تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

البلاغة المكانة العليا :

الوجه الأول : أن يكون الإتيان مستعارا لقبول التكوين كما استعير للعصيان الإدبار في قوله تعالى : (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى) [النازعات : ٢٢] ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمسيلمة حين امتنع من الإيمان والطاعة في وفد قومه بني حنيفة «لئن أدبرت ليعقرنك الله» ، وكما يستعار النفور والفرار للعصيان. فمعنى (ائْتِيا) امتثلا أمر التكوين. وهذا الامتثال مستعار للقبول وهو من بناء المجاز على المجاز وله مكانة في البلاغة ، والقول على هذا الوجه مستعار لتعلق القدرة بالمقدور كما في قوله : (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢].

وقوله : (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) كناية عن عدم البدّ من قبول الأمر وهو تمثيل لتمكن القدرة من إيجادهما على وفق إرادة الله تعالى فكلمة (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) جارية مجرى الأمثال. و (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) مصدران وقعا حالين من ضمير (ائْتِيا) أي طائعين أو كارهين.

والوجه الثاني : أن تكون جملة (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) مستعملة تمثيلا لهيئة تعلق قدرة الله تعالى لتكوين السماء والأرض لعظمة خلقهما بهيئة صدور الأمر من آمر مطاع للعبد المأذون بالحضور لعمل شاق أن يقول له : ائت لهذا العمل طوعا أو كرها ، لتوقع إبائه من الإقدام على ذلك العمل ، وهذا من دون مراعاة مشابهة أجزاء الهيئة المركبة المشبّهة لأجزاء الهيئة المشبه بها ، فلا قول ولا مقول ، وإنما هو تمثيل ، ويكون (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) على هذا من تمام الهيئة المشبه بها وليس له مقابل في الهيئة المشبهة. والمقصود على كلا الاعتبارين تصوير عظمة القدرة الإلهية ونفوذها في المقدورات دقّت أو جلّت.

وأما قوله : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) فيجوز أن يكون قول السماء والأرض مستعارا لدلالة سرعة تكونهما لشبههما بسرعة امتثال المأمور المطيع عن طواعية فإنه لا يتردد ولا يتلكّأ على طريقة المكنية والتخييل من باب قول الراجز الذي لا يعرف تعيينه :

امتلأ الحوض وقال قطني

وهو كثير ، ويجوز أن يكون تمثيلا لهيئة تكوّن السماء والأرض عند تعلق قدرة الله تعالى بتكوينهما بهيئة المأمور بعمل تقبله سريعا عن طواعية. وهما اعتباران متقاربان ، إلا أن القول ، والإتيان ، والطوع ، على الاعتبار الأول تكون مجازات ، وعلى الاعتبار الثاني

٢١

تكون حقائق وإنما المجاز في التركيب على ما هو معلوم من الفرق بين المجاز المفرد والمجاز المركب في فن البيان.

وإنما جاء قوله : (طائِعِينَ) بصيغة الجمع لأن لفظ السماء يشتمل على سبع سماوات كما قال تعالى إثر هذا (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) [فصلت : ١٢] فالامتثال صادر عن جمع ، وأما كونه بصيغة جمع المذكر فلأنّ السماء والأرض ليس لهما تأنيث حقيقي.

وأما كونه بصيغة جمع العقلاء فذلك ترشيح للمكنية المتقدمة مثل قوله تعالى : (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) [يوسف : ٤].

(فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢))

(فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ).

تفريع على قوله : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا) [فصلت : ١١].

والقضاء : الإيجاد الإبداعي لأن فيه معنى الإتمام والحكم ، فهو يقتضي الابتكار والإسراع ، كقول أبي ذؤيب الهذلي :

وعليهما مسرودتان قضاهما

داود أو صنع السوابغ تبّع

وضمير (فَقَضاهُنَ) عائد إلى السماوات على اعتبار تأنيث لفظها ، وهذا تفنن. وانتصب (سَبْعَ سَماواتٍ) على أنه حال من ضمير «قضاهن» أو عطف بيان له ، وجوّز أن يكون مفعولا ثانيا ل «قضاهن» لتضمين «قضاهن» معنى صيرهن ، وهذا كقوله في سورة البقرة [٢٩] (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ).

وكان خلق السماوات في يومين قبل أربعة الأيام التي خلقت فيها الأرض وما فيها. وقد بيّنّا في سورة البقرة أن الأظهر أن خلق السماء كان قبل خلق الأرض وهو المناسب لقواعد علم الهيئة. وليس في هذه الآية ما يقتضي ذلك. وإنما كانت مدة خلق السماوات السبع أقصر من مدة خلق الأرض مع أن عوالم السماوات أعظم وأكثر لأن الله خلق السماوات بكيفية أسرع فلعل خلق السماوات كان بانفصال بعضها عن بعض وتفرقع أحجامها بعضها عن خروج بعض آخر منه ، وهو الذي قرّبه حكماء اليونان الأقدمون بما سمّوه صدور العقول العشرة بعضها عن بعض ، وكانت سرعة انبثاق بعضها عن بعض

٢٢

معلولة لأحوال مناسبة لما تركبت به من الجواهر. وأما خلق الأرض فالأشبه أنه بطريقة التولّد المبطئ لأنها تكونت من العناصر الطبيعية فكان تولد بعضها عن بعض أيضا (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر : ٣١].

وهذه الأيام كانت هي مبدأ الاصطلاح على ترتيب أيام الأسبوع وقد خاض المفسرون في تعيين مبدأ هذه الأيام ، فأما كتب اليهود ففيها أن مبدأ هذه الأيام هو الأحد وأن سادسها هو يوم الجمعة وأن يوم السبت جعله الله خلوا من الخلق ليوافق طقوس دينهم الجاعلة يوم السبت يوم راحة للناس ودوابّهم اقتداء بإنهاء خلق العالمين. وعلى هذا الاعتبار جرى العرب في تسمية الأيام ابتداء من الأحد الذي هو بمعنى أول أو واحد ، واسمه في العربية القديمة (أول) وذلك سرى إليهم من تعاليم اليهود أو من تعاليم أسبق كانت هي الأصل الأصيل لاصطلاح الأمتين. والذي تشهد له الأخبار من السنة أن الله خلق آدم يوم الجمعة وأنه آخر أيام الأسبوع ، وأنه خير أيام الأسبوع وأفضلها ، وأن اليهود والنصارى اختلفوا في تعيين اليوم الأفضل من الأسبوع ، وأن الله هدى إليه المسلمين. قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «فهذا اليوم (أي الجمعة) هو اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله إليه فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد». ولا خلاف في أن الله خلق آدم بعد تمام خلق السماء والأرض فتعين أن يكون يوم خلقه هو اليوم السابع. وقد روى مسلم في «صحيحه» عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أن الله ابتدأ الخلق يوم السبت». وقد ضعّفه البخاري وابن المديني بأنه من كلام كعب الأحبار حدّث به أبا هريرة وإنما اشتبه على بعض رواة سنده فظنه مرفوعا.

ولهذه تفصيلات ليس وراءها طائل وإنما ألممنا بها هنا لئلا يعرو التفسير عنها فيقع من يراها في غيره في حيرة وإنما مقصد القرآن العبرة.

(وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً).

(وَأَوْحى) عطف على (فَقَضاهُنَ).

والوحي : الكلام الخفي ، ويطلق الوحي على حصول المعرفة في نفس من يراد حصولها عنده دون قول ، ومنه قوله تعالى حكاية عن زكرياء (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) [مريم : ١١] أي أومأ إليهم بما يدل على معنى : سبحوا بكرة وعشيا. وقول أبي دؤاد :

يرمون بالخطب الطّوال وتارة

وحي الملاحظ خيفة الرّقباء

٢٣

ثم يتوسع فيه فيطلق على إلهام الله تعالى المخلوقات لما تتطلبه مما فيه صلاحها كقوله : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) [النحل : ٦٨] أي جبلها على إدراك ذلك وتطلّبه ، ويطلق على تسخير الله تعالى بعض مخلوقاته لقبول أثر قدرته كقوله : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) [الزلزلة : ١] إلى قوله : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) [الزلزلة : ٥].

والوحي في السماء يقع على جميع هذه المعاني من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازاته ، فهو أوحى في السماوات بتقادير نظم جاذبيتها ، وتقادير سير كواكبها ، وأوحى فيها بخلق الملائكة فيها ، وأوحى إلى الملائكة بما يتلقونه من الأمر بما يعملون ، قال تعالى : (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء : ٢٧] وقال : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء : ٢٠].

و (أَمْرَها) بمعنى شأنها ، وهو يصدق بكل ما هو من ملابساتها من سكانها وكواكبها وتماسك جرمها والجاذبية بينها وبين ما يجاورها. وذلك مقابل قوله في خلق الأرض (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) [فصلت : ١٠]. وانتصب (أَمْرَها) على نزع الخافض ، أي بأمرها أو على تضمين أوحى معنى قدّر أو أودع.

ووقع الالتفات من طريق الغيبة إلى طريق التكلم في قوله : (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) تجديدا لنشاط السامعين لطول استعمال طريق الغيبة ابتداء من قوله : (بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت : ٩] مع إظهار العناية بتخصيص هذا الصنع الذي ينفع الناس دينا ودنيا وهو خلق النجوم الدقيقة والشهب بتخصيصه بالذكر من بين عموم (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) ، فما السماء الدنيا إلا من جملة السماوات ، وما النجوم والشّهب إلا من جملة أمرها.

والمصابيح : جمع مصباح ، وهو ما يوقد بالنار في الزيت للإضاءة وهو مشتق من الصباح لأنهم يحاولون أن يجعلوه خلفا عن الصباح. والمراد بالمصابيح : النجوم ، استعير لها المصابيح لما يبدو من نورها.

وانتصب (حِفْظاً) على أنه مفعول لأجله لفعل محذوف دل عليه فعل (زَيَّنَّا). والتقدير : وجعلناها حفظا. والمراد : حفظا للسماء من الشياطين المسترقة للسمع. وتقدم الكلام على نظيره في سورة الصّافات.

٢٤

(ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)

الإشارة إلى المذكور من قوله : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها) [فصلت : ١٠] إلى قوله : (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً). والتقدير : وضع الشيء على مقدار معيّن ، وتقدم نظيره في سورة يس. وتقدم وجه إيثار وصفي (الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) بالذكر.

[١٣ ، ١٤] (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤))

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ).

بعد أن قرعتهم الحجة التي لا تترك للشك مسربا إلى النفوس بعدها في أن الله منفرد بالإلهية لأنه منفرد بإيجاد العوالم كلها. وكان ثبوت الوحدانية من شأنه أن يزيل الريبة في أن القرآن منزّل من عند الله لأنهم ما كفروا به إلا لأجل إعلانه بنفي الشريك عن الله تعالى ، فلما استبان ذلك كان الشأن أن يفيئوا إلى تصديق الرسول والإيمان بالقرآن ، وأن يقلعوا عن إعراضهم المحكي عنهم بقوله في أول السورة (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) [فصلت : ٤] إلخ ، فلذلك جعل استمرارهم على الإعراض بعد تلك الحجج أمرا مفروضا كما يفرض المحال ، فجيء في جانبه بحرف (إن) الذي الأصل فيه أن يقع في الموقع الذي لا جزم فيه بحصول الشرط كقوله تعالى : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) [الزخرف : ٥] في قراءة من قرأ بكسر همزة (إن).

فمعنى (فَإِنْ أَعْرَضُوا) إن استمروا على إعراضهم بعد ما هديتهم بالدلائل البينة وكابروا فيها ، فالفعل مستعمل في معنى الاستمرار كقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [النساء : ١٣٦].

والإنذار : التخويف ، وهو هنا تخويف بتوقع عقاب مثل عقاب الذين شابهوهم في الإعراض خشية أن يحلّ بهم ما حل بأولئك ، بناء على أن المعروف أن تجري أفعال الله على سنن واحد ، وليس هو وعيدا لأن قريشا لم تصبهم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ، وإن كانوا قد ساووهما في التكذيب والإعراض عن الرسل وفي التعللات التي تعللوا بها من قولهم : (لَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) [المؤمنون : ٢٤] وأمهل الله قريشا حتى آمن كثير

٢٥

منهم واستأصل كفارهم بعذاب خاص.

وحقيقة الصاعقة : نار تخرج مع البرق تحرق ما تصيبه ، وتقدم ذكرها في قوله تعالى : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ) في سورة البقرة [١٩]. وتطلق على الحادثة المبيرة السريعة الإهلاك ، ولما أضيفت صاعقة هنا إلى عاد وثمود ، وعاد لم تهلكهم الصاعقة وإنما أهلكهم الريح وثمود أهلكوا بالصاعقة فقد استعمل الصاعقة هنا في حقيقته ومجازه ، أو هو من عموم المجاوز والمقتضي لذلك على الاعتبارين قصد الإيجاز ، وليقع الإجمال ثم التفصيل بعد بقوله : (فَأَمَّا عادٌ) [فصلت : ١٥] إلى قوله : (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [فصلت : ١٧].

و (إِذْ) ظرف للماضي ، والمعنى مثل صاعقتهم حين جاءتهم الرسل إلى آخر الآيات. روى ابن إسحاق في سيرته أن عتبة بن ربيعة كلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما جاء به من خلاف قومه فتلا عليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) حتى بلغ (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً) [فصلت : ١ ـ ١٣] الآية ، فأمسك عتبة على فم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال له : «ناشدتك الله والرحم».

وضمير (جاءَتْهُمُ) عائد إلى عاد وثمود باعتبار عدد كل قبيلة منهما. وجمع الرسل هنا من باب إطلاق صيغة الجمع على الاثنين مثل قوله تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم : ٤] ، والقرينة واضحة وهو استعمال غير عزيز ، وإنما جاءهم رسولان هود وصالح.

وقوله : (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) تمثيل لحرص رسول كل منهم على هداهم بحيث لا يترك وسيلة يتوسل بها إلى إبلاغهم الدين إلا توسل بها. فمثّل ذلك بالمجيء إلى كل منهم تارة من أمامه وتارة من خلفه لا يترك له جهة ، كما يفعل الحريص على تحصيل أمر أن يتطلبه ويعيد تطلبه ويستوعب مظانّ وجوده أو مظانّ سماعه ، وهذا التمثيل نظير الذي في قوله تعالى حكاية عن الشيطان (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) [الأعراف : ١٧].

وإنما اقتصر في هذه الآية على جهتين ولم تستوعب الجهات الأربع كما مثل حال الشيطان في وسوسته لأن المقصود هنا تمثيل الحرص فقط وقد حصل ، والمقصود في الحكاية عن الشيطان تمثيل الحرص مع التلهف تحذيرا منه وإثارة لبغضه في نفوس الناس. و (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) تفسير لجملة (جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ) لتضمن المجيء معنى الإبلاغ بقرينة كون فاعل المجيء متصفا بأنهم رسل ، فتكون (أن) تفسيرية ل (جاءَتْهُمُ) بهذا التأويل

٢٦

كقول الشاعر :

إن تحملا حاجة لي خف محملها

تستوجبا منة عندي بها ويدا

أن تقرءان على أسماء ويحكما

مني السّلام وأن لا تشعرا أحدا

إذ فسر الحاجة بأن يقرأ السلام على أسماء لأنه أراد بالحاجة الرسالة ، وهذا جري على رأي الزمخشري والمحققين من عدم اشتراط تقدم جملة فيها معنى القول دون حروفه بل الاكتفاء بتقدم ما أريد به معنى القول ولو لم يكن جملة خلافا لما أطال به صاحب «مغني اللبيب» من أبحاث لا يرضاها الأريب ، أو لما يتضمنه عنوان (الرُّسُلُ) من إبلاغ رسالة.

(قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ)

حكاية جواب عاد وثمود لرسوليهم فقد كان جوابا متماثلا لأنه ناشئ عن تفكير متماثل وهو أن تفكير الأذهان القاصرة من شأنه أن يبنى على تصورات وهمية وأقيسة تخييلية وسفسطائية ، فإنهم يتصورون صفات الله تعالى وأفعاله على غير كنهها ويقيسونها على أحوال المخلوقات ، ولذلك يتماثل في هذا حال أهل الجهالة كما قال تعالى : (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) [الذاريات : ٥٢ ، ٥٣] ، أي بل هم متماثلون في الطغيان ، أي الكفر الشديد فتملي عليهم أوهامهم قضايا متماثلة.

ولكون جوابهم جرى في سياق المحاورة أتت حكاية قولهم غير معطوفة بأسلوب المقاولة ، كما تقدم قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] فإن قول الرسل لهم : لا تعبدوا إلا الله قد حكي بفعل فيه دلالة على القول ، وهو فعل (جاءَتْهُمُ) كما تقدم آنفا.

فقولهم : (لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) يتضمن إبطال رسالة البشر عن الله تعالى. ومفعول (شاءَ) محذوف دل عليه السياق ، أي لو شاء ربنا أن يرسل إلينا لأنزل ملائكة من السماء مرسلين إلينا ، وهذا حذف خاص هو غير حذف مفعول فعل المشيئة الشائع في الكلام لأن ذلك فيما إذا كان المحذوف مدلولا عليه بجواب (لَوْ) كقوله تعالى : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنعام : ١٤٩] ، ونكتته الإبهام ثم البيان ، وأما الحذف في الآية فهو للاعتماد على قرينة السياق والإيجاز وهو حذف عزيز لمفعول فعل المشيئة ، ونظيره

٢٧

قول المعري :

وإن شئت فازعم أنّ من فوق ظهرها

عبيدك واستشهد إلهك يشهد

وتضمن كلامهم قياسا استثنائيا تركيبه : لو شاء ربنا أن يرسل رسولا لأرسل ملائكة ينزلهم من السماء لكنه لم ينزل إلينا ملائكة فهو لم يشأ أن يرسل إلينا رسولا. وهذا إيماء إلى تكذيبهم الرسل ولهذا فرعوا عليه قولهم : (فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) أي جاحدون رسالتكم وهو أيضا كناية عن التكذيب.

[١٥ ، ١٦] (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦))

بعد أن حكي عن عاد وثمود ما اشترك فيه الأمتان من الكابرة والإصرار على الكفر فصّل هنا بعض ما اختصت به كل أمة منهما من صورة الكفر ، وذكر من ذلك ما له مناسبة لما حلّ بكل أمة منهما من العذاب.

والفاء تفريع على جملة (قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) [فصلت : ١٤] المقتضية أنهم رفضوا دعوة رسوليهم ولم يقبلوا إرشادهما واستدلالهما.

وأما حرف شرط وتفصيل ، وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) في سورة البقرة [٢٦]. والمعنى : فأما عاد فمنعهم من قبول الهدى استكبارهم.

والاستكبار : المبالغة في الكبر ، أي التعاظم واحتقار الناس ، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل : استجاب ، والتعريف في (الْأَرْضِ) للعهد ، أي أرضهم المعهودة. وإنما ذكر من مساويهم الاستكبار لأن تكبرهم هو الذين صرفهم عن اتباع رسولهم وعن توقع عقاب الله.

وقوله : (بِغَيْرِ الْحَقِ) زيادة تشنيع لاستكبارهم ، فإن الاستكبار لا يكون بحق إذ لا مبرر للكبر بوجه من الوجوه لأن جميع الأمور المغريات بالكبر من العلم والمال والسلطان والقوة وغير ذلك لا تبلغ الإنسان مبلغ الخلوّ عن النقص وليس للضعيف الناقص حق في

٢٨

الكبر ولذلك كان الكبر من خصائص الله تعالى. وهم قد اغترّوا بقوة أجسامهم وعزة أمتهم وادعوا أنهم لا يغلبهم أحد ، وهو معنى قولهم : (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) فقولهم ذلك هو سبب استكبارهم لأنه أورثهم الاستخفاف بمن عداهم ، فلما جاءهم هود بإنكار ما هم عليه من الشرك والطغيان عظم عليهم ذلك لأنهم اعتادوا العجب بأنفسهم وأحوالهم فكذبوا رسولهم.

فلما كان اغترارهم بقوتهم هو باعثهم على الكفر وكان قولهم : (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) دليلا عليه خصّ بالذكر. وإنما عطف بالواو مع أنه كالبيان لقوله : (فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) إشارة إلى استقلاله بكونه موجب الإنكار عليهم ، لأن قولهم ذلك هو بمفرده منكر من القول فذكر بالعطف على فعل «استكبروا» لأن شأن العطف أن يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه ، ويعلم أنه باعثهم على الاستكبار بالسياق.

وجملة (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) جملة معترضة ، والواو اعتراضية. والرؤية علمية ، والاستفهام إنكاري ، والمعنى : إنكار عدم علمهم بأن الله أشد منهم قوة حيث أعرضوا عن رسالة رسول ربهم وعن إنذاره إياهم إعراض من لا يكترث بعظمة الله تعالى لأنهم لو حسبوا لذلك حسابه لتوقعوا عذابه فلأقبلوا على النظر في دلائل صدق رسولهم. وإجراء وصف (الَّذِي خَلَقَهُمْ) على اسم الجلالة لما في الصلة من الإيماء إلى وجه الإنكار عليهم لجهلهم بأن الله أقوى منهم فإن كونهم مخلوقين معلوم لهم بالضرورة ، فكان العلم به كافيا في الدلالة على أنه أشدّ منهم قوة ، وأنه حقيق بأن يحسبوا لغضبه حسابه فينظروا في أدلة صدق رسوله إليهم.

وضمير (هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ) ضمير فصل ، وهو مفيد تقوية الحكم بمعنى وضوحه ، وإذا كان ذلك الحكم محققا كان عدم علمهم بمقتضاه أشنع وعذرهم في جهله منتفيا.

والقوة حقيقتها : حالة في الجسم يتأتّى بها أن يعمل الأعمال الشاقة ، وتطلق على لازم ذلك من القدرة ووسائل الأعمال ، وقد تقدم بيان إطلاقها في قوله تعالى : (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) في سورة الأعراف [١٤٥] ، والمراد بها هنا معناها الحقيقي والكنائي والمجازي ، فهو مستعمل في حقيقته تصريحا وكناية ، ومجازه لما عندهم من وسائل تذليل صعاب الأمور لقوة أجسامهم وقوة عقولهم. والعرب تضرب المثل بعاد في أصالة آرائهم فيقولون : أحلام عاد ، قال النابغة :

أحلام عاد وأجسام مطهرة

من المعقّة والآفات والإثم

٢٩

ويقولون في وصف الأشياء التي يقل صنع أمثالها : عاديّة يقولون : بئر عاديّة ، وبناء عاديّ.

ولما كانت القوّة تستلزم سعة القدرة أسند القوة إلى الله تعالى بمعنى أن قدرته تعالى لا يستعصي عليها شيء تتعلق به إرادته تعالى ، وهذا المراد هنا في قوله : (أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) أي هو أوسع قدرة من قدرتهم فإطلاق القوة على قدرة الله تعالى بمعنى كمال القدرة ، أي عموم تأثيرها وتعلقها بالممكنات على وفق الإرادة لا يستعصي على تعلق قدرته شيء ممكن ، وكمال غناه عن التأثّر للغير ، وتقدم عند قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) في سورة الأنفال [٥٢].

وجملة (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) معترضة بين الجمل المتعاطفة ، والواو فيها اعتراضية.

وقوله : (وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) يحتمل أن المراد بالآيات معجزات رسولهم هود فلم يؤمنوا بها وأصروا على العناد ولم يذكر القرآن لهود آيات سوى أنه أنذرهم عذابا يأتيهم من السماء ، قال تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) [الأحقاف : ٢٤] فذلك من تكذيبهم بأوائل الآيات.

ويحتمل أن المراد بالآيات دلائل الوحدانية التي في دعوة رسولهم وتذكيرهم بنعم الله عليهم كقوله : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) [الأعراف : ٦٩] ، وقوله : (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [الشعراء : ١٣٢ ، ١٣٤].

ودل فعل (كانُوا) على أن التكذيب بالآيات متأصل فيهم. ودلت صيغة المضارع في قوله : (يَجْحَدُونَ) أن الجحد متكرر فيهم متجدد. ورتب على ذلك وصف عقابهم بأن الله أرسل عليهم ريحا فأشارت الفاء إلى أن عقابهم كان مسببا على حالة كفرهم بصفتها فإن باعث كفرهم كان اغترارهم بقوتهم ، فأهلكهم الله بما لا يترقب الناس الهلاك به فإن الناس يقولون للشيء الذي لا يؤبه به : هو ريح ، ليريهم أن الله شديد القوة وأنه يضع القوة في الشيء الهيّن مثل الريح ليكون عذابا وخزيا ، أي تحقيرا كما قال : (لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ، وأي خزي أشد من أن تتراماهم الريح في الجوّ كالريش ، وأن تلقيهم هلكى على التراب عن بكرة أبيهم فيشاهدهم المارّون بديارهم جثثا صرعى قد

٣٠

تقلصت جلودهم وبليت أجسامهم كأنهم أعجاز نخل خاوية.

والريح : تموّج في الهواء يحدث من تعاكس الحرارة والبرودة ، وتنتقل موجاته كما تنتقل أمواج البحر والريح الذي أصاب عادا هو الريح الدّبور ، وهو الذي يهبّ من جهة مغرب الشمس ، سميت دبورا بفتح الدال وتخفيف الباء لأنها تهبّ من جهة دبر الكعبة قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور». وإنما كانت الريح التي أصابت عادا بهذه القوة بسبب قوة انضغاط في الهواء غير معتاد فإن الانضغاط يصير الشيء الضعيف قويا ، كما شوهد في عصرنا أن الأجسام الدقيقة من أجزاء كيمياوية تسمى الذّرة تصير بالانضغاط قادرة على نسف مدينة كاملة ، وتسمى الطاقة الذّرية ، وقد نسف بها جزء عظيم من بلاد اليابان في الحرب العامة.

والصرصر : الريح العاصفة التي يكون لها صرصرة ، أي دويّ في هبوبها من شدة سرعة تنقلها. وتضعيف عينه للمبالغة في شدتها بين أفراد نوعها كتضعيف كبكب للمبالغة في كبّ. وأصله صرّ ، أي صاح ، وهو وصف لا يؤنث لفظه لأنه لا يجري إلا على الريح وهي مقدرة التأنيث.

والنحسات بفتح النون وسكون الحاء : جمع نحس بدون تأنيث لأنه مصدر أو اسم مصدر لفعل نحس كعلم ، كقوله تعالى : (فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) [القمر : ١٩].

وقرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بسكون الحاء. ويجوز كسر الحاء وبه قرأ البقية على أنه صفة مشبهة من (نحس) إذا أصابه النحس إصابة سوء أو ضر شديد. وضده البخت في أوهام العامة ، ولا حقيقة للنحس ولا للبخت ولكنهما عارضان للإنسان ، فالنحس يعرض له من سوء خلقه مزاجه أو من تفريطه أو من فساد بيئته أو قومه ، والبخت يعرض من جراء عكس ذلك. وبعض النوعين أمور اتفاقية وربما كان بعضها جزاء من الله على عمل خير أو شر من عباده أو في دينه كما حل بعاد وأهل الجاهلية. وعامة الأمم يتوهمون النحس والبخت من نوع الطّيرة ومن التشاؤم والتيمّن ، ومنه الزجر والعيافة عند العرب في الجاهلية ومنه تطلّع الحدثان من طوالع الكواكب والأيام عند معظم الأمم الجاهلة أو المختلّة العقيدة. وكل ذلك أبطله الإسلام ، أي كشف بطلانه ، بما لم يسبقه تعليم من الأديان التي ظهرت قبل الإسلام.

فمعنى وصف الأيام بالنحسات : أنها أيام سوء شديد أصابهم وهو عذاب الريح ،

٣١

وهي ثمانية أيام كما جاء في قوله تعالى : (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) [الحاقة : ٧] ، فالمراد : أن تلك الأيام بخصوصها كانت نحسا وأن نحسها عليهم دون غيرهم من أهل الأرض لأن عادا هم المقصودون بالعذاب. وليس المراد أن تلك الأيام من كل عام هي أيام نحس على البشر لأن ذلك لا يستقيم لاقتضائه أن تكون جميع الأمم حلّ بها سوء في تلك الأيام. ووصفت تلك الأيام بأنها (نَحِساتٍ) لأنها لم يحدث فيها إلا السوء لهم من إصابة آلام الهشم المحقق إفضاؤه إلى الموت ، ومشاهدة الأموات من ذويهم ، وموت أنعامهم ، واقتلاع نخيلهم.

وقد اخترع أهل القصص تسمية أيام ثمانية نصفها آخر شهر (شباط) ونصفها شهر (آذار) تكثر فيها الرياح غالبا دعوها أيام الحسوم ثم ركبوا على ذلك أنها الموصوفة بحسوم في قوله تعالى في سورة الحاقة [٧] (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) ، فزعموا أنها الأيام الموافقة لأيام الريح التي أصابت عادا ، ثم ركّبوا على ذلك أنها أيام نحس من كل عام وكذبوا على بعض السلف مثل ابن عباس أكاذيب في ذلك وذلك ضغث على إبالة ، وتفنن في أوهام الضلالة.

وجمع (نَحِساتٍ) بالألف والتاء لأنه صفة لجمع غير العاقل وهو (أَيَّامٍ).

واللام في (لِنُذِيقَهُمْ) للتعليل وهي متعلقة ب (أرسلنا). والإذاقة تخييل لمكنية ، شبه العذاب بطعام هيّئ لهم على وجه التهكم كما سمّى عمرو بن كلثوم الغارة قرى في قوله :

قريناكم فعجّلنا قراكم

قبيل الصّبح مرداة طحونا

والإذاقة : تخييل من ملائمات الطعام المشبه به.

والخزي : الذلّ. وإضافة (عَذابَ) إلى (الْخِزْيِ) من إضافة الموصوف إلى الصفة بدليل مقابلته بقوله : (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى) ، أي أشد إخزاء من إخزاء عذاب الدنيا ، وذلك باعتبار أن الخزي وصف للعذاب من باب الوصف بالمصدر أو اسم المصدر للمبالغة في كون ذلك العذاب مخزيا للذي يعذب به. ومعنى كون العذاب مخزيا : أنه سبب خزي فوصف العذاب بأنه خزي بمعنى مخز من باب المجاز العقلي ، ويقدر قبل الإضافة : لنذيقهم عذابا خزيا ، أي مخزيا ، فلما أريدت إضافة الموصوف إلى صفته قيل : (عَذابَ الْخِزْيِ) ، للمبالغة أيضا لأن إضافة الموصوف إلى الصفة مبالغة في الاتصاف حتى جعلت الصفة بمنزلة شخص آخر يضاف إليه الموصوف وهو قريب من محسّن التجريد

٣٢

فحصلت مبالغتان في قوله : (عَذابَ الْخِزْيِ) مبالغة الوصف بالمصدر ، ومبالغة إضافة الموصوف إلى الصفة.

وجملة (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى) احتراس لئلا يحسب السامعون أن حظ أولئك من العقاب هو عذاب الإهلاك بالريح فعطف عليه الإخبار بأن عذاب الآخرة أخزى ، أي لهم ولكل من عذّب عذابا في الدنيا لغضب الله عليه. وأخزى : اسم تفضيل جرى على غير قياس ، وقياسه أن يقال : أشد إخزاء ، لأنه لا يقال : خزاه ، بمعنى أخزاه ، أي أهانه ، ومثل هذا في صوغ اسم التفضيل كثير في الاستعمال.

وجملة (وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) تذييل ، أي لا ينصرهم من يدفع العذاب عنهم ، ولا من يشفع لهم ، ولا من يخرجهم منه بعد مهلة.

(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧))

بقية التفصيل الذي في قوله : (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا) [فصلت : ١٥].

ولما كان حال الأمتين واحدا في عدم قبول الإرشاد من جانب الله تعالى كما أشار إليه قوله تعالى : (لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) [فصلت : ١٤] كان الإخبار عن ثمود بأن الله هداهم مقتضيا أنه هدى عادا مثل ما هدى ثمود وأن عادا استحبوا العمى على الهدى مثل ما استحبت ثمود. والمعنى : وأما ثمود فهديناهم هداية إرشاد برسولنا إليهم وتأييده بآية الناقة التي أخرجها لهم من الأرض.

فالمراد بالهداية هنا : الإرشاد التكليفي ، وهي غير ما في قوله : (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ) [الزمر : ٣٧] فإن تلك الهداية التكوينية لمقابلته بقوله : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) [غافر : ٣٣].

واستحبوا العمى معناه : أحبّوا ، فالسين والتاء للمبالغة مثلهما في قوله : (فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) [فصلت : ١٥] ، أي كان العمى محبوبا لهم. والعمى : هنا مستعار للضلال في الرأي ، أي اختاروا الضلال بكسبهم. وضمن (استحبوا) معنى : فضّلوا ، وهيّأ لهذا التضمين اقترانه بالسين والتاء للمبالغة لأن المبالغة في المحبة تستلزم التفضيل على بقية المحبوبات فلذلك عدّي (استحبوا) بحرف (عَلَى) ، أي رجحوا

٣٣

باختيارهم. وتعليق (عَلَى الْهُدى) بفعل (استحبوا) لتضمينه معنى : فضّلوا وآثروا.

وفرع عليه (فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ) ، وكان العقاب مناسبا للجرم لأنهم استحبوا الضلال الذي هو مثل العمى ، فمن يستحبه فشأنه أن يحب العمى ، فكان جزاؤهم بالصاعقة لأنها تعمي أبصارهم في حين تهلكهم قال تعالى : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) [البقرة : ٢٠].

والأخذ : مستعار للإصابة المهلكة لأنها اتصال بالمهلك يزيله من الحياة فكأنه أخذ باليد.

والصاعقة : الصيحة التي تنشأ في كهربائية السحاب الحامل للماء فتنقدح منها نار تهلك ما تصيبه. وإضافة (صاعِقَةُ) إلى (الْعَذابِ) للدلالة على أنها صاعقة تعرّف بطريق الإضافة إذ لا يعرّف بها إلا ما تضاف إليه ، أي صاعقة خارقة لمعتاد الصواعق ، فهي صاعقة مسخرة من الله لعذاب ثمود ، فإن أصل معنى الإضافة أنها بتقدير لام الاختصاص فتعريف المضاف لا طريق له إلا بيان اختصاصه بالمضاف إليه.

و (الْعَذابِ) هو : الإهلاك بالصعق ، ووصف ب (الْهُونِ) كما وصف العذاب بالخزي في قوله : (لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ) [فصلت : ١٦] ، أي العذاب الذي هو سبب الهون. و (الْهُونِ) : الهوان وهو الذل ، ووجه كونه هوانا أنه إهلاك فيه مذلة إذ استؤصلوا عن بكرة أبيهم وتركوا صرعى على وجه الأرض كما بيناه في مهلك عاد. أي أخذتهم الصاعقة بسبب كسبهم في اختيارهم البقاء على الضلال بإعراضهم عن دعوة رسولهم وعن دلالة آياته.

ويعلم من قوله في شأن عاد (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى) [فصلت : ١٦] أن لثمود عذابا في الآخرة لأن الأمتين تماثلتا في الكفر فلم يذكر ذلك هنا اكتفاء بذكره فيما تقدم.

وهذا محسّن الاكتفاء ، وهو محسّن يرجع إلى الإيجاز.

(وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨))

الأظهر أنه عطف على التفصيل في قوله : (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا) [فصلت : ١٥] وما عطف عليه من قوله : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) [فصلت : ١٧] لأن موقع هاته الجملة المتضمنة إنجاء المؤمنين من العذاب بعد أن ذكر عذاب عاد وعذاب ثمود يشير إلى أن المعنى إنجاء الذين آمنوا من قوم عاد وقوم ثمود ، فمضمون هذه الجملة فيه معنى استثناء

٣٤

من عموم أمتي عاد وثمود فيكون لها حكم الاستثناء الوارد بعد جمل متعاقبة أنه يعود إلى جميعها فإن جملتي التفصيل هما المقصود ، قال تعالى : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) [هود : ٥٨] وقال : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ.)

وقوله : (وَكانُوا يَتَّقُونَ) ، أي كان سنتهم اتقاء الله والنظر فيما ينجي من غضبه وعقابه ، وهو أبلغ في الوصف من أن يقال : والمتقين.

[١٩ ـ ٢١] (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١))

(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ)

لما فرغ من موعظة المشركين بحال الأمم المكذبة من قبلهم وإنذارهم بعذاب يحلّ بهم في الدنيا كما حل بأولئك ليكون لهم ذلك عبرة فإن لاستحضار المثل والنظائر أثرا في النفس تعتبر به ما لا تعتبر بتوصف المعاني العقلية ، انتقل إلى إنذارهم بما سيحلّ بهم في الآخرة فجملة ويوم نحشر (أَعْداءُ اللهِ) الآيات ، معطوفة على جملة (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً) [فصلت : ١٣] الآيات. والتقدير : وأنذرهم يوم نحشر أعداء الله إلى النار. ودل على هذا المقدر قوله : (أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً) إلخ ، أي وأنذرهم يوم عقاب الآخرة.

وأعداء الله : هم مشركو قريش لأنهم أعداء رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) [الممتحنة : ١] يعني المشركين لقوله بعده : (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) [الممتحنة : ١] ، ولأنها نزلت في قضية كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يعلمهم بتهيّؤ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لغزو مكة ولقوله في آخر هذه الآيات (ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ) [فصلت : ٢٨] بعد قوله (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت : ٢٦]. ولا يجوز أن يكون المراد ب (أَعْداءُ اللهِ) جميع الكفار من الأمم بحيث يدخل المشركون من قريش دخول البعض في العموم لأن ذلك

٣٥

المحمل لا يكون له موقع رشيق في المقام لأن الغرض من ذكر ما أصاب عادا وثمود هو تهديد مشركي مكة بحلول عذاب مثله في الدنيا لأنهم قد علموه ورأوا آثاره فللتهديد بمثله موقع لا يسعهم التغافل عنه ، وأما عذاب عاد وثمود في الآخرة فهو موعود به في المستقبل وهم لا يؤمنون به فلا يناسب أن يجعل موعظة لقريش بل الأجدر أن يقع إنذار قريش رأسا بعذاب يعذّبونه في الآخرة ، ولذلك أطيل وصفه لتهويله ما لم يطل بمثله حين التعرض لعذاب عاد في الآخرة بقوله : (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى) [فصلت : ١٦] المكتفي به عن ذكر عذاب ثمود. ولهذا فليس في قوله : (أَعْداءُ اللهِ) إظهار في مقام الإضمار من ضمير عاد وثمود.

ويجوز أن يكون ويوم نحشر (أَعْداءُ اللهِ) مفعولا لفعل (واذكر) محذوفا مثل نظائره الكثيرة. والحشر : جمع الناس في مكان لمقصد.

ويتعلق قوله : (إِلَى النَّارِ) ب نحشر لتضمين نحشر معنى : نرسل ، أي نرسلهم إلى النار.

والفاء في قوله : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) عطف وتفريع على نحشر لأن الحشر يقتضي الوزع إذ هو من لوازمه عرفا ، إذ الحشر يستلزم كثرة عدد المحشورين وكثرة العدد تستلزم الاختلاط وتداخل بعضهم في بعض فلا غنى لهم عن الوزع لتصفيفهم وردّ بعضهم عن بعض. والوزع : كفّ بعضهم عن بعض ومنعهم من الفوضى ، وتقدم في سورة النمل [١٧] ، وهو كناية عن كثرة المحشورين.

وقرأ نافع ويعقوب نحشر بنون العظمة مبنيا للفاعل ونصب (أَعْداءُ). وقرأه الباقون بياء الغائب مبنيا للنائب.

و (حَتَّى) ابتدائية وهي مفيدة لمعنى الغاية فهي حرف انتهاء في المعنى وحرف ابتداء في اللفظ ، أي أن ما بعدها جملة مستأنفة. و (إِذا) ظرف للمستقبل متضمن معنى الشرط وهو متعلق بجوابه ، و (ما) زائدة للتوكيد بعد (إِذا) تفيد توكيد معنى (إِذا) من الارتباط بالفعل الذي بعد (إِذا) سواء كانت شرطية كما في هذه الآية أم كانت لمجرد الظرفية كقوله تعالى : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) [الشورى : ٣٧]. ويظهر أن ورود (ما) بعد (إِذا) يقوّي معنى الشرط في (إِذا) ، ولعله يكون معنى الشرط حينئذ نصا احتمالا. وضمير المؤنث الغائب في (جاؤُها) عائد إلى (النَّارِ) ، أي إذا وصلوا إلى جهنم.

٣٦

وجملة (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ) إلخ يقتضي كلام المفسرين أنها جواب (إِذا) ، فاقتضى الارتباط بين شرطها وجوابها وتعليقها بفعل الجواب. واستشعروا أن الشهادة عليهم تكون قبل أن يوجهوا إلى النار ، فقدّروا فعلا محذوفا تقديره : وسئلوا عما كانوا يفعلون فأنكروا فشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم ، يعني : سألهم خزنة النار.

وأحسن من ذلك أن نقول : إن جواب (إِذا) محذوف للتهويل وحذف مثله كثير في القرآن ، ويكون جملة (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ) إلى آخرها مستأنفة استئنافا بيانيا نشأ عن مفاد (حَتَّى) من الغاية لأن السائل يتطلب ما ذا حصل بين حشرهم إلى النار وبين حضورهم عند النار فأجيب بأنه (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ) إلى قوله : (الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) ويتضمن ذلك أنهم حوسبوا على أعمالهم وأنكروها فشهدت عليهم جوارحهم وأجسادهم. أو أن يكون جواب (إِذا) قوله : (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) [فصلت : ٢٤] إلخ.

وجملة (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ) وما عطف عليها معترضة بين الشرط وجوابه. وشهادة جوارحهم وجلودهم عليهم : شهادة تكذيب وافتضاح لأن كون ذلك شهادة يقتضي أنهم لما رأوا النار اعتذروا بإنكار بعض ذنوبهم طمعا في تخفيف العذاب وإلا فقد علم الله ما كانوا يصنعون وشهدت به الحفظة وقرئ عليهم كتابهم ، وما أحضروا للنار إلا وقد تحققت إدانتهم ، فما كانت شهادة جوارحهم إلا زيادة خزي لهم وتحسيرا وتنديما على سوء اعتقادهم في سعة علم الله.

وتخصيص السمع والأبصار والجلود بالشهادة على هؤلاء دون بقية الجوارح لأن للسمع اختصاصا بتلقي دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتلقي آيات القرآن ، فسمعهم يشهد عليهم بأنهم كانوا يصرفونه عن سماع ذلك كما حكى الله عنهم بقوله : (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) [فصلت : ٥] ، ولأن للأبصار اختصاصا بمشاهدة دلائل المصنوعات الدالة على انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير فذلك دليل وحدانيته في إلهيته ، وشهادة الجلود لأن الجلد يحوي جميع الجسد لتكون شهادة الجلود عليهم شهادة على أنفسها فيظهر استحقاقها للحرق بالنار لبقية الأجساد دون اقتصار على حرق موضع السمع والبصر. ولذلك اقتصروا في توجيه الملامة على جلودهم لأنها حاوية لجميع الحواس والجوارح ، وبهذا يظهر وجه الاقتصار على شهادة السمع والأبصار والجلود هنا بخلاف آية سورة النور [٢٤] (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، لأن آية النور تصف الذين يرمون

٣٧

المحصنات وهم الذين اختلقوا تهمة الإفك ومشوا في المجامع يشيعونها بين الناس ويشيرون بأيديهم إلى من اتهموه إفكا.

وإنما قالوا لجلودهم (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) دون أن يقولوه لسمعهم وأبصارهم لأن الجلود مواجهة لهم يتوجهون إليها بالملامة. وإجراء ضمائر السمع والبصر والجلود بصيغتي ضمير جمع العقلاء لأن التحاور معها صيرها بحالة العقلاء يومئذ. ومن غريب التفسير قول من زعموا أن الجلود أريد بها الفروج ونسب هذا للسدي والفراء ، وهو تعنت في محمل الآية لا داعي إليه بحال ، وعلى هذا التفسير بنى أحمد الجرجاني في كتاب «كنايات الأدباء» فعدّ الجلود من الكنايات عن الفروج وعزاه لأهل التفسير فجازف في التعبير.

والاستفهام في قولهم : (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) مستعمل في الملامة وهم يحسبون أن جلودهم لكونها جزءا منهم لا يحق لها شهادتها عليهم لأنها تجر العذاب إليها. واستعمال الاستفهام عن العلة في معرض التوبيخ كثير كقوله تعالى : (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) [آل عمران : ٦٦].

وقول الجلود (أَنْطَقَنَا اللهُ) اعتذار بأن الشهادة جرت منها بغير اختيار. وهذا النطق من خوارق العادات كما هو شأن العالم الأخروي. وقولهم : (الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) تمجيد لله تعالى ولا علاقة له بالاعتذار ، والمعنى : الذي أنطق كل شيء له نطق من الحيوان واختلاف دلالة أصواتها على وجدانها ، فعموم (كُلَّ شَيْءٍ) مخصوص بالعرف.

(وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)

يجوز أن تكون هذه الجملة والتي عطفت عليها من تمام ما أنطق الله به جلودهم قتفّي على مقالتها تشهيرا بخطئهم في إنكارهم البعث والمصير إلى الله لزيادة التنديم والتحسير ، وهذا ظاهر كون الواو في أول الجملة واو العطف فيكون التعبير بالفعل المضارع في قوله : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) لاستحضار حالتهم فإنهم ساعتئذ في قبضة تصرف الله مباشرة. وأما رجوعهم بمعنى البعث فإنه قد مضى بالنسبة لوقت إحضارهم عند جهنم ، أو يكون المراد بالرجوع الرجوع إلى ما ينتظرهم من العذاب.

ويجوز أن تكون هذه الجملة وما بعدها اعتراضا بين جملة ويوم نحشر (أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ) وجملة (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) [فصلت : ٢٤] موجها من جانب الله

٣٨

تعالى إلى المشركين الأحياء لتذكيرهم بالبعث عقب ذكر حالهم في القيامة انتهازا لفرصة الموعظة السابقة عند تأثرهم بسماعها.

ويكون فعل (تُرْجَعُونَ) مستعملا في الاستقبال على أصله ، والكلام استدلال على إمكان البعث. قال تعالى : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) [ق : ١٥]. وتقديم متعلق (تُرْجَعُونَ) عليه للاهتمام ورعاية الفاصلة.

[٢٢ ، ٢٣] (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣))

قلّ من تصدى من المفسرين لبيان اتصال هذه الآيات الثلاث بما قبلها ، ومن تصدّى منهم لذلك لم يأت بما فيه مقنع ، وأولى كلام في ذلك كلام ابن عطية ولكنه وجيز وغير محرر وهو وبعض المفسرين ذكروا سببا لنزولها فزادوا بذلك إشكالا وما أبانوا انفصالا. ولنبدأ بما يقتضيه نظم الكلام ، ثم نأتي على ما روي في سبب نزولها بما لا يفضي إلى الانفصام.

فيجوز أن تكون جملة (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) بتمامها معطوفة على جملة (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [فصلت : ٢١] إلخ فتكون مشمولة للاعتراض متصلة بالتي قبلها على كلا التأويلين السابقين في التي قبلها. ويجوز أن تكون مستقلة عنها : إمّا معطوفة على جملة ويوم نحشر (أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ) [فصلت : ١٩] الآيات ، وإما معترضة بين تلك الجملة وجملة (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) [فصلت : ٢٤] ، وتكون الواو اعتراضية ، ومناسبة الاعتراض ما جرى من ذكر شهادة سمعهم وأبصارهم وجلودهم عليهم. فيكون الخطاب لجميع المشركين الأحياء في الدنيا ، أو للمشركين في يوم القيامة.

وعلى هذه الوجوه فالمعنى : ما كنتم في الدنيا تخفون شرككم وتستترون منه بل كنتم تجهرون به وتفخرون باتباعه فما ذا لومكم على جوارحكم وأجسادكم أن شهدت عليكم بذلك فإنه كان أمرا مشهورا فالاستتار مستعمل في الإخبار مجازا لأن حقيقة الاستتار إخفاء الذوات والذي شهدت به جوارحهم هو اعتقاد الشرك والأقوال الداعية إليه. وحرف (ما) نفي بقرينة قوله بعده : (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ) إلخ ، ولا بد من تقدير حرف جر

٣٩

يتعدى به فعل (تَسْتَتِرُونَ) إلى (أَنْ يَشْهَدَ) وهو محذوف على الطريقة المشهورة في حذف حرف الجر مع (أن). وتقديره : بحسب ما يدل عليه الكلام وهو هنا يقدر حرف من ، أي ما كنتم تستترون من شهادة سمعكم وأبصاركم وجلودكم ، أي ما كنتم تستترون من تلك الشهود ، وما كنتم تتقون شهادتها ، إذ لا تحسبون أن ما أنتم عليه ضائر إذ أنتم لا تؤمنون بوقوع يوم الحساب.

فأما ما ورد في سبب نزول الآية فهو حديث «الصحيحين» و «جامع الترمذي» بأسانيد يزيد بعضها على بعض إلى عبد الله بن مسعود قال : «كنت مستترا بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي (١) قليل فقه قلوبهم كثير شحم بطونهم فتكلموا بكلام لم أفهمه ، فقال أحدهم : أترون الله يسمع ما نقول ، فقال الآخر : يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا ، وقال الآخر : إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا ، قال عبد الله : فذكرت ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ) إلى قوله : (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ). وهذا بظاهره يقتضي أن المخاطب به نفر معين في قضية خاصة مع الصلاحية لشمول من عسى أن يكون صدر منهم مثل هذا العمل للتساوي في التفكير. ويجعل موقعها بين الآيات التي قبلها وبعدها غريبا ، فيجوز أن يكون نزولها صادف الوقت الموالي لنزول التي قبلها ، ويجوز أن تكون نزلت في وقت آخر وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بوضعها في موضعها هذا لمناسبة ما في الآية التي قبلها من شهادة سمعهم وأبصارهم.

ومع هذا فهي آية مكية إذ لم يختلف المفسرون في أن السورة كلها مكية. وقال ابن عطية : يشبه أن يكون هذا بعد فتح مكة فالآية مدنية ، ويشبه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ الآية متمثلا بها عند إخبار عبد الله إياه ا ه. وفي كلامه الأول مخالفة لما جزم به هو وغيره من المفسرين أن السورة كلها مكية ، وكيف يصح كلامه ذلك وقد ذكر غيره أن النفر الثلاثة هم : عبد ياليل الثقفي وصفوان وربيعة ابنا أمية بن خلف ، فأما عبد ياليل فأسلم وله صحبة عند ابن إسحاق وجماعة ، وكذلك صفوان بن أمية ، وأما ربيعة بن أمية فلا يعرف له إسلام فلا يلاقي ذلك أن تكون الآية نزلت بعد فتح مكة. وأحسن ما في كلام ابن عطية

__________________

(١) الشك من أبي معمر راوي هذا الحديث عن ابن مسعود وجزم وهب بن ربيعة راويه عن ابن مسعود بقوله : ثقفي وقريشيان ، وعن الثعلبي : أن الثقفي عبد ياليل بن مسعود الثقفي والقرشيين ربيعة بن أمية وصفوان بن أمية. وهما ختنان لعبد ياليل.

٤٠