تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

وعليه يحمل ما ورد في صحاح الآثار من تعذيب عمرو بن لحيّ الذي سنّ عبادة الأصنام وما روي أن إمرأ القيس حامل لواء الشعراء إلى النّار يوم القيامة وغير ذلك. وهذا الذي يناسب أن يكون نظر إليه أهل السنة الذين يقولون : إن معرفة الله واجبة بالشرع لا بالعقل وهو المشهور عن الأشعري ، والذين يقولون منهم : إن المشركين من أهل الفترة مخلّدون في النّار على الشرك. وأما الذين قالوا بأن معرفة الله واجبة عقلا وهو قول جميع الماتريدية وبعض الشافعية فلا إشكال على قولهم.

(بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩))

إضراب عن قوله : (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الزخرف : ٢٨] ، وهو إضراب إبطال ، أي لم يحصل ما رجاه إبراهيم من رجوع بعض عقبه إلى الكلمة التي أوصاهم برعيها. فإن أقدم أمة من عقبه لم يرجعوا إلى كلمته ، وهؤلاء هم العرب الذين أشركوا وعبدوا الأصنام.

وبعد (بَلْ) كلام محذوف دلّ عليه الإبطال وما بعد الإبطال ، وتقدير المحذوف : بل لم يرجع هؤلاء وآباؤهم الأولون إلى التوحيد ولم يتبرءوا من عبادة الأصنام ولا أخذوا بوصاية إبراهيم.

وجملة (مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) مستأنفة استئنافا بيانيا لسائل يسأل عما عاملهم الله به جزاء على تفريطهم في وصاية إبراهيم وهلا استأصلهم. كما قال : (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ) إلى قوله : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) [الزخرف : ٢٣ ـ ٢٥] ، فأجيب بأن الله متعهم بالبقاء إلى أن يجيئهم رسول بالحق وذلك لحكمة علمها الله يرتبط بها وجود العرب زمنا طويلا بدون رسول ، وتأخّر مجيء الرّسول إلى الإبان الذي ظهر فيه.

وبهذا الاستئناف حصل التخلص إلى ما بدا من المشركين بعد مجيء الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم من فظيع توغلهم في الإعراض عن التوحيد الذي كان عليه أبوهم فكان موقع (بَلْ) في هذه الآية أبلغ من موقعها في قول لبيد :

بل ما تذكر من نوار وقد نأت

وتقطعت أسبابها ورمامها

إذ كان انتقاله اقتضابا وكان هنا تخلصا حسنا.

و (هؤُلاءِ) إشارة إلى غير مذكور في الكلام ، وقد استقريت أن مصطلح القرآن أن يريد بمثله مشركي العرب ، ولم أر من اهتدى للتنبيه عليه ، وقد قدّمته عند قوله تعالى :

٢٤١

(وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) في سورة النساء [٤١] وفي مواضع أخرى.

والمراد بآبائهم آباؤهم الذين سنّوا عبادة الأصنام مثل عمرو بن لحيّ والذين عبدوها من بعده. وتمتيع آبائهم تمهيد لتمتيع هؤلاء ، ولذلك كانت غاية التمتيع مجيء الرّسول فإن مجيئه لهؤلاء. والتمتيع هنا التمتيع بالإمهال وعدم الاستئصال كما تدلّ عليه الغاية في قوله : (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ).

والمراد ب (الْحَقُ) القرآن كما يدل عليه قوله : (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ) [الزخرف : ٣٠] وقوله : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] وهذه الآية ثناء راجع على القرآن متصل بالثناء عليه الذي افتتحت به السورة.

فإنه لما جاء القرآن على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتهى التمتيع وأخذوا بالعذاب تدريجا إلى أن كان عذاب يوم بدر ويوم حنين ، وهدى الله للإسلام من بقي يوم فتح مكة وأيام الوفود. وهذا في معنى قوله تعالى : (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) في سورة هود [٤٨].

والحق الذي جاءهم هو : القرآن ، والرّسول المبين : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووصفه ب (مُبِينٌ) لأنه أوضح الهدى ونصب الأدلة وجاء بأفصح كلام. فالإبانة راجعة إلى معاني دينه وألفاظ كتابه. والحكمة في ذلك أن الله أراد أن يشرف هذا الفريق من عقب إبراهيم بالانتشال من أوحال الشرك والضلال إلى مناهج الإيمان والإسلام واتباع أفضل الرّسل وأفضل الشرائع ، فيجبر لأمّة من عقب إبراهيم ما فرطوا فيه من الاقتداء بأبيهم حتى يكمل لدعوته شرف الاستجابة.

والمقصود من هذا زيادة الإمهال لهم لعلهم يتذكرون كما قال تعالى : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) [الأنعام : ١٥٥ ـ ١٥٧].

ويستروح من قوله تعالى : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) إلى قوله : (وَآباءَهُمْ) [الزخرف : ٢٨ ، ٢٩] أنّ آباء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عمود نسبه لم يكونوا مضمرين الشرك وأنهم بعض من عقب إبراهيم الذين بقيت كلمته فيهم ولم يجهروا بمخالفة قومهم اتقاء الفتنة. ولا

٢٤٢

عجب في ذلك فإن تغيير المنكر إنّما وجب بالشرع ولم يكن لديهم شرع.

(وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠))

تعجيب من حال تغافلهم ، أي قد كان لهم بعض العذر قبل مجيء الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن لأن للغفلات المتقادمة غشاوة تصيّر الغفلة جهالة ، فكان الشأن أن يستيقظوا لمّا جاءهم الحق ورسول مبين فيتذكروا كلمة أبيهم إبراهيم ، ولكنهم لما جاءهم الحق قالوا : هذا سحر ، أي قالوا للرّسول : هذا ساحر ، فازدادوا رينا على رين.

فالخبر مستعمل في التعجيب لا في إفادة صدور هذا القول منهم لأن ذلك معلوم لهم وللمسلمين. وفي تعقيب الغاية بهذا الكلام إيذان بأن تمتيعهم أصبح على وشك الانتهاء.

فجملة (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ) معطوفة على جملة (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُ) [الزخرف : ٢٩] فإن (لَمَّا) توقيتية فهي في قوة (حَتَّى) الغائيّة كأنه قيل : متعت هؤلاء وآباءهم ، فلما جاءهم الحق عقب ذلك التمتيع لم يستفيقوا من غفلتهم وقالوا : هذا سحر ، أي كانوا قبل مجيء الحق مشركين عن غفلة وتساهل ، فلما جاءهم الحق صاروا مشركين عن عناد ومكابرة.

وجملة (وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) مقول ثان ، أي قالوا : هذا سحر فلا نلتفت إليه وقالوا إنا به ، أي بالقرآن ، كافرون ، أي سواء كان سحرا أم غيره ، أي فرضوا أنه سحر ثم ارتقوا فقالوا إنّا به كافرون ، أي كافرون بأنه من عند الله سواء كان سحرا أم شعرا أم أساطير الأولين. ولهذا المعنى أكدوا الخبر بحرف التأكيد ليؤيسوا الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إيمانهم به.

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١))

عطف على جملة (قالُوا هذا سِحْرٌ) [الزخرف : ٣٠] فهو في حيّز جواب (لَمَّا) [الزخرف : ٣٠] التوقيتية واقع موقع التعجيب أيضا ، أي بعد أن أخذوا يتعللون بالعلل لإنكار الحق إذ قالوا للقرآن : هذا سحر ، وإذ كان قولهم ذلك يقتضي أن الذي جاء بالقرآن ساحر انتقل إلى ذكر طعن آخر منهم في الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه لم يكن من عظماء أهل القريتين.

و (لَوْ لا) أصله حرف تحضيض ، استعمل هنا في معنى إبطال كونه رسولا على طريقة المجاز المرسل بعلاقة الملازمة لأن التحضيض على تحصيل ما هو مقطوع بانتفاء

٢٤٣

حصوله يستلزم الجزم بانتفائه.

والقريتان هما : مكة والطائف لأنّهما أكبر قرى تهامة بلد القائلين وأما يثرب وتيماء ونحوهما فهي من بلد الحجاز. فالتعريف في (الْقَرْيَتَيْنِ) للعهد ، جعلوا عماد التأهل لسيادة الأقوام أمرين : عظمة المسوّد ، وعظمة قريته ، فهم لا يدينون إلا من هو من أشهر القبائل في أشهر القرى لأن القرى هي مأوى شئون القبائل وتموينهم وتجارتهم ، والعظيم : مستعار لصاحب السؤدد في قومه ، فكأنه عظيم الذات.

روي عن ابن عباس أنهم عنوا بعظيم مكة الوليد بن المغيرة المخزومي ، وبعظيم الطائف حبيب بن عمرو الثقفي. وعن مجاهد أنهم عنوا بعظيم مكة عتبة بن ربيعة وبعظيم الطائف كنانة بن عبد ياليل. وعن قتادة عنوا الوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود الثقفي. ثم يحتمل أنهم قالوا هذا اللّفظ المحكي عنهم في القرآن ولم يسموا شخصين معيّنين ، ويحتمل أنهم سمّوا شخصين ووصفوهما بهذين الوصفين ، فاقتصر القرآن على ذكر الوصفين إيجازا مع التنبيه على ما كانوا يؤهلون به الاختيار للرسالة تحميقا لرأيهم.

وكان الرجلان اللّذان عنوهما ذوي مال لأنّ سعة المال كانت من مقومات وصف السؤدد كما حكي عن بني إسرائيل قولهم : (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) [البقرة : ٢٤٧].

(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢))

إنكار عليهم قولهم (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] ، فإنهم لما نصبوا أنفسهم منصب من يتخير أصناف النّاس للرسالة عن الله ، فقد جعلوا لأنفسهم ذلك لا لله ، فكان من مقتضى قولهم أن الاصطفاء للرسالة بيدهم ، فلذلك قدّم ضمير (هُمْ) المجعول مسندا إليه ، على مسند فعلي ليفيد معنى الاختصاص فسلط الإنكار على هذا الحصر إبطالا لقولهم وتخطئة لهم في تحكمهم.

ولما كان الاصطفاء للرسالة رحمة لمن يصطفى لها ورحمة للنّاس المرسل إليهم ، جعل تحكمهم في ذلك قسمة منهم لرحمة الله باختيار هم من يختار لها وتعيين المتأهل لإبلاغها إلى المرحومين.

٢٤٤

ووجّه الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأضيف لفظ (الرب) إلى ضميره إيماء إلى أن الله مؤيده تأنيسا له ، لأن قولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] قصدوا منه الاستخفاف به ، فرفع الله شأنه بإبلاغ الإنكار عليهم بالإقبال عليه بالخطاب وبإظهار أن الله ربّه ، أي متولي أمره وتدبيره.

وجملة (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ) تعليل للإنكار والنفي المستفاد منه ، واستدلال عليه ، أي لما قسمنا بين النّاس معيشتهم فكانوا مسيّرين في أمورهم على نحو ما هيّأنا لهم من نظام الحياة وكان تدبير ذلك لله تعالى ببالغ حكمته ، فجعل منهم أقوياء وضعفاء ، وأغنياء ومحاويج ، فسخر بعضهم لبعض في أشغالهم على حساب دواعي حاجة الحياة ، ورفع بذلك بعضهم فوق بعض ، وجعل بعضهم محتاجا إلى بعض ومسخّرا به. فإذا كانوا بهذه المثابة في تدبير المعيشة الدّنيا ، فكذلك الحال في إقامة بعضهم دون بعض للتبليغ فإن ذلك أعظم شئون البشر. فهذا وجه الاستدلال.

والسخريّ بضم السين وبكسرها وهما لغتان ولم يقرأ في القراءات المشهورة إلا بضم السين. وقرأ ابن محيص في الشاذّ بكسر السين : اسم للشيء المسخر ، أي المجبور على عمل بدون اختياره ، واسم لمن يسخر به ، أي يستهزأ به كما في «مفردات» الراغب و «الأساس» و «القاموس». وقد فسر هنا بالمعنيين كما قال القرطبي. وقال ابن عطية : هما لغتان في معنى التسخير ولا تدخّل لمعنى الهزء في هذه الآية. ولم يقل ذلك غيره وكلام الراغب محتمل. واقتصر الطبري على معنى التسخير. فالوجه في ذلك أن المعنيين معتبران في هذه الآية. وإيثار لفظ (سُخْرِيًّا) في الآية دون غيره لتحمّله للمعنيين وهو اختيار من وجوه الإعجاز فيجوز أن يكون المعنى ليتعمل بعضهم بعضا في شئون حياتهم فإن الإنسان مدني ، أي محتاج إلى إعانة بعضه بعضا ، وعليه فسّر الزمخشري وابن عطية وقاله السّدي وقتادة والضحاك وابن زيد ، فلام (لِيَتَّخِذَ) لام التعليل تعليلا لفعل (قَسَمْنا) ، أي قسمنا بينهم معيشتهم ، أي أسباب معيشتهم ليستعين بعضهم ببعض فيتعارفوا ويتجمعوا لأجل حاجة بعضهم إلى بعض فتتكون من ذلك القبائل والمدن.

وعلى هذا يكون قوله : (بَعْضُهُمْ بَعْضاً) عاما في كل بعض من النّاس إذ ما من أحد إلا وهو مستعمل لغيره وهو مستعمل لغير آخر.

ويجوز أن تكون اسما من السّخرية وهي الاستهزاء. وحكاه القرطبي ولم يعيّن قائله وبذلك تكون اللام للعاقبة مثل (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨]

٢٤٥

وهو على هذا تعريض بالمشركين الذين استهزءوا بالمؤمنين كقوله تعالى : (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) في سورة قد أفلح المؤمنون [١١٠]. وقد جاء لفظ السخري بمعنى الاستهزاء في آيات أخرى كقوله تعالى : (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) [المؤمنون : ١١٠] وقوله : (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) [ص : ٦٣]. ولعل الذي عدل ببعض المفسرين عن تفسير آية سورة الزخرف بهذا المعنى استنكارهم أن يكون اتخاذ بعضهم لبعض مسخرة علة لفعل الله تعالى في رفعه بعضهم فوق بعض درجات ، ولكنّ تأويل اللّفظ واسع في نظائره وأشباهه. وتأويل معنى اللام ظاهر.

وجملة (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) تذييل للرد عليهم ، وفي هذا التذييل ردّ ثان عليهم بأن المال الذي جعلوه عماد الاصطفاء للرسالة هو أقل من رحمة الله فهي خير مما يجمعون من المال الذي جعلوه سبب التفضيل حين قالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] فإن المال شيء جمعه صاحبه لنفسه فلا يكون مثل اصطفاء الله العبد ليرسله إلى النّاس.

ورحمة الله : هي اصطفاؤه عبده للرسالة عنه إلى الناس ، وهي التي في قوله : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) ، والمعنى : إذا كانوا غير قاسمين أقل أحوالهم فكيف يقسمون ما هو خير من أهم أمورهم.

[٣٣ ـ ٣٥] (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥))

(وَلَوْ لا) حرف امتناع لوجود ، أي حرف شرط دلّ امتناع وقوع جوابها لأجل وقوع شرطها ، فيقتضي أن الله أراد امتناع وقوع أن يكون الناس أمة واحدة ، أي أراد الاحتراز من مضمون شرطها.

لما تقرر أن من خلقهم تعظيم المال وأهل الثراء وحسبانهم ذلك أصل الفضائل ولم يهتموا بزكاء النّفوس ، وكان الله قد أبطل جعلهم المال سبب الفضل بإبطالين ، بقوله : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) [الزخرف : ٣٢] وقوله : (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [الزخرف : ٣٢] ، أعقب ذلك بتعريفهم أن المال والغنى لا حظّ لهما عند الله تعالى فإن الله أعطى كل شيء خلقه وجعل للأشياء حقائقها ومقاديرها فكثيرا ما يكون المال للكافرين

٢٤٦

ومن لا خلاق لهم من الخير ، فتعين أن المال قسمة من الله على النّاس جعل له أسبابا نظمها في سلك النظم الاجتماعية وجعل لها آثارا مناسبة لها ، وشتان بينها وبين مواهب النفوس الزكية والسرائر الطيبة ، فالمال في الغالب مصدر لإرضاء الشهوات ومرصد للتفاخر والتطاول. وأما مواهب النفوس الطيّبة فمصادر لنفع أصحابها ونفع الأمة ، ففي أهل الشر أغنياء وفقراء وفي أهل الخير أمثال ذلك ، فظهر التباين بين آثار كسب المال وآثار الفضائل النفسانية.

ويحصل من هذا التحقير للمال إبطال ثالث لما أسسوا عليه قولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] ، فهذه الجملة عطف على جملة (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [الزخرف : ٣٢].

والنّاس يحتمل أن يراد به جميع النّاس ، فيكون التعريف للاستغراق ، أي جميع البشر. والأمة : الجماعة من البشر المتميزة عن غيرها باتحاد في نسب أو دين أو حالة معرّف بها فمعنى أن يكون النّاس أمة واحدة يحتمل أن لو لا أن يصير البشر على دين واحد وهو الغالب عليهم يومئذ ، أي الكفر ونبذ الفكرة في الآخرة وعلى هذا تفسير ابن عباس والحسن وقتادة والسدي (١).

فالمعنى عليه : لو لا أن يصير النّاس كلّهم كفارا لخصصنا الكافرين بالمال والرفاهية وتركنا المسلمين لما ادّخرنا لهم من خيرات الآخرة ، فيحسب ضعفاء العقول أن للكفر أثرا في حصول المال جعله الله جزاء لمن سماهم بالكافرين فيتبعوا دين الكفر لتخيّلهم الملازمة بين سعادة العيش وبين الكفر ، وقد كان النّاس في الأجيال الأولى أصحاب أوهام وأغلاط يجعلون للمقارنة حكم التسبب فيؤول المعنى إلى : لو لا تجنب ما يفضي إلى عموم الكفر وانقراض الإيمان ، لجعلنا المال لأهل الكفر خاصة ، أي والله لا يحب انقراض الإيمان من النّاس ولم يقدّر اتحاد النّاس على ملة واحدة بقوله : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود : ١١٨ ، ١١٩] أي أن الله لطف بالعباد فعطّل ما يفضي بهم إلى اضمحلال الهدى من بينهم ، أي أبقى بينهم بصيصا من نور الهدى.

ويحتمل وهو الأولى عندي : أن يكون التعريف في (النَّاسُ) للعهد مرادا به بعض طوائف البشر وهم أهل مكة وجمهورهم على طريقة الاستغراق العرفي وعلى وزان قوله

__________________

(١) جمعناهم في هذا التأويل لأن مآل أقوالهم متقاربة.

٢٤٧

تعالى : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) [آل عمران : ١٧٣] ويكون المراد بكونهم أمّة واحدة اتحادهم في الثراء.

والمعنى : لو لا أن تصير أمة من الأمم أهل ثروة كلهم أي وذلك مخالف لما قدره الله من اشتمال كل بلد وكل قبيلة وكل أمة على أغنياء ومحاويج لإقامة نظام العمران واحتياج بعضهم لبعض ، هذا لماله ، وهذا لصناعته ، وآخر لمقدرة بدنه لجعلنا من يكفر بالرحمن وهم أهل مكة سواء في الثراء والرفاهية. وعلى كلا الاحتمالين يتلخص من المعنى أن الثراء والرفاهية لا يقيم المدبر الحكيم لهما وزنا فلا يمسكهما عن الناكبين عن طريق الحق والكمال ، فصار الكلام يقتضي مقدّرا محذوفا تقديره لكن لا يكون النّاس سواء في الغنى لأنّا لم نجعل ذلك لأنا قدرنا في نظام الكون البشري أن لا تكون أمة من الأمم أو قبيلة أو أهل بلدة أغنياء ليس فيهم محاويج لأنّه يفضي إلى انخرام نظام الاجتماع وارتفاع احتياج بعضهم لبعض فيهلك مجتمعهم ، والله أراد بقاءهم إلى أجل هم بالغوه.

ويرجح هذا جعل متعلق فعل (يَكْفُرُ) خصوص وصف الرحمن فإن مشركي مكة أنكروا وصف الرحمن (قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) [الفرقان : ٦٠] وقد تكرر التورّك عليهم بذلك في آي كثيرة.

ومعنى (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ) لقدّرنا في نظام المجتمع البشري أسباب الثراء متصلة بالكفر بالله بحيث يكون الكفر سببا ومجلبة للغنى ، ولو أراد الله ذلك لهيّأ له أسبابه في عقول النّاس وأساليب معاملاتهم المالية فدل هذا على أن الله منع أسباب تعميم الكفر في الأرض لطفا منه بالإيمان وأهله وإن كان لم يمنع وقوع كفر جزئي قليل أو كثير حفظا منه تعالى لناموس ترتيب المسببات على أسبابها. وهذا من تفاريع التفرقة بين الرضى والإرادة فلا يرضى لعباده الكفر ولو شاء ربّك ما فعلوه.

واللام في قوله : (لِبُيُوتِهِمْ) مثل اللام في قوله : (لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ) ، أي لجعلنا لبيوت من يكفر بالرحمن فيكون قوله (لِبُيُوتِهِمْ) بدل اشتمال ممّن يكفر بالرحمن. وإنما صرح بتكرير العامل للتوكيد كما فعلوا في البدل من المستفهم عنه في نحو : من ذا أسعيد أم علي؟ فقرنوا البدل بأداة استفهام ولم يقولوا : من ذا سعيد أم علي؟ وتقدم عند قوله تعالى : (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ) في سورة الأنعام [٩٩].

ونكتة هذا الإبدال تعليق المجرور ابتداء بفعل الجعل ثم الاهتمام بذكر من يكفر بالرحمن في هذا المقام المقصود منه قرنه مع مظاهر الغنى في قرن التحقير ، ثم يذكر ما

٢٤٨

يعزّ وجود أمثاله من الفضة والذهب ، وإذ قد كان الخبر كله مستغربا كان حقيقا بأن ينظم في أسلوب الإجمال ثم التفصيل.

وقرأ الجمهور (سُقُفاً) بضم السين وضم القاف جمع سقف بفتح السين وسكون القاف وهو : البناء الممتد على جدران البيت المغطّي فضاء البيت ، وتقدم عند قوله تعالى : (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) في سورة النحل [٢٦]. وهذا الجمع لا نظير له إلا رهن ورهن ولا ثالث لهما. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر سقفا بفتح السين وإسكان القاف على الإفراد. والمراد من المفرد الجنس بقرينة قوله (لِبُيُوتِهِمْ) كأنه قيل : لكل بيت سقف.

والزخرف : الزينة قال تعالى : (زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) في سورة الأنعام [١١٢] ، فيكون هنا عطفا على (سُقُفاً) جمعا لعديد المحاسن ، ويطلق على الذهب لأن الذهب يتزين به ، كقوله : (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) [الإسراء : ٩٣] ، فيكون (وَزُخْرُفاً) عطفا على (سُقُفاً) بتأويل : لجعلنا لهم ذهبا ، أي لكانت سقفهم ومعارجهم وأبوابهم من فضة وذهب منوعة لأن ذلك أبهج في تلوينها. وابتدئ بالفضة لأنها أكثر في التحليات وأجمل في اللّون ، وأخّر الذهب لأنه أندر في الحلي ، ولأن لفظه أسعد بالوقف لكون آخره تنوينا ينقلب في الوقف ألفا فيناسب امتداد الصوت وهو أفصح في الوقف.

ويجوز أن يكون لفظ (زُخْرُفاً) مستعملا في معنييه استعمال المشترك ، فلا يرد سؤال عن تخصيص السقف والمعارج بالفضة. و (مَعارِجَ) اسم جمع معراج ، وهو الدرج الذي يعرج به إلى العلالي.

ومعنى (يَظْهَرُونَ) : يعلون كما في قوله تعالى : (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) [الكهف : ٩٧] ، أي أن يتسوروه.

وسرر بضمتين : جمع سرير ، وتقدم عند قوله تعالى : (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) في سورة الصافات [٤٤] ، وفائدة وصفها بجملة (عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ) الإشارة إلى أنهم يعطون هذه البهرجة مع استعمالها في دعة العيش والخلو عن التعب. والمراد أن المعارج والأبواب والسّرر من فضة ، فحذف الوصف من المعطوفات لدلالة ما وصف المعطوف عليه.

وذيّل بقوله : (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي كل ما ذكر من السّقف والمعارج والأبواب والسرر من الفضة والذهب متاع الدنيا لا يعود على من أعطيه بالسعادة

٢٤٩

الأبدية وأما السعادة الأبدية فقد ادخرها الله للمتقين وليست كمثل البهارج والزينة الزائدة التي تصادف مختلف النفوس وتكثر لأهل النفوس الضئيلة الخسيسة وهذا كقوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) [آل عمران : ١٤].

وقرأ الجمهور (لَمَّا) بتخفيف الميم فتكون (إِنْ) التي قبلها مخففة من (إنّ) المشددة للتوكيد وتكون اللام الداخلة على (لَمَّا) اللام الفارقة بين (إن) النافية و (إن) المخففة و (ما) زائدة للتوكيد بين المضاف والمضاف إليه. وقرأ عاصم وحمزة وهشام عن ابن عامر (لَمَّا) بتشديد الميم فهي (لَمَّا) أخت (ألّا) المختصة بالوقوع في سياق النفي فتكون (إِنْ) نافية ، والتقدير : وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا.

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦))

ابتدئت السورة بالتنويه بالقرآن ووصفه بأنه ذكر وبيان للنّاس ، ووصف عناد المشركين في الصدّ عنه والإعراض ، وأعلموا بأن الله لا يترك تذكيرهم ومحاجّتهم لأنّ الله يدعو بالحق ويعد به.

وأطنب في وصف تناقض عقائدهم لعلهم يستيقظون من غشاوتهم ، وفي تنبيههم إلى دلائل حقّيّة ما يدعوهم إليه الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا القرآن ، وفضحت شبهاتهم بأنهم لا تعويل لهم إلا على ما كان عليه آباؤهم الأولون الضالّون ، وأنذروا باقتراب انتهاء تمتيعهم وإمهالهم ، وتقضى ذلك بمزيد البيان ، وأفضى الكلام إلى ما قالوه في القرآن ومن جاء به بقوله : (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ) إلى قوله (عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣٠ ، ٣١] ، وما ألحق به من التكملات ، عاد الكلام هنا إلى عواقب صرفهم عقولهم عن التدبر في الدعوة القرآنية فكان انصرافهم سببا لأن يسخر الله شياطين لهم تلازمهم فلا تزال تصرفهم عن النظر في الحق وأدلة الرشد. وهو تسخير اقتضاه نظام تولد الفروع من أصولها ، فلا يتعجب من عمى بصائرهم عن إدراك الحق البيّن ، وهذا من سنة الوجود في تولد الأشياء من عناصرها فالضلال ينمى ويتولد في النفوس ويتمكن منها مرة بعد مرة حتى يصير طبعا على القلب وأكنّة فيه وختما عليه ولا يضعف عمل الشيطان إلا بتكرر الدعوة إلى الحق وبالزجر والإنذار ، فمن زناد التذكير تنقدح شرارات نور فربّما أضاءت فصادفت قوة نور

٢٥٠

الحق حالة وهن الشيطان فتتغلب القوة الملكية على القوة الشيطانية فيفيق صاحبها من نومة ضلاله. وقد أشار إلى ذلك قوله : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) [الزخرف : ٥] كما تقدم هنالك ، ولو لا ذلك لما ارعوى ضالّ عن ضلاله ولما نفع إرشاد المرشدين في نفوس المخاطبين.

فجملة (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) عطف على جملة (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ) [الزخرف : ٣٠] الآية.

فجملة (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) تمثيل لحالهم في إظهارهم عدم فهم القرآن كقولهم : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) [فصلت : ٥] بحال من يعشو عن الشيء الظاهر للبصر.

و (يَعْشُ) : مضارع عشا كغزا عشوا بالواو ، إذا نظر إلى الشيء نظرا غير ثابت يشبه نظر الأعشى ، وأما العشا بفتح العين والشين فهو اسم ضعف العين عن رؤية الأشياء ، يقال : عشي بالياء مثل عرج إذا كانت في بصره آفة العشا ومصدره عشى بفتح العين والقصر مثل العرج. والفعل واوي عشا يعشو ، ويقال عشي يعشى إذا صار العشا له آفة لأن أفعال الأدواء تأتي كثيرا على فعل بكسر العين مثل مرض. وعشي ياؤه منقلبة عن واو لأجل كسرة صيغة الأدواء.

فمعنى (وَمَنْ يَعْشُ) من ينظر نظرا غير متمكن في القرآن ، أي من لا حظّ له إلا سماع كلمات القرآن دون تدبر وقصد للانتفاع بمعانيه ، فشبه سماع القرآن مع عدم الانتفاع به بنظر الناظر دون تأمل.

وعدي (يَعْشُ) ب (عَنْ) المفيدة للمجاوزة لأنه ضمن معنى الإعراض عن ذكر الرحمن وإلا فإن حقّ عشا أن يعدّى ب (إلى) كما قال الحطيئة :

متى تأته تعشه إلى ضوء ناره

تجد خير نار عندها خير موقد

ولا يقال : عشوت عن النّار إلا بمثل التضمين الذي في هاته الآية. فتفسير من فسّر (يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) بمعنى يعرض : أراد تحصيل المعنى باعتبار التعدية ب (عَنْ) ، وإنكار من أنكر وجود (عشا) بمعنى أعرض أراد إنكار أن يكون معنى أصليا لفعل (عشا) وظن أن تفسيره بالإعراض تفسير لمعنى الفعل وليس تفسيرا للتعدية ب (عَنْ) فالخلاف بين الفريقين لفظي.

٢٥١

و (ذِكْرِ الرَّحْمنِ) هو القرآن المعبر عنه بالذكر في قوله : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) [الزخرف : ٥]. وإضافته إلى (الرَّحْمنِ) إضافة تشريف وهذا ثناء خامس على القرآن.

والتقييض : الإتاحة وتهيئة شيء لملازمة شيء لعمل حتى يتمه ، وهو مشتق من اسم جامد وهو قيض البيضة ، أي القشر المحيط بما في داخل البيضة من المحّ لأن القيض يلازم البيضة فلا يفارقها حتى يخرج منها الفرخ فيتم ما أتيح له القيض.

فصيغة التفعيل للجعل مثل طيّن الجدار : ومثل أزره ، أي ألبسه الإزار ، ودرّعوا الجارية ، أي ألبسوها الدرع. وأصله هنا تشبيه أي نجعله كالقيض له ، ثم شاع حتى صار معنى مستقلا ، وقد تقدم في قوله تعالى : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ) في سورة فصّلت [٢٥] فضمّ إليه ما هنا. وأتى الضمير في (لَهُ) مفردا لأن لكل واحد ممن تحقق فيهم الشرط شيطانا وليس لجميعهم شيطان واحد ولذلك سيجيء في قوله : (قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) [الزخرف : ٣٨] بالإفراد ، أي قال كل من له قرين لقرينه.

ولم يذكر متعلق فعل (نُقَيِّضْ) اكتفاء بدلالة مفعوله وهو (شَيْطاناً) فعلم منه أنه مقيض لإضلاله ، أي هم أعرضوا عن القرآن لوسوسة الشيطان لهم.

وفرع عن (نُقَيِّضْ) قوله : (فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) لأن التقيض كان لأجل مقارنته.

ومن الفوائد التي جرت في تفسير هذه الآية ما ذكره صاحب «نيل الابتهاج بتطريز الديباج» في ترجمة الحفيد محمد بن أحمد بن محمد الشهير بابن مرزوق قال : قال صاحب الترجمة : حضرت مجلس شيخنا ابن عرفة أول مجلس حضرته فقرأ (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) فقال : قرئ يعشو بالرفع و (نُقَيِّضْ) بالجزم (١). ووجهها أبو حيان بكلام ما فهمته. وذكر أن في النسخة خللا وذكر بعض ذلك الكلام. فاهتديت إلى تمامه وقلت : يا سيدي معنى ما ذكر أن جزم (نُقَيِّضْ) ب (مَنْ) الموصولة لشبهها بالشرطية لما تضمّنها من معنى الشرط وإذا كانوا يعاملون الموصول الذي لا يشبه لفظ الشرط بذلك فما يشبه لفظه لفظ الشرط أولى بتلك المعاملة. فوافق وفرح لما أن الإنصاف كان طبعه. وعند ذلك أنكر عليّ جماعة من أهل المجلس وطالبوني بإثبات معاملة الموصول معاملة الشرط فقلت : نصهم على دخول الفاء في خبر الموصول في نحو : الذي يأتيني فله درهم ،

__________________

(١) هذه القراءة تنسب إلى زيد بن علي إمام الزيدية.

٢٥٢

فنازعوني في ذلك وكنت حديث عهد بحفظ التسهيل فقلت : قال ابن مالك فيما يشبه المسألة «وقد يجزمه مسبب عن صلة الذي تشبيها بجواب الشرط وأنشدت من شواهد المسألة قول الشاعر :

كذاك الذي يبغي على النّاس ظالما

تصبه على رغم عواقب ما صنع

فجاء الشاهد موافقا للحال. قال : وكنت في طرف الحلقة ، فصاح ابن عرفة وقال : يا أخي ما بغينا ، لعلك ابن مرزوق؟ فقلت : عبدكم» انتهى من «اغتنام الفرصة». ا ه.

وجيء بالجملة المفرعة جملة اسمية للدلالة على الدوام ، أي فكان قرينا مقارنة ثابتة دائمة ، ولذلك لم يقل : نقيّض له شيطانا قرينا له. وقدم الجار والمجرور على متعلّقه في قوله : (لَهُ قَرِينٌ) للاهتمام بضمير (مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) أي قرين له مقارنة تامة.

وقرأ الجمهور (نُقَيِّضْ) بنون العظمة. وقرأ يعقوب بياء الغائب عائدا ضميره على (الرَّحْمنِ).

(وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧))

في موضع الحال من الضمير في قوله (فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف : ٣٦] أي مقارنة صد عن السبيل.

وضميرا (إِنَّهُمْ) و (يصدون) عائدان إلى (شَيْطاناً) [الزخرف : ٣٦] لأنه لما وقع من متعلقات الفعل الواقع جواب شرط اكتسب العموم تبعا لعموم (مَنْ) في سياق الشرط فإنها من صيغ العموم مثل النكرة الواقعة في سياق الشرط على خلاف بين أئمة أصول الفقه في عموم النكرة الواقعة في سياق الشرط ولكنه لا يجري هنا لأن عموم (شَيْطاناً) تابع لعموم (مَنْ) إذ أجزاء جواب الشرط تجري على حكم أجزاء جملة الشرط ، فقرينة عموم النكرة هنا لا تترك مجالا للتردد فيه لأجل القرينة لا لمطلق وقوع النكرة في سياق الشرط.

وضمير النصب في (يصدونهم) عائد إلى (مَنْ) لأنّ (مَنْ) الشرطية عامة فكأنه قيل : كلّ من يعشو عن ذكر الرحمن نقيّض لهم شياطين لكل واحد شيطان.

وضميرا (يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) عائدان إلى ما عاد إليه ضمير النصب من (يصدونهم) ، أي ويحسب المصدودون عن السبيل أنفسهم مهتدين.

وقد تتشابه الضمائر فتردّ القرينة كل ضمير إلى معاده كما في قول عباس بن مرداس :

٢٥٣

عدنا ولو لا نحن أحدق جمعهم

بالمسلمين وأحرزوا ما جمّعوا

فضمير : أحرزوا ، لجمع المشركين ، وضمير : جمعوا ، للمسلمين. وضمير الجمع في قوله تعالى : (وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) في سورة الروم [٩].

والتعريف في (السَّبِيلِ) تعريف الجنس. والسبيل : الطريق السابلة الممتدة الموصلة إلى المطلوب. وقد مثلت حالة الذين يعشون عن ذكر الرحمن وحال مقارنة الشياطين لهم بحال من استهدى قوما ليدلّوه على طريق موصل لبغيته فضللوه وصرفوه عن السبيل وأسلكوه في فيافي التيه غشّا وخديعة ، وهو يحسب أنه سائر إلى حيث يبلغ طلبته.

فجملة (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) معطوفة على جملة (وَإِنَّهُمْ) ، فهي في معنى الحال من الضمير في قوله (فَهُوَ) [الزخرف : ٣٦] والرابط واو الحال ، والتقدير : ويحسب المصدودون أنهم مهتدون بهم إلى السبيل.

والاهتداء : العلم بالطريق الموصل إلى المقصود.

(حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨))

(حَتَّى) ابتدائية ، وهي تفيد التسبب الذي هو غاية مجازية. فاستعمال (حَتَّى) فيه استعارة تبعية. وليست في الآية دلالة على دوام الصد عن السبيل وحسبان الآخرين الاهتداء إلى فناء القرينين ، إذ قد يؤمن الكافر فينقطع الصدّ والحسبان فلا تغتر بتوهم من يزعمون أن الغاية الحقيقية لا تفارق (حَتَّى) في جميع استعمالاتها.

وقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر جاءانا بألف ضمير المثنى عائدا على من يعش عن ذكر الرحمن وقرينه ، أي شيطانه ، وأفرد ضمير (قالَ) لرجوعه إلى من يعش عن ذكر الرحمن خاصة ، أي قال الكافر متندما على ما فرط من اتّباعه إياه وائتماره بأمره. وقرأ الجمهور (جاءَنا) بصيغة المفرد والضمير المستتر في (قالَ) عائد إلى (مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) [الزخرف : ٣٦] ، أي قال أحدهما وهو الذي يعشو. والمعنى على القراءتين واحد لأن قراءة التثنية صريحة في مجيء الشيطان مع قرينه الكافر وأن المتندم هو الكافر ، والقراءة بالإفراد متضمنة مجيء الشيطان من قوله : (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) إذ علم أن شيطانه القرين حاضر من خطاب الآخر إياه بقوله : (وَبَيْنَكَ). وحرف (يا) أصله للنداء ، ويستعمل للتلهف كثيرا كما في قوله (يا حَسْرَةً) [يس : ٣٠] وهو هنا للتلهف والتندم.

٢٥٤

والمشرقان : المشرق والمغرب ، غلب اسم المشرق لأنه أكثر خطورا بالأذهان لتشوف النفوس إلى إشراق الشمس بعد الإظلام.

والمراد بالمشرق والمغرب : إما مكان شروق الشمس وغروبها في الأفق ، وإما الجهة من الأرض التي تبدو الشمس منها عند شروقها وتغيب منها عند غروبها فيما يلوح لطائفة من سكان الأرض. وعلى الاحتمالين فهو مثل لشدة البعد. وأضيف (بُعْدَ) إلى (الْمَشْرِقَيْنِ) بالتثنية بتقدير : بعد لهما ، أي مختص بهما بتأويل البعد بالتباعد وهو إيجاز بديع حصل من صيغة التغليب ومن الإضافة. ومساواته أن يقال بعد المشرق من المغرب والمغرب من المشرق فنابت كلمة (الْمَشْرِقَيْنِ) عن ست كلمات.

وقوله (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) ، بعد أن تمنى مفارقته فرّع عليه ذمّا فالكافر يذم شيطانه الذي كان قرينا ، ويعرّض بذلك للتفصّي من المؤاخذة ، وإلقاء التبعة على الشيطان الذي أضلّه.

والمقصود من حكاية هذا تفظيع عواقب هذه المقارنة التي كانت شغف المتقارنين ، وكذلك شأن كل مقارنة على عمل سيئ العاقبة. وهذا من قبل قوله تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف : ٦٧]. والمقصود تحذير النّاس من قرين السوء وذم الشياطين ليعافهم النّاس كقوله : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) [فاطر : ٦].

(وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩))

الظاهر أن هذه الجملة معطوفة على جملة (قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) [الزخرف : ٣٨] وأن قولا محذوفا دلّ عليه فعل (جاءَنا) [الزخرف : ٣٨] الدال على أن الفريقين حضرا للحساب وتلك الحضرة تؤذن بالمقاولة فإن الفريقين لما حضرا وتبرأ أحدهما من الآخر قصدا للتفصي من المؤاخذة كما تقدمت الإشارة إليه آنفا فيقول الله ولن ينفعكم اليوم أنكم في العذاب مشتركون. والخطاب موجه للذين عشوا عن ذكر الرحمن ولشياطينهم.

وفي هذا الكلام إشارة إلى كلام مطوي ، والتقدير : لا تلقوا التبعة على القرناء فأنتم مؤاخذون بطاعتهم وهم مؤاخذون بإضلالكم وأنتم مشتركون في العذاب ولن ينفعكم أنكم في العذاب مشتركون لأن عذاب فريق لا يخفف عن فريق كما قال تعالى : (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ٣٨].

ووقوع فعل (يَنْفَعَكُمُ) في سياق النفي يدل على نفي أن يكون الاشتراك في العذاب

٢٥٥

نافعا بحال لأنه لا يخفف عن الشريك من عذابه. وأما ما يتعارفه النّاس من تسلّي أحد برؤية مثله ممّن مني بمصيبة فذلك من أوهام البشر في الحياة الدّنيا ، ولعلّ الله جعل لهم ذلك رحمة بهم في الدّنيا ، وأما الآخرة فعالم الحقائق دون الأوهام. وفي هذا التوهم جاء قول الخنساء :

ولو لا كثرة الباكين حولي

على إخوانهم لقتلت نفسي

وقرأ الجمهور (أَنَّكُمْ) بفتح همزة (أنّ) على جعل المصدر فاعلا. وقرأ ابن عامر إنكم بكسر الهمزة على الاستئناف ويكون الوقف عند قوله : (إِذْ ظَلَمْتُمْ) وفاعل (يَنْفَعَكُمُ) ضمير عائد على التمني بقولهم : (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) [الزخرف : ٣٨] ، أي لن ينفعكم تمنّيكم ولا تفصّيكم.

و (إِذْ) أصله ظرف مبهم للزمن الماضي تفسره الجملة التي يضاف هو إليها ويخرج عن الظرفية إلى ما يقاربها بتوسع أو إلى ما يشابهها بالمجاز. وهو التعليل ، وهي هنا مجاز في معنى التعليل ، شبهت علة الشيء وسببه بالظرف في اللزوم له. وقد ذكر في «مغني اللبيب» معنى التعليل من معاني (إِذْ) ولم ينسبه لأحد من أئمة النحو واللّغة. وجوز الزمخشري أن تكون (إِذْ) بدلا من (الْيَوْمَ) ، وتأويل الكلام على جعل فعل (ظَلَمْتُمْ) بمعنى : تبيّن أنكم ظلمتم ، أي واستعمل الإخبار بمعنى التبيّن ، كقول زائد بن صعصعة الفقعسي :

إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة

ولم تجدي من أن تقرّي به بدّا

أي تبين أن لم تلدني لئيمة ، وتبعه ابن الحاجب في أماليه وقال ابن جني : راجعت أبا علي مرارا في قوله تعالى : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ) الآية مستشكلا إبدال (إِذْ) من (الْيَوْمَ) فآخر ما تحصل منه أن الدنيا والآخرة سواء في حكم الله وعلمه فكأنّ (الْيَوْمَ) ماض أو كأن (إِذْ) مستقبلة ا ه. وهو جواب وهن مدخول.

وأقول : اجتمع في هذه الآية دوال على ثلاثة أزمنة وهي (لَنْ) لنفي المستقبل ، و (الْيَوْمَ) اسم لزمن الحال ، و (إِذْ) اسم لزمن المضيّ ، وثلاثتها منوطة بفعل (يَنْفَعَكُمُ) ومقتضياتها ينافي بعضها بعضا ، فالنفي في المستقبل ينافي التقييد ب (الْيَوْمَ) الذي هو للحال ، و (إِذْ) ينافي نفي النفع في المستقبل وينافي التقييد ب (الْيَوْمَ) فتصدى الزمخشري وغيره لدفع التنافي بين مقتضى (إِذْ) ومقتضى (الْيَوْمَ) بتأويل معنى (إِذْ) كما علمت ، ولم يتصد هو ولا غيره لدفع التنافي بين مقتضى (الْيَوْمَ) الدال على زمن الحال وبين

٢٥٦

مقتضى (لَنْ) وهو حصول النفي في الاستقبال. وأنا أرى لدفعه أن يكون (الْيَوْمَ) ظرفا للحكم والإخبار ، أي تقرر اليوم انتفاء انتفاعكم بالاشتراك في العذاب انتفاء مؤبّدا من الآن ، كقول مقدام الدبيري :

لن يخلص العام خليل عشرا

ذاق الضماد أو يزور القبرا

وقد حصل من اجتماع هذه الدوالّ الثلاث في الآية طباق عزيز بين ثلاثة معان متضادة في الجملة.

(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠))

تفريع على جملة (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً) [الزخرف : ٣٦] لأن ذلك أفاد توغّلهم في الضلالة وعسر انفكاكهم عنها ، لأن مقارنة الشياطين لهم تقتضي ذلك ، فانتقل منه إلى التهوين على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يلاقيه من الكدّ والتحرق عليهم في تصميمهم على الكفر والغيّ وفيه إيماء إلى تأييس من اهتداء أكثرهم.

والاستفهام لإنكار أن يكون حرص الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على هداهم ناجعا فيهم إذا كان الله قدّر ضلالهم فأوجد أسبابه ، قال تعالى : (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) [النحل : ٣٧] ، ولما كان حال الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في معاودة دعوتهم كحال من يظنّ أنه قادر على إيصال التذكير إلى قلوبهم نزّل منزلة من يظن ذلك فخوطب باستفهام الإنكار وسلط الاستفهام على كلام فيه طريق قصر بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي مع إيلاء الضمير حرف الإنكار وهو قصر مؤكد وقصر قلب ، أي أنت لا تسمعهم ولا تهديهم بل الله يسمعهم ويهديهم إن شاء ، وهو نظير (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس: ٩٩].

ومن بديع معنى الآية أن الله وصف حال إعراضهم عن الذكر بالعشا ، وهو النظر الذي لا يتبين شبح الشيء المنظور إليه ثم وصفهم هنا بالصمّ العمي إشارة إن التمحل للضلال ومحاولة تأييده ينقلب بصاحبه إلى أشد الضلال لا أن التخلق يأتي دونه الخلق والأحوال تنقلب ملكات. وهو معنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يزال العبد يكذب حتى يكتب عند الله كذّابا» أي حتى يحق عليه أن الكذب ملكة له ، وإذ قد كان إعراضهم انصرافا عن استماع القرآن وعن النظر في الآيات كان حالهم يشبه حال الصمّ العمي كما مهد لذلك بقوله : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) [الزخرف : ٣٦] كما ذكرناه هنالك ، فظهرت

٢٥٧

المناسبة بين وصفهم بالعشا وبين ما في هذا الانتقال لوصفهم بالصمّ العمي.

وعطف (وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) فيه معنى التذييل لأنه أعم من كل من الصمّ والعمي باعتبار انفرادهما ، وباعتبار أن الصّمم والعمى لما كانا مجازين قد يكون تعلقهما بالمسموع والمبصر جزئيا في حالة خاصة فكان الوصف بالكون في الضلال المبين تنبيها على عموم الأحوال وهو مع ذلك ترشيح للاستعارة لأن اجتماع الصمم والعمى أبين ضلالا.

[٤١ ، ٤٢] (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢))

تفريع على جملة (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ) [الزخرف : ٤٠] إلى آخرها المتضمنة إيماء إلى التأييس من اهتدائهم ، والصريحة في تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شدة الحرص في دعوتهم ، فجاء هنا تحقيق وعد بالانتقام منهم ، ومعناه : الوعد بإظهار الدين إن كان في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بعد وفاته ، ووعيدهم بالعقاب في الدّنيا قبل عقاب الآخرة ، فلأجل الوفاء بهذين الغرضين ذكر في هذه الجملة أمران : الانتقام منهم لا محالة ، وكون ذلك واقعا في حياة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بعد وفاته. والمفرّع هو (فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) وما ذكر معه ، فمراد منه تحقق ذلك على كل تقدير.

و (إما) كلمتان متصلتان أصلهما (إن) الشرطية و (ما) زائدة بعد (إن) ، وأدغمت نون (إن) في الميم من حرف (ما) ، وزيادة (ما) للتأكيد ، ويكثر اتصال فعل الشرط بعد (إن) المزيدة بعدها (ما) بنون التوكيد زيادة في التأكيد ، ويكتبونها بهمزة وميم وألف تبعا لحالة النطق بها.

والذهاب به هنا مستعمل للتوفي بقرينة قوله : (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ) لأن الموت مفارقة للأحياء فالإماتة كالانتقال به ، أي تغييبه ولذلك يعبر عن الموت بالانتقال. والمعنى : فإما نتوفينك فإنا منهم منتقمون بعد وفاتك. وقد استعمل (مُنْتَقِمُونَ) للزمان المستقبل استعمال اسم الفاعل في الاستقبال ، وهو مجاز شائع مساو للحقيقة والقرينة قوله : (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ).

والمراد ب (الَّذِي وَعَدْناهُمْ) الانتقام المأخوذ من قوله : (فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ). وقد أراه الله تعالى الانتقام منهم بقتل صناديدهم يوم بدر ، قال تعالى : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ

٢٥٨

الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) [الدخان : ١٦] والبطشة هي بطشة بدر.

وجملة (فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) جواب الشرط ، واقترن بالفاء لأنه جملة اسمية ، وإنما صيغ كذلك للدلالة على ثبات الانتقام ودوامه ، وأما جملة (فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) فهي دليل جواب جملة (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ) المعطوفة على جملة الشرط لأن اقتدار الله عليهم لا يناسب أن يكون معلّقا على إراءته الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الانتقام منهم ، فالجواب محذوف لا محالة لقصد التهويل. وتقديره : أو إمّا نرينّك الذي وعدناهم ، وهو الانتقام تر انتقاما لا يفلتون منه فإنا عليهم مقتدرون ، أي مقتدرون الآن فاسم الفاعل مستعمل في زمان الحال وهو حقيقته.

ولا يستقيم أن تكون جملة (فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) دليلا على الجواب المحذوف لأنه يصيّر : أو إما نرينّك الانتقام منهم فإنا منهم منتقمون. وتقديم المجرورين (مِنْهُمْ) و (عَلَيْهِمْ) على متعلقيهما للاهتمام بهم في التمكن بالانتقام والاقتدار عليهم.

والوعد هنا بمعنى الوعيد بقرينة قوله قبله (فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) فإنّ الوعد إذا ذكر مفعوله صحّ إطلاقه على الخير والشر ، وإذا لم يذكر مفعوله انصرف للخير وأما الوعيد فهو للشر دائما.

والاقتدار : شدة القدرة ، واقتدر أبلغ من قدر. وقد غفل صاحب «القاموس» عن التنبيه عليه. وقد اشتمل هذان الشرطان وجواباهما على خمسة مؤكدات وهي (ما) الزائدة ، ونون التوكيد ، وحرف (إنّ) للتوكيد ، والجملة الاسمية ، وتقديم المعمول على (مُنْتَقِمُونَ).

وفائدة الترديد في هذا الشرط تعميم الحالين حال حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحال وفاته. والمقصود : وقت ذينك الحالين لأن المقصود توقيت الانتقام منهم.

والمعنى : أننا منتقمون منهم في الدّنيا سواء كنت حيّا أو بعد موتك ، أي فالانتقام منهم من شأننا وليس من شأنك لأنه من أجل إعراضهم عن أمرنا وديننا ، ولعله لدفع استبطاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو المسلمين تأخير الانتقام من المشركين ولأن المشركين كانوا يتربصون بالنبيء الموت فيستريحوا من دعوته فأعلمه الله أنه لا يفلتهم من الانتقام على تقدير موته وقد حكى الله عنهم قولهم : (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور : ٣٠] ففي هذا الوعيد إلقاء الرعب في قلوبهم لما يسمعونه.

٢٥٩

(فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣))

لما هوّن الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يلاقيه من شدة الحرص على إيمانهم ووعده النصر عليهم فرّع على ذلك أن أمره بالثبات على دينه وكتابه وأن لا يخور عزمه في الدعوة ضجرا من تصلبهم في كفرهم ونفورهم من الحق.

والاستمساك : شدة المسك ، فالسين والتاء فيه للتأكيد. والأمر به مستعمل في طلب الدوام ، لأنّ الأمر بفعل لمن هو متلبس به لا يكون لطلب الفعل بل لمعنى آخر وهو هنا طلب الثبات على التمسك بما أوحي إليه كما دلّ عليه قوله : (إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهذا كما يدعى للعزيز المكرم ، فيقال : أعزك الله وأكرمك ، أي أدام ذلك وقوله : أحياك الله ، أي أطال حياتك ، ومنه قوله تعالى في تعليم الدعاء (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة : ٦].

والذي أوحي إليه هو القرآن. وجملة (إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) تأييد لطلب الاستمساك بالذي أوحي إليه وتعليل له.

والصراط المستقيم : هو العمل بالذي أوحي إليه ، فكأنه قيل : إنّه صراط مستقيم ، ولكن عدل عن ذلك إلى (إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ليفيد أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم راسخ في الاهتداء إلى مراد الله تعالى كما يتمكن السائر من طريق مستقيم لا يشوبه في سيره تردّد في سلوكه ولا خشية الضلال في بنياته. ومثله قوله تعالى : (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) في سورة النمل [٧٩].

وحرف (عَلى) للاستعلاء المجازي المراد به التمكن كقوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥]. وهذا تثبيت للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وثناء عليه بأنه ما زاغ قيد أنملة عمّا بعثه الله به ، كقوله : (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) ويتبعه تثبيت المؤمنين على إيمانهم. وهذا أيضا ثناء سادس على القرآن.

(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤))

ذكر حظ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الثناء والتأييد في قوله : (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الزخرف : ٤٣] المجعول علة للأمر بالثبات عليه ، ثم عطف عليه تعليل آخر اشتمل على ذكر حظ

٢٦٠