تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

القرآن من المدح ، والنفع بقوله : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ) ، وتشريفه به بقوله : (لَكَ) وأتبع بحظ التابعين له ولكتابه من الاهتداء والانتفاع بقوله (وَلِقَوْمِكَ). ثم عرّض بالمعرضين عنه والمجافين له بقوله : (وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) ، مع التوجيه في معنى كلمة ذكر من إرادة أن هذا الدّين يكسبه ويكسب قومه حسن السمعة في الأمم فمن اتبعه نال حظه من ذلك ومن أعرض عنه عدّ في عداد الحمقى كما سيأتي ، مع الإشارة إلى انتفاع المتبعين به في الآخرة ، واستضرار المعرضين عنه فيها ، وتحقيق ذلك بحرف الاستقبال. فهذه الآية اشتملت على عشرة معان ، وبذلك كانت أوفر معاني من قول امرئ القيس :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

المعدود أبلغ كلام من كلامهم في الإيجاز إذ وقف ، واستوقف ، وبكى واستبكى. وذكر الحبيب ، والمنزل في مصراع. وهذه الآية لا تتجاوز مقدار ذلك المصراع وعدة معانيها عشرة في حين كانت معاني مصراع امرئ القيس ستة مع ما تزيد به هذه الآية من الخصوصيات ، وهي التأكيد ب (إنّ) واللام والكناية ومحسّن التوجيه.

والذكر يحتمل أن يكون ذكر العقل ، أي اهتداءه لما كان غير عالم به ، فشبه بتذكر الشيء المنسيّ وهو ما فسر به كثير الذكر بالتذكير ، أي الموعظة. ويحتمل ذكر اللّسان ، أي أنه يكسبك وقومك ذكرا ، والذكر بهذا المعنى غالب في الذكر بخبره.

والمعنى : أن القرآن سبب الذكر لأنه يكسب قومه شرفا يذكرون بسببه. وقد روي هذا التفسير عن عليّ وابن عباس في رواية ابن عدي وابن مردويه قال القرطبي : «ونظيره قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) يعني القرآن شرف لك ولقومك من قريش ، فالقرآن نزل بلسان قريش فاحتاج أهل اللّغات كلها إلى لسانهم كلّ من آمن بذلك فشرفوا بذلك على سائر أهل اللّغات». ويقال ابن عطية «قال ابن عباس كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرض نفسه على القبائل فإذا قالوا له : فلمن يكون الأمر بعدك؟ سكت حتى إذا نزلت هذه الآية فكان إذا سئل عن ذلك قال : لقريش». ودرج عليه كلام «الكشاف».

ففي لفظ ذكر محسن التوجيه فإذا ضم إليه أن ذكره وقومه بالثناء يستلزم ذم من خالفهم كان فيه تعريض بالمعرضين عنه. وقومه هم قريش لأنهم المقصود بالكلام أو جميع العرب لأنهم شرفوا بكون الرّسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم ونزول القرآن بلغتهم ، وقد ظهر ذلك الشرف لهم في سائر الأعصر إلى اليوم ، ولولاه ما كان للعرب من يشعر بهم من الأمم العظيمة الغالبة على الأرض.

٢٦١

وهذا ثناء سابع على القرآن.

والسؤال في قوله : (وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) سؤال تقرير. فسؤال المؤمنين عن مقدار العمل بما كلفوا به ، وسؤال المشركين سؤال توبيخ وتهديد قال تعالى : (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) [الزخرف : ١٩] وقال تعالى : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) إلى قوله : (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) [الملك : ٨ ، ١١].

(وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥))

الأمر بالسؤال هنا تمثيل لشهرة الخبر وتحققه كما في قول السموأل أو الحارثي :

سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم

وقول زيد الخيل :

سائل فوارس يربوع بشدّتنا

وقوله : (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) [يونس : ٩٤] إذ لم يكن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم في شكّ حتى يسأل ، وإلا فإن سؤاله الرّسل الذين من قبله متعذر على الحقيقة. والمعنى استقر شرائع الرّسل وكتبهم وأخبارهم هل تجد فيها عبادة آلهة. وفي الحديث «واستفت قلبك» أي تثبت في معرفة الحلال والحرام.

وجملة (أَجَعَلْنا) بدل من جملة (وَسْئَلْ) ، والهمزة للاستفهام وهو إنكاري وهو المقصود من الخبر ، وهو ردّ على المشركين في قولهم : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٢] أي ليس آباؤكم بأهدى من الرّسل الأولين إن كنتم تزعمون تكذيب رسولنا لأنه أمركم بإفراد الله بالعبادة. ويجوز أن يجعل السؤال عن شهرة الخبر. ومعنى الكلام : وإنا ما أمرنا بعبادة آلهة دوننا على لسان أحد من رسلنا. وهذا ردّ لقول المشركين (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) [الزخرف : ٢٠].

و (مَنْ) في قوله : (مِنْ قَبْلِكَ) لتأكيد اتصال الظرف بعامله. و (مَنْ) في قوله : (مِنْ رُسُلِنا) بيان ل (قَبْلِكَ).

فمعنى (أَجَعَلْنا) ما جعلنا ذلك ، أي جعل التشريع والأمر ، أي ما أمرنا بأن تعبد آلهة دوننا. فوصف آلهة ب (يُعْبَدُونَ) لنفي أن يكون الله يرضى بعبادة غيره فضلا عن أن

٢٦٢

يكون غيره إلها مثله وذلك أن المشركين كانوا يعبدون الأصنام وكانوا في عقائدهم أشتاتا فمنهم من يجعل الأصنام آلهة شركاء لله ، ومنهم من يزعم أنه يعبدهم ليقربوه من الله زلفى ، ومنهم من يزعمهم شفعاء لهم عند الله. فلما نفي بهذه الآية أن يكون جعل آلهة يعبدون أبطل جميع هذه التمحّلات.

وأجري (آلِهَةً) مجرى العقلاء فوصفوا بصيغة جمع العقلاء بقوله : (يُعْبَدُونَ). ومثله كثير في القرآن جريا على ما غلب في لسان العرب إذ اعتقدوهم عقلاء عالمين. وقرأ ابن كثير والكسائي وسل بتخفيف الهمزة.

[٤٦ ، ٤٧] (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧))

قد ذكر الله في أول السورة قوله : (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ) نبيء (فِي الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ) نبيء (إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) [الزخرف : ٦ ـ ٨]. وساق بعد ذلك تذكرة بإبراهيم عليه‌السلام مع قومه ، وما تفرع على ذلك من أحوال أهل الشرك فلما تقضّى أتبع بتنظير حال الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع طغاة قومه واستهزائهم بحال موسى مع فرعون وملئه ، فإنّ للمثل والنظائر شأنا في إبراز الحقائق وتصوير الحالين تصويرا يفضي إلى ترقب ما كان لإحدى الحالتين من عواقب أن تلحق أهل الحالة الأخرى ، فإن فرعون وملئه تلقّوا موسى بالإسراف في الكفر وبالاستهزاء به وباستضعافه إذ لم يكن ذا بذخة ولا محلّى بحلية الثراء وكانت مناسبة قوله (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) [الزخرف : ٤٥] الآية هيّأت المقام لضرب المثل بحال بعض الرّسل الذين جاءوا بشريعة عظمى قبل الإسلام.

والمقصود من هذه القصة هو قوله فيها (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) [الزخرف : ٥٥ ، ٥٦] ، فإن المراد بالآخرين المكذبون صناديد قريش. ومن المقصود منها بالخصوص هنا : قوله (وَمَلَائِهِ) أي عظماء قومه فإن ذلك شبيه بحال أبي جهل وأضرابه ، وقوله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) لأن حالهم في ذلك مشابه لحال قريش الذي أشار إليه قوله : (وَكَمْ أَرْسَلْنا) من نبيء (فِي الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ) من نبيء (إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [الزخرف : ٦ ، ٧] ، وقوله بعد ذلك (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) [الزخرف : ٥٢] لأنهم أشبهوا بذلك حال أبي جهل ونحوه في قولهم :

٢٦٣

(لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] إلّا أن كلمة سادة قريش كانت أقرب إلى الأدب من كلمة فرعون لأن هؤلاء كان رسولهم من قومهم فلم يتركوا جانب الحياء بالمرة وفرعون كان رسوله غريبا عنهم. وقوله (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ) أساورة (مِنْ ذَهَبٍ) [الزخرف : ٥٣] لأنه مشابه لما تضمنه قول صناديد قريش (عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] فإن عظمة ذينك الرجلين كانت بوفرة المال ، ولذلك لم يذكر مثله في غير هذه القصة من قصص بعثة موسى عليه‌السلام ، وقولهم : (يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ) [الزخرف : ٤٩] وهو مضاه لقوله في قريش (هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) [الزخرف : ٣٠] ، وقوله : (فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) [الزخرف : ٥٥] الدالّ على أن الله أهلكهم كلّهم ، وذلك إنذار بما حصل من استئصال صناديد قريش يوم بدر.

فحصل من العبرة في هذه القصة أمران :

أحدهما : أن الكفار والجهلة يتمسكون بمثل هذه الشبهة في رد فضل الفضلاء فيتمسكون بخيوط العنكبوت من الأمور العرضية التي لا أثر لها في قيمة النفوس الزكية.

وثانيهما : أن فرعون صاحب العظمة الدنيوية المحضة صار مقهورا مغلوبا انتصر عليه الذي استضعفه ، وتقدم نظير هذه الآية غير مرة.

و (إِذا) حرف مفاجأة ، أي يدل على أن ما بعده حصل عن غير ترقب فتفتتح به الجملة التي يفاد منها حصول حادث على وجه المفاجأة. ووقعت الجملة التي فيها (إِذا) جوابا لحرف (لمّا) ، وهي جملة اسمية و (لمّا) تقتضي أن يكون جوابها جملة فعلية ، لأن ما في (إِذا) من معنى المفاجأة يقوم مقام الجملة الفعلية.

والضحك : كناية عن الاستخفاف بالآيات والتكذيب فلا يتعيّن أن يكون كل الحاضرين صدر منهم ضحك ، ولا أن ذلك وقع عند رؤية آية إذ لعل بعضها لا يقتضي الضحك.

(وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨))

الأظهر أن جملة (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) في موضع الحال ، وأن الواو واو الحال وأن الاستثناء من أحوال ، وما بعد (إِلَّا) في موضع الحال ،

٢٦٤

واستغنت عن الواو لأن (إِلَّا) كافية في الربط. والمعنى : أنهم يستخفّون بالآيات التي جاء بها موسى في حال أنّها آيات كبيرة عظيمة فإنما يستخفّون بها لمكابرتهم وعنادهم.

وصوغ (نُرِيهِمْ) بصيغة المضارع لاستحضار الحالة. ومعنى (هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) يحتمل أن يراد به أن كل آية تأتي تكون أعظم من التي قبلها ، فيكون هنالك صفة محذوفة لدلالة المقام ، أي من أختها السابقة ، كقوله تعالى : (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) [الكهف : ٧٩] ، أي كل سفينة صحيحة ، وهذا يستلزم أن تكون الآيات مترتبة في العظم بحسب تأخر أوقات ظهورها لأن الإتيان بآية بعد أخرى ناشئ عن عدم الارتداع من الآية السابقة. ويحتمل ما قال صاحب «الكشاف» أن الآيات موصوفات بالكبر لا بكونها متفاوتة فيه وكذلك العادة في الأشياء التي تتلاقى في الفضل وتتفاوت منازلها فيه التفاوت اليسير ، أي تختلف آراء النّاس في تفضيلها ، فعلى ذلك بنى النّاس كلامهم فقالوا : رأيت رجالا بعضهم أفضل من بعض ، وربّما اختلفت آراء الرجل الواحد فيها فتارة يفضل هذا وتارة يفضل ذاك ، ومنه بيت الحماسة (١) :

من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم

مثل النجوم التي يسري بها الساري

وقد فاضلت الأنماريّة (٢) بين الكملة من بنيها ثم قالت لمّا أبصرت مراتبهم متقاربة قليلة التفاوت : ثكلتهم إن كنت أعلم أيّهم أفضل ، هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها. فالمعنى : وما نريهم من آية إلّا وهي آية جليلة الدلالة على صدق الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم تكاد تنسيهم الآية الأخرى. والأخت مستعارة للمماثلة في كونها آية.

وعطف (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) على جملة (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ) لأن العذاب كان من الآيات.

والعذاب : عذاب الدنيا ، وهو ما يؤلم ويشق ، وذلك القحط والقمّل والطوفان والضفادع والدم في الماء.

والأخذ بمعنى : الإصابة. والباء في (بِالْعَذابِ) للاستعانة كما تقول : خذ الكتاب بقوة ، أي ابتدأناهم بالعذاب قبل الاستئصال لعل ذلك يفيقهم من غفلتهم ، وفي هذا

__________________

(١) قائله هو العرندس الكلابي أو عبيد بن العرندس من أبيات.

(٢) الأنمارية هي فاطمة بنت الخرشب الأنمارية أم الكملة من بني عبس وهم أبناء زياد : ربيع وعمارة وقيس وأنس. ولهم ألقاب : الكامل ، والحافظ ، والوهاب ، وأنس الفوارس.

٢٦٥

تعريض بأهل مكة إذ أصيبوا بسني القحط.

والرجوع : مستعار للإذعان والاعتراف ، وليس هو كالرجوع في قوله آنفا (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الزخرف : ٢٨]. وضمائر الغيبة في (نُرِيهِمْ) و (أَخَذْناهُمْ) ، و (لَعَلَّهُمْ) عائدة إلى فرعون وملئه.

(وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩))

عطف على (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) [الزخرف : ٤٨]. والمعنى : ولما أخذناهم بالعذاب على يد موسى سألوه أن يدعو الله بكشف العذاب عنهم. ومخاطبتهم موسى بوصف الساحر مخاطبة تعظيم تزلفا إليه لأن الساحر عندهم كان هو العالم وكانت علوم علمائهم سحرية ، أي ذات أسباب خفية لا يعرفها غيرهم وغير أتباعهم ، ألا ترى إلى قول ملأ فرعون له (وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) [الشعراء : ٣٦ ، ٣٧].

وكان السحر بأيدي الكهنة ومن مظاهره تحنيط الموتى الذي بقيت به جثث الأموات سالمة من البلى ولم يطلع أحد بعدهم على كيفية صنعه. وفي آية الأعراف [١٣٤] (قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ) ، ولا تنافي ما هنا لأن الخطاب خطاب إلحاح فهو يتكرر ويعاد بطرق مختلفة.

وقرأ الجمهور يأيه الساحر بدون ألف بعد الهاء في الوصل وهو ظاهر ، وفي الوقف أي بفتحة دون ألف وهو غير قياسي لكن القراءة رواية. وعلله أبو شامة بأنهم اتبعوا الرّسم وفيه نظر. وقرأه أبو عمرو والكسائي ويعقوب بإثبات الألف في الوقف. وقرأه ابن عامر بضم الهاء في الوصل خاصة وهو لغة بني أسد ، وكتبت في المصحف كلمة أيه بدون ألف بعد الهاء ، والأصل أن تكون بألف بعد الهاء لأنها (ها) حرف تنبيه يفصل بين (أيّ) وبين نعتها في النداء فحذفت الألف في رسم المصحف رعيا لقراءة الجمهور والأصل أن يراعى في الرسم حالة الوقف.

وعنوا ب (رَبَّكَ) الرب الذي دعاهم موسى إلى عبادته. والقبط كانوا يحسبون أن لكل أمة ربّا ولا يحيلون تعدد الآلهة ، وكانت لهم أرباب كثيرون مختلفة أعمالهم وقدرهم ومثل ذلك كانت عقائد اليونان.

وأرادوا (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) ما خصك بعلمه دون غيرك مما استطعت به أن تأتي بخوارق العادة. وكانوا يحسبون أن تلك الآيات معلولة لعلل خفية قياسا على معارفهم

٢٦٦

بخصائص بعض الأشياء التي لا تعرفها العامة ، وكان الكهنة يعهدون بها إلى تلامذتهم ويوصونهم بالكتمان.

والعهد : هو الائتمان على أمر مهمّ ، وليس مرادهم به النبوءة لأنهم لم يؤمنوا به وإذ لم يعرفوا كنه العهد عبروا عنه بالموصول وصلته. والباء في قوله : (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) متعلقة ب (ادْعُ) وهي للاستعانة. ولما رأوا الآيات علموا أن رب موسى قادر ، وأن بينه وبين موسى عهدا يقتضي استجابة سؤله.

وجملة (إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) جواب لكلام مقدر دل عليه (ادْعُ لَنا رَبَّكَ) أي فإن دعوت لنا وكشفت عنا العذاب لنؤمننّ لك كما في آية الأعراف [١٣٤] (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ) الآية. ف (مهتدون) اسم فاعل مستعمل في معنى الوعد وهو منصرف للمستقبل بالقرينة كما دلّ عليه قوله : (يَنْكُثُونَ) [الزخرف : ٥٠] ونظيره قوله في سورة الدخان [١٢ ، ١٣] حكاية عن المشركين (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) الآية. وسمّوا تصديقهم إياه اهتداء لأن موسى سمى ما دعاهم إليه هديا كما في آية النازعات [١٩] (وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى).

(فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠))

أي تفرع على تضرعهم ووعدهم بالاهتداء إذا كشف عنهم العذاب أنهم نكثوا الوعد.

والنكث : نقض الحبل المبرم ، وتقدم في قوله : (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) في سورة الأعراف [١٣٥] ، وهو مجاز في الخيس بالعهد.

والكلام على تركيب هذه الجملة مثل الكلام على قوله آنفا (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) [الزخرف : ٤٧].

(وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١))

لما كشف عنهم العذاب بدعوة موسى ، وأضمر فرعون وملؤه نكث الوعد الذي وعدوه موسى بأنهم يهتدون ، خشي فرعون أن يتبع قومه دعوة موسى ويؤمنوا برسالته فأعلن في قومه تذكيرهم بعظمة نفسه ليثبّتهم على طاعته ، ولئلا ينقل إليهم ما سأله من موسى وما

٢٦٧

حصل من دعوته بكشف العذاب وليحسبوا أن ارتفاع العذاب أمر اتفاقي إذ قومه لم يطلعوا على ما دار بينه وبين موسى من سؤال كشف العذاب.

والنداء : رفع الصوت ، وإسناده إلى فرعون مجاز عقلي ، لأنه الذي أمر بالنداء في قومه. وكان يتولى النداء بالأمور المهمة الصادرة عن الملوك والأمراء منادون يعيّنون لذلك وربما نادوا في الأمور التي يراد علم الناس بها. ومن ذلك ما حكي في قوله تعالى في سورة يوسف [٧٠] (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) وقوله تعالى : (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) [الشعراء : ٥٣ ـ ٥٥].

ووقع في المقامة الثلاثين للحريري : «فلما جلس كأنه ابن ماء السماء ، نادى مناد من قبل الأحماء ، وحرمة ساسان أستاذ الأستاذين ، وقدوة الشحّاذين ، لا عقد هذا العقد المبجّل ، في هذا اليوم الأغرّ المحجّل ، إلا الذي جال وجاب ، وشبّ في الكدية وشاب». فذلك نداء لإعلان العقد.

وجملة (قالَ) إلخ مبيّنة لجملة (نادى) ، والمجاز العقلي في (قالَ) مثل الذي في (وَنادى فِرْعَوْنُ).

وفرعون المحكي عنه في هذه القصة هو منفطاح الثاني.

فالأنهار : فروع النيل وترعه ، لأنها لعظمها جعل كل واحد منها مثل نهر فجمعت على أنهار وإنما هي لنهر واحد هو النيل. فإن كان مقر ملك فرعون هذا في مدينة منفيس فاسم الإشارة في قوله : (وَهذِهِ الْأَنْهارُ) إشارة إلى تفاريع النيل التي تبتدئ قرب القاهرة فيتفرع النيل بها إلى فرعين عظيمين فرع دمياط وفرع رشيد ، وتعرف بالدّلتا. وأحسب أنه الذي كان يدعى فرع تنيس لأن تنيس كانت في تلك الجهة وغمرها البحر ، وله تفاريع أخرى صغيرة يسمى كل واحد منها ترعة ، مثل ترعة الإسماعيلية ، وهنالك تفاريع أخرى تدعى الرياح. وإن كان مقر ملكه طيبة التي هي بقرب مدينة آبو اليوم فالإشارة إلى جداول النيل وفروعه المشهورة بين أهل المدينة كأنها مشاهدة لعيونهم.

ومعنى قوله : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) يحتمل أن يكون ادّعى أنّ النيل يجري بأمره ، فيكون (مِنْ تَحْتِي) كناية عن التسخير كقوله تعالى : (كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ) [التحريم : ١٠] أي كانتا في عصمتهما. ويقول النّاس : دخلت البلدة الفلانية تحت الملك فلان ، ويحتمل أنه أراد أن النيل يجري في مملكته من بلاد أصوان إلى البحر

٢٦٨

فيكون في (تَحْتِي) استعارة للتمكن من تصاريف النيل كالاستعارة في قوله تعالى : (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) [مريم : ٢٤] على تفسير (سريا) بنهر ، وكان مثل هذا الكلام يروج على الدهماء لسذاجة عقولهم. ويجوز أن يكون المراد بالأنهار مصبّ المياه التي كانت تسقي المدينة والبساتين التي حولها وأن توزيع المياه كان بأمره في سداد وخزّانات ، فهو يهوّل عليهم بأنه إذا شاء قطع عنهم الماء على نحو قول يوسف (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) [يوسف : ٥٩] فيكون معنى (مِنْ تَحْتِي) من تحت أمري أي لا تجري إلا بأمري ، وقد قيل : كانت الأنهار تجري تحت قصره.

والاستفهام في (أَفَلا تُبْصِرُونَ) تقريري جاء التقرير على النفي تحقيقا لإقرارهم حتى أن المقرر يفرض لهم الإنكار فلا ينكرون.

(أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢))

(أَمْ) منقطعة بمعنى (بل) للإضراب الانتقالي. والتقدير : بل أأنا خير ، والاستفهام اللازم تقديره بعدها تقريريّ. ومقصوده : تصغير شأن موسى في نفوسهم بأشياء هي عوارض ليست مؤثرة انتقل من تعظيم شأن نفسه إلى إظهار البون بينه وبين موسى الذي جاء يحقر دينه وعبادة قومه إياه ، فقال : أنا خير من هذا. والإشارة هنا للتحقير. وجاء بالموصول لادعاء أن مضمون الصلة شيء عرف به موسى.

والمهين بفتح الميم : الذليل الضعيف ، أراد أنه غريب ليس من أهل بيوت الشرف في مصر وليس له أهل يعتزّ بهم ، وهذا سفسطة وتشغيب إذ ليس المقام مقام انتصار حتى يحقّر القائم فيه بقلة النصير ، ولا مقام مباهاة حتى ينتقص صاحبه بضعف الحال.

وأشار بقوله : (وَلا يَكادُ يُبِينُ) إلى ما كان في منطق موسى من الحبسة والفهاهة كما حكى الله في الآية عن موسى (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي) [القصص : ٣٤] وفي الأخرى (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي) [طه : ٢٧ ، ٢٨] ، وليس مقام موسى يومئذ مقام خطابة ولا تعليم وتذكير حتى تكون قلة الفصاحة نقصا في عمله ، ولكنه مقام استدلال وحجة فيكفي أن يكون قادرا على إبلاغ مراده ولو بصعوبة وقد أزال الله عنه ذلك حين تفرغ لدعوة بني إسرائيل كما قال : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) [طه : ٣٦]. ولعلّ فرعون قال ذلك لما يعلم من حال موسى قبل أن يرسله الله حين كان في بيت فرعون فذكر ذلك من حاله ليذكّر الناس بأمر قديم فإن فرعون الذي بعث موسى في

٢٦٩

زمنه هو منفطاح الثاني وهو ابن رعمسيس الثاني الذي ولد موسى في أيامه وربّي عنده ، وهذا يقتضي أن (منفطاح) كان يعرف موسى ولذلك قال له (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) [الشعراء : ١٨].

وأما رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما أرسل إلى أمّة ذات فصاحة وبلاغة وكانت معجزته القرآن المعجز في بلاغته وفصاحته وكانت صفة الرّسول الفصاحة لتكون له المكانة الجليلة في نفوس قومه.

ومعنى (وَلا يَكادُ يُبِينُ) ويكاد أن لا يبين ، وقد تقدم القول في مثله عند قوله تعالى: (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) في سورة البقرة [٧١].

(فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣))

لمّا تضمن وصفه موسى بمهين ولا يكاد يبين أنه مكذّب له دعواه الرسالة عن الله فرع عليه قوله : (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ) أساورة (مِنْ ذَهَبٍ) ترقيا في إحالة كونه رسولا من الله ، وفرعون لجهله أو تجاهله يخيّل لقومه أن للرسالة شعارا كشعار الملوك.

و (لو لا) حرف تحضيض مستعمل في التعجيز مثل ما في قوله (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ). [الزخرف : ٣١].

والإلقاء : الرمي وهو مستعمل هنا في الإنزال ، أي هلّا ألقي عليه من السماء أساورة من ذهب ، أي سوّره الرّب بها ليجعله ملكا على الأمة. وقرأ الجمهور أساورة ، وقرأ حفص عن عاصم ويعقوب (أَسْوِرَةٌ).

والأساورة : جمع أسوار لغة في سوار. وأصل الجمع أساوير مخفف بحذف إشباع الكسرة ثم عوّض الهاء عن المحذوف كما عوضت في زنادقة جمع زنديق إذ حقه زناديق. وأما سوار فيجمع على أسورة.

والسوار : حلقة عريضة من ذهب أو فضة تحيط بالرسغ ، هو عند معظم الأمم من حلية النساء الحرائر ولذلك جاء في المثل : لو ذات سوار لطمتني أي لو حرّة لطمتني ، قاله أحد الأسرى لطمته أمة لقوم هو أسيرهم. وكان السوار من شعار الملوك بفارس ومصر يلبس الملك سوارين. وقد كان من شعار الفراعنة لبس سوارين أو أسورة من ذهب وربما جعلوا سوارين على الرسغين وآخرين على العضدين. فلما تخيّل فرعون أن رتبة الرسالة

٢٧٠

مثل الملك حسب افتقادها هو من شعار الملوك عندهم أمارة على انتفاء الرسالة.

و (أَوْ) للترديد ، أي إن لم تلق عليه أساورة من ذهب فلتجئ معه طوائف من الملائكة شاهدين له بالرسالة.

ولم أقف على أنهم كانوا يثبتون وجود الملائكة بالمعنى المعروف عند أهل الدين الإلهي فلعل فرعون ذكر الملائكة مجاراة لموسى إذ لعله سمع منه أن لله ملائكة أو نحو ذلك في مقام الدعوة فأراد إفحامه بأن يأتي معه بالملائكة الذين يظهرون له.

و (مُقْتَرِنِينَ) حال من (الْمَلائِكَةُ) ، أي مقترنين معه فهذه الحال مؤكدة لمعنى (مَعَهُ) لئلا يحمل معنى المعية على إرادة أن الملائكة تؤيّده بالقول من قولهم : قرنته به فاقترن ، أي مقترنين بموسى وهو اقتران النصير لنصيره.

(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤))

أي فتفرع عن نداء فرعون قومه أن أثّر بتمويهه في نفوس ملئه فعجّلوا بطاعته بعد أن كانوا متهيئين لاتباع موسى لما رأوا الآيات. فالخفة مستعارة للانتقال من حالة التأمل في خلع طاعة فرعون والتثاقل في اتباعه إلى التعجيل بالامتثال له كما يخف الشيء بعد التثاقل.

والمعنى يرجع إلى أنه استخف عقولهم فأسرعوا إلى التصديق بما قاله بعد أن صدّقوا موسى في نفوسهم لمّا رأوا آياته نزولا ورفعا. والمراد ب (قَوْمَهُ) هنا بعض القوم ، وهم الذين حضروا مجلس دعوة موسى هؤلاء هم الملأ الذين كانوا في صحبة فرعون.

والسين والتاء في استخف لمبالغة في أخفّ مثل قوله تعالى : (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ) [آل عمران : ١٥٥] وقولهم : هذا فعل يستفزّ غضب الحليم.

وجملة (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) في موضع العلة لجملة (فَأَطاعُوهُ) كما هو شأن (إنّ) إذا جاءت في غير مقام التأكيد فإن كونهم قد كانوا فاسقين أمر بيّن ضرورة أن موسى جاءهم فدعاهم إلى ترك ما كانوا عليه من عبادة الأصنام فلا يقتضي في المقام تأكيد كونهم فاسقين ، أي كافرين. والمعنى : أنهم إنما خفّوا لطاعة رأس الكفر لقرب عهدهم بالكفر لأنهم كانوا يؤلّهون فرعون فلما حصل لهم تردّد في شأنه ببعثة موسى عليه‌السلام لم يلبثوا أن رجعوا إلى طاعة فرعون بأدنى سبب.

٢٧١

والمراد بالفسق هنا : الكفر ، كما قال في شأنهم في آية الأعراف [١٤٥] (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ).

[٥٥ ، ٥٦] (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦))

عقب ما مضى من القصة بالمقصود وهو هذه الأمور الثلاثة المترتبة المتفرع بعضها على بعض وهي : الانتقام ، فالإغراق ، فالاعتبار بهم في الأمم بعدهم.

والأسف : الغضب المشوب بحزن وكدر ، وأطلق على صنيع فرعون وقومه فعل (آسَفُونا) لأنه فعل يترتب عليه انتقام الله منهم انتقاما كانتقام الآسف لأنهم عصوا رسوله وصمّموا على شركهم بعد ظهور آيات الصدق لموسى عليه‌السلام.

فاستعير (آسَفُونا) لمعنى عصونا للمشابهة ، والمعنى : فلما عصونا عصيان العبد ربّه المنعم عليه بكفران النعمة ، والله يستحيل عليه أن يتصف بالآسف كما يستحيل عليه أن يتصف بالغضب على الحقيقة ، فيؤول المعنى إلى أن الله عاملهم كما يعامل السيد المأسوف عبدا آسفه فلم يترك لرحمة سيده مسلكا. وفعل أسف قاصر فعدّي إلى المفعول بالهمزة.

وفي قوله : (فَلَمَّا آسَفُونا) إيجاز لأن كونهم مؤسفين لم يتقدم له ذكر حتى يبنى أنه كان سببا للانتقام منهم فدلّ إناطة أداة التوقيت به على أنه قد حصل ، والتقدير : فآسفونا فلما آسفونا انتقمنا منهم. والانتقام تقدم معناه قريبا عند قوله تعالى : (فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) [الزخرف : ٤١].

وإنما عطف (فَأَغْرَقْناهُمْ) بالفاء على (انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) مع أن إغراقهم هو عين الانتقام منهم ، إمّا لأن فعل (انْتَقَمْنا) مؤوّل بقدّرنا الانتقام منهم فيكون عطف (فَأَغْرَقْناهُمْ) بالفاء كالعطف في قوله : (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] ، وإما أن تجعل الفاء زائدة لتأكيد تسبب (آسَفُونا) في الإغراق ، وأصل التركيب : انتقمنا منهم فأغرقناهم ، على أن جملة (فَأَغْرَقْناهُمْ) مبينة لجملة (انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) فزيدت الفاء لتأكيد معنى التبيين ، وإما أن تجعل الفاء عاطفة جملة (انْتَقَمْنا) على جملة (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ) [الزخرف : ٥٤] (فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) وتكون جملة (انْتَقَمْنا) معترضة بين الجملة المفرعة والمفرعة عنها ، وتقدم نظير هذا عند قوله تعالى : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي

٢٧٢

الْيَمِ) [الأعراف : ١٣٦].

وفرع على إغراقهم أن الله جعلهم سلفا لقوم آخرين ، أي يأتون بعدهم. والسلف بفتح السين وفتح اللام في قراءة الجمهور : جمع سالف مثل : خدم لخادم ، وحرس لحارس. والسالف الذي يسبق غيره في الوجود أو في عمل أو مكان ، ولما ذكر الانتقام كان المراد بالسلف هنا السالف في الانتقام ، أي أنّ من بعدهم سيلقون مثل ما لقوا. وقرأ حمزة وحده والكسائي (سَلَفاً) بضم السين وضم اللام وهو جمع سليف اسم للفريق الذي سلف ومضى.

والمثل : النظير والمشابه ، يقال : مثل بفتحتين كما يقال شبه ، أي مماثل. قال أبو علي الفارسي : المثل واحد يراد به الجمع. وأطلق المثل على لازمه على سبيل الكناية ، أي جعلناهم عبرة للآخرين يعلمون أنهم إن عملوا مثل عملهم أصابهم مثل ما أصابهم. ويجوز أن يكون المثل هنا بمعنى الحديث العجيب الشأن الذي يسير بين النّاس مسير الأمثال ، أي جعلناهم للآخرين حديثا يتحدثون به ويعظهم به محدّثهم.

ومعنى الآخرين ، النّاس الذين هم آخر مماثل لهم في حين هذا الكلام فتعين أنهم المشركون المكذبون للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن هؤلاء هم آخر الأمم المشابهة لقوم فرعون في عبادة الأصنام وتكذيب الرّسول. ومعنى الكلام : فجعلناهم سلفا لكم ومثلا لكم فاتّعظوا بذلك.

ويتعلق (لِلْآخِرِينَ) ب (سَلَفاً وَمَثَلاً) على وجه التنازع.

[٥٧ ، ٥٨] (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨))

عطف قصة من أقاصيص كفرهم وعنادهم على ما مضى من حكاية أقاويلهم ، جرت في مجادلة منهم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا تصدير وتمهيد بين يدي قوله : (وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ) [الزخرف : ٦٣] الآيات الذي هو المقصود من عطف هذا الكلام على ذكر رسالة موسى عليه‌السلام.

واقتران الكلام بلما المفيدة وجود جوابها عند وجود شرطها ، أو توقيته ، يقتضي أن مضمون شرط لما معلوم الحصول ومعلوم الزمان فهو إشارة إلى حديث جرى بسبب مثل ضربه ضارب لحال من أحوال عيسى ، على أن قولهم (أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) يحتمل أن

٢٧٣

يكون جرى في أثناء المجادلة في شأن عيسى ، ويحتمل أن يكون مجرد حكاية شبهة أخرى من شبه عقائدهم ، ففي هذه الآية إجمال يبينه ما يعرفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون من جدل جرى مع المشركين ، ويزيده بيانا قوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) [الزخرف : ٥٩] وهذه الآية من أخفى آي القرآن معنى مرادا.

وقد اختلف أهل التفسير في سبب نزول هذه الآية وما يبين إجمالها على ثلاثة أقوال ذكرها في «الكشاف» وزاد من عنده احتمالا رابعا. وأظهر الأقوال ما ذكره ابن عطية عن ابن عباس وما ذكره في «الكشاف» وجها ثانيا ووجها ثالثا أن المشركين لما سمعوا من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بيان (إِنَّ مَثَلَ عِيسى) .. (كَمَثَلِ آدَمَ) [آل عمران : ٥٩] وليس خلقه من دون أب بأعجب من خلق آدم من دون أب ولا أم أو ذلك قبل أن تنزل سورة آل عمران لأن تلك السورة مدنية وسورة الزخرف مكية قالوا : نحن أهدى من النصارى لأنهم عبدوا آدميا ونحن عبدنا الملائكة أي يدفعون ما سفههم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن حقه أن يسفه النصارى فنزل قوله تعالى : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً) الآية ولعلهم قالوا ذلك عن تجاهل بما جاء في القرآن من ردّ على النصارى.

والذي جرى عليه أكثر المفسرين أن سبب نزولها الإشارة إلى ما تقدم في سورة الأنبياء [٩٨] عند قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) إذ قال عبد الله بن الزبعرى قبل إسلامه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم» ، قال : «خصمتك ورب الكعبة ألست تزعم أن عيسى ابن مريم نبيء وقد عبدته النصارى فإن كان عيسى في النّار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه» ففرح بكلامه من حضر من المشركين وضجّ أهل مكة بذلك فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) في سورة الأنبياء [١٠١] ونزلت هذه الآية تشير إلى لجاجهم.

وبعض المفسرين يزيد في رواية كلام ابن الزبعرى : وقد عبدت بنو مليح الملائكة فإن كان عيسى والملائكة في النّار فقد رضينا. وهذا يتلاءم مع بناء فعل (ضُرِبَ) للمجهول لأن الذي جعل عيسى مثلا لمجادلته هو عبد الله بن الزبعرى ، وليس من عادة القرآن تسمية أمثاله ، ولو كان المثل مضروبا في القرآن لقال : ولما ضربنا ابن مريم مثلا ، كما قال بعده (وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) [الزخرف : ٥٩]. ويتلاءم مع تعدية فعل (يَصِدُّونَ) بحرف (من) الابتدائية دون حرف (عن) ومع قوله : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً

٢٧٤

بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) لأن الظاهر أن ضمير النصب في (ضَرَبُوهُ) عائد إلى ابن مريم.

والمراد بالمثل على هذا الممثّل به والمشبّه به ، لأن ابن الزبعرى نظّر آلهتهم بعيسى في أنها عبدت من دون الله مثله فإذا كانوا في النار كان عيسى كذلك. ولا يناكد هذا الوجه إلا ما جرى عليه عد السور في ترتيب النزول من عدّ سورة الأنبياء التي كانت آيتها سبب المجادلة متأخرة في النزول عن سورة الزخرف ولعل تصحيح هذا الوجه عندهم بكر بالإبطال على من جعل سورة الأنبياء متأخرة في النزول عن سورة الزخرف بل يجب أن تكون سابقة حتى تكون هذه الآية مذكّرة بالقصة التي كانت سبب نزول سورة الأنبياء ، وليس ترتيب النزول بمتفق عليه ولا بمحقق السند فهو يقبل منه ما لا معارض له. على أنه قد تنزل الآية ثم تلحق بسورة نزلت قبلها.

فإذا رجح أن تكون سورة الأنبياء نزلت قبل سورة الزخرف كان الجواب القاطع لابن الزبعرى في قوله تعالى فيها : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) [الأنبياء: ١٠١] لأنه يعني أن عدم شمول قوله : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨] لعيسى معلوم لكل من له نظر وإنصاف لأن الحكم فيها إنما أسند إلى معبودات المشركين لا إلى معبود النصارى وقليل من قبائل العرب التي لم تقصد بالخطاب القرآني أيامئذ ، ولما أجابهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الآية لجميع الأمم إنما عنى المعبودات التي هي من جنس أصنامهم لا تفقه ولا تتصف بزكاء ، بخلاف الصالحين الذين شهد لهم القرآن برفعة الدرجة قبل تلك الآية وبعدها ، إذ لا لبس في ذلك ، ويكون الجواب المذكور هنا في سورة الزخرف بقوله : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) جوابا إجماليا ، أي ما أرادوا به إلا التمويه لأنهم لا يخفى عليهم أن آية سورة الأنبياء تفيد أن عيسى ليس حصب جهنم ، والمقام هنا مقام إجمال لأن هذه الآية إشارة وتذكير إلى ما سبق من الحادثة حين نزول آية سورة الأنبياء.

وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر وخلف (يَصِدُّونَ) بضم الصاد من الصدود إما بمعنى الإعراض والمعرض عنه محذوف لظهوره من المقام ، أي يعرضون عن القرآن لأنهم أوهموا بجدلهم أن في القرآن تناقضا ، وإما على أن الضم لغة في مضارع صدّ بمعنى ضجّ مثل لغة كسر الصاد وهو قول الفراء والكسائي. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم ويعقوب بكسر الصاد وهو الصد بمعنى الضجيج والصخب. والمعنى : إذا قريش قومك يصخبون ويضجّون من احتجاج ابن

٢٧٥

الزبعرى بالمثل بعيسى في قوله ، معجبين بفلجه وظهور حجته لضعف إدراكهم لمراتب الاحتجاج.

والتعبير عن قريش بعنوان (قَوْمُكَ). للتعجيب منهم كيف فرحوا من تغلب ابن الزبعرى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزعمهم في أمر عيسى عليه‌السلام ، أي مع أنهم قومك وليسوا قوم عيسى ولا أتباع دينه فكان فرحهم ظلما من ذوي القربى ، قال زهير :

وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة

على المرء من وقع الحسام المهنّد

و (من) في قوله (مِنْهُ) على الاحتمالين ليست لتعدية (يَصِدُّونَ) إلى ما في معنى المفعول ، لأن الفعل إنما يتعدّى إليه بحرف (عن) ، ولا أن الضمير المجرور بها عائد إلى القرآن ولكنها متعلقة ب (يَصِدُّونَ) تعلقا على معنى الابتداء ، أي يصدون صدّا ناشئا منه ، أي من المثل ، أي ضرب لهم مثل فجعلوا ذلك المثل سببا للصدّ. وقالوا جميعا : آلهتنا خير أم هو ، تلقفوها من فم ابن الزبعرى حين قالها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعادوها. فهذا حكاية لقول ابن الزبعرى : إنك تزعم أن عيسى نبيء وقد عبدته النصارى فإن كان عيسى في النار قد رضينا أن نكون وآلهتنا في النار.

والاستفهام في قوله : (آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) تقريري للعلم بأن النبي يفضل عيسى على آلهتهم ، أي فقد لزمك أنك جعلت أهلا للنار من كنت تفضله فأمر آلهتنا هيّن.

وضمير الرفع في (ما ضَرَبُوهُ) عائد إلى ابن الزبعرى وقومه الذين أعجبوا بكلامه وقالوا بموجبه. وضمير النصب الغائب يجوز أن يكون عائدا إلى المثل في قوله : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً) ، أي ما ضربوا لك ذلك المثل إلا جدلا منهم ، أي محاجة وإفحاما لك وليسوا بمعتقدين هون أمر آلهتهم عندهم ، ولا بطالبين الميز بين الحق والباطل ، فإنهم لا يعتقدون أن عيسى خير من آلهتهم ولكنهم أرادوا مجاراة النبي في قوله ليفضوا إلى إلزامه بما أرادوه من المناقضة.

ويجوز أن يكون ضمير النصب في (ضَرَبُوهُ) عائدا إلى مصدر مأخوذ من فعل (وَقالُوا) ، أي ما ضربوا ذلك القول ، أي ما قالوه إلا جدلا. فالضرب بمعنى الإيجاد كما يقال : ضرب بيتا ، وقول الفرزدق :

ضربت عليك العنكبوت بنسجها

والاستثناء في (إِلَّا جَدَلاً) مفرّغ للمفعول لأجله أو للحال ، فيجوز أن ينتصب

٢٧٦

(جَدَلاً) على المفعول لأجله ، أي ما ضربوه لشيء إلّا للجدل ، ويجوز أن ينصب على الحال بتأويله بمجادلين أي ما ضربوه في حال من أحوالهم إلا في حال أنهم مجادلون لا مؤمنون بذلك.

وقوله : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) إضراب انتقالي إلى وصفهم بحب الخصام وإظهارهم من الحجج ما لا يعتقدونه تمويها على عامتهم.

والخصم بكسر الصاد : شديد التمسك بالخصومة واللجاج مع ظهور الحق عنده ، فهو يظهر أن ذلك ليس بحق.

وقرأ الجمهور (آلِهَتُنا) بتسهيل الهمزة الثانية. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي بتخفيفها.

(إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩))

لما ذكر ما يشير إلى قصة جدال ابن الزبعرى في قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨] ، وكان سبب جداله هو أن عيسى قد عبد من دون الله لم يترك الكلام ينقضي دون أن يردف بتقرير عبودية عيسى لهذه المناسبة ، إظهارا لخطل رأي الذين ادعوا إلهيته وعبدوه وهم النصارى حرصا على الاستدلال للحق.

وقد قصر عيسى على العبودية على طريقة قصر القلب للرد على الذين زعموه إلها ، أي ما هو إلا عبد لا إله لأن الإلهية تنافي العبودية. ثم كان قوله : (أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) إشارة إلى أنه قد فضل بنعمة الرسالة ، أي فليست له خصوصية مزية على بقية الرسل ، وليس تكوينه بدون أب إلّا إرهاصا.

وأما قوله : (وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) فهو إبطال لشبهة الذين ألّهوه بتوهمهم أن كونه خلق بكلمة من الله يفيد أنه جزء من الله فهو حقيق بالإلهية ، أي كان خلقه في بطن أمه دون أن يقربها ذكر ليكون عبرة عجيبة في بني إسرائيل لأنهم كانوا قد ضعف إيمانهم بالغيب وبعد عهدهم بإرسال الرّسل فبعث الله عيسى مجدّدا للإيمان بينهم ، ومبرهنا بمعجزاته على عظم قدرة الله ، ومعيدا لتشريف الله بني إسرائيل إذ جعل فيهم أنبياء ليكون ذلك سببا لقوة الإيمان فيهم ، ومظهرا لفضيلة أهل الفضل الذين آمنوا به ولعناد الذين منعهم الدفع عن حرمتهم من الاعتراف بمعجزاته فناصبوه العداء وسعوا للتنكيل به وقتله فعصمه الله منهم ورفعه من بينهم فاهتدى به أقوام وافتتن به آخرون. فالمثل هنا بمعنى

٢٧٧

العبرة كالذي في قوله آنفا (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) [الزخرف : ٥٦].

وفي قوله : (لِبَنِي إِسْرائِيلَ) إشارة إلى أن عيسى لم يبعث إلا إلى بني إسرائيل وأنه لم يدع غير بني إسرائيل إلى اتّباع دينه ، ومن اتبعوه من غير بني إسرائيل في عصور الكفر والشرك فإنما تقلدوا دعوته لأنها تنقذهم من ظلمات الشرك والوثنية والتعطيل.

(وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠))

لما أشارت الآية السابقة إلى إبطال ضلالة الذين زعموا عيسى عليه‌السلام ابنا لله تعالى ، من قصره على كونه عبدا لله أنعم الله عليه بالرسالة وأنه عبرة لبني إسرائيل عقب ذلك بإبطال ما يماثل تلك الضلالة ، وهي ضلالة بعض المشركين في ادعاء بنوة الملائكة لله تعالى المتقدم حكايتها في قوله : (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) [الزخرف : ١٥] الآيات فأشير إلى أن الملائكة عباد لله تعالى جعل مكانهم العوالم العليا ، وأنه لو شاء لجعلهم من سكان الأرض بدلا عن الناس ، أي أن كونهم من أهل العوالم العليا لم يكن واجبا لهم بالذات وما هو إلا وضع بجعل من الله تعالى كما جعل للأرض سكانا ، ولو شاء الله لعكس فجعل الملائكة في الأرض بدلا عن الناس ، فليس تشريف الله إياهم بسكنى العوالم العليا بموجب بنوتهم لله ولا بمقتض لهم إلهية ، كما لم يكن تشريف عيسى بنعمة الرسالة ولا تمييزه بالتكوّن من دون أب مقتضيا له إلهية وإنما هو بجعل الله وخلقه.

وجعل شرط (لَوْ) فعلا مستقبلا للدلالة على أن هذه المشيئة لم تزل ممكنة بأن يعوّض للملائكة سكنى الأرض.

ومعنى (من) في قوله : (مِنْكُمْ) البدلية والعوض كالتي في قوله تعالى : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) [التوبة : ٣٨].

والمجرور متعلق ب (جعلنا) ، وقدّم على مفعول الفعل للاهتمام بمعنى هذه البدلية لتتعمق أفهام السامعين في تدبرها.

وجملة (فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) بيان لمضمون شبه الجملة إلى قوله : (مِنْكُمْ) وحذف مفعول (يَخْلُفُونَ) لدلالة (مِنْكُمْ) عليه ، وتقديم هذا المجرور للاهتمام بما هو أدل على كون الجملة بيانا لمضمون (مِنْكُمْ). وهذا هو الوجه في معنى الآية وعليه درج المحققون. ومحاولة صاحب «الكشاف» حمل (مِنْكُمْ) على معنى الابتدائية والاتصال لا يلاقي سياق الآيات.

٢٧٨

(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١))

(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها).

الأظهر أن هذا عطف على جملة (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف : ٤٤] ويكون ما بينهما مستطردات واعتراضا اقتضته المناسبة.

لمّا أشبع مقام إبطال إلهية غير الله بدلائل الوحدانية ثني العنان إلى إثبات أن القرآن حق ، عودا على بدء. وهذا كلام موجه من جانب الله تعالى إلى المنكرين يوم البعث ، ويجوز أن يكون من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وضمير المذكر الغائب في قوله : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) مراد به القرآن وبذلك فسّره الحسن وقتادة وسعيد بن جبير فيكون هذا ثناء ثامنا على القرآن ، فالثناء على القرآن استمرّ متصلا من أول السورة آخذا بعضه بحجز بعض متخلّلا بالمعترضات والمستطردات ومتخلصا إلى هذا الثناء الأخير بأن القرآن أعلم الناس بوقوع الساعة.

ويفسره ما تقدم من قوله : (بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) [الزخرف : ٤٣] ويبينه قوله بعده (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) ، على أن ورود مثل هذا الضمير في القرآن مرادا به القرآن كثير معلوم من غير معاد فضلا على وجود معاده.

ومعنى تحقيق أن القرآن علم للساعة أنه جاء بالدين الخاتم للشرائع فلم يبق بعد مجيء القرآن إلا انتظار انتهاء العالم. وهذا معنى ما روي من قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين ، وقرن بين السبابة والوسطى مشيرا إليهما» ، والمشابهة في عدم الفصل بينهما.

وإسناد (لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) إلى ضمير القرآن إسناد مجازيّ لأن القرآن سبب العلم بوقوع الساعة إذ فيه الدلائل المتنوعة على إمكان البعث ووقوعه. ويجوز أن يكون إطلاق العلم بمعنى المعلم ، من استعمال المصدر بمعنى اسم الفاعل مبالغة في كونه محصلا للعلم بالساعة إذ لم يقاربه في ذلك كتاب من كتب الأنبياء.

وقد ناسب هذا المجاز أو المبالغة التفريع في قوله : (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) لأن القرآن لم يبق لأحد مرية في أن البعث واقع. وعن ابن عباس ومجاهد وقتادة أن الضمير لعيسى ، وتأولوه بأن نزول عيسى علامة الساعة ، أي سبب علم بالساعة ، أي بقربها ، وهو تأويل

٢٧٩

بعيد فإن تقدير مضاف وهو نزول لا دليل عليه ويناكده إظهار اسم عيسى في قوله : (وَلَمَّا جاءَ عِيسى) [الزخرف : ٦٣] إلخ. ويجوز عندي أن يكون ضمير (إِنَّهُ) ضمير شأن ، أي أن الأمر المهمّ لعلم الناس بوقوع الساعة.

وعدّي فعل (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) بالباء لتضمينه معنى : لا تكذبن بها ، أو الباء بمعنى (في) الظرفية.

(وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ).

يجوز أن يكون ضمير المتكلم عائدا إلى الله تعالى ، أي اتبعوا ما أرسلت إليكم من كلامي ورسولي ، جريا على غالب الضمائر من أول السورة كما تقدم ، فالمراد باتّباع الله : اتباع أمره ونهيه وإرشاده الوارد على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاتّباع الله تمثيل لامتثالهم ما دعاهم إليه بأن شبه حال الممتثلين أمر الله بحال السالكين صراطا دلّهم عليه دليل. ويكون هذا كقوله في سورة الشورى [٥٢ ، ٥٣] (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ). ويجوز أن يكون عائدا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بتقدير : وقل اتبعون ، ومثله في القرآن كثير.

والإشارة في (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) للقرآن المتقدم ذكره في قوله : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) أو الإشارة إلى ما هو حاضر في الأذهان مما نزل من القرآن أو الإشارة إلى دين الإسلام المعلوم من المقام كقوله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) [الأنعام : ١٥٣].

وحذفت ياء المتكلم تخفيفا مع بقاء نون الوقاية دليلا عليها.

(وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢))

لما أبلغت أسماعهم أفانين المواعظ والأوامر والنواهي ، وجرى في خلال ذلك تحذيرهم من الإصرار على الإعراض عن القرآن ، وإعلامهم بأن ذلك يفضي بهم إلى مقارنة الشيطان ، وأخذ ذلك حظه من البيان انتقل الكلام إلى نهيهم عن أن يحصل صدّ الشيطان إياهم عن هذا الدّين والقرآن الذي دعوا إلى اتّباعه بقوله : (وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) [الزخرف: ٦١] تنبيها على أن الصدود عن هذا الدّين من وسوسة الشيطان ، وتذكيرا بعداوة الشيطان للإنسان عداوة قوية لا يفارقها الدفع بالناس إلى مساوئ الأعمال ليوقعهم في العذاب تشفّيا لعداوته.

٢٨٠