية ظاهر ، وأما مع الكافرين فتعتريه أحوال تختلف بها أحكام الغفران ، وملاكها أن تترجّح المصلحة في العفو أو في المؤاخذة.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤))

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ).

بعد أن حكى أصنافا من كفر المشركين ، وعنادهم وتكذيبهم ، ثم ذكّرهم بالآيات الدالة على انفراد الله تعالى بالإلهية وما في مطاويها من النعم وحذّرهم من الغرور بمتاع الدنيا الزائل أعقبه بقوله : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) وهو معطوف على قوله : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) [الشورى : ٤٢].

١٨٠