تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

وقوله : (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) تعليل للأمر المستفاد من قوله : (يَغْفِرُوا) أي ليغفروا ويصفحوا عن أذى المشركين فلا ينتصروا لأنفسهم ليجزيهم الله على إيمانهم وعلى ما أوذوا في سبيله فإن الانتصار للنفس توفية للحق وما ذا عساهم يبلغون من شفاء أنفسهم بالتصدّي للانتقام من المشركين على قلتهم وكثرة أولئك فإذا توكلوا على نصر ربّهم كان نصره لهم أتم وأخضد لشوكة المشركين كما قال نوح (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) [القمر : ١٠]. وهذا من معنى قوله تعالى : (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) [الحجر : ٨٥]. وكان مقتضى الظاهر أن يقال ليجزيهم بما كانوا يكسبون ، فعدل إلى الإظهار في مقام الإضمار ليكون لفظ (قَوْماً) مشعرا بأنهم ليسوا بمضيعة عند الله فإن لفظ (قوم) مشعر بفريق له قوامه وعزته (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) [محمد : ١١].

وتنكير (قَوْماً) للتعظيم ، فكأنه قيل : ليجزي أيما قوم ، أي قوما مخصوصين. وهذا مدح لهم وثناء عليهم. ونحوه ما ذكر الطيبي عن ابن جنّي عن أبي علي الفارسي في قول الشاعر :

أفات بنو مروان ظلما دماءنا

وفي الله إن لم يعدلوا حكم عدل

قال أبو علي : هو تعالى أعرف المعارف وسماه الشاعر : حكما عدلا وأخرج اللفظ مخرج التنكير ، ألا ترى كيف آل الكلام من لفظ التنكير إلى معنى التعريف ا ه. قيل : والأظهر أن (قَوْماً) مراد به الإبهام وتنوينه للتنكير فقط.

والمعنى : ليجزي الله كل قوم بما كانوا يكسبون من خير أو شر بما يناسب كسبهم فيكون وعيدا للمشركين المعتدين على المؤمنين ووعدا للمؤمنين المأمورين بالصفح والتجاوز عن أذى المشركين ، وهذا وجه عدم تعليق الجزاء بضمير الموقنين لأنه أريد العموم فليس ثمة إظهار في مقام الإضمار ويؤيد هذا قوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) [فصلت : ٤٦]. وهذا كالتفصيل للإجمال الذي في قوله : (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ). ولذلك فصلت الجملة ولم تعطف على سابقتها ، وتقدم نظيره في سورة فصّلت. وقرأ الجمهور (لِيَجْزِيَ قَوْماً) بتحتية في أوله ، والضمير المستتر عائد إلى اسم الجلالة في قوله : (أَيَّامَ اللهِ). وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف بنون العظمة في أوله على الالتفات. وقرأه أبو جعفر بتحتية في أوله مضمومة وبفتح الزاي على البناء للمجهول ونصب (قَوْماً). وتأويلها أن نائب الفاعل مصدر مأخوذ من فعل (يجزي). والتقدير : ليجزى الجزاء. و (قَوْماً) مفعول ثان لفعل (يجزى) من باب كسا وأعطى.

٣٦١

وليس هذا من إنابة المصدر الذي هو مفعول مطلق وقد منعه نحاة البصرة بل جعل المصدر مفعولا أول من باب أعطى وهو في المعنى مفعول ثان لفعل جزى ، وإنابة المفعول الثاني في باب كسا وأعطى متفق على جوازه وإن كان الغالب إنابة المفعول الأول كقوله تعالى : (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) [النجم : ٤١].

وقوله : (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أي بعد الأعمال في الدنيا تصيرون إلى حكم الله تعالى فيجازيكم على أعمالكم الصالحة والسيئة بما يناسب أعمالكم.

وأطلق على المصير إلى حكم الله أنه رجوع إلى الله على طريقة التمثيل بحال من كان بعيدا عن سيده أو أميره فعمل ما شاء ثم رجع إلى سيده أو أميره فإنه يلاقي جزاء ما عمله ، وقد تقدمت نظائره.

[١٦ ، ١٧] (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧))

الوجه أن يكون سوق خبر بني إسرائيل هنا توطئة وتمهيدا لقوله بعده (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها) [الجاثية : ١٨] أثار ذلك ما تقدم من قوله : (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ) إلى قوله : (اتَّخَذَها هُزُواً) [الجاثية : ٧ ـ ٩] ثم قوله : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) [الجاثية : ١٤] فكان المقصد قوله (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ) [الجاثية : ١٨] ولذلك عطفت الجملة بحرف (ثُمَ) الدال على التراخي الرتبي ، أي على أهمية ما عطف بها.

ومقتضى ظاهر النظم أن يقع قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) الآيتين بعد قوله : (جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ) [الجاثية : ١٨] فيكون دليلا وحجة له فأخرج النظم على خلاف مقتضى الظاهر فجعلت الحجة تمهيدا قصدا للتشويق لما بعده ، وليقع ما بعده معطوفا ب (ثُمَ) الدالة على أهمية ما بعدها.

وقد عرف من تورك المشركين على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شأن القرآن ما حكاه الله عنهم في قوله : (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) [القصص : ٤٨] وقولهم : لو لا أنزل (عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢] ، فمن أجل ذلك وقع هذا بعد قوله : (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) إلى قوله : (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً) [الجاثية : ٧

٣٦٢

ـ ٩] وقوله : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) [الجاثية : ١٤] ، فالجملة معطوفة على تلك الجمل.

وأدمج في خلالها ما اختلف فيه بنو إسرائيل على ما دعتهم إليه شريعتهم ، لما فيه من تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مخالفة قومه دعوته تنظيرا في أصل الاختلاف دون أسبابه وعوارضه.

ولما كان في الكلام ما القصد منه التسلية والاعتبار بأحوال الأمم حسن تأكيد الخبر بلام القسم وحرف التحقيق ، فمصب هذا التحقيق هو التفريع الذي في قوله : (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) [يونس : ٩٣] تأكيدا للمؤمنين بأن الله يقضي بينهم وبين المشركين كشأنه فيما حدث بين بني إسرائيل.

وقد بسط في ذكر النظير في بني إسرائيل من وصف حالهم حينما حدث الاختلاف بينهم ، ومن التصريح بالداعي للاختلاف بينهم ما طوي من مثل بعضه من حال المشركين حين جاءهم الإسلام فاختلفوا مع أهله إيجازا في الكلام للاعتماد على ما يفهمه السامعون بطريق المقايسة على أن أكثره قد وقع تفصيله في الآيات السابقة مثل قوله : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) [الجاثية : ٦] وقوله (هذا هُدىً) [الجاثية : ١١] فإن ذلك يقابل قوله هنا (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ) والنبوءة ومثل قوله : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [الجاثية : ١٣] فإنه يقابل قوله هنا (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) ، ومثل قوله : (يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً) إلى قوله (لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) [الجاثية : ٨ ، ٩] فإنه يقابل قوله هنا (وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) ، ومثل قوله : (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [الجاثية : ١٤] فإنه مقابل قوله هنا (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

و (الْكِتابَ) : التوراة.

و (الْحُكْمَ) يصح أن يكون بمعنى الحكمة ، أي الفهم في الدّين وعلم محاسن الأخلاق كقوله تعالى : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) [مريم : ١٢] ، يعني يحيى ، ويصح أن يكون بمعنى السيادة ، أي أنهم يحكمون أنفسهم بأنفسهم ولا تحكمهم أمة أخرى كقوله تعالى و (جَعَلَكُمْ مُلُوكاً) [المائدة : ٢٠] ، والنبوءة أن يقوم فيهم أنبياء. ومعنى إيتائهم هذه الأمور الثلاثة : إيجادها في الأمة وإيجاد القائمين بها لأن نفع ذلك عائد على الأمة جمعاء فكان كل فرد من الأمة كمن أوتي تلك الأمور.

٣٦٣

وأما رزقهم من الطيبات فبأن يسّر لهم امتلاك بلاد الشام التي تفيض لبنا وعسلا كما في التوراة في وعد إبراهيم والتي تجبى إليها ثمرات الأرضين المجاورة لها وترد عليها سلع الأمم المقابلة لها على سواحل البحر فتزخر مراسيها بمختلف الطعام واللباس والفواكه والثمار والزخارف ، وذلك بحسن موقع البلاد من بين المشرق برا والمغرب بحرا. و (الطَّيِّباتِ) : هي التي تطيب عند الناس وتحسن طعما ومنظرا ونفعا وزينة. وأما تفضيلهم على العالمين فبأن جمع الله لهم بين استقامة الدّين والخلق ، وبين حكم أنفسهم بأنفسهم ، وبث أصول العدل فيهم ، وبين حسن العيش والأمن والرخاء ، فإن أمما أخرى كانوا في بحبوحة من العيش ولكن ينقص بعضها استقامة الدّين والخلق ، وبعضها عزة حكم النفس وبعضها الأمن بسبب كثرة الفتن.

والمراد ب (الْعالَمِينَ) : أمم زمانهم وكل ذلك إخبار عما مضى من شأن بني إسرائيل في عنفوان أمرهم لا عمّا آل إليه أمرهم بعد أن اختلفوا واضمحل ملكهم ونسخت شريعتهم.

و (بَيِّناتٍ) صفة نزلت منزلة الجامد ، فالبينة : الحجة الظاهرة ، أي آتيناهم حججا ، أي علمناهم بواسطة كتبهم وبواسطة علمائهم حجج الحق والهدى التي من شأنها أن لا تترك للشك والخطإ إلى نفوسهم سبلا إلا سدتها.

و (الْأَمْرِ) : الشأن كما في قوله : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) [هود : ٩٧] والتعريف في (الْأَمْرِ) للتعظيم ، أي من شئون عظيمة ، أي شأن الأمة وما به قوام نظامها إذ لم يترك موسى والأنبياء من بعده شيئا مهما من مصالحهم إلا وقد وضحوه وبينوه وحذروا من الالتباس فيه.

و (مِنَ) في قوله (مِنَ الْأَمْرِ) بمعنى (في) الظرفيّة فيحصل من هذا أن معنى (وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) : علمناهم حججا وعلوما في أمر دينهم ونظامهم بحيث يكونون على بصيرة في تدبير مجتمعهم وعلى سلامة من مخاطر الخطإ والخطل. وفرع على ذلك قوله (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) تفريع إدماج لمناسبته للحالة التي أريد تنظيرها. وتقدير الكلام : فاختلفوا وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم ، فحذف المفرّع لدلالة ما بعده عليه على طريقة الإيجاز إذ المقصود هو التعجيب من حالهم كيف اختلفوا حين لا مظنة للاختلاف إذ كان الاختلاف بينهم بعد ما جاءهم العلم المعهود بالذكر آنفا من الكتاب والحكم والنبوءة والبينات من الأمر ، ولو اختلفوا قبل ذلك لكان

٣٦٤

لهم عذر في الاختلاف وهذا كقوله تعالى : (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) [الجاثية : ٢٣]. وهذا الكلام كناية عن عدم التعجيب من اختلاف المشركين مع المؤمنين حيث أن المشركين ليسوا على علم ولا هدى ليعلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه ملطوف به في رسالته.

والبغي : الظلم. والمراد : أن اختلافهم عن عمد ومكابرة بعضهم لبعض وليس عن غفلة أو تأويل ، وهذا الظلم هو ظلم الحسد فإن الحسد من أعظم الظلم ، أي فكذلك حال نظرائهم من المشركين ما اختلفوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا بغيا منهم عليه مع علمهم بصدقه بدلالة إعجاز القرآن لفظا ومعاني.

وانتصب (بَغْياً) إمّا على المفعول لأجله ، وإمّا على الحال بتأويل المصدر باسم الفاعل ، وعلى كلا الوجهين فالعامل فيه فعل (اخْتَلَفُوا) ، وإن كان منفيا في اللفظ لأن الاستثناء أبطل النفي إذ ما أريد إلا نفي أن يكون الاختلاف في وقت قبل أن يحثهم العلم فلما استفيد ذلك بالاستثناء صار الاختلاف ثابتا وما عدا ذلك غير منفي.

وجملة (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) مستأنفة استئنافا بيانيا لأن خبرهم العجيب يثير سؤالا في نفس سامعه عن جزاء الله إياهم على فعلهم ، وهذا جواب فيه إجمال لتهويل ما سيقضى به بينهم في الخير والشر لأن الخلاف يقتضي محقّا ومبطلا.

ونظير هذه الآية قوله تعالى : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) في سورة يونس [٩٣].

[١٨ ، ١٩] (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩))

(ثُمَ) للتراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل ، ولو لا إرادة التراخي الرتبي لكانت الجملة معطوفة بالواو. وهذا التراخي يفيد أن مضمون الجملة المعطوفة بحرف (ثُمَ) أهم من مضمون الجملة المعطوف عليها أهمية الغرض على المقدمة والنتيجة على الدليل. وفي هذا التراخي تنويه بهذا الجعل وإشارة إلى أنه أفضل من إيتاء بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوءة والبيّنات من الأمر ، فنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتابه وحكمه وبيناته

٣٦٥

أفضل وأهدى مما أوتيه بنو إسرائيل من مثل ذلك.

و (عَلى) للاستعلاء المجازي ، أي التمكن والثبات على حد قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥].

وتنوين (شَرِيعَةٍ) للتعظيم بقرينة حرف التراخي الرتبي.

والشريعة : الدين والملة المتّبعة ، مشتقة من الشرع وهو : جعل طريق للسير ، وسمي

النهج شرعا تسمية بالمصدر. وسميت شريعة الماء الذي يرده الناس شريعة لذلك ، قال الراغب : استعير اسم الشريعة للطريقة الإلهية تشبيها بشريعة الماء قلت : ووجه الشبه ما في الماء من المنافع وهي الري والتطهير.

و (الْأَمْرِ) : الشأن ، وهو شأن الدين وهو شأن من شئون الله تعالى ، قال تعالى: (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢] ، فتكون (مِنَ) تبعيضية وليست كالتي في قوله آنفا (وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) [الجاثية : ١٧] لأن إضافة (شَرِيعَةٍ) إلى (الْأَمْرِ) تمنع من ذلك.

وقد بلغت هذه الجملة من الإيجاز مبلغا عظيما إذ أفادت أن شريعة الإسلام أفضل من شريعة موسى ، وأنها شريعة عظيمة ، وأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم متمكن منها لا يزعزعه شيء عن الدأب في بيانها والدعوة إليها. ولذلك فرع عليه أمره باتباعها بقوله : (فَاتَّبِعْها) أي دم على اتباعها ، فالأمر لطلب الدوام مثل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [النساء: ١٣٦].

وبين قوله : (فَاتَّبِعْها) وقوله : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) محسّن المطابقة بين الأمر بالاتباع والنهي عن اتباع آخر. و (الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) هم المشركون وأهواؤهم دين الشرك قال تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) [الجاثية : ٢٣].

والأهواء : جمع هوى ، وهو المحبة والميل. والمعنى : أن دينهم أعمال أحبوها لم يأمر الله بها ولا اقتضتها البراهين.

والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمقصود منه : إسماع المشركين لئلا يطمعوا بمصانعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيّاهم حين يرون منه الإغضاء عن هفواتهم وأذاهم وحين يسمعون في القرآن بالصفح عنهم كما في الآية السالفة (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) [الجاثية : ١٤]. وفيه أيضا تعريض للمسلمين بأن يحذروا من أهواء الذين لا يعلمون. وعن ابن عباس «أنها نزلت لمّا دعته قريش إلى دين آبائه» قال البغوي : كانوا يقولون له : ارجع

٣٦٦

إلى دين آبائك فإنهم أفضل منك.

وجملة (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) تعليل للنهي عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون ، ويتضمن تعليل الأمر باتباع شريعة الله فإن كونهم لا يغنون عنه من الله شيئا يستلزم أن في مخالفة ما أمر الله من اتباع شريعته ما يوقع في غضب الله وعقابه فلا يغني عنه اتباع أهوائهم من عقابه.

والإغناء : جعل الغير غنيا ، أي غير محتاج ، فالآثم المهدد من قدير غير غنيّ عن الذي يعاقبه ولو حماه من هو كفء لمهدده أو أقدر منه لأغناه عنه وضمّن فعل الإغناء معنى الدفع فعدّي ب (عن). وانتصب (شَيْئاً) على المفعول المطلق ، و (مِنَ اللهِ) صفة ل (شَيْئاً) و (مِنَ) بمعنى بدل ، أي لن يغنوا عنك بدلا من عذاب الله ، أي قليلا من الإغناء البديل من عقاب الله فالكلام على حذف مضاف ، وتقدم عند قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) في آل عمران [١٠].

وعطف على هذا التعليل تعليل آخر وهو (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي إنهم ظالمون وأنت لست من الظالمين في شيء فلا يجوز أن تتبعهم في شيء وإنما يتبعهم من هم أولياؤهم. وذيل ذلك بقوله : (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) وهو يفيد أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الله وليّه لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أول المتقين.

(هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠))

إن كانت الإشارة إلى الكلام المتقدم وما فيه من ضرب المثل بموسى وقومه ومن تفضيل شريعة محمد على شريعة موسى عليهما الصلاة والسلام والأمر بملازمة اتباعها والتحذير من اتباع رغائب الذين لا يعلمون ، فهذه الجملة بمنزلة التذييل لما قبلها والتهيئة لأغراضها تنبيها لما في طيها من عواصم عن الشك والباطل بمنزلة قوله تعالى بعد عدة آيات في آخر سورة الأحقاف [٣٥] (١) (بَلاغٌ) وقوله في سورة الأنبياء [١٠٥ ، ١٠٦] (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ).

وإن كانت الإشارة إلى القرآن إذ هو حاضر في الأذهان كانت الجملة استئنافا أعيد

__________________

(١) في المطبوعة (الفتح) وهو خطأ.

٣٦٧

بها التنويه بشأن القرآن ومتبعيه والتعريض بتحميق الذين أعرضوا عنه ، وتكون مفيدة تأكيد قوله آنفا (هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) [الجاثية : ١١] ، وتكون الجملة المتقدمة صريحة في وعيد الذين كفروا بآياته وهذه تعريضا بأنهم لم يحظوا بهذه البصائر ، وكلا الاحتمالين رشيق ، وكل بأن يكون مقصودا حقيق.

و (بَصائِرُ) : جمع بصيرة وهي إدراك العقل الأمور على حقائقها ، شبهت ببصر العين ، وفرق بينهما بصيغة فعلية للمبالغة قال تعالى : (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) في سورة يوسف [١٠٨]. وقال : (قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) في سورة الإسراء [١٠٢] وقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ) في سورة القصص [٤٣].

ووصف الآيات السابقة أو القرآن بالبصائر مجاز عقلي لأن ذلك سبب البصائر. وجمع البصائر : إن كانت الإشارة إلى القرآن باعتبار المتبصرين بسببه كما اقتضاه قوله : (لِلنَّاسِ) لأن لكل أحد بصيرته الخاصة فهي أمر جزئي بالتبع لكون صاحب كل بصيرة جزئيا مشخصا فناسب أن تورد جمعا ، فالبصيرة : الحاسّة من الحواس الباطنة ، وهذا بخلاف إفراد (هُدىً وَرَحْمَةٌ) لأن الهدى والرحمة معنيان كليان يصلحان للعدد الكثير قال تعالى : (هُدىً لِلنَّاسِ) [آل عمران : ٤] وقال : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء: ١٠٧]. وإنما كان هدى لأنه طريق نفع لمن اتبع إرشاده فاتباعه كالاهتداء للطريق الموصلة إلى المقصود. وإنّما كان رحمة لأن في اتباع هداه نجاح الناس أفرادا وجماعات في الدنيا لأنه نظام مجتمعهم ومناط أمنهم ، وفي الآخرة لأنه سبب نوالهم درجات النعيم الأبدي. وكان بصائر لأنه يبين للناس الخير والشر ويحرضهم على الخير ويحذرهم من الشر ويعدهم على فعل الخير ويوعدهم على فعل الشرور فعمله عمل البصيرة.

وجعل البصائر للناس لأنه بيان للناس عامة وجعل الهدى والرحمة لقوم يوقنون لأنه لا يهتدي ببيانه إلا الموقن بحقيقته ولا يرحم به إلا من اتبعه المؤمن بحقيته.

وذكر لفظ (قوم) للإيماء إلى أن الإيقان متمكن من نفوسهم كأنه من مقومات قوميتهم التي تميزهم عن أقوام آخرين.

والإيقان : العلم الذي لا يتردد فيه صاحبه. وحذف متعلقه لأنه معلوم بما جاءت به آيات الله.

٣٦٨

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١))

انتقال من وصف تكذيبهم بالآيات واستهزائهم بها ثم من أمر المؤمنين بالصفح عنهم وإيكال جزاء صنائعهم إلى الله ثم من التثبيت على ملازمة الشريعة الإسلامية إلى وصف صنف آخر من ضلالهم واستهزائهم بالوعد والوعيد وإحالتهم الحياة بعد الموت والجزاء على الأعمال وتخييلهم للناس أنهم يصيرون في الآخرة ، على الحال التي كانوا عليها في الدنيا ، عظيمهم في الدنيا عظيمهم في الآخرة ، وضعيفهم في الدنيا ضعيفهم في الآخرة ، وهذا الانتقال رجوع إلى بيان قوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) [الجاثية : ١٥].

فحرف (أَمْ) للإضراب الانتقالي ، والاستفهام الذي يلزم تقديره بعد (أَمْ) استفهام إنكاري ، والتقدير : لا يحسب الذين اجترحوا السيئات أنهم كالذين آمنوا لا في الحياة وفي في الممات. و (الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) في نقل عن ابن عباس : أنهم المشركون كما يؤذن به الانتقال من الغرض السابق إلى هذا الغرض وإنما عبر عنهم بهذا العنوان لما في الصلة من تعليل إنكار المشابهة والمساواة بينهم وبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات عند الله في عالم الخلد ولأن اكتساب السيئات من شعار أهل الشرك إذ ليس لهم دين وازع يزعهم عن السيئات ولا هم مؤمنون بالبعث والجزاء ، فيكون إيمانهم به مرغبا في الجزاء ، ولذلك كثر في القرآن الكناية عن المشركين بالتلبس بالسيئات كقوله : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) إلى قوله : (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) [المطففين : ١ ـ ٥] وكقوله : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) [المدثر : ٤٢ ـ ٤٦] وقوله : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) [الماعون : ١ ـ ٣] ونظيره (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [العنكبوت : ٤] ، فإن ذلك حال الكفار ، وأما المؤمن العاصي فلا تبلغ به حاله أن يحسب أنه مفلت من قدرة الله. قيل : نزلت في قوم من المشركين. قال البغوي : نزلت في نفر من مشركي مكة قالوا للمؤمنين : لئن كان ما تقولون حقا لنفضلنّ عليكم في الآخرة كما فضّلنا عليكم في الدنيا. وعن الكلبي : أن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة قالوا لعلي وحمزة وبعض المسلمين : والله ما أنتم على شيء ولئن كان ما تقولون حقا أي إن كان البعث حقا لحالنا أفضل من حالكم

٣٦٩

في الآخرة كما أنّا أفضل حالا منكم في الدنيا. وتأويل نزول هذه الآية على هذا السبب أن حدوث قول هؤلاء النفر صادف وقت نزول هذه الآيات من السورة أو أن قولهم هذا متكرر فناسب تعرض الآية له حقه.

ونزول الآية على هذا السبب لإبطال كلامهم في ظاهر حاله وإن كانوا لم يقولوه عن اعتقاد وإنما قالوه استهزاء ، لئلا يروج كلامهم على دهمائهم والحديثين في الإسلام لأن شأن التصدّي للإرشاد أن لا يغادر مغمزا لرواج الباطل إلا سدّه ، كما في قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) [مريم : ٧٧ ، ٧٨] وله نظائر في القرآن. وزاد القرطبي في حكاية كلام الكلبي أنهم قالوه حين برزوا لهم يوم بدر ، وهو لا يستقيم لأن السورة مكية ولم ينقل عن أحد استثناء هذه الآية منها.

والاجتراح : الاكتساب ، وصيغة الافتعال فيه للمبالغة ، وهو مشتق من الجرح فأطلق على اكتساب السباع ونحوها ، ولذلك سميت كلاب الصيد جوارح وسمي به اكتساب الناس لأن غالب كسبهم في الجاهلية كان من الإغارة على إبل القوم وهي بالرماح ، قالت أم زرع : فنكحت بعده رجلا سريّا ، ركب شريّا ، وأخذ خطبا وأراح عليّ نعما ثريا ، ولذلك غلب إطلاق الاجتراح على اكتساب الإثم والخبيث.

وظاهر تركيب الآية أن قوله : (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) داخل في الحسبان المنكور فيكون المعنى : إنكار أن يستوي المشركون مع المؤمنين لا في الحياة ولا بعد الممات ، فكما خالف الله بين حاليهم في الحياة الدنيا فجعل فريقا كفرة مسيئين وفريقا مؤمنين محسنين ، فكذلك سيخالف بين حاليهم في الممات فيموت المشركون على اليأس من رحمة الله إذ لا يوقنون بالبعث ويلاقون بعد الممات هول ما توعدهم الله به ، ويموت المؤمنون رجاء رحمة الله والبشرى بما وعدوا به ويلاقون بعد الممات ثواب الله ورضوانه.

وقرأ الجمهور : سواء مرفوعا فيكون موقع جملة (سَواءً مَحْياهُمْ) موقع البدل من كاف التشبيه التي هي بمعنى مثل على ما ذهب إليه صاحب «الكشاف» يريد أنه بدل مطابق لأن الجملة تبدل من المفرد على الأصح ، والبدل المطابق هو عطف البيان عند التحقيق ، فيكون جملة (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) بيان ما حسبه المشركون. وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف منصوبا ، فلفظ (سَواءً) وحده بدل من كاف المماثلة ، بدل مفرد من مفرد أو حال من ضمير النصب في (نَجْعَلَهُمْ). وهذا لأن

٣٧٠

المشركين قالوا للمسلمين : سنكون بعد الموت خيرا منكم كما كنا في الحياة خيرا منكم.

فضمير (مَحْياهُمْ) وضمير (مَماتُهُمْ) عائدان لكل من الذين اجترحوا السيئات والذين آمنوا على التوزيع ، أي محيا كلّ مساو لمماته ، أي لا يتبدل حال الفريقين بعد الممات بل يكونون بعد الممات كما كانوا في الحياة غير أن موقع كاف التمثيل في قوله : (كَالَّذِينَ آمَنُوا) ليس واضح الملاقاة لحسبان المشركين المسلط عليه الإنكار لأنهم إنما حسبوا أن يكونوا بعد الممات على تقدير وقوع البعث أحسن حالا من المؤمنين لا أن يكونوا مثل المؤمنين لأنهم قالوا ذلك في مقام التطاول على المؤمنين ، وإرادة إفحامهم بسفسطتهم. فبنا أن نبين موقع هذا الكاف في الآية.

والذي أرى : أن موقعه الإيماء إلى أن الله قدّر للمؤمنين حسن الحال بعد الممات حتى صار ذلك المقدّر مضرب الأمثال ومناط التشبيه ، وإلى أن حسبان المشركين أنفسهم في الآخرة على حالة حسنة باطل ، فعبر عن حسبانهم الباطل بأنهم أثبتوا لأنفسهم في الآخرة الحال التي هي حال المؤمنين ، أي حسب المشركون بزعمهم أن يكونوا بعد الموت في حالة إذا أراد الواصف أن يصفها وصفها بمشابهة حال المؤمنين في عند الله وفي نفس الأمر ، وليس المراد أن المشركين مثّلوا حالهم بحال المؤمنين فيؤول قوله : (كَالَّذِينَ آمَنُوا) إلى حكاية الكلام المحكي بعبارة تساويه لا بعبارة قائله ، وذلك مما يتوسع فيه في حكاية الأقوال كقوله تعالى حكاية عن عيسى (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ، رَبِّي وَرَبَّكُمْ) [المائدة : ١١٧] فإن ما أمره الله به : أن اعبدوا الله ربّك وربّهم ، وذلك من خلاف مقتضى الظاهر دعا الله هنا قصد التنويه بالمؤمنين والعناية بزلفاهم عند الله ، فكأنه قيل : أحسبوا أن نجعلهم في حالة حسنة ولكن هذا المأمول في حسبانهم هو في نفس الأمر حال المؤمنين لا حالهم. فأوجز الكلام ، وفهم السامع يبسطه. والمواجه بهذا الكلام هم النبي والمؤمنون تكملة للغرض المبتدأ به في قوله : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) [الجاثية : ١٤] على أن لك أن تجعل قوله تعالى : (كَالَّذِينَ آمَنُوا) معترضا بين مفعولي (نجعل) وهما ضميرا الغائبين وجملة (سَواءً مَحْياهُمْ) أو ولفظ (سَواءً) في قراءة نصبه فلا يكون مرادا إدخاله في حسبان المشركين.

ويجوز على هذا أن يكون قوله : (كَالَّذِينَ آمَنُوا) تهكما على المشركين في حسبانهم تأكيدا للإنكار عليهم.

ومن خلاف ظاهر التركيب ما قيل : إن مدلول (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) ليس من

٣٧١

حسبان المشركين المنكور ولكنه كلام مستأنف ، والمعنى : أنه لما أنكر حسبان استواء الكافرين والمؤمنين خطر ببال السامع أن يسأل كيف واقع حال الفريقين فأجيب بأن حال محياهم هو مقياس حال مماتهم ، أي حالهم في الآخرة مختلف كما هو في الدنيا مختلف ، فالمؤمنون يحيون في الإقبال على ربهم ورجاء فضله ، والكافرون يعيشون معرضين عن عبادة ربّهم آيسين من البعث والجزاء. وهذا ليس عين الجواب ولكنه من الاكتفاء بعلة الجواب عن ذكره. والتقدير : حال الفريقين مختلف في الآخرة كما كان مختلفا في الحياة.

وجملة (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) تذييل لما قبلها من إنكار حسبانهم وما اتصل بذلك الإنكار من المعاني. واعلم أن هذه الآية وإن كان موردها في تخالف حالي المشركين والمؤمنين فإن نوط الحكم فيها بصلة (الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) يجعل منها إيماء إلى تفاوت حالي المسيئين والمحسنين من أهل الإيمان وإن لم يحسب أحد من المؤمنين ذلك وعن تميم الداري أنه بات ليلة يقرأ هذه الآية ويركع ويسجد ويبكي إلى الصباح. وروي مثل ذلك عن الربيع بن خيثم وعن الفضيل بن عياض : أنه كان كثيرا ما يردد من أول الليل هذه الآية ثم يقول : ليت شعري من أي الفريقين أنت. يخاطب نفسه فكانت هذه الآية تسمى مبكاة العابدين.

والمحيا والممات : مصدران ميميان أو اسما زمان ، أي حياتهم وموتهم ، وهو على كلا الاعتبارين بتقدير مضاف ، أي حالة محياهم وحالات مماتهم.

(وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢))

الجملة معترضة والواو اعتراضية وهو اعتراض بين الكلام المتقدم وبين ما فرع عليه من قوله : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) [الجاثية : ٢٣] هو كالدليل على انتفاء أن يكون الذين اجترحوا السيئات الذين هم في بحبوحة عيش مدة حياتهم أن يكونوا في نعيم بعد مماتهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات مدة حياتهم فكان جزاؤهم النعيم بعد مماتهم ، أي بعد حياتهم الثانية بأنّ خلق السماوات والأرض بالعدل يستدعي التفاوت بين المسيء والمحسن ، والانتصاف للمعتدى عليه من المعتدي.

ووجه الاستدلال أن خلق السماوات والأرض تبين كونه في تمام الإتقان والنظام

٣٧٢

بحيث إن دلائل إرادة العدل في تصاريفها قائمة ، وما أودعه الخالق في المخلوقات من القوى مناسب لتحصيل ذلك النظام الذي فيه صلاحهم فإذا استعملوها في الإفساد والإساءة كان من إتمام إقامة النظام أن يعاقبوا على تلك الإساءة والمشاهد أن المسيء كثير ما عكف على إساءته حتى الممات ، فلو لم يكن الجزاء بعد الموت حصل اختلال في نظام خلق المخلوقات وخلق القوى الصادر عنها الإحسان والإساءة ، وهذا المعنى تكرر في آيات كثيرة وكلما ذكر شيء منه أتبع بذكر الجزاء ، وقد تقدم في سورة آل عمران [١٩١] قوله : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) وقوله في سورة الدخان [٣٨ ـ ٤٠] (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ* ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ* إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ).

والباء في قوله : (بِالْحَقِ) للسببية أو للملابسة ، أي خلقا للسبب الحق أو ملابسا للحق لا يتخلف الحق عن حال من أحواله.

والحق : اسم جامع لما شأنه أن يحقّ ويثبت ، ومن شأن الحكمة والحكيم أن يقيمه ، ولذلك أشير بقوله : (وَخَلَقَ اللهُ) فإن اسم الجلالة جامع لصفات الكمال وتصرفات الحكمة.

وعطف (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) على (بِالْحَقِ) لأن المعطوف عليه المجرور بالياء فيه معنى التعليل ، وهذا تفصيل بعد إجمال فإن الجزاء على الفعل بما يناسبه هو من الحق ، ولأن تعليل الخلق بعلة الجزاء من تفصيل معنى الحق وآثار كون الحق سببا لخلق السماوات والأرض أو ملابسا لأحوال خلقهما ، فظهرت المناسبة بين الباء في المعطوف عليه واللام في المعطوف.

والباء في (بِما كَسَبَتْ) للتعويض. وما كسبته النفس لا تجزى به بل تجازى بمثله وما يناسبه ، فالكلام على حذف مضاف ، أي بمثل ما كسبته. وهذه المماثلة مماثلة في النوع ، وأما تقدير تلك المماثلة فذلك موكول إلى الله تعالى ومراعى فيه عظمة عالم الجزاء في الخير والشر ومقدار تمرد المسيء وامتثال المحسن ، بخلاف الحدود والزواجر فإنها مقدرة بما يناسب عالم الدنيا من الضعف. ولهذا أعقبه بقوله : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فضمير (وَهُمْ) عائد إلى (كُلُّ نَفْسٍ) ، فإن ذلك الجزاء مما اقتضاه العدل الذي جعل سببا أو ملابسا لخلق السماوات والأرض وما فيهما ، فهو عدل ، فليس من الظلم في شيء

٣٧٣

فالمجازى غير مظلوم ، وبالجزاء أيضا ينتفي أثر ظلم الظالم عن المظلوم إذ لو ترك الجزاء لاستمر المظلوم مظلوما.

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣))

لما كان الذين حسبوا أن يكونوا في الآخرة في نعمة وعزة كما كانوا في الدنيا قالوا ذلك عن غير دليل ولا نظر ولكن عن اتباع ما يشتهون لأنفسهم من دوام الحال الحسن تفرع على حسبانهم التعجيب من حالهم ، فعطف بالفاء الاستفهام المستعمل في التعجيب ، وجعل استفهاما عن رؤية حالهم ، للإشارة إلى بلوغ حالهم من الظهور إلى حد أن تكون مرثية.

وأصل التركيب : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) إلخ ، فقدمت همزة الاستفهام ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمقصود من معه من المسلمين ، أو الخطاب لغير معيّن ، أي تناهت حالهم في الظهور فلا يختص بها مخاطب.

و (مَنِ) الموصولة صادقة على فريق المستهزئين الذين حسبوا أن يكون محياهم ومماتهم سواء بقرينة ضمير الجمع في الجملة المعطوفة بقوله : (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) [الجاثية : ٢٤] إلخ.

والمعنى : أن حجاجهم المسلمين مركّز على اتباع الهوى والمغالطة ، فلا نهوض لحجتهم لا في نفس الأمر ولا فيما أرادوه ، على فرض وقوع البعث من أن يكونوا آمنين من أهوال البعث ، وأنهم لا يرجى لهم اهتداء لأن الله خلقهم غير قابلين للهدى فلا يستطيع غيره هداهم.

و (إِلهَهُ) يجوز أن يكون أطلق على ما يلازم طاعته حتى كأنه معبود فيكون هذا الإطلاق بطريقة التشبيه البليغ ، أي اتخذ هواه كإله له لا يخالف له أمرا. ويجوز أن يبقى (إِلهَهُ) على الحقيقة ويكون (هَواهُ) بمعنى مهويّه ، أي عبد إلها لأنه يحب أن يعبده ، يعني الذين اتخذوا الأصنام آلهة لا يقلعون عن عبادتها لأنهم أحبوها ، أي ألفوها وتعلقت قلوبهم بعبادتها ، كقوله تعالى : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) [البقرة : ٩٣].

ومعنى (أَضَلَّهُ اللهُ) أنه حفّهم بأسباب الضلالة من عقول مكابرة ونفوس ضعيفة ،

٣٧٤

اعتادت اتباع ما تشتهيه لا تستطيع حمل المصابرة والرضى بما فيه كراهية لها. فصارت أسماعهم كالمختوم عليها في عدم الانتفاع بالمواعظ والبراهين ، وقلوبهم كالمختوم عليها في عدم نفوذ النصائح ودلائل الأدلة إليها ، وأبصارهم كالمغطاة بغشاوات فلا تنتفع بمشاهدة المصنوعات الإلهية الدالة على انفراد الله بالإلهية وعلى أنّ بعد هذا العالم بعثا وجزاء.

ومعنى (عَلى عِلْمٍ) أنهم أحاطت بهم أسباب الضلالة مع أنهم أهل علم ، أي عقول سليمة أو مع أنهم بلغهم العلم بما يهديهم وذلك بالقرآن ودعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإسلام.

فحرف (عَلى) هنا معناه المصاحبة بمعنى (مع) وأصل هذا المعنى استعارة معنى الاستعلاء للاستعلاء المجازي وهو التمكن بين الوصف والموصوف. وشاع ذلك حتى صار معنى من معاني (على) كما في قول الحارث بن حلزة :

فيقينا على الشّناءة تنمينا

حصون وعزّة قعساء

والمعنى : أنه ضال مع ما له من صفة العلم ، فالعلم هنا من وصف من اتخذ إلهه هواه وهو متمكن من العلم لو خلع عن نفسه المكابرة والميل إلى الهوى.

وقرأ الجمهور (غِشاوَةً) بكسر الغين وفتح الشين بعدها ألف. وقرأه حمزة والكسائي وخلف غشوة بفتح الغين وسكون الشين وهو من التسمية بالمصدر وهي لغة. وتقدم معنى الختم والغشاوة في أول سورة البقرة.

وفرع على هذه الصلة استفهام إنكاري أن يكون غير الله يستطيع أن يهديهم ، والمراد به تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لشدة أسفه لإعراضهم وبقائهم في الضلالة.

و (مِنْ بَعْدِ اللهِ) بمعنى : دون الله ، وتقدم عند قوله تعالى : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) آخر سورة الأعراف [١٨٥].

وفرع على ذلك استفهام عن عدم تذكر المخاطبين لهذه الحقيقة ، أي كيف نسوها حتى ألحّوا في الطمع بهداية أولئك الضالّين وأسفوا لعدم جدوى الحجة لديهم وهو استفهام إنكاري.

ومن المفسرين من حمل (مَنِ) الموصولة في قوله (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) على معيّن فقال مقاتل : هو أبو جهل بسبب حديث جرى بينه وبين الوليد بن المغيرة كانا يطوفان ليلة فتحدثا في شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أبو جهل : والله إني لأعلم إنه لصادق فقال له

٣٧٥

المغيرة : مه ، وما دلّك على ذلك ، قال : كنّا نسميه في صباه الصادق الأمين فلما تمّ عقله وكمل رشده نسميه الكذاب الخائن! قال : فما يمنعك أن تؤمن به قال : تتحدث عني بنات قريش أني قد اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة ، واللات والعزّى إن اتبعته أبدا فنزلت هذه الآية. وإذا صح هذا فإن مطابقة القصة لقوله تعالى : (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) ظاهرة. وعن مقاتل أيضا : أنها نزلت في الحارث بن قيس السهمي أحد المستهزئين كان يعبد من الأصنام ما تهواه نفسه.

وهذه الآية أصل في التحذير من أن يكون الهوى الباعث للمؤمنين على أعمالهم ويتركوا اتباع أدلة الحق ، فإذا كان الحق محبوبا لأحد فذلك من التخلق بمحبة الحق تبعا للدليل مثل ما يهوى المؤمن الصلاة والجماعة وقيام رمضان وتلاوة القرآن وفي الحديث أرحنا بها يا بلال» يعني الإقامة للصلاة. وعن عبد الله بن عمرو بن العاصي أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» وعن أبي الدرداء «إذا أصبح الرجل اجتمع هواه وعمله وعلمه فإن كان عمله تبعا لهواه فيومه يوم سوء وإن كان عمله تبعا لعلمه فيومه يوم صالح». وأما اتباع الأمر المحبوب لإرضاء النفس دون نظر في صلاحه أو فساده فذلك سبب الضلال وسوء السيرة.

قال عمرو بن العاصي :

إذا المرء لم يترك طعاما يحبه

ولم ينه قلبا غاويا حيث يمّما

فيوشك أن تلقى له الدهر سبّة

إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما

ومن الكلمات المأثورة «ثلاث من المهلكات : شحّ مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه» ويروى حديثا ضعيف السند. وقدم السمع على القلب هنا بخلاف آية سورة البقرة (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) [البقرة : ٧] لأن المخبر عنهم هنا لما أخبر عنهم بأنهم اتخذوا إلههم هواهم ، فقد تقرر أنهم عقدوا قلوبهم على الهوى فكان ذلك العقد صارفا السمع عن تلقي الآيات فقدّم لإفادة أنهم كالمختوم على سمعهم ، ثم عطف عليه (وَقَلْبِهِ) تكميلا وتذكيرا بذلك العقد الصارف للسمع ثم ذكر ما (عَلى بَصَرِهِ) من شبه الغشاوة لأن ما عقد عليه قلبه بصره عن النظر في أدلة الكائنات.

وأما آية سورة البقرة فإن المتحدث عنهم هم هؤلاء أنفسهم ولكن الحديث عنهم ابتدئ بتساوي الإنذار وعدمه في جانبهم بقوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٦] فلما أريد تفصيله قدم الختم على قلوبهم لأنه الأصل كما كان اتخاذ

٣٧٦

الهوى كالإله أصلا في وصف حالهم في آية سورة الجاثية. فحالة القلوب هي الأصل في الانصراف عن التلقي والنظر في الآيتين ولكن نظم هذه الآية كان على حسب ما يقتضيه الذكر من الترتيب ونظم آية البقرة كان على حسب ما يقتضيه الطبع. وقرأ الجمهور (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) بتشديد الذال. وقرأه عاصم بتخفيف الذال وأصله عند الجميع تتذكرون. فأما الجمهور فقراءتهم بقلب التاء الثانية ذالا لتقارب مخرجيهما قصدا للتخفيف ، وأما عاصم فقراءته على حذف إحدى التاءين.

(وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤))

هذا عطف على جملة (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) [الجاثية : ٢١] أي بعد أن جادلوا المسلمين بأنه إن كان يبعث بعد الموت فستكون عقباهم خيرا من عقبى المسلمين ، يقولون ذلك لقصد التورك وهم لا يوقنون بالبعث والجزاء بل ضربوه جدلا وإنما يقينهم قولهم (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا).

وتقدم في سورة الأنعام [٢٩] (وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) وضمير (هِيَ) ضمير القصة والشأن ، أي قصة الخوض في البعث تنحصر في أن لا حياة بعد الممات ، أي القصة هي انتفاء البعث كما أفاده حصر الأمر في الحياة الدنيا ، أي الحاضرة القريبة منا ، أي فلا تطيلوا الجدال معنا في إثبات البعث ، ويجوز أن يكون (هِيَ) ضمير الحياة باعتبار دلالة الاستثناء على تقدير لفظ الحياة فيكون حصرا لجنس الحياة في الحياة الدنيا.

وجملة (نَمُوتُ وَنَحْيا) مبيّنة لجملة (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) أي ليس بعد هذا العالم عالم آخر فالحياة هي حياة هذا العالم لا غير فإذا مات من كان حيّا خلفه من يوجد بعده. فمعنى (نَمُوتُ وَنَحْيا) يموت بعضنا ويحيا بعض أي يبقى حيّا إلى أمد أو يولد بعد من ماتوا. وللدلالة على هذا التطور عبّر بالفعل المضارع ، أي تتجدد فينا الحياة والموت. فالمعنى : نموت ونحيا في هذه الحياة الدنيا وليس ثمة حياة أخرى. ثم إن كانت هذه الجملة محكية بلفظ كلامهم فلعلها ممّا جرى مجرى المثل بينهم ، وإن كانت حكاية لمعنى كلامهم فهي من إيجاز القرآن وهم إنما قالوا : يموت بعضنا ويحيا بعضنا ثم يموت فصار كالمثل.

٣٧٧

ولا يخطر بالبال أن حكاية قولهم : (نَمُوتُ وَنَحْيا) تقتضي إرادة نحيا بعد أن نموت لأن قولهم (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) يصرف عن خطور هذا بالبال. والعطف بالواو لا يقتضي ترتيبا بين المتعاطفين في الحصول.

وإنما قدم (نَمُوتُ) في الذكر على (وَنَحْيا) في البيان مع أن المبيّن قولهم (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) فكان الظاهر أن يبدأ في البيان بذكر اللفظ المبيّن فيقال : نحيا ونموت ، فقيل قدّم (نَمُوتُ) لتتأتى الفاصلة بلفظ (نَحْيا) مع لفظ (الدُّنْيا). وعندي أن تقديم فعل (نَمُوتُ) على (نَحْيا) للاهتمام بالموت في هذا المقام لأنهم بصدد تقرير أن الموت لا حياة بعده ويتبع ذلك الاهتمام تأتي طباقين بين حياتنا الدنيا ونموت ثم بين نموت ونحيا. وحصلت الفاصلة تبعا ، وذلك أدخل في بلاغة الإعجاز ولذلك أعقبه بقوله تعالى : (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) فالإشارة بذلك إلى قولهم (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) ، أي لا علم لهم بأن الدهر هو المميت إذ لا دليل.

وأما زيادة (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) فقصدوا تأكيد معنى انحصار الحياة والموت في هذا العالم المعبر عنه عندهم بالدهر. فالحياة بتكوين الخلقة والممات بفعل الدهر. فكيف يرجى لمن أهلكه الدهر أن يعود حيّا فالدهر هو الزمان المستمر المتعاقب ليله ونهاره.

والمعنى : أحياؤنا يصيرون إلى الموت بتأثير الزمان ، أي حدثانه من طول مدة يعقبها الموت بالشيخوخة ، أو من أسباب تفضي إلى الهلاك ، وأقوالهم في هذا كثيرة ومن الشعر القديم قول عمرو بن قميئة :

رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى

فما بال من يرمى وليس برام

ولعلهم يريدون أنه لو تأثر الزمان لبقي الناس أحياء كما قال أسقف نجران :

منع البقاء تقلب الشمس

وطلوعها من حيث لا تمسي

فلما كان الموت بفعل الدهر فكيف يرجى أن يعودوا أحياء. وهذه كلمات كانت تجري على ألسنتهم لقلة التدبر في الأمور وإن كانوا يعلمون أن الله هو الخالق للعوالم ، وأما ما يجري في العالم من التصرفات فلم يكن لهم فيه رأي وكيف وحالتهم الأمية لا تساعد على ذلك ، وكانوا يخطئون في التفاصيل حتى يأتوا بما يناقض ما يعتقدونه ، ولذلك أعقبه بقوله تعالى : (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) فإشارة (بِذلِكَ) إلى قولهم (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) أي لا علم لهم بأن الدهر هو المميت إذ لا دليل على ذلك فإن الدليل النظري

٣٧٨

بيّن أن الدهر وهو الزمان ليس بمميت مباشرة وهو ظاهر ولا بواسطة في الإماتة إذ الزمان أمر اعتباري لا يفعل ولا يؤثر وإنما هو مقادير يقدّر بها الناس الأبعاد بين الحوادث مرجعه إلى تقدير حصة النهار والليل وحصص الفصول الأربعة ، وإنما توهم عامة الناس أن الزمان متصرف ، وهي توهمات شاعت حتى استقرت في الأذهان الساذجة.

والمراد بالظن في قوله : (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) ما ليس بعلم فهو هنا التخيل والتوهم وجملة (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) مبيّنة بجملة (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) أو استئناف بياني كأنّ سائلا حين سمع قوله : (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) سأل عن مستندهم في قولهم ذلك فأجيب بأنه الظن المبني على التخيل.

وجيء بالمضارع في (يَظُنُّونَ) لأنهم يحددون هذا الظن ويتلقاه صغيرهم عن كبيرهم في أجيالهم وما هم بمقلعين عنه.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥))

عطف على (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) [الجاثية : ٢٤] ، أي عقدوا على عقيدة أن لا حياة بعد الممات استنادا للأوهام والأقيسة الخيالية. وإذا تليت عليهم آيات القرآن الواضحة الدلالة على إمكان البعث وعلى لزومه لم يعارضوها بما يبطلها بل يهرعون إلى المباهتة فيقولون إن كان البعث حقا فأتوا بآبائنا إن صدقتم. فالمراد بالآيات آيات القرآن المتعلقة بالبعث بدليل ما قبل الكلام وما بعده.

وفي قوله : (ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا) تسجيل عليهم بالتلجلج عن الحجة البينة ، والمصير إلى سلاح العاجز من المكابرة والخروج عن دائرة البحث.

والخطاب بفعل (ائْتُوا) موجّه للمؤمنين بدخول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. و (إِلَّا أَنْ قالُوا) استثناء من حجتهم وهو يقتضي تسمية كلامهم هذا حجة وهو ليس بحجة إذ هو بالبهتان أشبه فإمّا أن يكون إطلاق اسم الحجة عليه على سبيل التهكم بهم كقول عمرو بن كلثوم :

قريناكم فعجلنا قراكم

قبيل الصبح مرداة طحونا

فسمى القتل قرى ، وعلى هذا يكون الاستثناء في قوله : (إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا) استثناء متصلا تهكما ، وإمّا أن يكون إطلاق اسم الحجة على كلامهم جرى على اعتقادهم

٣٧٩

وتقديرهم دون قصد تهكّم بهم ، أي أتوا بما توهموه حجّة فيكون الإطلاق استعارة صورية والاستثناء على هذا متصل أيضا. وإما أن يكون الإطلاق استعارة بعلاقة الضدية فيكون مجازا مرسلا بتنزيل التضاد منزلة التناسب على قصد التهكم فيكون المعنى أن لا حجة لهم البتة إذ لا حجة لهم إلا هذه ، وهذه ليست بحجة بل هي عناد فيحصل أن لا حجة لهم بطريق التمليح والكناية كقول جران العود :

وبلدة ليس بها أنيس

إلا اليعافير وإلا العيس

أي لا أنس بها البتة.

ويقدر قوله : (أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا) في محل رفع بالاستثناء المفرغ على الاعتبارات الثلاثة فهو اسم (كانَ) و (حُجَّتَهُمْ) خبرها لأن حجتهم منصوب في قراءة جميع القراءات المشهورة.

وتقديم خبر (كانَ) على اسمها لأن اسمها محصور ب (إِلَّا) فحقه التأخير عن الخبر.

(قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦))

تلقين لإبطال قولهم (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية : ٢٤] يتضمن إبطال قولهم (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا) [الجاثية : ٢٤].

والمقصود منه قوله : (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) وإنما قدم عليه (يُحْيِيكُمْ) توطئة له ، أي كما هو أوجدكم هو يميتكم لا الدهر ، فتقديم اسم الله على المسند الفعلي وهو (يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) يفيد تخصيص الإحياء والإماتة به لإبطال قولهم ، إن الدهر هو الذي يميتهم.

وقوله : (ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) إبطال لقولهم : (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) [الجاثية : ٢٤] وليس هو إبطالا بطريق الاستدلال لأن أدلة هذا تكررت فيما نزل من القرآن فاستغني عن تفصيلها ولكنه إبطال بطريق الإجمال والمعارضة.

وقوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) حال من (يَوْمِ الْقِيامَةِ) ، أي لا ريب في وجوده بما يقتضيه من إحياء الأموات ، ومعنى نفي الريب فيه أنه حقيقة الريب وهي التي تتقوم من دلائل تفضي إلى الشك منتفية عن قضية وقوع يوم القيامة بكثرة الدلائل الدالة على إمكانه وعلى أنه بالنسبة لقدرة الله ليس أعجب من بدء الخلق ، وأن الله أخبر عن وقوعه فوجب القطع

٣٨٠