تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

لهم الشرك ، فسئلوا عمن شرع لهم دين الشرك : أهم شركاء آخرون اعتقدوهم شركاء لله في الإلهية وفي شرع الأديان كما شرع الله للناس الأديان؟ وهذا تهكّم بهم لأن هذا النوع من الشركاء لم يدّعه أهل الشرك من العرب. وهذا المعنى هو الذي يساعد تنكير (شُرَكاءُ) ووصفه بجملة (شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ). ويجوز أن يكون المسئول عن الذي شرع لهم هو الأصنام التي يعبدونها ، وهو الذي درج عليه المفسرون ، فيكون (لَهُمْ) في موضع الحال من (شُرَكاءُ).

والمقصود : فضح فظاعة شركهم بعروة عن الانتساب إلى الله ، أي إن لم يكن مشروعا من الإله الحقّ فهو مشروع من الآلهة الباطلة وهي الشركاء. وظاهر أن تلك الآلهة لا تصلح لتشريع دين لأنها لا تعقل ولا تتكلم ، فتعين أن دين الشرك دين لا مستند له. وقريب من هذا قوله تعالى : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) [الأنعام : ١٣٧].

وقيل المراد بالشركاء : أئمة دين الشرك أطلق عليهم اسم الشركاء مجازا بعلاقة السببية.

وضميرا (لَهُمْ) عائدان إلى (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) [الشورى : ١٨] أو إلى (الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) [الشورى : ١٦]. والتعريف في (الدِّينِ) للجنس ، أي شرعوا لهم من جنس الدّين ما ، أي دينا لم يأذن به الله ، أي لم يأذن بشرعه ، أي لم يرسل به رسولا منه ولا أوحى به بواسطة ملائكته.

(وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) ،

هو كقوله فيما تقدم (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) [الشورى : ١٤].

وكلمة الفصل هي : ما قدّره الله وأراده من إمهالهم. والفصل : الفاصل ، أي الذي لا تردد فيه.

(وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

عطف على جملة (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) والمقصود تحقيق إمهالهم إلى أجل مسمى لا يفلتهم من المؤاخذة بما ظلموا. والمراد بالظالمين المشركون (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣].

١٤١

والعذاب الأليم : عذاب الآخرة لجميعهم ، وعذاب الدّنيا بالسيف والذلّ للذين أخّروا إلى إبّان حلوله مثل قتلهم يوم بدر.

وتوكيد الخبر بحرف التوكيد لأن هذا الخبر موجه إليهم لأنهم يسمعون هذا الكلام ويعلمون أنهم المقصودون به.

(تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢))

جملة (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا) بيان لجملة (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [الشورى : ٢١] ، بيّن حال هذا العذاب ببيان حال أصحابه حين توقّع حلوله ، وكفى بذلك منبئا عن هوله.

والخطاب ب (تَرَى) لغير معيّن فيعم كل من تمكن منه الرؤية يومئذ كقوله : (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ* وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِ) [الشورى : ٤٤ ، ٤٥]. والمقصود استحضار صورة حال الظالمين يوم القيامة في ذهن المخاطب.

والإشفاق : توقع الشيء المضرّ وهو ضد التمنّي.

و (ما كسبوا) هو أعمالهم السيئة. والمراد : جزاؤها بقرينة المقام. وجملة (وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) في موضع الحال ، أي مشفقين إشفاقا يقارب اليأس وهو أشد الإشفاق حين يعلمون أن المشفق منه لا ينجي منه حذر ، لأن الإشفاق إذا حصل قبل اقتراب المشفق منه قد يحاول المشفق وسائل التخلص منه ، فأما إذا وقع العذاب فقد حال دون التخلص حائله. والمعنى : مشفقين من عقاب أعمالهم في حال نزول العقاب بهم. وليس المعنى : أنهم مشفقون في الدّنيا من أعمالهم السيئة لأنهم لا يدينون بذلك ، فما بني على ذلك الاحتمال من التفسير ليس بيّنا.

والباء في قوله (واقِعٌ بِهِمْ) للاستعلاء ، كقول غاوي السّلمي :

أربّ يبول الثعلبان برأسه

وهذا الاستعمال قريب من معنى الإلصاق المجازي. وضمير (وَهُوَ واقِعٌ) عائد

١٤٢

على (مِمَّا كَسَبُوا) باعتبار تقدير مضاف ، أي جزاء ما كسبوا ، أي في حال أن الجزاء واقع عليهم.

وجملة (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) حال من الظّالمين ، والواو واو الحال ، أي ترى الظالمين في إشفاق في حال أن الذين آمنوا يطمئنون في روضات الجنات ، وفي هذه الحال دلالة على أن الذين آمنوا قد استقرّوا في الروضات من قبل عرض الظالمين على الحساب وإشفاقهم من تبعاته. وهذا من تضاد شأني الفريقين في الآخرة على عكسه بما كانوا عليه في الدّنيا المتقدم في قوله : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها) [الشورى : ١٨] ، أي فاليوم انقلب إشفاق المؤمنين اطمئنانا واطمئنان المشركين إشفاقا ، وشتّان بين الاطمئنانين والإشفاقين ، وبهذه المضادة في الحالتين وأسبابهما صحّ اعتبار كينونة الذين آمنوا في الجنة حالا من (الظَّالِمِينَ).

والروضات : جمع روضة ، وهي اسم لمجموع ماء وشجر حافّ به وخضرة حوله.

وجملة (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) خبر ثان عن (الَّذِينَ آمَنُوا) ، و (عِنْدَ) ظرف متعلق بالكون الذي تعلق به الجار والمجرور في (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ).

والعندية تشريف لمعنى الاختصاص الذي أفادته اللام في قوله : (لَهُمْ) وعناية بما يعطونه من رغبة. والمعنى : ما يشاءونه حق لهم محفوظ عند ربهم. ولا ينبغي جعل (عِنْدَ) متعلقا بفعل (يَشاؤُنَ) لأن (عِنْدَ) حينئذ تكون ظرفا لمشيئتهم ، أي مشيئة منهم متوجهة إلى ربّهم ، فتؤول المشيئة إلى معنى الطلب أن يعطيهم ما يطلبون فيفوت قصد التشريف والعناية.

ولك أن تجعل عند ربّهم خبرا ثالثا عن الذين آمنوا ، أي هم عند ربّهم ، أي في ضيافته وقراه ، كما قال تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٥٤ ، ٥٥] ، ويكون ترتيب الأخبار الثلاثة جاريا على نمط الارتقاء من الحسن إلى الأحسن بأن : أخبر عنهم بأنهم نزلوا في أحسن منزل ، ثم أحضر لهم ما يشتهون ، ثم ارتقي إلى ما هو أعظم وهو كونهم عند ربهم على حد قوله تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة : ٧٢]. ومن لطائف هذا الوجه أنه جاء على الترتيب المعهود في الحصول في الخارج فإن الضيف أو الوافد ينزل أول قدومه في منزل إكرام ثم يحضر إليه القرى ثم يخالطه رب المنزل ويقترب منه.

١٤٣

وجملة (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) تذييل. والإشارة إلى مضمون قوله : (فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) بتأويل : ذلك المذكور. وجيء باسم إشارة البعيد استعارة لكون المشار إليه بعيد المكانة بعد ارتفاع مجازي وهو الشرف.

و (الْفَضْلُ) يجوز أن يكون مصدرا بمعنى الشرف والتفوق على الغير فيكون في معنى : فضلهم ، ويجوز أن يكون اسما لما يتفضل به من عطاء فيكون في معنى : ذلك فضلنا عليهم ، وفي هذا الأخير دلالة على أن ثواب الأعمال فضل من الله لأن طاعة العباد واجبة عليهم فإذا أدّوها فقد فعلوا ما لا يسعهم إلا فعله فلو لم يثابوا على ذلك لم يكن عدم إثابتهم ظلما.

وضمير الفصل يفيد قصرا ادعائيا للمبالغة في أعظمية الفضل ، و (الْفَضْلُ) يصلح لأن يعتبر كالمضاف إلى المفعول ، أي فضل الله عليهم ، وأن يعتبر كالمضاف إلى الفاعل فضلهم ، أي شرفهم وبركتهم فيؤول معنى القصر إلى أن الفضل الذي حصل للذين آمنوا وعملوا الصالحات أكبر فضل.

(ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣))

(ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ).

اسم الإشارة مؤكد لنظيره الذي قبله ، أي ذلك المذكور الذي هو فضل يحصل لهم في الجنّة هو أيضا بشرى لهم من الحياة الدنيا.

والعائد من الصلة إلى الموصول محذوف تقديره : الذي يبشر الله به عباده. وحذفه هنا لتنزيله منزلة الضمير المنصوب باعتبار حذف الجار على طريقة حذفه في نحو قوله : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) [الأعراف : ١٥٥] بتقدير : من قومه ، فلما عومل معاملة المنصوب حذف كما يحذف الضمير المنصوب.

وقرأ نافع وعاصم وابن عامر ويعقوب وخلف (يُبَشِّرُ) بضم التحتية وفتح الموحدة وتشديد الشين المكسورة ، وهو من بشّره ، إذا أخبره بحادث يسره. وقرأه ابن كثير وأبو عمر وحمزة والكسائي (يُبَشِّرُ) بفتح التحتية وسكون الموحدة وضم الشين مخففة ، يقال : بشرت الرجل بتخفيف الشين أبشره من باب نصر إذا غبطه بحادث يسرّه.

١٤٤

وجمع العباد المضاف إلى اسم الجلالة أو ضميره غلب إطلاقه في القرآن في معرض التقريب وترفيع الشّأن ، ولذلك يكون موقع (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) هنا موقع عطف البيان على نحو قوله تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) [يونس : ٦٢ ، ٦٣] إذ وقع (الَّذِينَ آمَنُوا) موقع عطف البيان من (أَوْلِياءَ اللهِ).

(قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى).

استئناف ابتدائي بمناسبة ذكر ما أعد للمشركين من عذاب وما أعد للمؤمنين من خير ، وضمير جماعة المخاطبين مراد به المشركون لا محالة وليس في الكلام السابق ما يتوهم منه أن يكون (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ) جوابا عنه ، فتعين أن جملة (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) كلام مستأنف استئنافا ابتدائيا.

ويظهر مما رواه الواحدي في «أسباب النزول» عن قتادة : أن المشركين اجتمعوا في مجمع لهم فقال بعضهم لبعض : أترون محمدا يسأل على ما يتعاطاه أجرا. فنزلت هذه الآية ، يعنون : إن كان ذلك جمعنا له مالا كما قالوه له غير مرة ، أنها لا اتصال لها بما قبلها وأنها لما عرض سبب نزولها نزلت في أثناء نزول الآيات التي قبلها والتي بعدها فتكون جملة ابتدائية. وكان موقعها هنا لمناسبة ما سبق من ذكر حجاج المشركين وعنادهم فإن مناسبتها لما معها من الآيات موجودة إذ هي من جملة ما واجه به القرآن محاجّة المشركين ، ونفى به أوهامهم ، واستفتح بصائرهم إلى النظر في علامات صدق الرسول ؛ فهي جملة ابتدائية وقعت معترضة بين جملة (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وجملة (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً).

وابتدئت ب (قُلْ) إما لأنها جواب عن كلام صدر منهم ، وإمّا لأنها مما يهتم بإبلاغه إليهم كما أن نظائرها افتتحت بمثل ذلك مثل قوله تعالى : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) [سبأ : ٤٧] وقوله : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) [ص : ٨٦] وقوله : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً)(١) [الأنعام : ٩٠].

__________________

(١) في المطبوعة (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) وهذا خلط بين آية الأنعام وآية يونس [٧٢] وآية الأنعام ابتدئت بقل ـ وهي موضع الشاهد ـ وآية يونس ابتدئت بما النافية ، لذا حذفنا من المطبوعة من عند إِنْ أَجْرِيَ لعدم الحاجة إلى ذلك.

١٤٥

وضمير (عَلَيْهِ) عائد إلى القرآن المفهوم من المقام.

والأجر : الجزاء الذي يعطاه أحد على عمل يعمله ، وتقدم عند قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) في سورة براءة [٢٢].

والمودّة : المحبة والمعاملة الحسنة المشبهة معاملة المتحابين ، وتقدمت عند قوله (مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) في سورة العنكبوت [٢٥]. والكلام على تقدير مضاف أي معاملة المودة ، أي المجاملة بقرينة أن المحبة لا تسأل لأنها انبعاث وانفعال نفساني.

و (فِي) للظرفية المجازية لأنه مجرورها وهو (الْقُرْبى) لا يصلح لأن يكون مظروفا فيه.

ومعنى الظرفية المجازية هنا : التعليل ، وهو معنى كثير العروض لحرف (فِي) كقوله : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ) [الحج : ٧٨].

و (الْقُرْبى) : اسم مصدر كالرجعى والبشرى ، وهي قرابة النسب ، قال تعالى : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) [الإسراء : ٢٦] ، وقال زهير :

وظلم ذوي القربى أشدّ مضافة ... البيت

وتقدم عند قوله تعالى : (وَلِذِي الْقُرْبى) في سورة الأنفال [٤١].

ومعنى الآية على ما يقتضيه نظمها : لا أسألكم على القرآن جزاء إلا أن تودّوني ، أي أن تعاملوني معاملة الودّ ، أي غير معاملة العداوة ، لأجل القرابة التي بيننا في النسب القرشي.

وفي «صحيح البخاري» و «جامع الترمذي» سئل ابن عباس عن هذه الآية بحضرة سعيد بن جبير فابتدر سعيد فقال : قربى آل محمد ، فقال ابن عباس : عجلت لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة ، فقال : إلّا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة. وذكر القرطبي عن الشعبي أنه قال : أكثر الناس علينا في هذه الآية فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عنها فكتب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أوسط الناس في قريش فليس بطن من بطونهم إلا وقد ولده فقال الله له : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) إلّا أن تودوني في قرابتي منكم ، أي تراعوا ما بيني وبينكم فتصدّقوني ، فالقربى هاهنا قرابة الرحم كأنه قال : اتبعوني للقرابة إن لم تتبعوني للنبوءة. انتهى كلام القرطبي. وما فسر به بعض المفسرين أن

١٤٦

المعنى : إلا أن تودّوا أقاربي تلفيق معنى عن فهم غير منظور فيه إلى الأسلوب العربي ، ولا تصح فيه رواية عمن يعتد بفهمه.

أمّا كون محبة آل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأجل محبة ما له اتصال به خلقا من أخلاق المسلمين فحاصل من أدلة أخرى ، وتحديد حدودها مفصّل في «الشفاء» لعياض. والاستثناء منقطع لأن المودّة لأجل القرابة ليست من الجزاء على تبليغ الدعوة بالقرآن ولكنها مما تقتضيه المروءة فليس استثناؤها من عموم الأجر المنفي استثناء حقيقيا. والمعنى : لا أسألكم على التبليغ أجرا وأسألكم المودّة لأجل القربى. وإنما سألهم المودّة لأن معاملتهم إياه معاملة المودّة معينة على نشر دعوة الإسلام ، إذ تلين بتلك المعاملة شكيمتهم فيتركون مقاومته فيتمكن من تبليغ دعوة الإسلام على وجه أكمل. فصارت هذه المودة غرضا دينيا لا نفع فيه لنفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفي بعض الأخبار الموضوعة في أسباب النزول أن سبب نزول هذه الآية : أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا قدم المدينة كانت تنوبه نوائب لا يسعها ما في يديه. فقالت الأنصار : إن هذا الرجل هداكم الله به فنجمع له مالا ، ففعلوا ثم أتوه به ، فنزلت. وفي رواية : أن الأنصار قالوا له يوما : أنفسنا وأموالنا لك ، فنزلت. وقيل نزل (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ) إلى قوله : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) [الشورى : ٢٣ ، ٢٤]. ولأجل ذلك قال فريق : إن هذه الآيات مدنية كما تقدم في أول السورة وهي أخبار واهية.

وتضمنت الآية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منزّه عن أن يتطلب من الناس جزاء على تبليغ الهدى إليهم فإن النبوءة أعظم مرتبة في تعليم الحقّ وهي فوق مرتبة الحكمة ، والحكماء تنزّهوا عن أخذ الأجر على تعليم الحكمة ، فإن الحكمة خير كثير والخير الكثير لا تقابله أعراض الدنيا ، ولذلك أمر الله رسله بالتنزّه عن طلب جزاء على التبليغ ، فقال حكاية عن نوح (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ١٠٩]. وكذلك حكى عن هود وصالح ولوط وشعيب.

(وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ).

تذييل لجملة (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) والمعنى: وكلما عمل مؤمن حسنة زدناه حسنا من ذلك الفضل الكبير. وهذا في معنى قوله تعالى : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٦١] والواو اعتراضية.

١٤٧

والاقتراف : افتعال من القرف ، وهو الاكتساب ، فالاقتراف مبالغة في الكسب نظير الاكتساب ، وليس خاصا باكتساب السوء وإن كان قد غلب فيه ، وأصله من قرف الشجرة ، إذا قشر قرفها ، بكسر القاف ، وهو لحاؤها ، أي قشر عودها ، وتقدم عند قوله تعالى : (وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) في سورة الأنعام [١١٣] ، وعند قوله : (وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها) في سورة براءة [٢٤].

والحسنة : الفعلة ذات الحسن صفة مشبهة غلبت في استعمال القرآن والسنة على الطاعة والقربة فصارت بمنزلة الجوامد علما بالغلبة وهي مشتقة من الحسن وهو جمال الصورة. والحسن : ضد القبح وهو صفة في الذات تقتضي قبول منظرها في نفوس الرّائين وميلهم إلى مداومة مشاهدتها. وتوصف المعنويات بالحسن فيراد به كون الفعل أو الصفة محمودة عند العقول مرغوبا في الاتصاف بها.

ولما كانت الحسنة مأخوذة من الحسن جعلت الزيادة فيها من الزيادة في الحسن مراعاة لأصل الاشتقاق فكان ذكر الحسن من الجناس المعبر عنه بجناس الاشتقاق نحو قوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) [الروم : ٤٣] ، وصار المعنى نزد له فيها مماثلا لها. ويتعين أن الزيادة فيها زيادة من غير عمله ولا تكون الزيادة بعمل يعمله غيره لأنها تصير عملا يستحق الزيادة أيضا فلا تنتهي الزيادة فتعيّن أن المراد الزيادة في جزاء أمثالها عند الله. وهذا معنى قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠] وقوله (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٦١] ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من هم بحسنة فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف».

وجملة (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) تذييل وتعليل للزيادة لقصد تحقيقها بأن الله كثيرة مغفرته لمن يستحقها ، كثير شكره للمتقربين إليه. والمقصود بالتعليل هو وصف الشكور ، وأما وصف الغفور فقد ذكر للإشارة إلى ترغيب المقترفين السيئات في الاستغفار والتوبة ليغفر لهم فلا يقنطوا من رحمة الله.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤))

إضراب انتقالي عطفا على قوله : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) [الشورى : ٢١] وهو الكلام المضرب عنه والمنتقل منه ، والمراد الانتقال إلى توبيخ

١٤٨

آخر ، فالهمزة المقدرة بعد (أَمْ) للاستفهام التوبيخي ، فإنهم قالوا ذلك فاستحقوا التوبيخ عليه. والمعنى : أم قالوا افترى ويقولونه.

وجيء بفعل (يَقُولُونَ) بصيغة المضارع ليتوجه التوبيخ لاستمرارهم على هذا القول الشنيع مع ظهور دلائل بطلانه. فإذا كان قولهم هذا شنعا من القول فاستمرارهم عليه أشنع.

وفرع على توبيخهم على ذلك قوله : (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) وهو تفريع فيه خفاء ودقّة لأن المتبادر من التفريع أنّ ما بعد الفاء إبطال لما نسبوه إليه من الافتراء على الله وتوكيد للتوبيخ فكيف يستفاد هذا الإبطال من الشرط وجوابه المفرعين على التوبيخ.

وللمفسرين في بيان هذا التفريع وترتبه على ما قبله أفهام عديدة لا يخلو معظمها عن تكلف وضعف اقتناع. والوجه في بيانه : أن هذا الشرط وجوابه المفرّعين في ظاهر اللفظ على التوبيخ والإبطال هما دليل على المقصود بالتفريع المناسب لتوبيخهم وإبطال قولهم ، وتقدير المفرع هكذا : فكيف يكون الافتراء منك على الله والله لا يقر أحدا أن يكذب عليه فلو شاء لختم على قلبك ، أي سلبك العقل الذي يفكر في الكذب فتفحم عن الكلام فلا تستطيع أن تتقول عليه ، أي وليس ثمة حائل يحول دون مشيئة الله ذلك لو افتريت عليه ، فيكون الشرط كناية عن انتفاء الافتراء لأن الله لا يقرّ من يكذب عليه كلاما ، فحصل بهذا النظم إيجاز بديع ، وتكون الآية قريبا من قوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) [الحاقة : ٤٤ ـ ٤٦].

ولابن عطية كلمات قليلة يؤيد مغزاها هذا التقرير مستندة لقول قتادة محمولا على ظاهر اللفظ من كون ما بعد الفاء هو المفرع ، ويكون الكلام كناية عن الإعراض عن قولهم : (افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) ، أي أن الله يخاطب رسوله بهذا تعريضا بالمشركين. والمعنى : أن افتراءه على الله لا يهمكم حتى تناصبوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم العداء ، فالله أولى منكم بأن يغار على انتهاك حرمة رسالته وبأن يذب عن جلاله فلا تجعلوا هذه الدعوى همكم فإن الله لو شاء لختم على قلبك فسلبك القدرة على أن تنسب إليه كلاما. وهذان الوجهان هما المناسبان لموقع الآية ، ولفاء التفريع ، ولما في الشرط من الاستقبال ، ولوقوع فعل الشرط مضارعا ، فالوقف على قوله : (عَلى قَلْبِكَ) وهو انتهاء كلام.

وجملة (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) معطوفة على التفريع ، وهي كلام مستأنف ، مراد منه أن الله يمحو باطل المشركين وبهتانهم ويحقق ما جاء به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٤٩

وعلى مراعاة هذا المعنى جرى جمع من أهل التفسير مثل الكسائي وابن الأنباري والزجاج والزمخشري ولم يجعلوا (وَيَمْحُ) عطفا على فعل الجزاء لأن المتبادر أن هذا وعد من الله بإظهار الإسلام ، ووعيد المشركين بأن دينهم زائل. وهذا هو المتبادر من رفع (وَيُحِقُ) باتفاق القراء على رفعه ، والمراد بالمحو على هذا : الإزالة. والمراد بالباطل : الباطل المعهود وهو دين الشرك. وبالحق : الحق المعهود ، وهو الإسلام.

أو يكون المعنى أن من شأن الله تعالى أن يزيل الباطل ويفضحه بإيجاد أسباب زواله وأن يوضح الحقّ بإيجاد أسباب ظهوره ، حتى يكون ظهوره فاضحا لبطلان الباطل فلو كان القرآن مفترى على الله لفضح الله بطلانه وأظهر الحق ، فالمراد بالباطل : جنس الباطل ، وبالحق جنس الحق ، وتكون الجملة كالتذييل للتفريع. والمعنى الأول أنسب بالاستئناف ، ولإفادته الوعيد بإزالة ما هم عليه ونصر المسلمين عليهم.

وعلى كلا المعنيين فقوله : (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) كلام مستأنف ليس معطوفا على جزاء الشرط إذ ليس المعنى على : إن يشإ الله يمح الباطل ، بل هو تحقيق لمحوه للباطل كقوله تعالى : (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) [الإسراء : ٨١] ، كما دل عليه رفع (وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) ، ففعل (يَمْحُ) مرفوع وحقه ظهور الواو في آخره ، ولكنها حذفت تخفيفا في النطق ، وتبع حذفها في النطق حذفها في الرسم اعتبارا بحال النطق كما حذف واو (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) [العلق : ١٨] وواو (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) [الإسراء : ١١]. وذكر في «الكشاف» أن الواو ثبتت في بعض المصاحف ولم يعيّنه ولا ذكره غيره فيما رأيت.

وإظهار اسم الجلالة في قوله : (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) دون أن يقول : ويمح الباطل ، لتقوية تمكن المسند إليه من الذهن ولإظهار عناية الله بمحو الباطل. وإنما عدل على الجملة الاسمية في صوغ (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) فلم يقل : والله يمحو الباطل ، لأنه أريد أن ما في إفادة المضارع من التجدد والتكرير إيماء إلى أن هذا شأن الله وعادته لا تتخلف ولم يقصد تحقيق ذلك وتثبيته لأن إفادة التكرير تقتضي ذلك بطريق الكناية فحصل الغرضان.

والباء في (بِكَلِماتِهِ) للسببية ، والكلمات هي : كلمات القرآن والوحي كقوله (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) [الفتح : ١٥] ، أو المراد : كلمات التكوين المتعلقة بالإيجاد على وفق علمه كقوله : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) [الكهف : ٢٧]. وإنما جاء هذا الرد عليهم بأسلوب الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن ذلك أقوى في الاعتناء بتلقينه جواب تكذيبهم لأن المقام مقام تفظيع لبهتانهم ، وهذا وجه التخالف بين أسلوب هذه الآية وأسلوب قوله تعالى:

١٥٠

(قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) [يونس : ١٦] لأن ذلك لم يكن مسوقا لإبطال كلام صدر منهم.

وجملة (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) تعليل لمجموع جملتي (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ) إلى قوله : (بِكَلِماتِهِ) ، أي لأنه لا يخفى عليه افتراء مفتر ولا صدق محقّ. و (ذات الصدور) : النوايا والمقاصد التي يضمرها الناس في عقولهم. والصدور : العقول ، أطلق عليها الصدور على الاستعمال العربي ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) في سورة الأنفال [٤٣].

[٢٥ ، ٢٦] (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦))

لما جرى وعيد الذين يحاجّون في الله لتأييد باطلهم من قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) [الشورى : ١٦]. ثم أتبع بوصف سوء حالهم يوم الجزاء بقوله : (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا) [الشورى : ٢٢] ، وقوبل بوصف نعيم الذين آمنوا بقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) [الشورى : ٢٢] ، وكان ذلك مظنة أن يكسر نفوس أهل العناد والضلالة ، أعقب بإعلامهم أن الله من شأنه قبول توبة من يتوب من عباده ، وعفوه بذلك عما سلف من سيئاتهم.

وهذا الإخبار تعريض بالتحريض على مبادرة التوبة ولذلك جيء فيه بالفعل المضارع الصالح للاستقبال. وهو أيضا بشارة للمؤمنين بأنه قبل توبتهم مما كانوا فيه من الشرك والجاهلية فإن الذي من شأنه أن يقبل التوبة في المستقبل يكون قد قبل توبة التائبين من قبل ، بدلالة لحن الخطاب أو فحواه ، وأن من شأنه الاستجابة للذين آمنوا وعملوا الصالحات من عباده. وكل ذلك جري على عادة القرآن في تعقيب الترهيب بالترغيب وعكسه. وهذا كله يتضمن وعدا للمؤمنين بقبول إيمانهم وللعصاة بقبول توبتهم.

فجملة : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) معطوفة على جملة (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [الشورى : ٢١] وما اتصل بها ممّا تقدم ذكره وخاصة جملة : (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) [الشورى : ٢٤].

١٥١

وابتناء الإخبار بهذه الجملة على أسلوب الجملة الاسمية لإفادتها ثبات حكمها ودوامه. ومجيء المسند اسم موصول لإفادة اتصاف الله تعالى بمضمون صلته وأنها شأن من شئون الله تعالى عرف به ثابت له لا يتخلف لأنه المناسب لحكمته وعظمة شأنه وغناه عن خلقه. وإيثار جملة الصلة بصيغة المضارع لإفادة تجدد مضمونه وتكرره ليعلموا أن ذلك وعد لا يتخلف ولا يختلف.

وفعل (قبل) يتعدى ب (من) الابتدائية تارة كما في قوله : (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ) [التوبة : ٥٤] وقوله : (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) [آل عمران : ٩١] ، فيفيد معنى الأخذ للشيء المقبول صادرا من المأخوذ منه ، ويعدّى ب (عَنْ) فيفيد معنى مجاوزة الشيء المقبول أو انفصاله عن معطيه وباذله ، وهو أشد مبالغة في معنى الفعل من تعديته بحرف (من) لأن فيه كناية عن احتباس الشيء المبذول عند المبذول إليه بحيث لا يردّ على باذله.

فحصلت في جملة (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) أربع مبالغات : بناء الجملة على الاسمية وعلى الموصولية وعلى المضارعية ، وعلى تعدية فعل الصلة ب (عَنْ) دون (من).

و (التَّوْبَةَ) : الإقلاع عن فعل المعصية امتثالا لطاعة الله ، وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ) في سورة البقرة [٣٧]. وقبول التوبة منّة من الله تعالى لأنه لو شاء لما رضي عن الذي اقترف الجريمة ولكنه جعلها مقبولة لحكمته وفضله.

وفي ذكر اسم العباد دون نحو : الناس أو التائبين أو غير ذلك إيماء إلى أن الله رفيق بعباده لمقام العبودية فإن الخالق والصانع يحب صلاح مصنوعه.

والعفو : عدم مؤاخذة الجاني بجنايته. والسيئات : الجرائم لأنها سيئة عند الشرع. والعفو عن السيئات يكون بسبب التوبة بأن يعفو عن السيئات التي اقترفها العاصي قبل توبته ، ويكون بدون ذلك مثل العفو عن السيئات عقب الحج المبرور ، ومثل العفو عن السيئات لأجل الشهادة في سبيل الله ، ومثل العفو عن السيئات لكثرة الحسنات بأن يمحى عن العاصي من سيئاته ما يقابل مقدارا من حسناته على وجه يعلمه الله تعالى ، ومثل العفو عن الصغائر باجتناب الكبائر.

١٥٢

والتعريف في (السَّيِّئاتِ) تعريف الجنس المراد به الاستغراق وهو عام مخصوص بغير الشرك قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [النساء : ٤٨] ولك أن تجعله عوضا عن المضاف إليه ، أي عن سيئات عباده فيعم جميع العباد عموما مخصوصا بالأدلة لهذا الحكم كما في الوجه الأول.

وجملة (وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) معترضة بين المتعاطفات أو في موضع الحال ، والمقصود : أنه لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده خيرها وشرها. وقرأ الجمهور ما يفعلون بياء الغيبة ، أي ما يفعل عباده. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بتاء الخطاب على طريقة الالتفات.

والاستجابة : مبالغة في الإجابة ، وخصت الاستجابة في الاستعمال بامتثال الدعوة أو الأمر. وظاهر النظم أن فاعل (يَسْتَجِيبُ) ضمير يعود إلى ما عاد إليه ضمير (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ) وأن (الَّذِينَ آمَنُوا) مفعول (يَسْتَجِيبُ) وأن الجملة معطوفة على جملة (يَقْبَلُ التَّوْبَةَ).

والغالب في الاستعمال أن يقال : استجاب له ، كقوله : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠] وقد يحذفون اللام فيعدّونه بنفسه ، كقول كعب بن سعد :

وداع دعا يا من يجيب إلى الندا

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

والمعنى : أن الله يستجيب لهم ما يرجونه منه من ثواب ، وما يدعونه.

ويجوز أن يكون (الَّذِينَ آمَنُوا) فعل (يَسْتَجِيبُ) أي يستجيبون لله فيطيعونه وتكون جملة (وَيَسْتَجِيبُ) عطفا على مجموع جملة (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ) ، أي ذلك شأنه وهذا شأن عباده المؤمنين.

ومعنى (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) على الوجهين أنه يعطيهم ما أمّلوا من دعائهم وعملهم وأعظم مما أملوا حين استجابوا له ولرسوله ، وأنه يعطيهم من الثواب أكثر مما عملوا من الصالحات إذ جعل لهم الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف كما في الحديث ، وأنه يعطيهم من خير الدنيا ما لم يسألوه إياه كل ذلك لأنه لطيف بهم ومدبر لمصالحهم.

ولما كانت الاستجابة والزيادة كرامة للمؤمنين ، أظهر اسم (الَّذِينَ آمَنُوا) وجيء به موصولا للدلالة على أن الإيمان هو وجه الاستجابة لهم والزيادة لهم.

وجملة (وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) اعتراض عائد إلى ما سبق من قوله : (تَرَى

١٥٣

الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) [الشورى : ٢٢] توكيدا للوعيد وتحذيرا من الدوام على الكفر بعد فتح باب التوبة لهم.

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧))

عطف على جملة (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) [الشورى : ٢٦] أو على المجموع من جملة (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا) [الشورى : ٢٦] ومن جملة (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ).

وموقع معناها موقع الاستدراك والاحتراس فإنها تشير إلى جواب عن سؤال مقدر في نفس السامع إذا سمع أن الله يستجيب للذين آمنوا وأنه يزيدهم من فضله أن يتساءل في نفسه : أن مما يسأل المؤمنون سعة الرّزق والبسطة فيه فقد كان المؤمنون أيام صدر الإسلام في حاجة وضيق رزق إذ منعهم المشركون أرزاقهم وقاطعوا معاملتهم ، فيجاب بأن الله لو بسط الرّزق للنّاس كلهم لكان بسطه مفسدا لهم لأن الذي يستغني يتطرقه نسيان الالتجاء إلى الله ، ويحمله على الاعتداء على الناس فكان من خير المؤمنين الآجل لهم أن لا يبسط لهم في الرّزق ، وكان ذلك منوطا بحكمة أرادها الله من تدبير هذا العالم تطّرد في الناس مؤمنهم وكافرهم قال تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق : ٦ ، ٧]. وقد كان في ذلك للمؤمن فائدة أخرى ، وهي أن لا يشغله غناه عن العمل الذي به يفوز في الآخرة فلا تشغله أمواله عنه ، وهذا الاعتبار هو الذي أشار إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال للأنصار لما تعرّضوا له بعد صلاة الصبح وقد جاءه مال من البحرين «فو الله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم».

وقد وردت هذه الآية موردا كليا لأن قوله (لِعِبادِهِ) يعم جميع العباد. ومن هذه الكلية تحصل فائدة المسئول عليه الجزئي الخاص بالمؤمنين مع إفادة الحكمة العامة من هذا النظام التكويني ، فكانت هذه الجملة بهذا الاعتبار بمنزلة التذييل لما فيها من العموم ، أي أن الله أسس نظام هذا العالم على قوانين عامة وليس من حكمته أن يخص أولياءه وحزبه بنظام تكويني دنيوي ولكنه خصهم بمعاني القرب والرضى والفوز في الحياة الأبدية. وربما خصّهم بما أراد تخصيصهم به مما يرجع إلى إقامة الحق.

والبغي : العدوان والظلم ، أي لبغى بعضهم على بعض لأن الغنى مظنة البطر والأشر

١٥٤

إذا صادف نفسا خبيثة ، قال بعض بني جرم من طيئ من شعراء الحماسة :

إذا أخصبتموا كنتم عدوّا

وإن أجدبتمو كنتم عيالا

ولبعض العرب أنشده في «الكشاف» :

وقد جعل الوسميّ ينبت بيننا

وبين بني رومان نبعا وشوحطا (١)

فأما الفقر فقلما كان سببا للبغي إلا بغيا مشوبا بمخافة كبغي الجائع بالافتكاك بالعنف فذلك لندرته لا يلتفت إليه ، على أن السياق لبيان حكمة كون الرزق بقدر لا لبيان حكمة في الفقر.

فالتلازم بين الشرط وجوابه في قوله : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا) حاصل بهذه السببية بقطع النظر عن كون هذا السبب قد يخلفه ضده أيضا ، على أن بين بسط الرزق وبين الفقر مراتب أخرى من الكفاف وضيق الرزق والخصاصة ، والفقر ، وهي متفاوتة فلا إشكال في التعليل. وعن خبّاب بن الأرتّ «فينا نزلت هذه الآية ، وذلك أنّا نظرنا إلى أموال بني النّضير وبني قريظة وبني قينقاع فتمنّيناها فنزلت» ، وهذا مما حمل قوما على ظن هذه الآية مدنية كما تقدم في أول السورة. وهذا إن صح عن خبّاب فهو تأويل منه لأن الآية مكية وخبّاب أنصاري فلعله سمع تمثيل بعضهم لبعض بهذه الآية ولم يكن سمعها من قبل. وروي أنها نزلت في أهل الصّفّة تمنوا سعة الرزق فنزلت ، وهذا خبر ضعيف.

ومعنى الآية : لو جعل الله جميع الناس في بسطة من الرزق لاختلّ نظام حياتهم ببغي بعضهم على بعض لأن بعضهم الأغنياء تحدثه نفسه بالبغي لتوفر أسباب العدوان كما علمت فيجد من المبغي عليه المقاومة وهكذا ، وذلك مفض إلى اختلال نظامهم. وبهذا تعلم أن بسط الرزق لبعض العباد كما هو مشاهد لا يفضي إلى مثل هذا الفساد لأن الغنى قد يصادف نفسا صالحة ونفسا لها وازع من الدين فلا يكون سببا للبغي ، فإن صادف نفسا خبيثة لا وازع لها فتلك حالة نادرة هي من جملة الأحوال السيئة في العالم ولها ما يقاومها في الشريعة وفصل القضاء وغيرة الجماعة فلا يفضي إلى فساد عام ولا إلى اختلال نظام.

وإطلاق فعل التنزيل على إعطاء الرزق في قوله تعالى : (وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ) استعارة

__________________

(١) ـ رومان براء مضمومة : اسم رجل.

١٥٥

لأنه عطاء من رفيع الشأن ، فشبه بالنازل من علوّ وتكرر مثل هذا الإطلاق في القرآن.

والقدر بفتحتين : المقدار والتعيين.

ومعنى (ما يَشاءُ) أن مشيئته تعالى جارية على وفق علمه وعلى ما ييسّره له من ترتيب الأسباب على حسب مختلف صالح مخلوقاته وتعارض بعضها ببعض ، وكل ذلك تصرفات وتقديرات لا يحيط بها إلا علمه تعالى. وكلها تدخل تحت قوله (إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) ، وهي جملة واقعة موقع التعليل للتي قبلها.

وافتتحت ب (إنّ) التي لم يرد منها تأكيد الخبر ولكنها لمجرد الاهتمام بالخبر والإيذان بالتعليل لأنّ (إنّ) في مثل هذا المقام تقوم مقام فاء التفريع وتفيد التعليل والربط ، فالجملة في تقدير المعطوفة بالفاء.

والجمع بين وصفي (خَبِيرٌ) و (بَصِيرٌ) لأن وصف (خَبِيرٌ) دال على العلم بمصالح العباد وأحوالهم قبل تقديرها وتقدير أسبابها ، أي العلم بما سيكون. ووصف (بَصِيرٌ) دالّ على العلم المتعلق بأحوالهم التي حصلت ، وفرق بين التعلقين للعلم الإلهي.

(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨))

عطف على جملة (وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) [الشورى : ٢٧] فإن الغيث سبب رزق عظيم وهو ما ينزله الله بقدر هو أعلم به ، وفيه تذكير بهذه النعمة العظيمة على الناس التي منها معظم رزقهم الحقيقي لهم ولأنعامهم. وخصها بالذكر دون غيرها من النعم الدنيوية لأنها نعمة لا يختلف الناس فيها لأنها أصل دوام الحياة بإيجاد الغذاء الصالح للناس والدواب ، وبهذا يظهر وقع قوله : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) [الشورى : ٢٩] عقب قوله هنا (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ).

واختيار المضارع في (يُنَزِّلُ) لإفادة تكرر التنزيل وتجديده. والتعبير بالماضي في قوله: (مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) للإشارة إلى حصول القنوط وتقرره بمضي زمان عليه.

والغيث : المطر الآتي بعد الجفاف ، سمي غيثا بالمصدر لأن به غيث الناس المضطرين ، وتقدم عنه قوله (فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ) في سورة يوسف [٤٩].

والقنوط : اليأس ، وتقدم عند قوله تعالى : (فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) في سورة الحجر

١٥٦

[٥٥]. والمراد : من بعد ما قنطوا من الغيث بانقطاع أمارات الغيث المعتادة وضيق الوقت عن الزرع.

وصيغة القصر في قوله : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ) تفيد قصر القلب لأن في السامعين مشركين يظنون نزول الغيث من تصرف الكواكب وفيهم المسلمون الغافلون ، نزلوا منزلة من يظن نزول الغيث منوطا بالأسباب المعتادة لنزول الغيث لأنهم كانوا في الجاهلية يعتقدون أن المطر من تصرف أنواء الكواكب.

وفي حديث زيد بن خالد الجهني قال : «خطبنا رسول الله على إثر سماء كانت من الليل فقال : أتدرون ما ذا قال ربكم؟ قال ، قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا ونوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب». فهذا القصر بالنسبة للمشركين قصر قلب أصلي وهو بالنسبة للمسلمين قصر قلب تنزيلي.

والنشر : ضد الطّيّ ، وتقدم عند قوله تعالى : (يَلْقاهُ مَنْشُوراً) في سورة الإسراء [١٣]. واستعير هنا للتوسيع والامتداد. والرحمة هنا : رحمته بالماء ، وقيل : بالشمس بعد المطر. وضمير (مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) عائد إلى عباده من قوله : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) [الشورى : ٢٥].

وقد قيل : إن الآية نزلت بسبب رفع القحط عن قريش بدعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهم بذلك بعد أن دام عليهم القحط سبع سنين أكلوا فيها الجيف والعظام وهو المشار إليه بقوله في سورة الدخان [١٥] (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ).

في «الصحيح» عن عبد الله بن مسعود «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دعا قريشا كذّبوه واستعصوا عليه فقال : اللهم أعنّي عليهم بسبع كسبع يوسف. فأتاه أبو سفيان فقال : يا محمد إن قومك قد هلكوا فادع الله أن يكشف عنهم فدعا. ثم قال : تعودون بعد». وقد كان هذا في المدينة ويؤيده ما روي أن هذه الآية نزلت في استسقاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سأله الأعرابي وهو في خطبة الجمعة. وفي رواية أن الذي كلمه هو كعب بن مرة وفي بعض الروايات في «الصحيح» أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : اللهم عليك بقريش اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وأبو جعفر (يُنَزِّلُ) بفتح النون وتشديد الزاي. وقرأه الباقون بسكون النون وتخفيف الزاي.

١٥٧

وذكر صفتي (الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) دون غيرهما لمناسبتهما للإغاثة لأن الوليّ يحسن إلى مواليه والحميد يعطي ما يحمد عليه. ووصف حميد فعيل بمعنى مفعول. وذكر المهدوي تفسير (يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) بطلوع الشمس بعد المطر.

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩))

لما كان إنزال الغيث جامعا بين كونه نعمة وكونه آية دالة على بديع صنع الله تعالى وعظيم قدرته المقتضية انفراده بالإلهية ، انتقل من ذكره إلى ذكر آيات دالة على انفراد الله تعالى بالإلهية وهي آية خلق العوالم العظيمة وما فيها مما هو مشاهد للناس دون قصد الامتنان. وهذا الانتقال استطراد واعتراض بين الأغراض التي سياق الآيات فيها.

والآيات : جمع آية ، وهي العلامة والدليل على شيء. والسياق دال على أن المراد آيات الإلهية. والسموات : العوالم العليا غير المشاهدة لنا والكواكب وما تجاوز الأرض من الجو. والأرض : الكرة التي عليها الحيوان والنبات. والبث : وضع الأشياء في أمكنة كثيرة.

والدابة : ما يدبّ على الأرض ، أي يمشي فيشمل الطير لأن الطير يمشي إذا نزل وهو مما أريد في قوله هنا : (فِيهِما) أي في الأرض وفي السماء ، أي بعض ما يسمى بالسماء وهو الجو وهو ما يلوح للناظر مثل قبة زرقاء على الأرض في النهار ، قال تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ) [النحل : ٧٩] فإطلاق الدابّة على الطير باعتبار أن الطير يدبّ على الأرض كثيرا لالتقاط الحب وغير ذلك. وأمّا الموجودات التي في السموات العلى من الملائكة والأرواح فلا يطلق عليها اسم دابّة. ويجوز أن تكون في بعض السماوات موجودات تدبّ فيها فإن الكواكب من السماوات. والعلماء يترددون في إثبات سكان في الكواكب ، وجوز بعض العلماء المتأخرين أن في كوكب المريخ سكانا ، وقال تعالى : (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) [النحل : ٨] ، على أنه قد يكون المراد من الظرفية في قوله : (فِيهِما) ظرفية المجموع لا الجميع ، أي ما بثّ في مجموع الأرض والسماء من دابّة ، فالدابّة إنما هي على الأرض ، ولما ذكرت الأرض والسماء مقترنتين وجاء ذكر الدواب جعلت الدواب مظروفة فيهما لأن الأرض محوطة بالسماوات ومتخيّلة منها كالمظروف في ظرفه ، والمظروف في ظرف مظروف في ظرف مظروفه كما قال تعالى :

١٥٨

(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ) [الرحمن : ١٩] ثم قال : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢] واللؤلؤ والمرجان يخرجان من أحد البحرين وهو البحر الملح لا من البحر العذب.

وجملة (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) ، معترضة في جملة الاعتراض لإدماج إمكان البعث في عرض الاستدلال على عظيم قدرة الله وعلى تفرده بالإلهية.

والمعنى : أن القادر على خلق السماوات والأرض وما فيهما عن عدم قادر على إعادة خلق بعض ما فيهما للبعث والجزاء لأن ذلك كله سواء في جواز تعلق القدرة به فكيف تعدّونه محالا. وضمير الجماعة في قوله : (جَمْعِهِمْ) عائد إلى ما بثّ فيهما من دابّة باعتبار أن الذي تتعلق الإرادة بجمعه في الحشر للجزاء هم العقلاء من الدوابّ أي الإنس. والمراد ب (جَمْعِهِمْ) حشرهم للجزاء ، قال تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) [التغابن: ٩].

وقد ورد في أحاديث في «الصحيح» أن بعض الدواب تحشر للانتصاف ممن ظلمها. و (إِذا) ظرف للمستقبل وهو هنا مجرد عن تضمن الشرطية ، فالتقدير : حين يشاء في مستقبل الزمان ، وهو متعلق ب (جَمْعِهِمْ). وهذا الظرف إدماج ثان لإبطال استدلالهم بتأخر يوم البعث على أنه لا يقع كما حكي عنهم في قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) [الإسراء : ٥١] و (يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) [سبأ : ٢٩ ، ٣٠].

(وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠))

لما تضمنت المنة بإنزال الغيث بعد القنوط أن القوم أصابهم جهد من القحط بلغ بهم مبلغ القنوط من الغيث أعقبت ذلك بتنبيههم إلى أن ما أصابهم من ذلك البؤس هو جزاء على ما اقترفوه من الشرك تنبيها يبعثهم ويبعث الأمة على أن يلاحظوا أحوالهم نحو امتثال رضى خالقهم ومحاسبة أنفسهم حتى لا يحسبوا أن الجزاء الذي أوعدوا به مقصور على الجزاء في الآخرة بل يعلموا أنه قد يصيبهم الله بما هو جزاء لهم في الدنيا ، ولما كان ما أصاب قريشا من القحط والجوع استجابة لدعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم كما تقدم ، وكانت تلك الدعوة ناشئة على ما لاقوه به من الأذى ، لا جرم كان ما أصابهم مسبّبا على ما كسبت أيديهم.

فالجملة عطف على جملة (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) [الشورى : ٢٨] ،

١٥٩

وأطلق كسب الأيدي على الأفعال والأقوال المنكرة على وجه المجاز بعلاقة الإطلاق ، أي بما صدر منكم من أقوال الشرك والأذى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفعل المنكرات الناشئة عن دين الشرك.

والخطاب للمشركين ابتداء لأنهم المقصود من سياق الآيات كلها وهم أولى بهذه الموعظة لأنهم كانوا غير مؤمنين بوعيد الآخرة ويشمل المؤمنين بطريق القياس وبما دل على شمول هذا الحكم لهم من الأخبار الصحيحة ومن آيات أخرى.

والباء للسببية ، أي سبب ما أصابكم من مصيبة هو أعمالكم. وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) على أن (ما) موصولة وهي مبتدأ. و (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) ظرف مستقر هو خبر المبتدأ. وكذلك كتبت في مصحف المدينة ومصحف الشام وقرأ الباقون (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) بفاء قبل الباء وكذلك كتبت في مصحف البصرة ومصحف الكوفة ، على أن (ما) متضمنة معنى الشرط فاقترن خبرها بالفاء لذلك ، أو هي شرطية والفاء رابطة لجواب الشرط ويكون وقوع فعل الشرط ماضيا للدلالة على التحقق.

و (مِنْ) بيانية على القراءتين لما في الموصول واسم الشرط من الإبهام.

والمصيبة : اسم للحادثة التي تصيب بضرّ ومكروه ، وقد لزمتها هاء التأنيث للدلالة على الحادثة فلذلك تنوسيت منها الوصفية وصارت اسما للحادثة المكروهة.

فقراءة الجمهور تعيّن معنى عموم التسبب لأفعالهم فيما يصيبهم من المصائب لأن (ما) في هذه القراءة إما شرطية والشرط دال على التسبب وإمّا موصولة مشبّهة بالشرطية ، فالموصولية تفيد الإيماء إلى علة الخبر ، وتشبيهها بالشرطية يفيد التسبب. وقراءة نافع وابن عامر لا تعيّن التسبب بل تجوزه لأن الموصول قد يراد به واحد معيّن بالوصف بالصلة ، فتحمل على العموم بالقرينة وبتأييد القراءة الأخرى لأن الأصل في اختلاف القراءات الصحيحة اتحاد المعاني. وكلتا القراءتين سواء في احتمال أن يكون المقصود بالخطاب فريقا معينا وأن يكون المقصود به جميع الناس ، وكذلك في أن يكون المراد مصائب معيّنة حصلت في الماضي ، وأن يراد جميع المصائب التي حصلت والتي تحصل.

ومعنى الآية على كلا التقديرين يفيد : أن مما يصيب الناس من مصائب الدنيا ما هو جزاء لهم على أعمالهم التي لا يرضاها الله تعالى كمثل المصيبة أو المصائب التي أصابت المشركين لأجل تكذيبهم وأذاهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٦٠