تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

وصّى به إبراهيم وموسى وعيسى ، والشيء الموحى به إليك. ولعل هذا من نكت الإعجاز المغفول عنها. وفي العدول من الغيبة إلى التكلم في قوله : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) بعد قوله (شَرَعَ لَكُمْ) التفات.

وذكر في جانب الشرائع الأربع السابقة فعل (وَصَّى) وفي جانب شريعة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم فعل الإيحاء لأن الشرائع التي سبقت شريعة الإسلام كانت شرائع موقتة مقدّرا ورود شريعة بعدها فكان العمل بها كالعمل الذي يقوم به مؤتمن على شيء حتى يأتي صاحبه ، وليقع الاتصال بين فعل (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) وبين قوله في صدر السورة (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الشورى : ٣].

و (أَنْ) في قوله : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) يجوز أن تكون مصدرية ، فإنّها قد تدخل على الجملة الفعلية التي فعلها متصرف ، والمصدر الحاصل منها في موضع بدل الاشتمال من (ما) الموصولة الأولى أو الأخيرة. وإذا كان بدلا من إحداهما كان في معنى البدل من جميع أخواتهما لأنها سواء في المفعولية لفعل (شَرَعَ) بواسطة العطف فيكون الأمر بإقامة الدّين والنهي عن التفرق فيه مما اشتملت عليه وصاية الأديان. ويجوز أن تكون تفسيرية لمعنى (وَصَّى) لأنه يتضمن معنى القول دون حروفه. فالمعنى : أن إقامة الدّين واجتماع الكلمة عليه أوصى الله بها كلّ رسول من الرّسل الذين سماهم. وهذا الوجه يقتضي أن ما حكي شرعه في الأديان السابقة هو هذا المعنى وهو إقامة الدّين المشروع كما هو ، والإقامة مجملة يفسرها ما في كل دين من الفروع.

وإقامة الشيء : جعله قائما ، وهي استعارة للحرص على العمل به كقوله : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) ، وقد تقدم في سورة البقرة [٣].

وضمير (أَقِيمُوا) مراد به : أمم أولئك الرسل ولم يسبق لهم ذكر في اللّفظ لكن دل على تقديرهم ما في فعل (وَصَّى) من معنى التبليغ. وأعقب الأمر بإقامة الدّين بالنهي عن التفرق في الدين.

والتفرق : ضد التجمع ، وأصله : تباعد الذوات ، أي اتساع المسافة بينها ويستعار كثيرا لقوّة الاختلاف في الأحوال والآراء كما هنا ، وهو يشمل التفرق بين الأمة بالإيمان بالرّسول ، والكفر به ، أي لا تختلفوا على أنبيائكم ، ويشمل التفرق بين الذين آمنوا بأن يكونوا نحلا وأحزابا ، وذلك اختلاف الأمة في أمور دينها ، أي في أصوله وقواعده

١٢١

ومقاصده ، فإن الاختلاف في الأصول يفضي إلى تعطيل بعضها فينخرم بعض أساس الدّين.

والمراد : ولا تتفرقوا في إقامته بأن ينشط بعضهم لإقامته ويتخاذل البعض ، إذ بدون الاتفاق على إقامة الدّين يضطرب أمره. ووجه ذلك أن تأثير النفوس إذا اتفقت يتوارد على قصد واحد فيقوى ذلك التأثير ويسرع في حصول الأثر إذ يصير كل فرد من الأمة معينا للآخر فيسهل مقصدهم من إقامة دينهم. أما إذا حصل التفرق والاختلاف فذلك مفض إلى ضياع أمور الدّين في خلال ذلك الاختلاف ، ثم هو لا يلبث أن يلقي بالأمة إلى العداوة بينها وقد يجرّهم إلى أن يتربص بعضهم ببعض الدوائر ، ولذلك قال الله تعالى : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال : ٤٦].

وأما الاختلاف في فروعه بحسب استنباط أهل العلم بالدّين فذلك من التفقّه الوارد فيه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدّين».

(كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ).

اعتراض بين جملة (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ) وجملة (وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) [الشورى : ١٤]. ولك أن تجعله استئنافا بيانيا جوابا عن سؤال من يتعجب من إعراض المشركين عن الإسلام مع أنه دين مؤيّد بما سبق من الشرائع الإلهية ، فأجيب إجمالا بأنه كبر على المشركين وتجهموه و (كَبُرَ) بمعنى صعب ، وقريب منه إطلاق ثقل ، أي عجزوا عن قبول ما تدعوهم إليه ، فالكبر مجاز استعير للشيء الذي لا تطمئن النفس لقبوله ، والكبر في الأصل الدّال على ضخامة الذات لأن شأن الشيء الضخم أن يعسر حمله ولما فيه من تضمين معنى ثقل عدّي ب (عَلَى).

وعبر عن دعوة الإسلام ب (ما) الموصولة اعتبارا بنكران المشركين لهذه الدعوة واستغرابهم إيّاها ، وعدّهم إيّاها من المحال الغريب ، وقد كبر عليهم ذلك من ثلاث جهات :

جهة الداعي لأنه بشر مثلهم قالوا (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٤] ، ولأنه لم يكن قبل الدعوة من عظماء القريتين (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١].

وجهة ما به الدعوة فإنهم حسبوا أن الله لا يخاطب الرّسل إلا بكتاب ينزله إليه دفعة

١٢٢

من السماء فقد قالوا (لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ)(١)(حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) [الإسراء : ٩٣] (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) [الفرقان : ٢١] (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) [البقرة : ١١٨] والقائلون هم المشركون.

ومن جهة ما تضمنته الدعوة مما لم تساعد أهواؤهم عليه قالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) [ص : ٥] (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [سبأ : ٧]. وجيء بالفعل المضارع في (تَدْعُوهُمْ) للدلالة على تجدد الدعوة واستمرارها.

(اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ).

استئناف بياني جواب عن سؤال من يسأل : كيف كبرت على المشركين دعوة الإسلام ، بأن الله يجتبي من يشاء ، فالمشركون الذين لم يقتربوا من هدى الله غير مجتبين إلى الله إذ لم يشأ اجتباءهم ، أي لم يقدر لهم الاهتداء. ويجوز أن يكون ردّا على إحدى شبههم الباعثة على إنكارهم رسالته بأن الله يجتبي من يشاء ولا يلزمه مراعاة عوائدكم في الزعامة والاصطفاء.

والاجتباء : التقريب والاختيار قال تعالى : (قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) [الأعراف : ٢٠٣]. ومن يشاء الله اجتباءه من هداه إلى دينه ممن ينيب وهو أعلم بسرائر خلقه.

وتقديم المسند إليه وهو اسم الجلالة على الخبر الفعلي لإفادة القصر ردّا على المشركين الذين أحالوا رسالة بشر من عند الله. وحين أكبروا أن يكون الضعفة من المؤمنين خيرا منهم.

(وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤))

(وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ).

__________________

(١) في المطبوعة لك وهو خطأ.

١٢٣

عطف على جملة (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى : ١٣] وما بينهما اعتراض كما علمت ، وفي الكلام حذف يدل عليه قوله : (وَما تَفَرَّقُوا) تقديره : فتفرقوا. وضمير (تَفَرَّقُوا) عائد إلى ما عاد إليه ضمير (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا) [الشورى : ١٣] وهم أمم الرّسل المذكورين ، أي أوصيناهم بواسطة رسلهم بأن يقيموا الدّين. دلّ على تقديره ما في فعل (وَصَّى) [الشورى : ١٣] من معنى التبليغ كما تقدم.

والعلم : إدراك العقل جزما أو ظنّا. ومجيء العلم إليهم يؤذن بأن رسلهم بيّنوا لهم مضارّ التفرق من عهد نوح كما حكى الله عنه في قوله : (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) إلى قوله : (سُبُلاً فِجاجاً) في سورة نوح [٨ ـ ٢٠]. وإنما تلقّى ذلك العلم علماؤهم.

ويجوز أن يكون المراد بالعلم سبب العلم ، أي إلّا من بعد مجيء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصفاته الموافقة لما في كتابهم فتفرقوا في اختلاق المطاعن والمعاذير الباطلة لينفوا مطابقة الصفات ، فيكون كقوله تعالى : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البينة : ٤] على أحد تفسيرين.

والمعنى : وما تفرقت أممهم في أديانهم إلا من بعد ما جاءهم العلم على لسان رسلهم من النهي عن التفرق في الدّين مع بيانهم لهم مفاسد التفرق وأضراره ، أي أنهم تفرقوا عالمين بمفاسد التفرق غير معذورين بالجهل. وهذا كقوله تعالى : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البينة : ٤] على التفسير الآخر.

وذكر سبب تفرقهم بقوله : (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي تفرّقوا لأجل العداوة بينهم ، أي بين المتفرقين ، أي لم يحافظوا على وصايا الرّسل. وهذا تعريض بالمشركين في إعراضهم عن دعوة الإسلام لعداوتهم للمؤمنين وقوله : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) إلخ تحذير للمؤمنين من مثل ذلك الاختلاف. وتنكير (كَلِمَةٌ) للتنويع لأن لكل فريق من المتفرقين في الدّين كلمة من الله في تأجيلهم فهو على حدّ قوله تعالى : (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) [البقرة : ٧]. وتنكير (أَجَلٍ) أيضا للتنويع لأن لكل أمة من المتفرقين أجلا مسمى ، فهي آجال متفاوتة في الطّول والقصر ومختلفة بالأزمنة والأمكنة.

والمراد بالكلمة ما أراده الله من إمهالهم وتأخير مؤاخذتهم إلى أجل لهم اقتضته حكمته في نظام هذا العالم ، فربّما أخرهم ثم عذّبهم في الدنيا ، وربّما أخرهم إلى عذاب الآخرة ، وكل ذلك يدخل في الأجل المسمّى ، ولكل ذلك كلمته. فالكلمة هنا مستعارة

١٢٤

للإرادة والتقدير. وسبقها تقدمها من قبل وقت تفرقهم وذلك سبق علم الله بها وإرادته إيّاها على وقف علمه وقدره ، وقد تقدم نظير هذه الكلمة في سورة هود وفي سورة طه.

(وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ).

عطف على جملة (وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) إلى قوله : (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ). وهذه الجملة هي المقصود من جملة (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) إلى قوله : (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى : ١٣] ، لأن المقصود أهل الكتاب الموجودون في زمن نزول الآية.

وإذ قد كانت من الأمم التي أوحى الله إلى رسلهم أمتان موجودتان في حين نزول هذه الآية وهما اليهود والنصارى ، وكانتا قد تفرقتا فيما جاءهم به العلم ، وكان الله قد أخّر القضاء بين المختلفين منهم إلى أجل مسمّى ، وكانوا لمّا بلغتهم رسالة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وسلم شكّوا في انطباق الأوصاف التي وردت في الكتاب بوصف النبي الموعود به.

فالمعنى : أنه كما تفرق أسلافهم في الدّين قبل بعثة النبي الموعود به تفرق خلفهم مثلهم وزادوا تفرقا في تطبيق صفات النبي الموعود به تفرقا ناشئا عن التردد والشك ، أي دون بذل الجهد في تحصيل اليقين ، فلم يزل الشك دأبهم. فالمخبر عنهم بأنهم في شك : هم الذين أورثوا الكتاب من بعد سلفهم.

وقد جاء نظم الآية على أسلوب إيجاز يتحمل هذه المعاني الكثيرة وما يتفرع عنها ، فجيء بضمير (مِنْهُ) بعد تقدّم ألفاظ صالحة لأن تكون معاد ذلك الضمير ، وهي لفظ (الدِّينِ) في قوله (مِنَ الدِّينِ) [الشورى : ١٣] ، ولفظ (الَّذِي) في قوله : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [الشورى : ١٣] ، و (ما) الموصولة في قوله : (ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) [الشورى : ١٣] ، وهذه الثلاثة مدلولها الإسلام. وهنالك لفظ (ما وَصَّيْنا) [الشورى : ١٣] المتعدّي إلى موسى وعيسى ، ولفظ (الْكِتابَ) في قوله (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا)(١)(الْكِتابَ). وهذان مدلولهما كتابا أهل الكتاب.

وهؤلاء الذين أوتوا الكتاب هم الموجودون في وقت نزول الآية. والإخبار عنهم بأنهم في شك ناشئ من تلك المعادات للضمير معناه : أن مبلغ كفرهم وعنادهم لا يتجاوز حالة الشك في صدق الرّسالة المحمدية ، أي ليسوا مع ذلك بموقنين بأن الإسلام

__________________

(١) في المطبوعة أوتوا وهو خطأ.

١٢٥

باطل ، ولكنهم تردّدوا ثم أقدموا على التكذيب به حسدا وعنادا. فمنهم من بقي حالهم في الشك. ومنهم من أيقن بأن الإسلام حق ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٤٦]. ويحتمل أن المعنى لفي شك بصدق القرآن أو في شك مما في كتابهم من الأمور التي تفرقوا فيها ، أو ما في كتابهم من الدّلالة على مجيء النبي الموعود به وصفاته. فهذه معان كثيرة تتحملها الآية وكلها منطبقة على أهل الكتابين وبذلك يظهر أنه لا داعي إلى صرف كلمة (شَكٍ) عن حقيقتها.

ومعنى (أُورِثُوا الْكِتابَ) صار إليهم علم الكتاب الذي اختلف فيه سلفهم فاستعير الإرث للخلفيّة في علم الكتاب.

والتعريف في (الْكِتابَ) للجنس ليشمل كتاب اليهود وكتاب النصارى.

فضمير (مِنْ بَعْدِهِمْ) عائد إلى ما عاد إليه ضمير (تَفَرَّقُوا) وهم الذين خوطبوا بقوله (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى : ١٣].

وظرفية قوله : (لَفِي شَكٍ) ظرفية مجازية وهي استعارة تبعية ، شبه تمكن الشك من نفوسهم بإحاطة الظرف بالمظروف.

و (من) في قوله : (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) ابتدائية وهو ابتداء مجازي معناه المصاحبة والملابسة ، أي شك متعلق به أو في شك بسببه. ففي حرف (من) استعارة تبعية ، وقع حرف (من) موقع باء المصاحبة أو السببية.

وتأكيد الخبر ب (إِنَ) للاهتمام ومجرد تحقيقه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، وهذا الاهتمام كناية عن التحريض للحذر من مكرهم وعدم الركون إليهم لظهور عداوتهم لئلا يركنوا إليهم ، ولعل اليهود قد أخذوا يومئذ في تشكيك المسلمين واختلطوا بهم في مكّة ليتطلعوا حال الدعوة المحمدية.

هذا هو الوجه في تفسير هذه الآية وهو الذي يلتئم مع ما قبله ومع قوله بعده (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) [الشورى : ١٥] الآية.

والمريب : الموجب الريب وهو الاتهام. فالمعنى : لفي شك يفضي إلى الظنة والتهمة ، أي شك مشوب بتكذيب ، ف (مُرِيبٍ) اسم فاعل من أراب الذي همزته للتعدية ،

١٢٦

أي جاعل الريب ، وليست همزة أراب التي هي للجعل في قولهم : أرابني بمعنى أوهمني منه ريبة وهو ليس بذي ريب ، كما في قول بشار :

أخوك الذي إن ربته قال إنّما

أربت وإن عاتبته لان جانبه

على رواية فتح التاء من أربت ، وتقدم قوله (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) في سورة هود [٦٢].

(فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥))

الفاء للتفريع على قوله : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) [الشورى : ١٣] إلى آخره ، المفسر بقوله : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى : ١٣] المخلل بعضه بجمل معترضة من قوله : (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ) إلى (مَنْ يُنِيبُ) [الشورى : ١٣].

واللام يجوز أن تكون للتعليل وتكون الإشارة بذلك إلى المذكور ، أي جميع ما تقدم من الأمر بإقامة الدّين والنهي عن التفرق فيه وتلقي المشركين للدعوة بالتجهم وتلقي المؤمنين لها بالقبول والإنابة ، وتلقي أهل الكتاب لها بالشك ، أي فلأجل جميع ما ذكر فادع واستقم ، أي لأجل جميع ما تقدم من حصول الاهتداء لمن هداهم الله ومن تبرم المشركين ومن شك أهل الكتاب فادع.

ولم يذكر مفعول (ادع) لدلالة ما تقدم عليه ، أي ادع المشركين والذين أوتوا الكتاب والذين اهتدوا وأنابوا. وتقديم (لذلك) على متعلقه وهو فعل (ادع) للاهتمام بما احتوى

عليه اسم الإشارة إذ هو مجموع أسباب للأمر بالدوام على الدعوة. ويجوز أن تكون اللام في قوله : (فَلِذلِكَ) لام التقوية وتكون مع مجرورها مفعول (ادع). والإشارة إلى (الدِّينِ) من قوله : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ) [الشورى : ١٣] أي فادع لذلك الدّين.

وتقديم المجرور على متعلّقه للاهتمام بالدّين.

وفعل الأمر في قوله : (فَادْعُ) مستعمل في الدّوام على الدّعوة كقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [النساء : ١٣٦] ، بقرينة قوله : (كَما أُمِرْتَ) ، وفي هذا إبطال لشبهتهم في الجهة الثالثة المتقدمة عند قوله تعالى : (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ)

١٢٧

[الشورى : ١٣].

والفاء في قوله : (فَادْعُ) يجوز أن تكون مؤكدة لفاء التفريع التي قبلها ، ويجوز أن تكون مضمنة معنى الجزاء لما في تقديم المجرور من مشابهة معنى الشرط كما في قوله تعالى : (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) [يونس : ٥٨].

والاستقامة : الاعتدال ، والسين والتاء فيها للمبالغة مثل : أجاب واستجاب. والمراد هنا الاعتدال المجازي وهو اعتدال الأمور النفسانية من التقوى ومكارم الأخلاق ، وإنّما أمر بالاستقامة ، أي الدوام عليها ، للإشارة إلى أن كمال الدعوة إلى الحق لا يحصل إلا إذا كان الداعي مستقيما في نفسه.

والكاف في (كَما أُمِرْتَ) لتشبيه معنى المماثلة ، أي دعوة واستقامة مثل الذي أمرت به ، أي على وفاقه ، أي وافية بما أمرت به. وهذه الكاف مما يسمى كاف التعليل كقوله تعالى : (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) [البقرة : ١٩٨] ، وليس التعليل من معاني الكاف في التحقيق ولكنه حاصل معنى يعرض في استعمال الكاف إذا أريد تشبيه عاملها بمدخولها على معنى المطابقة والموافقة.

والاتّباع يطلق مجازا على المجاراة والموافقة ، وعلى المحاكاة والمماثلة في العمل ، والمراد هنا كلا الإطلاقين ليرجع النهي إلى النهي عن مخالفة الأمرين المأمور بهما في قوله (فَادْعُ وَاسْتَقِمْ).

وضمير (أَهْواءَهُمْ) للذين ذكروا من قبل من المشركين والذين أوتوا الكتاب ، والمقصود : نهي المسلمين عن ذلك من باب (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] ألا ترى إلى قوله : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ) في سورة هود [١١٢].

ويجوز أن يكون معنى (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) لا تجارهم في معاملتهم ، أي لا يحملك طعنهم في دعوتك على عدم ذكر فضائل رسلهم وهدي كتبهم عدا ما بدّلوه منها فأعلن بأنك مؤمن بكتبهم ، ولذلك عطف على قوله : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) قوله : (وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) الآية ، فموقع واو العطف فيه بمنزلة موقع فاء التفريع. ويكون المعنى كقوله تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) في سورة المائدة [٨].

والأهواء : جمع هوى وهو المحبة ، وغلب على محبة ما لا نفع فيه ، أي ادعهم إلى

١٢٨

الحق وإن كرهوه ، واستقم أنت ومن معك وإن عاداكم أهل الكتاب فهم يحبون أن تتبعوا ملتهم ، وهذا من معنى قوله : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [البقرة : ١٢٠].

وقوله : (وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) بعد قوله : (فَادْعُ) أمر بمخالفة اليهود إذ قالوا : (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ) [النساء : ١٥٠] يعنون التوراة ، (وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) [النساء : ١٥٠] يعنون الإنجيل والقرآن ، فأمر الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون بالإيمان بالكتب الثلاثة الموحى بها من الله كما قال تعالى : (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) [آل عمران : ١١٩]. فالمعنى : وقل لمن يهمه هذا القول وهم اليهود. وإنما أمر بأن يقول ذلك إعلانا به وإبلاغا لأسماع اليهود ، فلا يقابل إنكارهم حقّيّة كتابه بإنكاره حقّيّة كتابهم وفي هذا إظهار لما تشتمل عليه دعوته من الإنصاف.

و (مِنْ كِتابٍ) بيان لما أنزل الله ، فالتنكير في (كِتابٍ) للنوعية ، أي بأي كتاب أنزله الله وليس يومئذ كتاب معروف غير التوراة والإنجيل والقرآن.

وضمير (بَيْنَكُمُ) خطاب للذين أمر بأن يوجه هذا القول إليهم وهم اليهود ، أي أمرت أن أقيم بينكم العدل بأن أدعوكم إلى الحق ولا أظلمكم لأجل عداوتكم ولكني أنفذ أمر الله فيكم ولا أنتمي إلى اليهود ولا إلى النصارى. ومعنى (بَيْنَكُمُ) أنني أقيم العدل بينكم فلا ترون بينكم جورا مني ، ف (بين) هنا ظرف متحد غير موزّع فهو بمعنى وسط الجمع وخلاله ، بخلاف (بين) في قول القائل : قضى بين الخصمين أو قسم المال بين العفاة. فليس المعنى : لأعدل بين فرقكم إذ لا يقتضيه السياق.

وفي هذه الآية مع كونها نازلة في مكة في زمن ضعف المسلمين إعجاز بالغيب يدل على أن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيكون له الحكم على يهود بلاد العرب مثل أهل خيبر وتيماء وقريظة والنضير وبني قينقاع ، وقد عدل فيهم وأقرهم على أمرهم حتى ظاهروا عليه الأحزاب كما تقدم في سورة الأحزاب.

واللام في قوله : (لِأَعْدِلَ) لام يكثر وقوعها بعد أفعال مادتي الأمر والإرادة ، نحو قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) [النساء : ٢٦] ، وتقدم الكلام عليها وبعضهم يجعلها زائدة.

وجملة (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) من المأمور بأن يقوله. فهي كلها جملة مستأنفة عن جملة

١٢٩

(آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) مقررة لمضمونها لأن المقصود من جملة (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) بحذافرها هو قوله : (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) فهي مقررة لمضمون (آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) ، وإنما ابتدئت بجملتي (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) تمهيدا للغرض المقصود وهو لا حجة بيننا وبينكم ، فلذلك كانت الجمل كلّها مفصولة عن جملة (آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ).

والمقصود من قوله : (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) أننا متفقون على توحيد الله تعالى كقوله تعالى: (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) [آل عمران : ٦٤] الآية ، أي فالله الشهيد علينا وعليكم إذ كذبتم كتابا أنزل من عنده ، فالخبر مستعمل في التسجيل والإلزام.

وجملة (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) دعوة إنصاف ، أي أن الله يجازي كلا بعمله.

وهذا خبر مستعمل في التهديد والتنبيه على الخطأ. وجملة (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) هي الغرض المقصود بعد قوله (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) أي أعدل بينكم ولا أخاصمكم على إنكاركم صدقي.

والحجة : الدليل الذي يدلّ المسوق إليه على صدق دعوى القائم به وإنما تكون الحجة بين مختلفين في دعوى. ونفي الحجة نفي جنس يجوز أن يكون كناية عن نفي المجادلة التي من شأنها وقوع الاحتجاج كناية عن عدم التصدّي لخصومتهم فيكون المعنى الإمساك عن مجادلتهم لأن الحق ظهر وهم مكابرون فيه وهذا تعريض بأن الجدال معهم ليس بذي جدوى. ويجوز أن يكون المنفي جنس الحجة المفيدة ، بمعونة القرينة مثل : لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب. والمعنى : أن الاستمرار على الاحتجاج عليهم بعد ما أظهر لهم من الأدلة يكون من العبث ، وهذا تعريض بأنهم مكابرون. وأيّا ما كان فليس هذا النفي مستعملا في النهي عن التصدّي للاحتجاج عليهم فقد حاجّهم القرآن في آيات كثيرة نزلت بعد هذه وحاجّهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قضية الرجم وقد قال الله تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [العنكبوت : ٤٦] فالاستثناء صريح في مشروعية مجادلتهم.

و (بين) المكررة في قوله : (بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) ظرف موزع على جماعات أو أفراد ضمير المتكلم المشارك. وضمير المخاطبين ، كما يقال : قسم بينهم ، وهذا مخالف ل (بين) المتقدم آنفا.

١٣٠

والمراد بالجمع في قوله : (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) الحشر لفصل القضاء ، فيومئذ يتبين المحق من المبطل ، وهذا كلام منصف. ولما كان مثل هذا الكلام لا يصدر إلا من الواثق بحقه كان خطابهم به مستعملا في المتاركة والمحاجزة ، أي سأترك جدالكم ومحاجّتكم لقلة جدواها فيكم وأفوض أمري إلى الله يقضي بيننا يوم يجمعنا ، فهذا تعريض بأن القضاء سيكون له عليهم. وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله : (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) للتقوّي ، أي تحقيق وقوع هذا الجمع وإلا فإن المخاطبين وهم اليهود يثبتون البعث. و (بين) هنا ظرف موزّع مثل الذي في قوله : (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ).

وجملة (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) عطف على جملة (يَجْمَعُ بَيْنَنا). والتعريف في (الْمَصِيرُ) للاستغراق ، أي مصير النّاس كلّهم ، فبذلك كانت الجملة تذييلا بما فيها من العموم ، أي مصيرنا ومصيركم ومصير الخلق كلهم.

وهذه الجمل الأربع تقتضي المحاجزة بين المؤمنين وبين اليهود وهي محاجزة في المقاولة ومتاركة في المقاتلة في ذلك الوقت حتى أذن الله في قتالهم لما ظاهروا الأحزاب.

وليس في صيغ هذه الجمل ما يقتضي دوام المتاركة إذ ليس فيها ما يقتضي عموم الأزمنة فليس الأمر بقتال بعضهم بعد يوم الأحزاب ناسخا لهذه الآية.

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦))

عطف على جملة (وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ) [الشورى : ١٥] إلخ ، وهو يقتضي انتقال الكلام ، فلما استوفى حظ أهل الكتاب في شأن المحاجّة معهم ، رجع إلى المشركين في هذا الشأن بقوله : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ).

وتغيير الأسلوب بالإتيان بالاسم الظاهر الموصول وكون صلته مادة الاحتجاج مؤذن بتغيير الغرض في المتحدث عنهم مع مناسبة ما ألحق به من قوله : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) [الشورى : ١٨] وقوله : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) [الشورى : ٢١] ، فالمقصود ب (الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) : المشركون لأنهم يحاجّون في شأن الله وهو الوحدانية دون اليهود من أهل الكتاب فإنهم لا يحاجّون في تفرد الله بالإلهية. وعن مجاهد أنه قال : (الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) رجال طمعوا أن

١٣١

تعود الجاهلية بعد ما دخل الناس في الإسلام. ووقع في كلام ابن عباس عند الطبري : أنّهم اليهود والنصارى.

فمعنى محاجتهم في الله محاجتهم في دين الله ، أي إدخالهم على النّاس الشك في صحّة دين الإسلام أو في كونه أفضل من اليهودية والنصرانية. ومحاجتهم هي ما يلبسوه به على المسلمين لإدخال الشك عليهم في اتّباع الإسلام كقول المشركين (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) [الفرقان : ٧] وقولهم في الأصنام (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] وقولهم في إنكار البعث (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) [ق : ٣] وقولهم : (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) [القصص : ٥٧] ، وكقول أهل الكتاب : نحن الذين على دين إبراهيم ، وقولهم : كتابنا أسبق من كتاب المسلمين. وإطلاق اسم الحجة على شبهاتهم مجاراة لهم بطريق التهكم ، والقرينة قوله (داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

ومفعول (يُحَاجُّونَ) محذوف دلّ عليه قوله : (مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) ، والتقدير: يحاجون المستجيبين لله من بعد ما استجابوا له ، أي استجابوا لدعوته على لسان رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وحذف فاعل (اسْتُجِيبَ) إيجازا لأن المقصود من بعد حصول الاستجابة المعروفة.

والداحضة : التي دحضت بفتح الحاء ، يقال : دحضت رجله تدحض (بفتح الحاء) دحوضا ، أي زلت. استعير الدحض للبطلان بجامع عدم الثبوت كما لا تثبت القدم في المكان الدّحض ، ولم يبيّن وجه دحضها اكتفاء بما بيّن في تضاعيف ما نزل من القرآن من الأدلة على فساد تعدد الآلهة ، وعلى صدق الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى إمكان البعث ، وبما ظهر للعيان من تزايد المسلمين يوما فيوما ، وأمنهم من أن يعتدى عليهم.

والغضب : غضب الله ، وإنما نكّر للدلالة على شدته. ولم يحتج إلى إضافته إلى اسم الجلالة أو ضميره لظهور المقصود من قوله : (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) فالتقدير : وعليهم غضب منه. وإنما قدم المسند على المسند إليه بقوله : (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) للاهتمام بوقوع الغضب عليهم كما هو مقتضى حرف الاستعلاء المجازي.

وكذلك القول في (وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ). ولعل المراد به عذاب السيف في الدّنيا بالقتل يوم بدر.

١٣٢

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧))

قد علمتم أن من جملة محاجة المشركين في الله ومن أشدّها تشغيبا في زعمهم محاجتهم بإنكار البعث كما في قولهم : (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) [سبأ : ٧ ، ٨] ، وقال شداد بن الأسود :

يخبّرنا الرّسول بأن سنحيا

وكيف حياة أصداء وهام

وقد دحض الله حجتهم في مواضع من كتابه بنفي استحالته ، وبدليل إمكانه ، وأومأ هنا إلى مقتضي إيجابه ، فبيّن أن البعث والجزاء حق وعدل فكيف لا يقدّره مدبّر الكون ومنزّل الكتاب والميزان. وقد أشارت إلى هذا المعنى آيات كثيرة منها قوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : ١١٥] وقوله : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) [طه : ١٥] وقال : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) [الدخان : ٣٨ ـ ٤٠].

وأكثرها جاء نظمها على نحو الترتيب الذي في نظم هذه الآية من الابتداء بما يذكّر بحكمة الإيجاد وأن تمام الحكمة بالجزاء على الأعمال.

فقوله : (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ) تمهيد لقوله : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) ، لأن قوله : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) يؤذن بمقدر يقتضيه المعنى ، تقديره : فجعل الجزاء للسائرين على الحق والناكبين عنه في يوم السّاعة فلا محيص للعباد عن لقاء الجزاء وما يدريك لعل الساعة قريب ، فهو ناظر إلى قوله (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) [طه : ١٥]. وهذه الجملة موقعها من جملة (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) [الشورى : ١٦] موقع الدّليل ، والدليل من ضروب البيان ، ولذلك فصلت الجملة عن التي قبلها لشدة اتصال معناها بمعنى الأخرى.

والإخبار عن اسم الجلالة باسم الموصول الذي مضمون صلته إنزاله الكتاب والميزان ، لأجل ما في الموصولية من الإيماء إلى وجه بناء الخبر الآتي ، وأنه من جنس الحق والعدل ، مثل الموصول في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر : ٦٠].

١٣٣

ولام التعريف في (الْكِتابَ) لتعريف الجنس ، أي إنزال الكتب وهو ينظر إلى قوله آنفا : (وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) [الشورى : ١٥].

والباء في (بِالْحَقِ) للملابسة ، أي أنزل الكتب مقترنة بالحق بعيدة عن الباطل.

والحق : كلّ ما يحق ، أي يجب في باب الصلاح عمله ويصح أن يفسر بالأغراض الصحيحة النافعة.

و (الْمِيزانَ) حقيقته : آلة الوزن ، والوزن : تقدير ثقل جسم ، والميزان آلة ذات كفتين معتدلتين معلقتين في طرفي قضيب مستو معتدل ، له عروة في وسطه ، بحيث لا تتدلى إحدى الكفتين على الأخرى إذا أمسك القضيب من عروته. والميزان هنا مستعار للعدل والهدي بقرينة قوله (أَنْزَلَ) فإن الدّين هو المنزل والدّين يدعو إلى العدل والإنصاف في المجادلة في الدّين وفي إعطاء الحقوق ، فشبه بالميزان في تساوي رجحان كفتيه قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد : ٢٥].

وجملة (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) معطوفة على جملة (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ) ، والمناسبة هي ما ذكرناه من إيذان تلك الجملة بمقدّر.

وكلمة (وَما يُدْرِيكَ) جارية مجرى المثل ، والكاف منها خطاب لغير معيّن بمعنى : قد تدري ، أي قد يدري الداري ، ف (ما) استفهامية والاستفهام مستعمل في التنبيه والتهيئة. و (يُدْرِيكَ) من الدراية بمعنى العلم. وقد علّق فعل (يدري) عن العمل بحرف الترجّي. وعن ابن عباس كل ما جاء فعل (ما أدراك) فقد أعلمه الله به أي بينه له عقب كلمة (ما أدراك) نحو (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ) [القارعة : ١٠ ، ١١] وكل ما جاء فيه (وَما يُدْرِيكَ) لم يعلمه به أي لم يعقبه بما يبين إبهامه نحو (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ)(وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) [عبس : ٣]. ولعل معنى هذا الكلام أن الاستعمال خص كل صيغة من هاتين الصيغتين بهذا الاستعمال فتأمل.

والمعنى : أي شيء يعلمك أيها السامع الساعة قريبا ، أي مقتضي علمك متوفر ، فالخطاب لغير معين ، وفي معناه قوله تعالى : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) في سورة الأنعام [١٠٩].

والإخبار عن (السَّاعَةَ) ب (قَرِيبٌ) وهو غير مؤنث لأنه غلب لزوم كلمة قريب وبعيد للتذكير باعتبار شيء كقوله تعالى : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) [الأحزاب :

١٣٤

٦٣] وقوله : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) وقد تقدم في سورة الأعراف [٥٦].

(يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨))

(يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ.

يجوز أن تكون جملة (يَسْتَعْجِلُ بِهَا) إلى آخرها حالا من (السَّاعَةَ) [الشورى: ١٧].

ويجوز أن تكون بيانا لجملة (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) [الشورى : ١٧] لما تضمنته من التنبيه والتهيئة بالنسبة إلى فريقي المؤمنين بالسّاعة ، والذين لا يؤمنون بها ، فذكر فيها حال كلا الفريقين تجاه ذلك التنبيه. فأما المشركون فيتلقونه بالاستهزاء والتصميم على الجحد بها ، وهو المراد بقوله : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) ، والذين آمنوا بها يعملون لما به الفوز عندها ، ولذلك جيء عقبها بجملة (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) كما سيأتي.

والاستعجال : طلب التعجيل ، وتقدم في قوله تعالى : (اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ) في سورة يونس [١١] ، أي يطلب الذين لا يؤمنون بالسّاعة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعجّل الله بحلول السّاعة ليبين صدقه ، تهكما واستهزاء وكناية عن اتخاذهم تأخرها دليلا على عدم وقوعها ، وهم آيسون منها كما دلّ عليه قوله في مقابله (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها). وقد تكرر منهم هذا المعنى بأساليب ذكرت في تضاعيف آي القرآن كقوله : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سبأ : ٢٩] (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) [ص : ١٦].

والإشفاق : رجاء وقوع ما يكره ، أي مشفقون من أهوالها ، وتقدم في قوله : (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء : ٢٨]. وإنما جعل الإشفاق من ذات الساعة لإفادة تعظيم أهوالها حتى كأن أحوالها هي ذاتها ، على طريقة إسناد الحكم ونحوه إلى الأعيان نحو (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣] ، فهم يتوخون النجاة منها بالطاعة والتقوى ، أي فهم لا يستعجلون بها وإنما يغتنمون بقاءهم في الدّنيا للعمل الصالح والتوبة.

والمراد ب (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) : المشركون ، وعبر عنهم بالموصول لأن الصلة تدلّ على علة استعجالهم بها ، والمراد بالذين آمنوا : المسلمون فإن هذا لقب لهم ، ففي الكلام احتباك ، تقديره : يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها فلا يشفقون منها والذين آمنوا مشفقون منها فلا يستعجلون بها.

١٣٥

وعطفت على (مُشْفِقُونَ مِنْها) جملة (وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) لإفادة أن إشفاقهم منها إشفاق عن يقين وجزم لا إشفاق عن تردد وخشية أن يكشف الواقع على صدق الإخبار بها وأنه احتمال مساو عندهم. وتعريف (الْحَقُ) في قوله : (أَنَّهَا الْحَقُ) تعريف الجنس وهو يفيد قصر المسند على المسند إليه قصر مبالغة لكمال الجنس في المسند إليه نحو : عنترة الشجاع ، أي يوقنون بأنها الحق كل الحق ، وذلك لظهور دلائل وقوعها حتى كأنه لا حق غيره.

(أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ).

الجملة تذييل لما قبلها بصريحها وكنايتها لأن صريحها إثبات الضلال للذين يكذّبون بالساعة وكنايتها إثبات الهدى للذين يؤمنون بالساعة. وهذا التذييل فذلكة للجملة التي قبلها.

وافتتاح الجملة بحرف (أَلا) الذي هو للتنبيه لقصد العناية بالكلام.

والمماراة : مفاعلة من المرية بكسر الميم وهي الشك. والمماراة : الملاحّة لإدخال الشك على المجادل ، وقد تقدم في قوله تعالى : (فَلا تُمارِ فِيهِمْ) في سورة الكهف [٢٢].

وجعل الضلال كالظرف لهم تشبيها لتلبسهم بالضلال بوقوع بالمظروف في ظرفه ، فحرف في للظرفية المجازية.

ووصف الضلال بالبعيد وصف مجازي ، شبه الكفر بضلال السائر في طريق وهو يكون أشد إذا كان الطريق بعيدا ، وذلك كناية عن عسر إرجاعه إلى المقصود.

والمعنى : لفي ضلال شديد ، وتقدم في قوله : (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) في سورة النساء [١١٦].

(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩))

هذه الجملة توطئة لجملة (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) [الشورى : ٢٠] لأن ما سيذكر في الجملة الآتية هو أثر من آثار لطف الله بعباده ورفقه بهم وما يسّر من الرزق للمؤمنين منهم والكفار في الدّنيا ، ثم ما خصّ به المؤمنين من رزق الآخرة ، فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا مقدّمة لاستئناف الجملة الموطّإ لها ، وهي جملة (مَنْ كانَ

١٣٦

يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) الآية [الشورى : ٢٠]. وموقع جملة (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) إلخ فسنبينه.

واللطيف : البر القوي البرّ. ويدخل في هذا كثير من النعم. فسّر عدد من المفسّرين اللطيف بواهب بعضها وإنما هو تفسير تمثيل لا يخصّ دلالة الوصف به. وفعل (لطف) من باب نصر يتعدى بالباء كما هنا وباللام كما في قوله : (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) كما تقدم في سورة يوسف [١٠٠]. وتقدم تحقيق معنى اسمه تعالى اللطيف.

وعباده عام لجميع العباد ، وهم نوع الإنسان لأنه جمع مضاف. وجملة (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) في موضع الحال من اسم الجلالة ، أو في موضع خبر عنه.

والرزق : إعطاء ما ينفع. وهو عندنا لا يختص بالحلال وعند المعتزلة يختص به والخلاف اصطلاح.

والظاهر : أن المراد هنا رزق الدّنيا لأن الكلام توطئة لقوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) [الشورى : ٢٠].

والمشيئة : مشيئة تقدير الرّزق لكل أحد من العباد ليكون عموم اللطف للعباد باقيا ، فلا يكون قوله : (مَنْ يَشاءُ) في معنى التكرير ، إذ يصير هكذا يرزق من يشاء من عباده الملطوف بجميعهم ، وما الرزق إلا من اللطف ، فيصير بعض المعنى المفاد ، فلا جرم تعيّن أن المشيئة هنا مصروفة لمشيئة تقدير الرزق بمقاديره.

والمعنى : أنه للطفه بجميع عباده لا يترك أحدا منهم بلا رزق وأنه فضل بعضهم على بعض في الرزق جريا على مشيئته. وهذا المعنى يثير مسألة الخلاف بين أئمة أصول الدّين في نعمة الكافر ، ومن فروعها رزق الكافر. وعن الشيخ أبي الحسن الأشعري أن الكافر غير منعم عليه نعمة دنيوية لأن ملاذّ الكافر استدراج لمّا كانت مفضية إلى العذاب في الآخرة فكانت غير نعمة ، ومرادهم بالدنيوية مقابل الدينية. وكأنّ مراد الشيخ بهذا تحقيق معنى غضب الله على الكافرين كما جاء في آيات كثيرة ، فمراده : أن الكافر غير منعم عليه نعمة رضى وكرامة ولكنها نعمة رحمة لما له من انتساب المخلوقية لله تعالى.

وقال أبو بكر الباقلاني : الكافر منعم عليه نعمة دنيوية. وقالت المعتزلة : هو منعم عليه نعمة دنيوية ودينية : فالدنيوية ظاهرة ، والدّينية كالقدرة على النظر المؤدي إلى معرفة الله.

١٣٧

وهذه مسألة أرجع المحققون الخلاف فيها إلى اللفظ والبناء على المصطلحات والاعتبارات الموافقة لدقائق المذاهب ، إذ لا ينازع أحد في نعمة المنعمين منهم وقد قال تعالى: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ) [المزمل : ١١].

وعطف (وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) على صفة (لَطِيفٌ) أو على جملة (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) وهو تمجيد لله تعالى بهاتين الصفتين ، ويفيد الاحتراس من توهم أن لطفه عن عجز أو مصانعة ، فإنه قوي عزيز لا يعجز ولا يصانع ، أو عن توهم أن رزقه لمن يشاء عن شحّ أو قلّة فإنه القويّ ، والقوي تنتفي عنه أسباب الشحّ ، والعزيز ينتفي عنه سبب الفقر فرزقه لمن يشاء بما يشاء منوط لحكمة علمها في أحوال خلقه عامة وخاصة ، قال تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) [الشورى : ٢٧] الآية.

والإخبار عن اسم الجلالة بالمسند المعرّف باللام يفيد معنى قصر القوة والعزة عليه تعالى ، وهو قصر الجنس للمبالغة لكماله فيه تعالى حتى كأنّ قوة غيره وعزّة غيره عدم.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠))

هذه الآية متصلة بقوله : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها) [الشورى : ١٨] الآية ، لما تضمنته من وجود فريقين : فريق المؤمنين أكبر همهم حياة الآخرة ، وفريق الذين لا يؤمنون همهم قاصرة على حياة الدّنيا ، فجاء في هذه الآية تفصيل معاملة الله الفريقين معاملة متفاوتة مع استوائهم في كونهم عبيده وكونهم بمحل لطف منه ، فكانت جملة (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) [الشورى : ١٩] تمهيدا لهذه الجملة ، وكانت هاته الجملة تفصيلا لحظوظ الفريقين في شأن الإيمان بالآخرة وعدم الإيمان بها.

ولأجل هذا الاتصال بينها وبين جملة (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) [الشورى: ١٨] ترك عطفها عليها ، وترك عطف توطئتها كذلك ، ولأجل الاتصال بينها وبين جملة (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) [الشورى : ١٩] اتصال المقصود بالتوطئة ترك عطفها على جملة (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ).

والحرث : أصله مصدر حرث ، إذ شقّ الأرض ليزرع فيها حبّا أو ليغرس فيها شجرا ، وأطلق على الأرض التي فيها زرع أو شجر وهو إطلاق كثير كما في قوله تعالى : (أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) [القلم : ٢٢] ، أي جنتكم لقوله قبله (كَما بَلَوْنا

١٣٨

أَصْحابَ الْجَنَّةِ) [القلم : ١٧] وقال : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ) إلى قوله : (وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ) وقد تقدم في سورة آل عمران [١٤].

والحرث في هذه الآية تمثيل للإقبال على كسب ما يعده الكاسب نفعا له يرجو منه فائدة وافرة بإقبال الفلّاح على شقّ الأرض وزرعها ليحصل له سنابل كثيرة وثمار من شجر الحرث ، ومنه قول امرئ القيس :

كلانا إذا ما نال شيئا أفاته

ومن يحترث حرثي وحرثك يهزل

وإضافة (حَرْثَ) إلى (الْآخِرَةِ) وإلى (الدُّنْيا) على معنى اللام كقوله : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها) [الإسراء : ١٩] ، وهي لام الاختصاص وهو في مثل هذا اختصاص المعلّل بعلته ، وما لام التعليل إلا من تصاريف لام الاختصاص.

ومعنى (يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) يبتغي عملا لأجل الآخرة. وذلك المريد : هو المؤمن بالآخرة لأن المؤمن بالآخرة لا يخلو عن أن يريد الآخرة ببعض أعماله كثيرا كان أو قليلا ، والذي يريد حرث الدّنيا مراد به : من لا يسعى إلا لعمل الدّنيا بقرينة المقابلة بمن يريد حرث الآخرة ، فتعيّن أن مريد حرث الدّنيا في هذه الآية : هو الذي لا يؤمن بالآخرة. ونظيرها في هذا قوله تعالى في سورة هود [١٥ ، ١٦] (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ* أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، ألا ترى إلى قوله : (لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّار) [هود : ١٦] وقوله في سورة الإسراء [١٨ ، ١٩] (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً* وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً).

وفعل (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) يتحمل معنيين : أن تكون الزيادة في ثواب العمل ، كقوله: (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) [البقرة : ٢٧٦] وقوله : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٦١] ، وسيأتي قريبا قوله : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) [الشورى : ٢٣]. وعلى هذا فتعليق الزيادة بالحرث مجاز عقلي علقت الزيادة بالحرث وحقّها أن تعلق بسببه وهو الثواب ، فالمعنى على حذف مضاف. وأن تكون الزيادة في العمل ، أتي نقدر له العون على الازدياد من الأعمال الصالحة ونيسّر له ذلك فيزداد من الصالحات. وعلى هذا فتعليق الزيادة بالحرث حقيقة فيكون من استعمال المركب في حقيقته ومجازه العقليين.

١٣٩

ومعنى (نُؤْتِهِ مِنْها) : نقدر له من متاع الدنيا من : مدة حياة وعافية ورزق لأن الله قدر لمخلوقاته أرزاقهم وأمدادهم في الدّنيا ، وجعل حظ الآخرة خاصا بالمؤمنين كما قال: (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ) [الإسراء : ١٩]. وقد شملت آية سورة الإسراء فريقا آخر غير مذكور هنا ، وهو الذي يؤمن بالآخرة ويبتغي النجاة فيها ولكنه لم يؤمن بالإسلام مثل أهل الكتاب ، وهذا الفريق مذكور أيضا في سورة البلد [١١ ـ ١٧] بقوله تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ) إلى قوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا).

فلا يتوهمنّ متوهم أن هذه الآية ونحوها تحجر تناول المسلم حظوظ الدّنيا إذا أدى حق الإيمان والتكليف ، ولا أنها تصدّ عن خلط الحظوظ الدنيوية مع حظوظ الآخرة إذا وقع الإيفاء بكليهما ، ولا أن الخلط بين الحظين ينافي الإخلاص كطلب التبرد مع الوضوء وطلب الصحة مع التطوع بالصوم إذا كان المقصد الأصلي الإيفاء بالحق الديني. وقد تعرض لهذه المسألة أبو إسحاق الشاطبي في فصل أول من المسألة السادسة من النوع الرابع من كتاب «المقاصد» من كتاب «الموافقات». وذكر فيها نظرين مختلفين للغزالي وأبي بكر بن العربي ورجح فيها رأي أبي بكر بن العربي فانظره.

والنصيب : ما يعيّن لأحد من الشيء المقسوم ، وهو فعيل من نصب لأن الحظ ينصب ، أي يجعل كالصّبرة لصاحبه ، وتقدم عند قوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) في سورة البقرة [٢٠٢].

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١))

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ).

(أَمْ) للإضراب الانتقالي وهو انتقال من الكلام على تفرق أهل الشرائع السالفة في شرائعهم من انقرض منهم ومن بقي كأهل الكتابين إلى الكلام على ما يشابه ذلك من الاختلاف على أصل الديانة ، وتلك مخالفة المشركين للشرائع كلّها وتلقّيهم دين الإشراك من أئمة الكفر وقادة الضلال.

ومعنى الاستفهام الذي تقضيه (أَمْ) التي للإضراب هو هنا للتقريع والتهكّم ، فالتقريع راجع إلى أنهم شرعوا من الدّين ما لم يأذن به الله والتهكم راجع إلى من شرعوا

١٤٠