تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

يَصِفُونَ) [الزخرف : ٨٢].

وقد تأكد انفراده بربوبية أعظم الموجودات ثلاث مرات بقوله : (رَبِّ الْعَرْشِ) [الزخرف : ٨٢] وقوله : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) [الزخرف : ٨٤] وقوله : (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما).

فكم من خصائص ونكت تنهال على المتدبر من آيات القرآن التي لا يحيط بها إلا الحكيم العليم.

ولما كان قوله : (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مفيدا التصرف في هذه العوالم مدة وجودها ووجود ما بينها أردفه بقوله : (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) للدلالة على أن له مع ملك العوالم الفانية ملك العوالم الباقية ، وأنه المتصرف في تلك العوالم بما فيها بالتنعيم والتعذيب ، فكان قوله : (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) توطئة لقوله : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وإدماجا لإثبات البعث. وتقديم المجرور في (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) لقصد التقوّي إذ ليس المخاطبون بمثبتين رجعى إلى غيره فإنهم لا يؤمنون بالبعث أصلا.

وأما قولهم للأصنام (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] فمرادهم أنهم شفعاء لهم في الدنيا أو هو على سبيل الجدل ولذلك أتبع بقوله : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ) [الزخرف : ٨٦].

وقرأ الجمهور (تُرْجَعُونَ) بالفوقية على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للمباشرة بالتهديد. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالتحتية تبعا لأسلوب الضمائر التي قبله ، وهم متفقون على أنه مبني للمجهول.

(وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦))

لما أنبأهم أن لله ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة أعلمهم أن ما يعبدونه من دون الله لا يقدر على أن يشفع لهم في الدنيا إبطالا لزعمهم أنهم شفعاؤهم عند الله. ولما كان من جملة من عبدوا دون الله الملائكة استثناهم بقوله : (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي فهم يشفعون ، وهذا في معنى قوله : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء : ٢٦] ثم قال : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) ، وقد

٣٠١

مضى في سورة الأنبياء [٢٨].

ووصف الشفعاء بأنهم شهدوا بالحق وهم يعلمون أي وهم يعلمون حال من يستحق الشفاعة. فقد علم أنهم لا يشفعون للذين خالف حالهم حال من يشهد لله بالحق.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧))

بعد أن أمعن في إبطال أن يكون إله غير الله بما سيق من التفصيلات ، جاء هنا بكلمة جامعة لإبطال زعمهم إلهية غير الله بقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) أي سألتهم سؤال تقرير عمن خلقهم فإنه يقرّون بأن الله خلقهم ، وهذا معلوم من حال المشركين كقول ضمام بن ثعلبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أسألك بربّك وربّ من قبلك آلله أرسلك» ، ولأجل ذلك أكّد إنهم يقرون لله بأنه الخالق فقال : (لَيَقُولُنَّ اللهُ) ، وذلك كاف في سفاهة رأيهم إذ كيف يكون إلها من لم يخلق ، قال تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [النحل : ١٧].

والخطاب في قوله : (سَأَلْتَهُمْ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويجوز أن يكون لغير معيّن ، أي إن سألهم من يتأتى منه أن يسأل. وفرع على هذا التقرير والإقرار الإنكار والتعجيب من انصرافهم من عبادة الله إلى عبادة آلهة أخرى بقوله : (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ).

و (أنّى) اسم استفهام عن المكان فمحله نصب على الظرفية ، أي إلى أيّ مكان يصرفون. و (يُؤْفَكُونَ) يصرفون : يقال : أفكه عن كذا ، يأفكه من باب ضرب ، إذا صرفه عنه ، وبني للمجهول إذ لم يصرفهم صارف ولكن صرفوا أنفسهم عن عبادة خالقهم ، فقوله : (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) هو كقول العرب : أين يذهب بك ، أي أين تذهب بنفسك إذ لا يريدون أن ذاهبا ذهب به يسألونه عنه ولكن المراد : أنه لم يذهب به أحد وإنما ذهب بنفسه.

(وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨))

القيل مصدر قال ، والأظهر أنه اسم مراد به المفعول ، أي المقول مثل الذبح وأصله : قول ، بكسر القاف وسكون الواو. والمعنى : ومقوله.

والضمير المضاف إليه : (قيل) ضمير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقرينة سياق الاستدلال والحجاج من قوله : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) [الزخرف : ٨١] ، وبقرينة قوله: (يا

٣٠٢

رَبِ) وبقرينة أنه قال : (إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) وبقرينة إجابته بقوله : (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ) [الزخرف : ٨٩] ، والأولى أن يكون ضمير الغائب التفاتا عن الخطاب في قوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ) [الزخرف : ٨٧] ، فإنه بعد ما مضى من المحاجّة ومن حكاية إقرارهم بأن الله الذي خلقهم ، ثم إنهم لم يتزحزحوا عن الكفر قيد أنملة ، حصل اليأس للرسول من إيمانهم فقال : (يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) التجاء إلى الله فيهم وتفويضا إليه ليجري حكمه عليهم.

وهذا من استعمال الخبر في التحسر أو الشكاية وهو خبر بمعنى الإنشاء مثل قوله تعالى : (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) [الفرقان : ٣٠] ، أي لم يعملوا به فلم يؤمنوا ، ويؤيّد هذا تفريع (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) [الزخرف : ٨٩] ، ففي ضمير الغيبة التفات لأن الكلام كان جاريا على أسلوب الخطاب من قوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ) [الزخرف : ٨٧] فمقتضى الظاهر : وقولك : يا ربّ إلخ. ويحسّن هذا الالتفات أنه حكاية لشيء في نفس الرّسول فجعل الرسول بمنزلة الغائب لإظهار أن الله لا يهمل نداءه وشكواه على حدّ قوله تعالى : (عَبَسَ وَتَوَلَّى) [عبس : ١]. وإضافة القيل إلى ضمير الرسول مشعرة بأنه تكرر منه وعرف به عند ربّه ، أي عرف بهذا وبما في معناه من نحو (يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) وقوله : (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ) [البقرة : ٢١٤].

وقرأ الجمهور (وَقِيلِهِ) بنصب اللام على اعتبار أنه مصدر نصب على أنه مفعول مطلق بدل من فعله.

والتقدير : وقال الرسول قيله ، والجملة معطوفة على جملة (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ) [الزخرف : ٨٧] أو على جملة (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) [الزخرف : ٨٧] ، أي وقال الرسول حينئذ يا ربّ إلخ. ونظيره قول كعب بن زهير :

تمشي الوشاة جنابيها وقيلهم

إنك يا بن أبي سلمى لمقتول

على رواية (قيلهم) ونصبه ، أي ويقولون : قيلهم وهي رواية الأصمعي.

ويجوز أن يكون النصب على المفعول به لقوله : (لا نَسْمَعُ) [الزخرف : ٨٠] ، والتقدير : بلى ونعلم قيله وهذا اختيار الفراء والأخفش ، وقال المبرد والزجاج : هو منصوب بفعل مقدر دل عليه قوله : (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [الزخرف : ٨٥] أي ويعلم قيله.

وقرأ عاصم وحمزة بجرّ لام (قيله) ويجوز في جرّه وجهان :

٣٠٣

أحدهما : أن يكون عطفا على (السَّاعَةِ) في قوله : (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [الزخرف : ٨٥] أي وعلم قيل الرسول : يا ربّ ، وهو على هذا وعد للرسول بالنصر وتهديد لهم بالانتقام.

وثانيهما : أن تكون الواو للقسم ويكون جواب القسم جملة (إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) على أن الله أقسم بقول الرسول : يا ربّ ، تعظيما للرسول ولقيله الذي هو تفويض للرب وثقة به.

ومقول (قِيلِهِ) هو (يا رَبِ) فقط ، أي أقسم بنداء الرسول ربّه نداء مضطر.

وذكر ابن هشام في «شرح الكعبية» عن أبي حاتم السجستاني : أن من جرّ فقوله بظن وتخليط ، وأنكره عليه ابن هشام لإمكان تخريج الجرّ على وجه صحيح.

وقد حذف بعد النداء ما نودي لأجله مما دل عليه مقام من أعيته الحيلة فيهم ففوض أمره إلى ربّه فأقسم الله بتلك الكلمة على أنهم لا يؤمنون ولكن الله سينتقم منهم فلذلك قال : فسوف تعلمون [الزخرف : ٨٩].

والإشارة ب (هؤُلاءِ) إلى المشركين من أهل مكة كما هي عادة القرآن غالبا ووصفهم بأنهم قوم لا يؤمنون ، أدل على تمكن عدم الإيمان منهم من أن يقول : هؤلاء لا يؤمنون.

(فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩))

الفاء فصيحة لأنها أفصحت عن مقدر ، أي إذ قلت ذلك القيل وفوضت الأمر إلينا فسأتولى الانتصاف منهم فاصفح عنهم ، أي أعرض عنهم ولا تحزن لهم وقل لهم إن جادلوك: (سَلامٌ) ، أي سلمنا في المجادلة وتركناها. وأصل (سَلامٌ) مصدر جاء بدلا من فعله. فأصله النصب ، وعدل إلى رفعه لقصد الدلالة على الثبات كما تقدم في قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : ٢].

يقال : صفح يصفح من باب منع بمعنى : أعرض وترك ، وتقدم في أول السورة (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) [الزخرف : ٥] ولكن الصفح المأمور به هنا غير الصفح المنكر وقوعه في قوله : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً). وفرع عليه فسوف تعلمون تهديدا لهم ووعيدا. وحذف مفعول تعلمون للتهويل لتذهب نفوسهم كل مذهب ممكن. وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر وروح عن يعقوب تعلمون بالمثناة الفوقية على أن فسوف

٣٠٤

تعلمون مما أمر الرسول بأن يقوله لهم ، أي وقل سوف تعلمون. وقرأه الجمهور بياء تحتية على أنه وعد من الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه منتقم من المكذبين.

وما في هذه الآية من الأمر بالإعراض والتسليم في الجدال والوعيد ما يؤذن بانتهاء الكلام في هذه السورة وهو من براعة المقطع.

٣٠٥

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٤٤ ـ سورة الدخان

سميت هذه السورة حم الدخان. روى الترمذي بسندين ضعيفين يعضد بعضهما بعضا : عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ حم الدخان في ليلة أو في ليلة الجمعة» الحديث. واللّفظان بمنزلة اسم واحد لأن كلمة (حم) غير خاصة بهذه السورة فلا تعد علما لها ، ولذلك لم يعدها صاحب «الإتقان» في عداد السور ذوات أكثر من اسم. وسميت في المصاحف وفي كتب السنة سورة الدخان.

ووجه تسميتها بالدخان وقوع لفظ الدخان فيها المراد به آية من آيات الله أيّد الله بها رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلذلك سميت به اهتماما بشأنه ، وإن كان لفظ الدخان بمعنى آخر قد وقع في سورة حم تنزيل في قوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) [فصلت : ١١] وهي نزلت قبل هذه السورة على المعروف من ترتيب تنزيل سور القرآن عن رواية جابر بن زيد التي اعتمدها الجعبري وصاحب «الإتقان» على أن وجه التسمية لا يوجبها.

وهي مكية كلّها في قول الجمهور. قال ابن عطية : هي مكية لا أحفظ خلافا في شيء منها. ووقع في «الكشاف» استثناء قوله : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) [الدخان : ١٥] ولم يعزه إلى قائل ، ومثله القرطبي ، وذكره الكواشي قولا وما عزاه إلى معيّن. وأحسب أنه قول نشأ عما فهمه القائل ، وسنبينه في موضعه.

وهي السورة الثالثة والستون في عدّ نزول السور في قول جابر بن زيد ، نزلت بعد سورة الزخرف وقبل سورة الجاثية في مكانها هذا. وعدّت آيها ستا وخمسين عند أهل المدينة ومكة والشام ، وعدّت عند أهل البصرة سبعا وخمسين ، وعند أهل الكوفة تسعا وخمسين.

٣٠٦

أغراضها

أشبه افتتاح هذه السورة فاتحة سورة الزخرف من التنويه بشأن القرآن وشرفه وشرف وقت ابتداء نزوله ليكون ذلك مؤذنا أنه من عند الله ودالا على رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليتخلص منه إلى أن المعرضين عن تدبر القرآن ألهاهم الاستهزاء واللمز عن التدبر فحق عليهم دعاء الرسول بعذاب الجوع ، إيقاظا لبصائرهم بالأدلة الحسية حين لم تنجع فيهم الدلائل العقلية ، ليعلموا أن إجابة الله دعاء رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دليل على أنه أرسله ليبلغ عنه مراده. فأنذرهم بعذاب يحلّ بهم علاوة على ما دعا به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تأييدا من الله له بما هو زائد على مطلبه.

وضرب لهم مثلا بأمم أمثالهم عصوا رسل الله إليهم فحلّ بهم من العقاب ما من شأنه أن يكون عظة لهؤلاء ، تفصيلا بقوم فرعون مع موسى ومؤمني قومه ، ودون التفصيل بقوم تبّع ، وإجمالا وتعميما بالذين من قبل هؤلاء.

وإذ كان إنكار البعث وإحالته من أكبر الأسباب التي أغرّتهم على إهمال التدبر في مراد الله تعالى انتقل الكلام إلى إثباته والتعريف بما يعقبه من عقوبة المعاندين ومثوبة المؤمنين ترهيبا وترغيبا. وأدمج فيها فضل الليلة التي أنزل فيها القرآن ، أي ابتدئ إنزاله وهي ليلة القدر. وأدمج في خلال ذلك ما جرّت إليه المناسبات من دلائل الوحدانية وتأييد الله من آمنوا بالرسل ، ومن إثبات البعث. وختمت بالشدّ على قلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بانتظار النصر وانتظار الكافرين القهر.

(حم (١))

القول في نظائره تقدم.

[٢ ـ ٦] (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦))

القول في نظير هذا القسم وجوابه تقدم في أول سورة الزخرف. ونوه بشأن القرآن بطريقة الكناية عنه بذكر فضل الوقت الذي ابتدئ إنزاله فيه.

٣٠٧

فتعريف (الْكِتابِ) تعريف العهد ، والمراد بالكتاب : القرآن.

ومعنى الفعل في (أَنْزَلْناهُ) ابتداء إنزاله فإن كل آية أو آيات تنزل من القرآن فهي منضمة إليه انضمام الجزء للكل ، ومجموع ما يبلغ إليه الإنزال في كل ساعة هو مسمّى القرآن إلى أن تم نزول آخر آية من القرآن.

وتنكير (لَيْلَةٍ) للتعظيم ، ووصفها ب (مُبارَكَةٍ) تنويه بها وتشويق لمعرفتها. فهذه الليلة هي الليلة التي ابتدئ فيها نزول القرآن على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الغار من جبل حراء في رمضان قال تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة : ١٨٥].

والليلة التي ابتدئ نزول القرآن فيها هي ليلة القدر قال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر : ١]. والأصح أنها في العشر الأواخر من رمضان وأنها في ليلة الوتر. وثبت أن الله جعل لنظيرتها من كل سنة فضلا عظيما لكثرة ثواب العبادة فيها في كل رمضان كرامة لذكرى نزول القرآن وابتداء رسالة أفضل الرسل صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى النّاس كافة. قال تعالى : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [القدر : ٤ ، ٥]. وذلك من معاني بركتها وكم لها من بركات للمسلمين في دينهم ، ولعل تلك البركة تسري إلى شئونهم الصالحة من أمور دنياهم.

فبركة الليلة التي أنزل فيها القرآن بركة قدّرها الله لها قبل نزول القرآن ليكون القرآن بابتداء نزوله فيها ملابسا لوقت مبارك فيزداد بذلك فضلا وشرفا ، وهذا من المناسبات الإلهية الدقيقة التي أنبأنا الله ببعضها. والظاهر أن الله أمدّها بتلك البركة في كل عام كما أومأ إلى ذلك قوله : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) إذ قاله بعد أن مضى على ابتداء نزول القرآن بضع عشرة سنة. وقوله (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر : ٣] وقوله (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) وقوله : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ). وعن عكرمة : أن الليلة المباركة هي ليلة النصف من شعبان وهو قول ضعيف.

واختلف في الليلة التي ابتدئ فيها نزول القرآن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ليالي رمضان ، فقيل : هي ليلة سبع عشرة منه ذكره ابن إسحاق عن الباقر أخذا من قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) [الأنفال : ٤١] فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التقى هو والمشركون ببدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة ليلة من رمضان ا ه. أي تأول قوله : (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا) [الأنفال : ٤١] أنه ابتداء نزول القرآن. وفي المراد ب (ما أَنْزَلْنا) احتمالات ترفع الاحتجاج بهذا التأويل بأن ابتداء نزول القرآن كان في مثل ليلة يوم

٣٠٨

بدر. والذي يجب الجزم به أن ليلة نزول القرآن كانت في شهر رمضان وأنه كان في ليلة القدر. ولما تضافرت الأخبار أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في ليلة القدر «اطلبوها في العشر الأواخر من رمضان في ثالثة تبقى في خامسة تبقى في سابعة تبقى في تاسعة تبقى». فالذي نعتمده أن القرآن ابتدئ نزوله في العشر الأواخر من رمضان ، إلّا إذا حمل قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اطلبوها في العشر الأواخر» على خصوص الليلة من ذلك العام. وقد اشتهر عند كثير من المسلمين أنّ ليلة القدر ليلة سبع وعشرين باستمرار وهو مناف لحديث «اطلبوها في العشر الأواخر» على كل احتمال.

وجملة (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) معترضة. وحرف (إنّ) يجوز أن يكون للتأكيد ردّا لإنكارهم أن يكون الله أرسل رسلا للناس لأن المشركين أنكروا رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزعمهم أن الله لا يرسل رسولا من البشر قال تعالى : (إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩١] ، فكان ردّ إنكارهم ذلك ردّا لإنكارهم رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتكون جملة (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) مستأنفة. ويجوز أن تكون (إنّ) لمجرد الاهتمام بالخبر فتكون مغنية غناء فاء التسبب فتفيد تعليلا ، فتكون جملة (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) تعليلا لجملة (أَنْزَلْناهُ) أي أنزلناه للإنذار لأن الإنذار شأننا ، فمضمون الجملة علة العلة وهو إيجاز وإنما اقتصر على وصف (مُنْذِرِينَ) مع أن القرآن منذر ومبشّر اهتماما بالإنذار لأنه مقتضى حال جمهور الناس يومئذ ، والإنذار يقتضي التبشير لمن انتذر. وحذف مفعول (مُنْذِرِينَ) لدلالة قوله: (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) عليه ، أي منذرين المخاطبين بالقرآن.

وجملة (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن تنكير (لَيْلَةٍ). ووصفها ب (مُبارَكَةٍ) كما علمت آنفا فدل على عظم شأن هاته الليلة عند الله تعالى فإنها ظهر فيها إنزال القرآن ، وفيها يفرق عند الله كل أمر حكيم. وفي هذه الجمل الأربع محسن اللف والنشر ، ففي قوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) لفّ بين معنيين أولهما : تعيين إنزال القرآن ، وثانيهما : اختصاص تنزيله في ليلة مباركة ثم علل المعنى الأول بجملة (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) ، وعلل المعنى الثاني بجملة (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ).

والمنذر : الذي ينذر ، أي يخبر بأمر فيه ضرّ لقصد أن يتقيه المخبر به ، وتقدم في قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) في سورة البقرة [١١٩].

والفرق : الفصل والقضاء ، أي فيها يفصل كل ما يراد قضاؤه في النّاس ولهذا يسمى القرآن فرقانا ، وتقدم قوله تعالى : (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) في سورة المائدة

٣٠٩

[٢٥] ، أي جعل الله الليلة التي أنزل فيها القرآن وقتا لإنفاذ وقوع أمور هامة مثل بعثة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم تشريفا لتلك المقضيات وتشريفا لتلك الليلة.

وكلمة (كُلُ) يجوز أن تكون مستعملة في حقيقة معناها من الشمول وقد علم الله ما هي الأمور الحكيمة فجمعها للقضاء بها في تلك الليلة وأعظمها ابتداء نزول الكتاب الذي فيه صلاح الناس كافّة. ويجوز أن تكون (كُلُ) مستعملة في معنى الكثرة ، وهو استعمال في كلام الله تعالى وكلام العرب ، وقد تقدم في قوله تعالى في سورة النمل [٢٣] (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي فيها تفرق أمور عظيمة.

والظاهر أن هذا مستمر في كل ليلة توافق عدّ تلك الليلة من كل عام كما يؤذن به المضارع في قوله : (يُفْرَقُ). ويحتمل أن يكون استعمال المضارع في (يُفْرَقُ) لاستحضار تلك الحالة العظيمة كقوله تعالى : (فَتُثِيرُ سَحاباً) [الروم : ٤٨].

والأمر الحكيم : المشتمل على حكمة من حكمة الله تعالى أو الأمر الذي أحكمه الله تعالى وأتقنه بما ينطوي عليه من النّظم المدبرة الدالة على سعة العلم وعمومه. وبعض تلك الأمور الحكيمة ينفذ الأمر به إلى الملائكة الموكلين بأنواع الشئون ، وبعضها ينفذ الأمر به على لسان الرّسول مدة حياته الدنيوية ، وبعضا يلهم إليه من ألهمه الله أفعالا حكيمة ، والله هو العالم بتفاصيل ذلك.

وانتصب (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) على الحال من (أَمْرٍ حَكِيمٍ).

وإعادة كلمة (أَمْراً) لتفخيم شأنه ، وإلا فإن المقصود الأصلي هو قوله : (مِنْ عِنْدِنا) ، فكان مقتضى الظاهر أن يقع (مِنْ عِنْدِنا) صفة ل (أَمْرٍ حَكِيمٍ) فخولف ذلك لهذه النكتة ، أي أمرا عظيما فخما إذا وصف ب (حَكِيمٍ). ثم بكونه من عند الله تشريفا له بهذه العندية ، وينصرف هذا التشريف والتعظيم ابتداء وبالتعيين إلى القرآن إذ كان بنزوله في تلك الليلة تشريفها وجعلها وقتا لقضاء الأمور الشريفة الحكيمة. وجملة (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) معترضة وحرف (إنّ) فيها مثل ما وقع في (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ).

واعلم أن مفتتح السورة يجوز أن يكون كلاما موجها إلى المشركين ابتداء لفتح بصائرهم إلى شرف القرآن وما فيه من النفع للناس ليكفّوا عن الصدّ عنه ولهذا وردت الحروف المقطعة في أولها المقصود منها التحدّي بالإعجاز ، واشتملت تلك الجمل الثلاث على حرف التأكيد ، ويكون إعلام الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه المزايا حاصلا تبعا إن كان لم يسبق

٣١٠

إعلامه بذلك بما سبق من آي القرآن أو بوحي غير القرآن. ويجوز أن يكون موجها إلى الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصالة ويكون علم المشركين بما يحتوي عليه حاصلا تبعا بطريق التعريض ، ويكون التوكيد منظورا فيه إلى الغرض التعريضي.

ومفعول (مُرْسِلِينَ) محذوف دل عليه مادة اسم الفاعل ، أي مرسلين الرسل. و (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) مفعول له من (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) أي كنّا مرسلين لأجل رحمتنا ، أي بالعباد المرسل إليهم لأن الإرسال بالإنذار رحمة بالناس ليتجنبوا مهاوي العذاب ويكتسبوا مكاسب الثواب ، قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧]. ويجوز أن يكون (رَحْمَةً) حالا من الضمير المنصوب في (أَنْزَلْناهُ).

وإيراد لفظ الربّ في قوله : (مِنْ رَبِّكَ) إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقول : رحمة منا. وفائدة هذا الإظهار الإشعار بأن معنى الربوبية يستدعي الرحمة بالمربوبين ثم إضافة (ربّ) إلى ضمير الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم صرف للكلام عن مواجهة المشركين إلى مواجهة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخطاب لأنه الذي جرى خطابهم هذا بواسطته فهو كحاضر معهم عند توجيه الخطاب إليهم فيصرف وجه الكلام تارة إليه كما في قوله : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) [يوسف : ٢٩] وهذا لقصد التنويه بشأنه بعد التنويه بشأن الكتاب الذي جاء به.

وإضافة الربّ إلى ضمير الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليتوصل إلى حظ له في خلال هذه التشريعات بأن ذلك كله من ربّه ، أي بواسطته فإنه إذا كان الإرسال رحمة كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم رحمة قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] ، ويعلم من كونه ربّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه رب الناس كلهم إذ لا يكون الرّب رب بعض الناس دون بعض فأغنى عن أن يقول : رحمة من ربّك وربهم ، لأن غرض إضافة رب إلى ضمير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأبى ذلك ، ثم سيصرح بأنه ربّهم في قوله (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) [الدخان : ٨] وهو مقام آخر سيأتي بيانه.

وجملة (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) تعليل لجملة (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي كنا مرسلين رحمة بالناس لأنه علم عبادة المشركين للأصنام وعلم إغواء أئمة الكفر للأمم وعلم ضجيج الناس من ظلم قويّهم ضعيفهم وعلم ما سوى ذلك من أقوالهم فأرسل الرسل لتقويمهم وإصلاحهم وعلم أيضا نوايا الناس وأفعالهم وإفسادهم في الأرض فأرسل الرّسل بالشرائع لكف الناس عن الفساد وإصلاح عقائدهم وأعمالهم ، فأشير إلى علم النوع الأول

٣١١

بوصف (السَّمِيعُ) لأن السميع هو الذي يعلم الأقوال فلا يخفى عليه منها شيء. وأشير إلى علم النّوع الثاني بوصف (الْعَلِيمُ) الشامل لجميع المعلومات. وقدم (السَّمِيعُ) للاهتمام بالمسموعات لأنّ أصل الكفر هو دعاء المشركين أصنامهم.

واعلم أن السميع والعليم تعليلان لجملة (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) بطريق الكناية الرمزية لأن علة الإرسال في الحقيقة هي إرادة الصلاح ورحمة الخلق. وأما العلم فهو الصفة التي تجري الإرادة على وفقه ، فالتعليل بصفة العلم بناء على مقدمة أخرى وهي أن الله تعالى حكيم لا يحب الفساد ، فإذا كان لا يحب ذلك وكان عليما بتصرفات الخلق كان علمه وحكمته مقتضيين أن يرسل للناس رسلا رحمة بهم. وضمير الفصل أفاد الحصر ، أي هو السميع العليم لا أصنامكم التي تدعونها. وفي هذا إيماء إلى الحاجة إلى إرسال الرّسول إليهم بإبطال عبادة الأصنام.

وفي وصف (السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) تعريض بالتهديد.

(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧))

هذا عود إلى مواجهة المشركين بالتذكير على نحو ما ابتدأت به السورة. وهو تخلّص للاستدلال على تفرد الله بالإلهية إلزاما لهم بما يقرّون به من أنه ربّ السماوات والأرض وما بينهما ، ويقرون بأن الأصنام لا تخلق شيئا ، غير أنهم معرضون عن نتيجة الدليل ببطلان إلهية الأصنام ألا ترى القرآن يكرر تذكيرهم بأمثال هذا مثل قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [النحل : ١٧] وقوله : والذين تدعون (مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) [النحل : ٢٠ ، ٢١] ، ولأجل ذلك ذكر الربوبية إجمالا في قوله : (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) [الدخان : ٦] ثم تفصيلا بذكر صفة عموم العلم التي هي صفة المعبود بحق بصيغة قصر القلب المشير إلى أن الأصنام لا تسمع ولا تعلم. وبذكر صفة التكوين المختصة به تعالى بإقرارهم ارتقاء في الاستدلال. فلما لم يكن مجال للريب في أنه تعالى هو الإله الحق أعقب هذا الاستدلال بجملة (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) بطريقة إثارة التيقظ لعقولهم إذ نزلهم منزلة المشكوك إيقانهم لعدم جريهم على موجب الإيقان لله بالخالقية حين عبدوا غيره بأن أتي في جانب فرض إيقانهم بطريقة الشرط ، وأتي بحرف الشرط الذي أصله عدم الجزم بوقوع الشرط على نحو قوله تعالى : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) [الزخرف : ٥].

٣١٢

وقرأ الجمهور (رَبِّ السَّماواتِ) برفع (رَبِ) على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وهو من حذف المسند إليه لمتابعة الاستعمال في مثله بعد إجراء أخبار أو صفات عن ذات ثم يردف بخبر آخر ، ومن ذلك قولهم بعد ذكر شخص : فتى يفعل ويفعل. وهو من الاستئناف البياني إذ التقدير : إن أردت أن تعرفه فهو كذا. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف بجر (رَبِ) على أنه بدل من قوله : (رَبِّكَ) [الدخان : ٦].

وحذف متعلق (مُوقِنِينَ) للعلم به من قوله : (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما). وجواب الشرط محذوف دل عليه المقام. والتقدير : إن كنتم موقنين فلا تعبدوا غيره ، ولذلك أعقبه بجملة (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [الدخان : ٨].

(لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨))

جملة (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) نتيجة للدليل المتقدم لأن انفراده بربوبية السماوات والأرض وما بينهما دليل على انفراده بالإلهية ، أي على بطلان إلهية أصنامهم فكانت هذه الجملة نتيجة لذلك فلذلك فصلت لشدة اقتضاء الجملة التي قبلها إياها.

وجملة (يُحْيِي وَيُمِيتُ) مستأنفة للاستدلال على أنه لا إله إلا هو بتفرده بالإحياء والإماتة ، والمشركون لا ينازعون في أن الله هو المحيي والمميت فكما استدل عليهم بتفرده بإيجاد العوالم وما فيها استدل عليهم بخلق أعظم أحوال الموجودات وهي حالة الحياة التي شرّف بها الإنسان عن موجودات العالم الأرضي وكرّم أيضا بإعطائها للحيوان لتسخيره لانتفاع الإنسان به بسببها ، وبتفرده بالإماتة وهي سلب الحياة عن الحيّ للدلالة على أن الحياة ليست ذاتية للحيّ. ولما كان تفرده بالإحياء والإماتة دليلا واضحا في أحوال المخاطبين وفيما حولهم من ظهور الأحياء بالولادة والأموات بالوفاة يوما فيوما من شأنه أن لا يجهلوا دلالته بله جحودهم إياها ومع ذلك قد عبدوا الأصنام التي لا تحيي ولا تميت ، أعقب بإثبات ربوبيته للمخاطبين تسجيلا عليهم بجحد الأدلة وبكفران النعمة.

وعطف (وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) ليسجل عليهم الإلزام بقولهم : (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٢]. ووصفهم ب (الْأَوَّلِينَ) لأنهم جعلوا أقدم الآباء حجة أعظم من الآباء الأقربين كما قال تعالى حكاية عنهم (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) [المؤمنون : ٢٤].

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩))

٣١٣

(بَلْ) للإضراب الإبطالي ردّ به أن يكونوا موقنين ومقرّين بأنه رب السماوات والأرض وما بينهما فإن إقرارهم غير صادر عن علم ويقين ثابت بل هو كالعدم لأنهم خلطوه بالشك واللعب فارتفعت عنه خاصية اليقين والإقرار التي هي الجري على موجب العلم ، فإن العلم إذا لم يجر صاحبه على العمل به وتجديد ملاحظته تطرق إليه الذهول ثم النسيان فضعف حتى صار شكّا لانحجاب الأدلة التي يرسخ بها في النفس ، أي هم شاكّون في وحدانية الله تعالى.

والإتيان بحرف الظرفية للدلالة على شدة تمكن الشك من نفوسهم حتى كأنه ظرف محيط بهم لا يجدون عنه مخرجا ، أي لا يفارقهم الشك ، فالظرفية استعارة تبعية مثل الاستعلاء في قوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥].

وجملة (يَلْعَبُونَ) حال من ضمير (هُمْ) أي اشتغلوا عن النظر في الأدلة التي تزيل الشك عنهم وتجعلهم مهتدين ، بالهزء واللعب في تلقي دعوة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم فكأن انغماسهم في الشك مقارنا لحالهم من اللعب ، ولهذه الجملة الحالية موقع عظيم إذ بها أفيد أنّ الشك حامل لهم على الهزء واللعب ، وأن الشغل باللعب يزيد الشك فيهم رسوخا بخلاف ما لو قيل : بل هم في شك ولعب ، فتفطّن.

[١٠ ، ١١] (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١))

تفريع على جملة (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) [الدخان : ٩] قصد منه وعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بانتقام الله من مكذبيه ، ووعيد المشركين على جحودهم بدلائل الوحدانية وصدق الرسول وعكوفهم على اللعب ، أي الاستهزاء بالقرآن والرسول ، وذكر له مخوفات للمشركين لإعدادهم للإيمان وبطشة انتقام من أئمتهم تستأصلهم.

فالخطاب في (فَارْتَقِبْ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأمر مستعمل في التثبيت. والارتقاب : افتعال من رقبه ، إذا انتظره ، وإنما يكون الانتظار عند قرب حصول الشيء المنتظر. وفعل (ارتقب) يقتضي بصريحه أن إتيان السماء بدخان لم يكن حاصلا في نزول هذه الآية ، ويقتضي كناية عن اقتراب وقوعه كما يرتقب الجائي من مكان قريب.

و (يَوْمَ) اسم زمان منصوب على أنه مفعول به ل (ارتقب) وليس ظرفا وذلك كقوله تعالى : (يَخافُونَ يَوْماً) [النور : ٣٧] ، وهو مضاف إلى الجملة بعده لتمييز اليوم المراد عن

٣١٤

بقية الأيام بأنه الذي تأتي فيه السماء بدخان مبين فنصب (يَوْمَ) نصب إعراب ولم ينون لأجل الإضافة.

والجملة التي يضاف إليها اسم الزمان تستغني عن الرابط لأن الإضافة مغنية عنه. ولأن الجملة في قوة المصدر. والتقدير : فارتقب يوم إتيان السماء بدخان. وأطلق اليوم على الزمان فإن ظهور الدخان كان في أيام وشهور كثيرة.

والدخان : ما يتصاعد عند إيقاد الحطب ، وهو تشبيه بليغ ، أي بمثل دخان.

والمبين : البين الظاهر ، وهو اسم فاعل من أبان الذي هو بمعنى بان. والمعنى : أنه ظاهر لكل أحد لا يشك في رؤيته. وقال أبو عبيدة وابن قتيبة : الدخان في الآية هو : الغبار الذي يتصاعد من الأرض من جراء الجفاف وأن الغبار يسمّيه العرب دخانا وهو الغبار الذي تثيره الرياح من الأرض الشديدة الجفاف. وعن الأعرج : أنه الغبار الذي أثارته سنابك الخيل يوم فتح مكة فقد حجبت الغبرة السماء ، وإسناد الإتيان به إلى السماء مجاز عقلي لأن السماء مكانه حين يتصاعد في جو السماء أو حين يلوح للأنظار منها. والكلام يؤذن بأن هذا الدخان المرتقب حادث قريب الحصول ، فالظاهر أنه حدث يكون في الحياة الدنيا ، وأنه عقاب للمشركين.

فالمراد بالنّاس من قوله : (يَغْشَى النَّاسَ) هم المشركون كما هو الغالب في إطلاق لفظ الناس في القرآن ، وأنه يكشف زمنا قليلا عنهم إعذارا لهم لعلهم يؤمنون ، وأنهم يعودون بعد كشفه إلى ما كانوا عليه ، وأن الله يعيده عليهم كما يؤذن بذلك قوله : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً) [الدخان : ١٥]. وأما قوله : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ) [الدخان : ١٦] فهو عذاب آخر. وكل ذلك يؤذن بأن العذاب بالدخان يقع في الدنيا وأنه مستقبل قريب ، وإذ قد كانت الآية مكية تعيّن أن هذا الدخان الذي هو عذاب للمشركين لا يصيب المؤمنين لقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال : ٣٣] فتعيّن أن المؤمنين يوم هذا الدخان غير قاطنين بدار الشرك ، فهذا الدخان قد حصل بعد الهجرة لا محالة وتعيّن أنه قد حصل قبل أن يسلم المشركون الذين بمكة وما حولها فيتعيّن أنه حصل قبل فتح مكة أو يوم فتح مكة على اختلاف الأقوال. والأصح أن هذا الدخان عني به ما أصاب المشركين من سني القحط بمكة بعد هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة. والأصح في ذلك حديث عبد الله بن مسعود في «صحيح البخاري» عن مسلم وأبي الضحى عن مسروق قال : دخلت على عبد الله بن مسعود فقال : إنّ قريشا لما غلبوا

٣١٥

على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستعصوا عليه قال : اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف ، فأخذتهم سنة أكلوا فيها العظام والميتة من الجهد حتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع فأتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقيل له : استسق لمضر أن يكشف عنهم العذاب ، فدعا فكشف عنهم وقال الله له : إن كشفنا عنهم العذاب عادوا ، فعادوا : فانتقم الله منهم يوم بدر فذلك قوله تعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) إلى قوله (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) [الدخان : ١٠ ـ ١٦] والبطشة الكبرى يوم بدر. وإن عبد الله قال : مضى خمس : الدخان ، والروم والقمر والبطشة واللّزام.

في حديث أبي هريرة في «صحيح البخاري» في أبواب الاستسقاء أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا رفع رأسه من الركعة الآخرة من الصبح يقول : «اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة. اللهم أنج سلمة بن هشام ، اللهم أنج الوليد بن الوليد ، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين ، اللهم اشدد وطأتك على مضر ، اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف. وهؤلاء الذين دعا لهم بالنجاة كانوا ممن حبسهم المشركون بعد الهجرة ، وكل هذه الروايات يؤذن بأن دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المشركين بالسنين كان بعد الهجرة لئلا يعذب المسلمون بالجوع وأنه كان قبل وقعة بدر ، وفي بعض روايات القنوت أنه دعا في القنوت على بني لحيان وعصيّة.

والذي يستخلص من الروايات أن هذا الجوع حلّ بقريش بعيد الهجرة ، وذلك هو الجوع الذي دعا به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ قال : «اللهم أعنّي عليهم بسبع كسبع يوسف» ، وفي رواية «اللهم اشدد وطأتك على مضر ، اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف» فأتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقيل له : استسق لمضر وفي رواية عن مسروق عن ابن مسعود في «صحيح البخاري» أن الذي أتى النبي هو أبو سفيان. وقال المفسرون : إن أبا سفيان أتاه في ناس من أهل مكة يعني أتوا المدينة لمّا علموا أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان دعا عليهم بالقحط ، فقالوا : إن قومك قد هلكوا فادع الله أن يسقيهم فدعا. وعلى هذه الرواية يكون قوله تعالى : (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) تمثيلا لهيئة ما يراه الجائعون من شبه الغشاوة على أبصارهم حين ينظرون في الجوّ بهيئة الدخان النازل من الأفق ، فالمجاز في التركيب. وأما مفردات التركيب فهي مستعملة في حقائقها لأن من معاني السماء في كلام العرب قبة الجو ، وتكون جملة (يَغْشَى النَّاسَ) ترشيحا للتمثيلية لأن الذي يغشاهم هو الظلمة التي في أبصارهم من الجوع ، وليس الدخان هو الذي يغشاهم. وبعض الروايات ركب على هذه الآية حديث

٣١٦

الاستسقاء الذي في «الصحيح» أن رجلا جاء يوم الجمعة والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب فقال : يا رسول الله هلك الزرع والضرع فادع الله أن يسقينا فرفع يديه وقال : اللهم اسقنا ثلاثا ، وما يرى في السماء قزعة سحاب ، فتلبدت السماء بالسحاب وأمطروا من الجمعة إلى الجمعة حتى سالت الأودية وسال وادي قناة شهرا ، فأتاه آت في الجمعة القابلة هو الأول أو غيره ، فقال : يا رسول الله تقطعت السبل فادع الله أن يمسك المطر عنا ، فقال : اللهم حوالينا ولا علينا ، فتفرقت السحب حتى صارت المدينة في شبه الإكليل من السحاب.

والجمع بين الروايتين ظاهر. ويظهر أن هذا القحط وقع بعد يوم بدر فهو قحط آخر غير قحط قريش الذي ذكر في هذه الآية.

ومعنى (يَغْشَى النَّاسَ) أنه يحيط بهم ويعمّهم كما تحيط الغاشية بالجسد ، أي لا ينجو منه أحد من أولئك الناس وهم المشركون. فإن كان المراد من الدخان ما أصاب أبصارهم من رؤية مثل الغبرة من الجوع فالغشيان مجاز ، وإن كان المراد منه غبار الحرب يوم الفتح فالغشيان حقيقة أو مجاز مشهور. ويجوز أن يكون غبارا متصاعدا في الجو من شدة الجفاف.

وقوله : (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) قال ابن عطية يجوز أن يكون إخبارا من جانب الله تعالى تعجيبا منه كما في قوله تعالى في قصة الذبيح (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) [الصافات : ١٠٦]. ويحتمل أن يكون ذلك من قول الناس الذين يغشاهم العذاب بتقدير : يقولون: هذا عذاب أليم. والإشارة في (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) إلى الدخان المذكور آنفا ، عدل عن استحضاره بالإضمار وأن يقال : هو عذاب أليم ، إلى استحضاره بالإشارة ، لتنزيله منزلة الحاضر المشاهد تهويلا لأمره كما تقول : هذا الشتاء قادم فأعدّ له.

وقريب منه الأمر بالنظر في قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) [الأنعام: ٢٤] فإن المحكي مما يحصل في الآخرة.

(رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢))

هذه جملة معترضة بين جملة (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) [الدخان : ١١] وجملة (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) [الدخان : ١٣] فهي مقول قول محذوف. وحملها جميع المفسرين على أنها حكاية قول الذين يغشاهم العذاب بتقدير يقولون : ربّنا اكشف عنا العذاب ، أي هو وعد صادر من النّاس الذين يغشاهم العذاب بأنهم يؤمنون إن كشف عنهم العذاب أي فيكون مثل قوله

٣١٧

تعالى في سورة الزخرف [٤٩] (وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) ، أي إن دعوت ربّك اتبعناك ويكون بمعنى قوله في سورة الأعراف [١٣٤] (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ) إلى قوله : (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ).

ومما تسمح به تراكيب الآية وسياقها أن يكون القول المحذوف مقدّرا بفعل أمر أي قولوا لتلقين المسلمين أن يستعيذوا بالله من أن يصيبهم ذلك العذاب إذ كانوا والمشركين في بلد واحد كما استعاذ موسى عليه‌السلام بقوله : (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) [الأعراف : ١٥٥]. وفيه إيماء إلى أن الله سيخرج المؤمنين من مكة قبل أن يحلّ بأهلها هذا العذاب ، فهذا التلقين كالذي في قوله تعالى : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) [البقرة : ٢٨٦] الآيات. وعليه فجملة (إِنَّا مُؤْمِنُونَ) تعليل لطلب دفع العذاب عنهم ، أي إنا متلبسون بما يدفع عنا عذاب الكافرين ، وفي تلقينهم بذلك تنويه بشرف الإيمان ، وأسلوب الكلام جار على أن جملة (إِنَّا مُؤْمِنُونَ) تعليل لطلب كشف العذاب عنهم لما يقتضيه ظاهر استعمال حرف (إنّ) من معنى الإخبار دون الوعد ، ومن التعليل دون التأكيد ، ولما يقتضيه اسم الفاعل في زمن الحال دون الاستقبال ، ولأن سياقه خطاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بترقب إعانة الله إياه على المشركين ، كما كان يدعو «أعني عليهم بسبع كسني يوسف» فمقتضى المقام تأمينه من أن يصيب العذاب المسلمين وفيهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وظاهر مادة الكشف تقتضي إزالة شيء كان حاصلا في شيء إلّا أن الكشف هنا لما لم يكن مستعملا في معناه الحقيقي كان مجازه محتملا أن يكون مستعملا في منع حصول شيء يخشى حصوله كما في قوله تعالى : (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [يونس : ٩٨] فإن قوم يونس لم يحل بهم عذاب فزال عنهم ولكنهم توعدوا به فبادروا بالإيمان فنجاهم الله منه ، وقول جعفر بن علبة الحارثي :

لا يكشف الغماء إلا ابن حرة

يرى غمرات الموت ثم يزورها

أراد أنه يمنع العدوّ من أن ينالهم بسوء ، ومحتملا للاستعمال في زوال شيء كان حصل. ولم يذكر أحد من رواة السير والآثار أن المشركين وعدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنهم يسلمون إن أزال الله عنهم القحط.

[١٣ ، ١٤] (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤))

٣١٨

هذه الجملة جعلها جميع المفسرين جوابا عن قول القائلين (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) [الدخان : ١٢] تكذيبا لوعدهم ، أي هم لا يتذكرون ، وكيف يتذكرون وقد جاءهم ما هو أقوى دلالة من العذاب وهي دلائل صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمّا على التأويل الذي انتزعناه من تركيب الآية فهي جملة مستأنفة ناشئة عن قوله : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) [الدخان : ٩] وهي كالنتيجة لها لأنهم إذا كانوا في شك يلعبون فقد صاروا بعداء عن الذكرى.

و (أَنَّى) اسم استفهام أصله استفهام عن أمكنة حصول الشيء ويتوسعون فيها فيجعلونها استفهاما عن الأحوال بمعنى (كيف) بتنزيل الأحوال منزلة ظروف في مكان كما هنا بقرينة قوله : (وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ). والمعنى : من أين تحصل لهم الذكرى والمخافة عند ظهور الدخان المبين وقد سدت عليهم طرقها بطعنهم في الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أتاهم بالتذكير.

والاستفهام مستعمل في الإنكار والإحالة ، أي كيف يتذكرون وهم في شك يلعبون وقد جاءهم رسول مبين فتولوا عنه وطعنوا فيه. فجملة (وَقَدْ جاءَهُمْ) في موضع الحال.

و (مُبِينٌ) اسم فاعل إما من أبان المتعدّي ، وحذف مفعوله لدلالة (الذِّكْرى) عليه ، أي مبين لهم ما به يتذكرون ، ويجوز أن يكون من أبان القاصر الذي هو بمعنى بان ، أي رسول ظاهر ، أي ظاهرة رسالته عن الله بما توفر معها من دلائل صدقه.

وإيثار (مُبِينٌ) بتخفيف الياء على (مُبِينٌ) بالتشديد من نكت الإعجاز ليفيد المعنيين.

و (ثُمَ) للتراخي الرتبي وهو ترقّ من مفاد قوله : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) [الدخان : ٩] الذي اتصلت به جملة كانت جملة (وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) من متعلّقاتها.

فالمعنى : وقد جاءهم رسول فشكّوا في رسالته ثم تولّوا عنه وطعنوا فيه ، فالتولّي والطعن حصلا عند حصول الشك واللعب ، ولذلك كانت (ثُمَ) للتراخي الرتبي لا لتراخي الزمان. ومعنى التراخي الرتبي هنا أن التولي والبهتان أفظع من الشك واللعب. والمعلّم الذي يعلّمه غيره ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) في سورة النحل [١٠٣].

والمعنى : أنهم وصفوه مرة بأنه يعلّمه غيره ، ووصفوه مرة بالجنون ، تنقلا في البهتان ، أو وصفه فريق بهذا وفريق بذلك ، فالقول موزع بين أصحاب ضمير (قالُوا) أو

٣١٩

بين أوقات القائلين. ولا يصح أن يكون قولا واحدا في وقت واحد لأن المجنون لا يكون معلّما ولا يتأثر بالتعليم.

(إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥))

يجيء على ما فسر به جميع المفسرين قوله (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ) [الدخان : ١٢] ، أن هذه الجملة جواب لسؤالهم ، ويجيء على ما درجنا عليه أن تكون هذه الجملة إعلاما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يكشف العذاب المتوعّد به المشركون مدة ، فيعودون إلى ما كانوا فيه ، وعليه فضمير (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) التفات إلى خطاب المشركين ، أي يمسكون عن ذلك مدة وهي المدة التي أرسلوا فيها وفدهم إلى المدينة ليسأل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدعو الله بكشف القحط عنهم فإنهم أيامئذ يمسكون عن الطعن والذمّ رجاء أن يدعو لهم ثم يعودون لما كانوا فيه ، كما قال تعالى : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) [الزمر : ٨] كما اقتضى أن العذاب عائد إليهم بعد عودتهم إلى ما كانوا فيه من أسباب إصابتهم بالعذاب.

فمعنى (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ) : إنا كاشفوه في المستقبل بقرينة قوله قبله (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) [الدخان : ١٠] المقتضي أنه يحصل في المستقبل ، والآية متصل بعضها ببعض وكذلك معنى (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) ، أي في المستقبل. واسم الفاعل يكون مرادا به الحصول في المستقبل بالقرينة. روي أنهم كشف عنهم القحط بعد استسقاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحيوا وحييت أنعامهم ثم عادوا فعاودهم القحط كمال سبع سنين ، ولعلها عقبها فتح مكة.

وجملة (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) مستأنفة استئنافا بيانيا لأنهم إذا سمعوا (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً) تطلّعوا إلى ما سيكون بعد كشفه ، وتطلع المؤمنون إلى ما تصير إليه حال المشركين بعد كشف العذاب هل يقلعون عن الطعن فكان قوله : (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) مبينا لما يتساءلون عنهم.

(يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦))

هذا هو الانتقام الذي وعد به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوعّد به أئمة الكفر. والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن قوله : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) [الدخان : ١٥] فإن السامع يثار في نفسه سؤال عن جزائهم حيث يعودون إلى التولي والطعن فأجيب بأن

٣٢٠