تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

الانتقام منهم هو البطشة الكبرى ، وهي الانتقام التامّ ، ولأجل هذا التطلع والتساؤل أكدا بخبر بحرف التأكيد دفعا للتردد.

وأصل تركيب الجملة : إنا منتقمون يوم نبطش البطشة الكبرى ، ف (يَوْمَ) منصوب على المفعول فيه لاسم الفاعل وهو (مُنْتَقِمُونَ).

وتقدم على عامله للاهتمام به لتهويله ولا يمنع من هذا التعليق أن العامل في الظرف خبر عن (إنّ) بناء على الشائع من كلام النحاة أن ما بعد (إنّ) لا يعمل فيما قبلها فإن الظروف ونحوها يتوسع فيها.

و (الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) : هي بطشة يوم بدر فإن ما أصاب صناديد المشركين يومئذ كان بطشة بالشرك وأهله لأنهم فقدوا سادتهم وذوي الرأي منهم الذين كانوا يسيّرون أهل مكة كما يريدون.

والبطشة : واحدة البطش وهو : الأخذ الشديد بعنف ، وتقدم في قوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها) في سورة الأعراف [١٩٥].

[١٧ ـ ٢١] (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١))

جعل الله قصة قوم فرعون مع موسى عليه‌السلام وبني إسرائيل مثلا لحال المشركين مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين به ، وجعل ما حلّ بهم إنذارا بما سيحلّ بالمشركين من القحط والبطشة مع تقريب حصول ذلك وإمكانه ويسره وإن كانوا في حالة قوة فإن الله قادر عليهم ، كما قال تعالى : (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) [الزخرف : ٨] فذكرها هنا تأييد للنبي ووعد له بالنصر وحسن العاقبة ، وتهديد للمشركين.

وهذا المثل وإن كان تشبيها لمجموع الحالة بالحالة فهو قابل للتوزيع بأن يشبّه أبو جهل بفرعون ، ويشبه أتباعه بملإ فرعون وقومه أو يشبه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بموسى عليه‌السلام ، ويشبه المسلمون ببني إسرائيل. وقبول المثل لتوزيع التشبيه من محاسنه.

وموقع جملة (وَلَقَدْ فَتَنَّا) يجوز أن يكون موقع الحال فتكون الواو للحال وهي حال من ضمير (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) [الدخان : ١٦]. ويجوز أن تكون معطوفة على جملة (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ)

٣٢١

[الدخان : ١٦] ، أي منتقمون منهم في المستقبل وانتقمنا من قوم فرعون فيما مضى.

وأشعر قوله (قَبْلَهُمْ) أن أهل مكة سيفتنون كما فتن قوم فرعون ، فكان هذا الظرف مؤذنا بجملة محذوفة على طريقة الإيجاز ، والتقدير : إنا منتقمون ففاتنوهم فقد فتنا قبلهم قوم فرعون ، ومؤذنا بأن المذكور كالدليل على توقع ذلك وإمكانه وهو إيجاز آخر.

والمقصود تشبيه الحالة بالحالة ولكن عدل عن صوغ الكلام بصيغة التشبيه والتمثيل إلى صوغه بصيغة الإخبار اهتماما بالقصة وإظهارا بأنها في ذاتها مما يهم العلم به ، وأنها تذكير مستقل وأنها غير تابعة غيرها. ولأن جملة (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) عطفت على جملة (فَتَنَّا) أي ولقد جاءهم رسول كريم ، عطف مفصل على مجمل ، وإنما جاء معطوفا إذ المذكور فيه أكثر من معنى الفتنة ، فلا تكون جملة (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) بيانا لجملة (فَتَنَّا) بل هي تفصيل لقصة بعثة موسى عليه‌السلام.

والفتن : الإيقاع في اختلال الأحوال ، وتقدم في قوله تعالى : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) في سورة البقرة [١٩١].

والرسول الكريم : موسى ، والكريم : النفيس الفائق في صنفه ، وتقدم عند قوله تعالى: (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) في سورة النمل [٢٩] ، أي رسول من خيرة الرسل أو من خيرة الناس.

و (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) تفسير لما تضمنه وصف (رَسُولٌ) وفعل (جاءَهُمْ) من معنى الرسالة والتبليغ ففيهما معنى القول. ومعنى (أَدُّوا إِلَيَ) ارجعوا إلي وأعطوا قال تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) [آل عمران : ٧٥] ، يقال : أدّى الشيء أوصله وأبلغه. وهمزة الفعل أصلية وهو مضاعف العين ولم يسمع منه فعل سالم غير مضاعف ، جعل بني إسرائيل كالأمانة عند فرعون على طريقة الاستعارة المكنية.

وخطاب الجمع لقوم فرعون. والمراد : فرعون ومن حضر من ملئه لعلهم يشيرون على فرعون بالحق ، ولعله إنما خاطب مجموع الملإ لمّا رأى من فرعون صلفا وتكبرا من الامتثال ، فخطاب أهل مشورته لعل فيهم من يتبصر الحق.

و (عِبادَ اللهِ) يجوز أن يكون مفعول (أَدُّوا) مرادا به بنو إسرائيل ، أجري وصفهم (عِبادَ اللهِ) تذكيرا لفرعون بموجب رفع الاستعباد عنهم ، وجاء في سورة الشعراء [١٧] (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) فحصل أنّه وصفهم بالوصفين ، فوصف (عِبادَ اللهِ) مبطل لحسبان القبط إياهم عبيدا كما قال : (وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) [المؤمنون : ٤٧] وإنما هم عباد

٣٢٢

الله ، أي أحرار فعباد الله كناية عن الحرية كقول بشار يخاطب نفسه :

أصبحت مولى ذي الجلال وبعضهم

مولى العبيد فلذ بفضلك وافخر

ويجوز أن يكون مفعول فعل (أَدُّوا) محذوفا يدل عليه المقام ، أي أدّوا إليّ الطاعة ويكون (عِبادَ اللهِ) منادى بحذف حرف النداء. قال ابن عطية : الظاهر من شرع موسى أنه بعث إلى دعاء فرعون للإيمان وأن يرسل بني إسرائيل ، فلما أبى فرعون أن يؤمن ثبتت المكافحة في أن يرسل بني إسرائيل ، قال : ويدل عليه قوله بعد (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ).

وقوله : (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) علة للأمر بتسليم بني إسرائيل إليه ، أي لأني مرسل إليكم بهذا ، وأنا أمين ، أي مؤتمن على أني رسول لكم. وتقديم (لَكُمْ) على (رَسُولٌ) للاهتمام بتعلق الإرسال بأنه لهم ابتداء بأن يعطوه بني إسرائيل لأن ذلك وسيلة للمقصود من إرساله لتحرير أمة إسرائيل والتشريع لها ، وليس قوله : (لَكُمْ) خطابا لبني إسرائيل فإن موسى قد أبلغ إلى بني إسرائيل رسالته مع التبليغ إلى فرعون قال تعالى : (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) [يونس : ٨٣] ، وليكون امتناع فرعون من تسريح بني إسرائيل مبررا لانسلاخ بني إسرائيل عن طاعة فرعون وفرارهم من بلاده.

وعطف على طلب تسليم بني إسرائيل نهيا عن الاستكبار عن إجابة أمر الله أنفة من الحطّ من عظمته في أنظار قومهم فقال : (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) أي لا تعلوا على أمره أو على رسوله فلما كان الاعتلاء على أمر الله وأمر رسوله ترفيعا لأنفسهم على واجب امتثال ربهم جعلوا في ذلك كأنهم يتعالون على الله.

و (أَنْ لا تَعْلُوا) عطف على (أَنْ أَدُّوا إِلَيَ). وأعيد حرف (أَنْ) التفسيرية لزيادة تأكيد التفسير لمدلول الرسالة. و (لا) ناهية ، وفعل (تَعْلُوا) مجزوم ب (لا) الناهية.

وجملة (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) علة جديرة بالعود إلى الجمل الثلاث المتقدمة وهي (أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) ، (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) ، (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) لأن المعجزة تدل على تحقق مضامين تلك الجمل معلولها وعلتها.

والسلطان من أسماء الحجة قال تعالى : (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا) [يونس : ٦٨] فالحجة تلجئ المحوج على الإقرار لمن يحاجّه فهي كالمتسلط على نفسه.

٣٢٣

والمعجزة : حجة عظيمة ولذلك وصف السلطان ب (مُبِينٍ) ، أي واضح الدلالة لا ريب فيه. وهذه المعجزة هي انقلاب عصاه ثعبانا مبينا.

و (آتِيكُمْ) مضارع أو اسم فاعل (أتى). وعلى الاحتمالين فهو مقتض للإتيان بالحجّة في الحال.

وجملة (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي) عطف على جملة (أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) ، فإن مضمون هذه الجملة مما شمله كلامه حين تبليغ رسالته فكان داخلا في مجمل معنى (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) المفسر بما بعد (أَنْ) التفسيرية. ومعناه : تحذيرهم من أن يرجموه لأن معنى (عُذْتُ بِرَبِّي) جعلت ربي عوذا ، أي ملجأ. والكلام على الاستعارة بتشبيه التذكير بخوف الله الذي يمنعهم من الاعتداء عليه بالالتجاء إلى حصن أو معقل بجامع السلامة من الاعتداء. ومثل هذا التركيب ممّا جرى مجرى المثل ، ومنه قوله في سورة مريم [١٨] (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) ، وقال أحد رجّاز العرب :

قالت وفيها حيدة وذعر

عوذ بربي منكم وحجر

والتعبير عن الله تعالى بوصف (بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) لأنه أدخل في ارعوائهم من رجمه حين يتذكرون أنه استعصم بالله الذي يشتركون في مربوبيته وأنهم لا يخرجون عن قدرته.

والرجم : الرمي بالحجارة تباعا حتى يموت المرمي أو يثخنه الجراح. والقصد منه تحقير المقتول لأنهم كانوا يرمون بالحجارة من يطردونه ، قال : (فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) [الحجر : ٣٤].

وإنّما استعاذ موسى منه لأنه علم أن عادتهم عقاب من يخالف دينهم بالقتل رميا بالحجارة. وجاء في سورة القصص [٣٣] (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ). ومعنى ذلك إن لم تؤمنوا بما جئت به فلا تقتلوني ، كما دل عليه تعقيبه بقوله : (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي).

والمعنى : إن لم تؤمنوا بالمعجزة التي آتيكم بها فلا ترجموني فإني أعوذ بالله من أن ترجموني ولكن اعتزلوني فكونوا غير موالين لي وأكون مع قرمي بني إسرائيل ، فالتقدير : فاعتزلوني وأعتزلكم لأن الاعتزال لا يتحقق إلا من جانبين.

وجيء في شرط (إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي) بحرف (إِنْ) التي شأنها أن تستعمل في الشرط غير المتيقّن لأن عدم الإيمان به بعد دلالة المعجزة على صدقه من شأنه أن يكون غير واقع فيفرض عدمه كما يفرض المحال. ولعله قال ذلك قبل أن يعلمه الله بإخراج بني

٣٢٤

إسرائيل من مصر ، أو أراد : فاعتزلوني زمنا ، يعني إلى أن يعيّن له الله زمن الخروج.

وعدّي (تُؤْمِنُوا) باللام لأنه يقال : آمن به وآمن له ، قال تعالى : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) [العنكبوت : ٢٦] ، وأصل هذه اللام لام العلة على تضمين فعل الإيمان معنى الركون.

وقد جاء ترتيب فواصل هذا الخطاب على مراعاة ما يبدو من فرعون وقومه عند إلقاء موسى دعوته عليهم إذ ابتدأ بإبلاغ ما أرسل به إليهم فآنس منهم التعجب والتردد فقال : (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) ، فرأى منهم الصلف والأنفة فقال : (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) فلم يرعووا فقال : (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) ، فلاحت عليهم علامات إضمار السوء له فقال: (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) ، فكان هذا الترتيب بين الجمل مغنيا عن ذكر ما أجابوا به على أبدع إيجاز.

(فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢))

التعقيب المفاد بالفاء تعقيب على محذوف يقتضي هذا الدعاء إذ ليس في المذكور قبل الفاء ما يناسبه التعقيب بهذا الدعاء إذ المذكور قبله كلام من موسى إليهم ، فالتقدير : فلم يستجيبوا له فيما أمرهم ، أو فأصرّوا على أذاه وعدم متاركته فدعا ربه ، وهذا التقرير الثاني أليق بقوله : (أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ). وهذا كالتعقيب الذي في قوله تعالى : (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) [الشعراء : ٦٣] ، وقوله : (أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) اتفق القراء العشرة على قراءته بفتح الهمزة وشد النون فما بعدها في قوة المصدر ، فلذلك تقدر الباء التي يتعدّى بها فعل (دعا) ، أي دعا ربه بما يجمعه هذا التركيب المستعمل في التعريض بأنهم استوجبوا تسليط العقاب الذي يدعو به الداعي ، فالإخبار عن كونهم قوما مجرمين مستعمل في طلب المجازاة على الإجرام أو في الشكاية من اعتدائهم ، أو في التخوف من شرهم إذا استمرّوا على عدم تسريح بني إسرائيل ، وكل ذلك يقتضي الدعاء لكف شرّهم ، فلذلك أطلق على هذا الخبر فعل دعا.

(فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣))

تفريع على جملة (أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) [الدخان : ٢٢] ، والمفرّع قول محذوف دلت عليه صيغة الكلام ، أي فدعا فقلنا : اسر بعبادي. وقرأه نافع وابن كثير وأبو جعفر (فَأَسْرِ) بهمزة وصل على أنه أمر من (سرى) ، وقرأه الباقون بهمزة قطع من (أسرى)

٣٢٥

يقال : سرى وأسرى. وقد تقدم عند قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) [الإسراء : ١] فتقييده بزمان الليل هنا نظير تقييده في سورة الإسراء ، والمقصود منه تأكيد معنى الإسراء بأنه حقيقة وليس مستعملا مجازا في التبكير بناء على أن المتعارف في الرحيل أن يكون فجرا.

وفائدة التأكيد أن يكون له من سعة الوقت ما يبلغون به إلى شاطئ البحر الأحمر قبل أن يدركهم فرعون بجنوده.

وجملة (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) تقيد تعليلا للأمر بالإسراء ليلا لأنه مما يستغرب ، أي أنكم متّبعون فأردنا أن تقطعوا مسافة يتعذّر على فرعون لحاقكم. وتأكيد الخبر ب (إنّ) لتنزيل غير السائل منزلة السائل إذا قدّم إليه ما يلوّح له بالخبر فيستشرف له استشراف المتردد السائل ، على حد قوله تعالى : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) [هود : ٣٧].

وأسند الاتباع إلى غير مذكور لأنه من المعلوم أن الذي سيتبعهم هو فرعون وجنوده.

(وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤))

عطف على جملة (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً) [الدخان : ٢٣] فيجوز أن تكون الجملتان صدرتا متصلتين بأن أعلم الله موسى حين أمره بالإسراء بأنه يضرب البحر بعصاه فينفلق عن قعره اليابس حتى يمر منه بنو إسرائيل كما ورد في آيات أخرى مثل آية سورة الشعراء. ولما أمره بذلك طمّنه بأن لا يخشى بقاءه منفلقا فيتوقع أن يلحق به فرعون بل يجتاز البحر ويتركه فإنه سيطغى على فرعون وجنده فيغرقون ، ففي الكلام إيجاز تقديره : فإذا سريت بعبادي فسنفتح لكم البحر فتسلكونه فإذا سلكته فلا تخش أن يلحقكم فرعون وجنده واتركه فإنهم مغرقون فيه. ويجوز أن تكون الجملة الثانية صدرت وقت دخول موسى ومن معه في طرائق البحر فيقدّر قول محذوف ، أي وقلنا له : اترك البحر رهوا ، أي سيدخله فرعون وجنده ولا يخرجون منه لأن في بقائه مفروقا حكمة أخرى وهي دخول فرعون وجنده في طرائقه طمعا منهم أن يلحقوا موسى وقومه ، حتى إذا توسطوه انضمّ عليهم ، فتحصل فائدة إنجاء بني إسرائيل وفائدة إهلاك عدوّهم ، فتكون الواو عاطفة قولا محذوفا على القول المحذوف قبله.

وعلى الوجهين فالترك مستعمل مجازا في عدم المبالاة بالشيء كما يقال : دعه يفعل كذا ، وذره ، كقوله تعالى : (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) [الأنعام : ٩١] ، وقالت كبشة بنت

٣٢٦

معديكرب :

ودع عنك عمرا إن عمرا مسالم

وهل بطن عمرو غير شبر المطعم

والبحر هو بحر القلزم المسمى اليوم البحر الأحمر.

والرهو : الفجوة الواسعة. وأصله مصدر رها ، إذا فتح بين رجليه ، فسميت الفجوة رهوا تسمية بالمصدر ، وانتصب (رَهْواً) على الحال من البحر على التشبيه البليغ ، أي مثل رهو.

وجملة (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) استئناف بياني جوابا عن سؤال ناشئ عن الأمر بترك البحر مفتوحا ، وضمير (إِنَّهُمْ) عائد إلى اسم الإشارة في قوله : (أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) [الدخان : ٢٢] والجند : القوم والأمة وعسكر الملك.

وإقحام لفظ (جُنْدٌ) دون الاقتصار على (مُغْرَقُونَ) لإفادة أن إغراقهم قد لزمهم حتى صار كأنه من مقومات عنديتهم كما قدمناه عند قوله تعالى : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في سورة البقرة [١٦٤].

[٢٥ ـ ٢٨] (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨))

(كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها) فكهين (٢٧) (كَذلِكَ).

استئناف ابتدائي مسوق للعبرة بعواقب الظالمين المغرورين بما هم فيه من النعمة والقوة ، غرورا أنساهم مراقبة الله فيما يرضيه ، فموقع هذا الاستئناف موقع النتيجة من الدليل أو البيان من الإجمال لما في قوله : (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) [الدخان : ١٧] من التنظير الإجمالي.

وضمير (تَرَكُوا) عائد إلى ما عاد إليه ضمير (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) [الدخان : ٢٤].

والترك حقيقته : إلقاء شيء في مكان منتقل عنه إبقاء اختياريا ، ويطلق مجازا على مفارقة المكان والشيء الذي في مكان غلبة دون اختيار وهو مجاز مشهور يقال : ترك الميت مالا ، ومنه سمي مخلف الميت تركة وهو هنا من هذا القبيل.

وفعل (تَرَكُوا) مؤذن بأنهم أغرقوا وأعدموا ، وذلك مقتضى أن ما أمر الله به موسى

٣٢٧

من الإسراء ببني إسرائيل وما معه من اتباع فرعون إياهم وانفلاق البحر وإزلاف بني إسرائيل واقتحام فرعون بجنوده البحر ، وانضمام البحر عليهم قد تم ، ففي الكلام إيجاز حذف جمل كثيرة يدل عليها (كَمْ تَرَكُوا).

و (كَمْ) اسم لعدد كثير مبهم يفسّر نوعه مميز بعد (كَمْ) مجرور ب (مِنْ) مذكورة أو محذوفة. وحكم (كَمْ) كالأسماء تكون على حسب العوامل. وإذ كان لها صدر الكلام لأنها في الأصل استفهام فلا تكون خبر مبتدأ ولا خبر (كان) ولا (إنّ) وإذا كانت معمولة للأفعال وجب تقديمها على عاملها. وانتصب (كَمْ) هنا على المفعول به ل (تَرَكُوا) أي تركوا كثيرا من جنات. و (مِنْ) مميزة لمبهم العدد في (كَمْ).

والمقام بفتح الميم : مكان القيام ، والقيام هنا مجاز في معنى التمكن من المكان.

والكريم من كل نوع أنفسه وخيره ، والمراد به : المساكن والديار والأسواق ونحوها مما كان لهم في مدينة (منفسين).

والنّعمة بفتح النون : اسم للتنعم مصوغ على وزنة المرة. وليس المراد به المرة بل مطلق المصدر باعتبار أن مجموع أحوال النعيم صار كالشيء الواحد وهو أبلغ وأجمع في تصوير معنى المصدر ، وهذا هو المناسب لفعل (تَرَكُوا) لأن المتروك هو أشخاص الأمور التي ينعم بها وليس المتروك وهو المعنى المصدري.

و (فاكِهِينَ) متصفين بالفكاهة بضم الفاء وهي اللعب والمزح ، أي كانوا مغمورين في النعمة لاعبين في تلك النعمة. وقرأ الجمهور (فاكِهِينَ) بصيغة اسم الفاعل. وقرأه حفص وأبو جعفر (فَكِهِينَ) بدون ألف على أنه صفة مشبهة.

وقوله : (كَذلِكَ) راجع لفعل (تَرَكُوا). والتقدير : تركا مثل ذلك الترك.

والإشارة إلى مقدر دل عليه الكلام ومعنى الكاف ، وهذا التركيب تقدم الكلام عليه عند قوله : (كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً) في سورة الكهف [٩١].

(وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ).

عطف على (تَرَكُوا) أي تركوها وأورثناها غيرهم ، أي لفرعون الذي ولي بعد موت منفطا وسمي صطفا منفطا وهو أحد أمراء فرعون منفطا تزوج ابنة منفطا المسماة طوسير التي خلفت أباها منفطا على عرش مصر ، ولكونه من غير نسل فرعون وصف هو وجنده

٣٢٨

بقوم آخرين ، وليس المراد بقوله : (قَوْماً آخَرِينَ) قوما من بني إسرائيل ، ألا ترى أنه أعيد الاسم الظاهر في قوله عقبه (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ) [الدخان : ٣٠] ، ولم يقل ولقد نجيناهم.

ووقع في آية الشعراء (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ* كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء : ٥٧ ـ ٥٩] والمراد هنالك أن أنواعا مما أخرجنا منه قوم فرعون أورثناها بني إسرائيل ، ولم يقصد أنواع تلك الأشياء في خصوص أرض فرعون. ومناسبة ذلك هنالك أن القومين أخرجا مما كانا فيه ، فسلب أحد الفريقين ما كان له دون إعادة لأنهم هلكوا ، وأعطي الفريق الآخر أمثال ذلك في أرض فلسطين ، ففي قوله : (وَأَوْرَثْناها) تشبيه بليغ وانظر آية سورة الشعراء.

(فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩))

تفريع على قوله : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ) إلى قوله : (قَوْماً آخَرِينَ) [الدخان: ٢٥ ـ ٢٨] ، فإن ذلك كله يتضمن أنهم هلكوا وانقرضوا ، أي فما كان مهلكهم إلا كمهلك غيرهم ولم يكن حدثا عظيما كما كانوا يحسبون ويحسب قومهم ، وكان من كلام العرب إذا هلك عظيم أن يهوّلوا أمر موته بنحو : بكت عليه السماء ، وبكته الريح ، وتزلزلت الجبال ، قال النابغة في توقع موت النعمان بن المنذر من مرضه :

فإن يهلك أبو قابوس يهلك

ربيع الناس والبلد الحرام

وقال في رثاء النعمان بن الحارث الغساني :

بكى حارث الجولان من فقد ربه

وحوران منه موحش متضائل

والكلام مسوق مساق التحقير لهم ، وقريب منه قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) [إبراهيم : ٤٦] ، وهو طريقة مسلوكة وكثر ذلك في كلام الشعراء المحدثين ، قال أبو بكر بن اللّبّانة الأندلسي في رثاء المعتمد بن عباد ملك إشبيلية :

تبكي السماء بمزن رائح غاد

على البهاليل من أبناء عباد

والمعنى : فما كان هلاكهم إلا كهلاك غيرهم ولا أنظروا بتأخير هلاكهم بل عجّل لهم الاستئصال.

[٣٠ ، ٣١] (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً

٣٢٩

مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١))

معطوف على الكلام المحذوف الذي دلّ عليه قوله : (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) [الدخان : ٢٤] الذي تقديره : فأغرقناهم ونجّينا بني إسرائيل كما قال في سورة الشعراء [٦٤ ـ ٦٦] (وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ* وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ* ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ).

والمعنى : ونجينا بني إسرائيل من عذاب فرعون وقساوته ، أي فكانت آية البحر هلاكا لقوم وإنجاء لآخرين. والمقصود من ذكر هذا الإشارة إلى أن الله تعالى ينجي الذين آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عذاب أهل الشرك بمكة ، كما نجّى الذين اتبعوا موسى من عذاب فرعون.

وجعل طغيان فرعون وإسرافه في الشر مثلا لطغيان أبي جهل وملئه ولأجل هذه الإشارة أكد الخبر باللام. وقد يفيد تحقيق إنجاء المؤمنين من العذاب المقدّر للمشركين إجابة لدعوة (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) [الدخان : ١٢].

و (الْعَذابِ الْمُهِينِ) : هو ما كان يعاملهم به فرعون وقومه من الاستعباد والإشفاق عليهم في السخرة ، وكان يكلفهم أن يصنعوا له اللّبن كل يوم لبناء مدينتي فيثوم ورعمسيس وكان اللبن يصنع من الطوب والتبن فكان يكلفهم استحضار التبن اللازم لصنع اللبن ويلتقطون متناثره ويذلونهم ولا يتركون لهم راحة ، فذلك العذاب المهين لأنه عذاب فيه إذلال.

وقوله : (مِنْ فِرْعَوْنَ) الأظهر أن يكون بدلا مطابقا للعذاب المهين فتكون (مِنْ) مؤكدة ل (مِنَ) الأولى المعدية ل (نَجَّيْنا) لأن الحرف الداخل على المبدل منه يجوز أن يدخل على البدل للتأكيد. ويحسن ذلك في نكت يقتضيها المقام وحسنه هنا ، فأظهرت (مِنْ) لخفاء كون اسم فرعون بدلا من العذاب تنبيها على قصد التهويل لأمر فرعون في جعل اسمه نفس العذاب المهين ، أي في حال كونه صادرا من فرعون.

وجملة (إِنَّهُ كانَ عالِياً) مستأنفة استئنافا بيانيا لبيان التهويل الذي أفاده جعل اسم فرعون بدلا من العذاب المهين. والعالي : المتكبر العظيم في الناس ، قال تعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) [القصص : ٤].

و (مِنَ الْمُسْرِفِينَ) خبر ثان عن فرعون ، والإسراف : الإفراط والإكثار. والمراد هنا الإكثار في التعالي ، يراد الإكثار في أعمال الشر بقرينة مقام الذم. و (مِنَ الْمُسْرِفِينَ) أشد مبالغة في اتصافه بالإسراف من أن يقال : مسرفا ، كما تقدم في قوله تعالى : (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) في سورة البقرة [٦٧].

٣٣٠

(وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢))

إشارة إلى أن الله تعالى قد اختار الذين آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أمم عصرهم كما اختار الذين آمنوا بموسى عليه‌السلام على أمم عصرهم وأنه عالم بأن أمثالهم أهل لأن يختارهم الله. والمقصود : التنويه بالمؤمنين بالرسل وأن ذلك يقتضي أن ينصرهم الله على أعدائهم ولأجل هذه الإشارة أكد الخبر باللام و (قد) ، كما أكد في قوله آنفا (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ) [الدخان : ٣٠] ، و (عَلى) في قوله : (عَلى عِلْمٍ) بمعنى (مع) ، كقول الأحوص:

إني على ما قد علمت محسّد

أنمي على البغضاء والشنآن

وموضع المجرور بها موضع الحال.

والمراد ب (الْعالَمِينَ) الأمم المعاصرة لهم. ثم بدلوا بعد ذلك فضربت عليهم الذلة ، وقد اختار الله أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الأمم فقال : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١١٠] أي أخرجها الله للناس. واختار المسلمين بعدهم اختيارا نسبيا على حسب استقامتهم واستقامة غيرهم من الأمم على أن التوحيد لا يعدله شيء.

(وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣))

إيتاء الآيات من آثار الاختيار لأنه من عناية الله بالأمة لأنه يزيدهم يقينا بإيمانهم. والمراد بالآيات المعجزات التي ظهرت على يد موسى عليه‌السلام أيد الله به بني إسرائيل في مواقع حروبهم بنصر الفئة القليلة منهم على الجيوش الكثيرة من عدوّهم.

وهذا تعريض بالإنذار للمشركين بأن المسلمين سيغلبون جمعهم مع قلتهم في بدر وغيرها.

والبلاء : الاختبار يكون بالخير والشر. فالأول اختبار لمقابلة النعمة بالشكر أو غيره ، والثاني اختبار لمقدار الصبر ، قال تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥] أي ما فيه اختبار لهم في نظر الناس ليعلم بعضهم أنهم قابلوا نعمة إيتاء الآيات بالشكر ، ويحذروا قومهم من مقابلة النعمة بالكفران.

[٣٤ ـ ٣٦] (إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥)

٣٣١

فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦))

اعتراض بين جملة (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) [الدخان : ١٦] وجملة (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) [الدخان : ٣٧] فإنه لما هددهم بعذاب الدخان ثم بالبطشة الكبرى وضرب لهم المثل بقوم فرعون أعقب ذلك بالإشارة إلى أن إنكار البعث هو الذي صرفهم عن توقع جزاء السوء على إعراضهم. وافتتاح الكلام بحرف (إِنْ) الذي ليس هو للتأكيد لأن هذا القول إلى المشركين لا تردّد فيه حتى يحتاج إلى التأكيد فتعين كون حرف (إِنْ) لمجرد الاهتمام بالخبر ، وهو إذا وقع مثل هذا الموقع أفاد التسبب وأغنى عن الفاء. فالمعنى : إنا منتقمون منهم بالبطشة الكبرى لأنهم لا يرتدعون بوعيد الآخرة لإنكارهم الحياة الآخرة فلم ينظروا إلا لما هم عليه في الحياة الدنيا من النعمة والقوة فلذلك قدر الله لهم الجزاء على سوء كفرهم جزاء في الحياة الدنيا.

وضمير (هِيَ) ضمير الشأن ويقال له : ضمير القصة لأنه يستعمل بصيغة المؤنث بتأويل القصة ، أي لا قصة في هذا الغرض إلا الموتة المعروفة فهي موتة دائمة لا نشور لنا بعدها.

وهذا كلام من كلماتهم في إنكار البعث فإن لهم كلمات في ذلك ، فتارة ينفون أن تكون بعد الموت حياة كما حكى عنهم في آيات أخرى مثل قوله تعالى : (وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) [الأنعام : ٢٩] ، وتارة ينفون أن يطرأ عليهم بعد الموتة المعروفة شيء غيرها يعنون بذلك شيئا ضد الموتة وهو الحياة بعد الموتة. فلهم في نفي الحياة بعد الموت أفانين من أقوال الجحود ، وهذا القصر قصر حقيقي في اعتقادهم لأنهم لا يؤمنون باعتراء أحوال لهم بعد الموت.

وكلمة (هؤُلاءِ) حيثما ذكر في القرآن غير مسبوق بما يصلح أن يشار إليه : مراد به المشركون من أهل مكة كما استنبطناه ، وقدمنا الكلام عليه عند قوله تعالى : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ) في سورة الأنعام [٨٩].

ووصف (الْأُولى) مراد به السابقة مثل قوله : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) [النجم: ٥٠] ومنه قوله تعالى : (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) [الصافات : ٧١]. ونظيرها قوله تعالى : (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [الصافات : ٥٨ ، ٥٩].

وأعقبوا قصر ما ينتابهم بعد الحياة على الموتة التي يموتونها ، بقوله : (وَما نَحْنُ

٣٣٢

بِمُنْشَرِينَ) تصريحا بمفهوم القصر. وجيء به معطوفا للاهتمام به لأنه غرض مقصود مع إفادته تأكيد القصر وجعلوا قولهم : (فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) حجة على نفي البعث بأن الأموات السابقين لم يرجع أحد منهم إلى الحياة وهو سفسطة لأن البعث الموعود به لا يحصل في الحياة الدنيا ، وهذا من توركهم واستهزائهم.

وضمير جمع المخاطبين أرادوا به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه من المؤمنين الذين كانوا يقولون لهم (إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ) [هود : ٧] كما جاء في حديث خبّاب بن الأرتّ مع العاصي بن وائل الذي نزل بسببه قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) الآية ، وتقدم في سورة مريم [٧٧].

(أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧))

استئناف ناشئ عن قوله : (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) [الدخان : ١٧] فضمير (هُمْ) راجع إلى اسم الإشارة في قوله : (إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) [الدخان : ٣٤ ، ٣٥] فبعد أن ضرب لهم المثل بمهلك قوم فرعون زادهم مثلا آخر هو أقرب إلى اعتبارهم به وهو مهلك قوم أقرب إلى بلادهم من قوم فرعون وأولئك قوم تبّع فإن العرب يتسامعون بعظمة ملك تبّع وقومه أهل اليمن وكثير من العرب شاهدوا آثار قوتهم وعظمتهم في مراحل أسفارهم وتحادثوا بما أصابهم من الهلك بسيل العرم. وافتتح الكلام بالاستفهام التقريري لاسترعاء الأسماع لمضمونه لأن كل أحد يعلم أن تبّعا ومن قبله من الملوك خير من هؤلاء المشركين.

والمعنى : أنهم ليسوا خيرا من قوم تبع ومن قبلهم من الأمم الذين استأصلهم الله لأجل إجرامهم فلما ماثلوهم في الإجرام فلا مزيّة لهم تدفع عنهم استئصال الذي أهلك الله به أمما قبلهم.

والاستفهام في (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) تقريري إذ لا يسعهم إلا أن يعترفوا بأن قوم تبّع والذين من قبلهم خير منهم لأنهم كانوا يضربون بهم الأمثال في القوة والمنعة. والمراد بالخيرية التفضيل في القوة والمنعة ، كما قال تعالى بعد ذكر قوم فرعون (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) في سورة القمر [٤٣]. وقوم تبّع هم حمير وهم سكان اليمن وحضرموت من حمير وسبأ وقد ذكرهم الله تعالى في سورة ق.

وتبّع بضم الميم وتشديد الموحدة لقب لمن يملك جميع بلاد اليمن حميرا وسبأ

٣٣٣

وحضرموت ، فلا يطلق على الملك لقب تبّع إلا إذا ملك هذه المواطن الثلاثة. قيل سمّوه تبّعا باسم الظل لأنه يتبع الشمس كما يتبع الظل الشمس ، ومعنى ذلك : أنه يسير بغزواته إلى كل مكان تطلع عليه الشمس ، كما قال تعالى في ذي القرنين (فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ) إلى قوله : (لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) [الكهف : ٨٥ ـ ٩٠] ، وقيل لأنه تتبعه ملوك مخاليف اليمن ، وتخضع له جميع الأقيال والأذواء من ملوك مخاليف اليمن وأذوائه ، فلذلك لقّب تبّعا لأنه تتبعه الملوك.

وتبّع المراد هنا المسمّى أسعد والمكنّى أبا كرب ، كان قد عظم سلطانه وغزا بلاد العرب ودخل مكة ويثرب وبلغ العراق. ويقال : إنه الذي بنى مدينة الحيرة في العراق ، وكانت دولة تبّع في سنة ألف قبل البعثة المحمدية ، وقيل كان في حدود السبعمائة قبل بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وتعليق الإهلاك بقوم تبّع دونه يقتضي أن تبّعا نجا من هذا الإهلاك وأن الإهلاك سلط على قومه ، قالت عائشة : ألا ترى أن الله ذمّ قومه ولم يذمه.

والمروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسند أحمد وغيره أنه قال : «لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم وفي رواية كان مؤمنا» ، وفسره بعض العلماء بأنه كان على دين إبراهيم عليه‌السلام وأنه اهتدى إلى ذلك بصحبة حبرين من أحبار اليهود لقيهما بيثرب حين غزاها وذلك يقتضي نجاته من الإهلاك. ولعل الله أهلك قومه بعد موته أو في مغيبه.

وجملة (أَهْلَكْناهُمْ) مستأنفة استئنافا بيانيا لما أثاره الاستفهام التقريري من السؤال عن إبهامه ما ذا أريد به. وجملة (إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) تعليل لمضمون جملة (أَهْلَكْناهُمْ) ، أي أهلكناهم عن بكرة أبيهم بسبب إجرامهم ، أي شركهم.

[٣٨ ، ٣٩] (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩))

عطف على جملة (إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ* إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) [الدخان : ٣٤ ، ٣٥] ردّا عليهم كما علمته آنفا. والمعنى : أنه لو لم يكن بعث وجزاء لكان خلق السماوات والأرض وما بينهما عبثا ، ونحن خلقنا ذلك كله بالحق ، أي بالحكمة كما دل عليه إتقان نظام الموجودات ، فلا جرم اقتضى خلق ذلك أن يجازى كل فاعل على فعله وأن لا يضاع ذلك ، ولما كان المشاهد أن كثيرا من النّاس يقضي حياته ولا يرى لنفسه جزاء على أعماله تعيّن أن الله أخّر جزاءهم إلى حياة أخرى وإلا لكان خلقهم في بعض أحواله من قبيل

٣٣٤

اللعب.

وذكر اللعب توبيخ للذين أحالوا البعث والجزاء بأنهم اعتقدوا ما يفضي بهم إلى جعل أفعال الحكيم لعبا ، وقد تقدم وجه الملازمة عند تفسير قوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) في سورة المؤمنون [١١٥] وعند قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) في سورة ص [٢٧].

و (لاعِبِينَ) حال من ضمير (خَلَقْنَا) ، والنفي متوجه إلى هذا الحال فاقتضى نفي أن يكون شيء من خلق ذلك في حالة عبث فمن ذلك حالة إهمال الجزاء.

وجملة (ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) بدل اشتمال من جملة (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ).

والباء في (بِالْحَقِ) للملابسة ، أي خلقنا ذلك ملابسا ومقارنا للحق ، أو الباء للسببية ، أي بسبب الحق ، أي لإيجاد الحق من خلقهما.

والحق : ما يحق وقوعه من عمل أو قول ، أي يجب ويتعين لسببية أو تفرع أو مجازاة ، فمن الحق الذي خلقت السماوات والأرض وما بينهما لأجله مكافأة كل عامل بما يناسب عمله ويجازيه ، وتقدم عند قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) في سورة الروم [٨].

والاستدراك في قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ناشئ عما أفاده نفي أن يكون خلق المخلوقات لعبا وإثبات أنه للحق لا غير من كون شأن ذلك أن لا يخفى ولكن جهل المشركين هو الذي سوّل لهم أن يقولوا (ما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) [الدخان : ٣٥].

وجملة الاستدراك تذييل ، وقريب من معنى الآية قوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) في آخر سورة الحجر [٨٥].

[٤٠ ـ ٤٢] (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢))

هذه الجملة تتنزل من التي قبلها منزلة النتيجة من الاستدلال ولذلك لم تعطف ، والمعنى : فيوم الفصل ميقاتهم إعلاما لهم بأن يوم القضاء هو أجل الجزاء ، فهذا وعيد لهم وتأكيد الخبر لرد إنكارهم.

٣٣٥

و (يَوْمَ الْفَصْلِ) : هو يوم الحكم ، لأنه يفصل فيه الحق من الباطل وهو من أسماء يوم القيامة قال تعالى : (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ) [المرسلات : ١٢ ، ١٣].

والميقات : اسم زمان التوقيت ، أي التأجيل ، قال تعالى : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) [النبأ : ١٧] ، وتقدم عند قوله تعالى : (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) في سورة البقرة [١٨٩] وحذف متعلق الميقات لظهوره من المقام ، أي ميقات جزائهم.

وأضيف الميقات إلى ضمير المخبر عنهم لأنهم المقصود من هذا الوعيد وإلّا فإن يوم الفصل ميقات جميع الخلق مؤمنيهم وكفارهم.

والتأكيد ب (أَجْمَعِينَ) للتنصيص على الإحاطة والشمول ، أي ميقات لجزائهم كلهم لا يفلت منه أحد منهم تقوية في الوعيد وتأييسا من الاستثناء.

و (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى) بدل من (يَوْمَ الْفَصْلِ) أو عطف بيان. وفتحة (يَوْمَ لا يُغْنِي) فتحة إعراب لأن (يَوْمَ) أضيف إلى جملة ذات فعل معرب.

والمولى : القريب والحليف ، وتقدم عند قوله تعالى : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) في سورة مريم [٥]. وتنكير (مَوْلًى) في سياق النفي لإفادة العموم ، أي لا يغني أحد من الموالي كائنا من كان عن أحد من مواليه كائنا من كان.

و (شَيْئاً) مفعول مطلق لأن المراد (شَيْئاً) من إغناء. وتنكير (شَيْئاً) للتقليل وهو الغالب في تنكير لفظ شيء ، كما قال تعالى : (وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) [سبأ : ١٦]. ووقوعه في سياق النفي للعموم أيضا ، يعني أيّ إغناء كان في القلة بله الإغناء الكثير. والمعنى: يوم لا تغني عنهم مواليهم ، فعدل عن ذلك إلى التعميم لأنه أوسع فائدة إذ هو بمنزلة التذييل.

والإغناء : الإفادة والنفع بالكثير أو القليل ، وضميرا (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) راجعان إلى ما رجع إليه ضمير (أَهُمْ خَيْرٌ) [الدخان : ٣٧] ، وهو اسم الإشارة من قوله : (إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ) [الدخان : ٣٤]. والمعنى : أنهم لا يغني عنهم أولياؤهم المظنون بهم ذلك ولا ينصرهم مقيّضون آخرون ليسوا من مواليهم تأخذهم الحمية أو الغيرة أو الشفقة فينصرونهم.

والنصر : الإعانة على العدوّ وعلى الغالب ، وهو أشد الإغناء. فعطف (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) على (لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً) زيادة في نفي عدم الإغناء.

٣٣٦

فمحصل المعنى أنه لا يغني موال عن مواليه بشيء من الإغناء حسب مستطاعه ولا ينصرهم ناصر شديد الاستطاعة هو أقوى منهم يدفع عنهم غلب القوي عليهم ، فالله هو الغالب لا يدفعه غالب. وبني فعل (يُنْصَرُونَ) إلى المجهول ليعم نفي كل ناصر مع إيجاز العبارة.

والاستثناء بقوله : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) وقع عقب جملتي (لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) فحق بأن يرجع إلى ما يصلح للاستثناء منه في تينك الجملتين. ولنا في الجملتين ثلاثة ألفاظ تصلح لأن يستثنى منها وهي (مَوْلًى) الأول المرفوع بفعل (يُغْنِي) ، و (مَوْلًى) الثاني المجرور بحرف (عَنْ) ، وضمير (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) ، فالاستثناء بالنسبة إلى الثلاثة استثناء متصل ، أي إلا من رحمة الله من الموالي ، أي فإنه يأذن أن يشفع فيه ، ويأذن للشافع بأن يشفع كما قال تعالى : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) [سبإ : ٢٣] وقال : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨]. وفي حديث الشفاعة أنه يقال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سل تعطه واشفع تشفّع». والشفاعة : إغناء عن المشفوع فيه. والشفعاء يومئذ أولياء للمؤمنين فإن من الشفعاء الملائكة وقد حكى الله عنهم قولهم للمؤمنين (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) [فصلت : ٣١].

وقيل هو استثناء منقطع لأن من رحمه‌الله ليس داخلا في شيء قبله مما يدل على أهل المحشر ، والمعنى : لكن من رحمه‌الله لا يحتاج إلى من يغني عنه أو ينصره وهذا قول الكسائي والفراء.

وأسباب رحمة الله كثيرة مرجعها إلى رضاه عن عبده وذلك سر يعلمه الله.

وجملة (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) استئناف بياني هو جواب مجمل عن سؤال سائل عن تعيين من رحمه‌الله ، أي أن الله عزيز لا يكرهه أحد على العدول عن مراده ، فهو يرحم من يرحمه بمحض مشيئته وهو رحيم ، أي واسع الرحمة لمن يشاء من عباده على وفق ما جرى به علمه وحكمته ووعده. وفي الحديث : «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء».

[٤٣ ـ ٥٠] (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ

٣٣٧

(٥٠))

لما ذكر الله فريقا مرحومين على وجه الإجمال قابله هنا بفريق معذّبون وهم المشركون ، ووصف بعض أصناف عذابهم وهو مأكلهم وإهانتهم وتحريقهم ، فكان مقتضى الظاهر أن يبتدأ الكلام بالإخبار عنهم بأنهم يأكلون شجرة الزقوم كما قال في سورة الواقعة [٥١ ، ٥٢] (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) الآية ، فعدل عن ذلك إلى الإخبار عن شجرة الزقوم بأنها طعام الأثيم اهتماما بالإعلام بحال هذه الشجرة. وقد جعلت شجرة الزقوم شيئا معلوما للسامعين فأخبر عنها بطريق تعريف الإضافة لأنها سبق ذكرها في سورة الواقعة التي نزلت قبل سورة الدخان فإن الواقعة عدت السادسة والأربعين في عداد نزول السور وسورة الدخان ثالثة وستين. ومعنى كون الشجرة طعاما أن ثمرها طعام ، كما قال تعالى : (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها) [الصافات : ٦٥ ، ٦٦].

وكتبت كلمة (شَجَرَةَ) في المصاحف بتاء مفتوحة مراعاة لحالة الوصل وكان الشائع في رسم أواخر الكلم أن تراعى فيه حالة الوقف ، فهذا مما جاء على خلاف الأصل.

و (الْأَثِيمِ) : الكثير الآثام كما دلت عليه زنة فعيل. والمراد به : المشركون المذكورون في قوله : (إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) [الدخان : ٣٤ ، ٣٥] ، فهذا من الإظهار في مقام الإضمار لقصد الإيماء إلى أن المهم بالشرك مع سبب معاملتهم هذه.

وتقدم الكلام على شجرة الزقوم في سورة الصافات [٦٢] عند قوله تعالى : (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ).

والمهل بضم الميم درديّ الزيت. والتشبيه به في سواد لونه وقيل في ذوبانه.

و (الْحَمِيمِ) : الماء الشديد الحرارة الذي انتهى غليانه ، وتقدم عند قوله تعالى : (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) في سورة الأنعام [٧٠]. ووجه الشبه هو هيئة غليانه.

وقرأ الجمهور تغلي بالتاء الفوقية على أن الضمير ل (شَجَرَةَ الزَّقُّومِ). وإسناد الغليان إلى الشجرة مجاز وإنما الذي يغلي ثمرها. وقرأه ابن كثير وحفص بالتحتية على رجوع الضمير إلى الطعام لا إلى المهل.

والغليان : شدة تأثر الشيء بحرارة النار يقال : غلي الماء وغلت القدر ، قال النابغة :

٣٣٨

يسير بها النعمان تغلي قدوره

وجملة (خُذُوهُ) إلخ مقول لقول محذوف دلّ عليه السياق ، أي يقال لملائكة العذاب : خذوه ، والضمير المفرد عائد إلى الأثيم باعتبار آحاد جنسه.

والعتل : القود بعنف وهو أن يؤخذ بتلبيب أحد فيقاد إلى سجن أو عذاب ، وماضيه جاء بضم العين وكسرها.

وقرأه بالضم نافع وابن كثير وابن عامر. وقرأه الباقون بكسر التاء.

وسواء الشيء : وسطه وهو أشد المكان حرارة.

وقوله : (إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) يتنازعه في التعلق كلّ من فعلي (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ) لتضمنهما : سوقوه سوقا عنيفا.

و (ثُمَ) للتراخي الرتبي لأن صب الحميم على رأسه أشد عليه من أخذه وعتله.

والصبّ : إفراغ الشيء المظروف من الظرف وفعل الصّبّ لا يتعدى إلى العذاب لأن العذاب أمر معنوي لا يصب. فالصب مستعار للتقوية والإسراع فهو تمثيلية اقتضاها ترويع الأثيم حين سمعها ، فلما كان المحكي هنا القول الذي يسمعه الأثيم صيغ بطريقة التمثيلية تهويلا ، بخلاف قوله : (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) [الحج : ١٩] الذي هو إخبار عنهم في زمن هم غير سامعيه فلم يؤت بمثل هذه الاستعارة إذ لا مقتضى لها.

وجملة (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) مقول قول آخر محذوف تقديره : قولوا له أو يقال له.

والذوق مستعار للإحساس وصيغة الأمر مستعملة في الإهانة.

وقوله : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) خبر مستعمل في التهكم بعلاقة الضدّية. والمقصود عكس مدلوله ، أي أنت الذليل المهان ، والتأكيد للمعنى التهكمي. وقرأه الجمهور بكسر همزة (إِنَّكَ). وقرأه الكسائي بفتحها على تقدير لام التعليل وضمير المخاطب المنفصل في قوله : (أَنْتَ) تأكيد للضمير المتصل في (إِنَّكَ) ولا يؤكد ضمير النصب المتصل إلا بضمير رفع منفصل.

وجملة (إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) بقية القول المحذوف ، أي ويقال للآثمين جميعا : إن هذا ما كنتم به تمترون في الدنيا. والخبر مستعمل في التنديم والتوبيخ واسم

٣٣٩

الإشارة مشار به إلى الحالة الحاضرة لديهم ، أي هذا العذاب والجزاء هو ما كنتم تكذبون به في الدنيا.

والامتراء : الشك ، وأطلق الامتراء على جزيتهم بنفي يقينهم بانتفاء البعث لأن يقينهم لما كان خليا عن دلائل العلم كان بمنزلة الشك ، أي أن البعث هو بحيث لا ينبغي أن يوقن بنفيه على نحو ما قرر في قوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : ٢].

[٥١ ـ ٥٣] (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣))

استئناف ابتدائي انتقل به الكلام من وصف عذاب الأثيم إلى وصف نعيم المتقين لمناسبة التضاد على عادة القرآن في تعقيب الوعيد بالوعد والعكس.

والمقام بضم الميم : مكان الإقامة. والمقام بفتح الميم : مكان القيام ويتناول المسكن وما يتبعه. وقرأه نافع وابن عامر وأبو جعفر بضم الميم. وقرأه الباقون بفتح الميم.

والمراد بالمقام المكان فهو مجاز بعلاقة الخصوص والعموم.

والأمين بمعنى الآمن والمراد : الآمن ساكنه ، فوصفه ب (أَمِينٍ) مجاز عقلي كما قال تعالى : (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) [التين : ٣]. والأمن أكبر شروط حسن المكان لأن الساكن أول ما يتطلب الأمن وهو السلامة من المكاره والمخاوف فإذا كان آمنا في منزله كان مطمئن البال شاعرا بالنعيم الذي يناله. وأبدل منه بأنهم (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) وذلك من وسائل النزهة والطيب. وأعيد حرف (فِي) مع البدل للتأكيد.

والجنات : جمع جنة ، وتقدم في أول البقرة. والعيون : جمع عين ، وتقدم في قوله : (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) في سورة البقرة [٦٠] ، فهذا نعيم مكانهم. ووصف نعيم أجسادهم بذكر لباسهم وهو لباس الترف والنعيم وفيه كناية عن توفر أسباب نعيم الأجساد لأنه لا يلبس هذا اللّباس إلا من استكمل ما قبله من ملائمات الجسد باطنه وظاهره.

والسندس : الديباج الرقيق النفيس ، والأكثر على أنه معرب من الفارسية وقيل عربي.

أصله : سندي ، منسوب إلى السند على غير قياس. والسندس يلبس مما يلي الجسد.

والإستبرق : الديباج القوي يلبس فوق الثياب وهو معرب استبره فارسية ، وهو الغليظ

٣٤٠