تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

القصر ، أي لا عليّ ولا عظيم غيره لأن من عداه لا يخلو عن افتقار إليه فلا علوّ له ولا عظمة. وهذا قصر قلب ، أي دون آلهتكم فلا علو لها كما تزعمون. قال أبو سفيان : اعل هبل.

وتقدم معنى هاتين الجملتين في خلال آية الكرسي من سورة البقرة.

(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥))

(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ).

جملة مستأنفة مقررة لمعنى جملة (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [الشورى : ٤] ولذلك لم تعطف عليها ، أي يكاد السماوات على عظمتهن يتشققن من شدّة تسخرهن فيما يسخرهن الله له من عمل لا يخالف ما قدّره الله لهنّ ، وأيضا قد قيل : إن المعنى : يكاد السماوات يتفطرن من كثرة ما فيهن من الملائكة والكواكب وتصاريف الأقدار ، فيكون في معنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أطّت السماء وبحقها أن تئطّ. والذي نفس محمّد بيده ما فيها موضع شبر إلا فيه جبهة ملك ساجد يسبح الله بحمده» (١) ويرجّحه تعقيبه بقوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) كما سيأتي.

وقرأ نافع وحده والكسائي يكاد بتحتية في أوّله. وقرأه الباقون بفوقية وهما وجهان جائزان في الفعل المسند إلى جمع غير المذكر السالم وخاصة مع عدم التأنيث الحقيقي. وتقدم في سورة مريم [٩٠] قوله : يكاد (السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ).

وقرأ الجمهور (يَتَفَطَّرْنَ) بتحتية ثم فوقية وأصله مضارع التفطر ، وهو مطاوع التفطير الذي هو تكرير الشقّ. وقرأه أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب بتحتيّة ثم نون وهو مضارع : انفطر ، مطاوع الفطر مصدر فطر الثلاثي ، إذا شقّ ، وليس المقصود منه على القراءتين قبول أثر الفاعل إذ لا فاعل هنا للشقّ وإنّما المقصود الخبر بحصول الفعل ، وهذا كثير ، كقولهم : انشقّ ضوء الفجر ، فلا التفات هنا لما يقصد غالبا في مادة التفعل من تكرير الفعل إذ لا فاعل للشقّ هنا ولا لتكرره ، فاستوت القراءتان في باب البلاغة ، على أنّ استعمال صيغ المطاوعة في اللّغة ذو أنحاء كثيرة واعتبارات كما نبه عليه كلام الرضيّ

__________________

(١) أخرجه ابن مردويه عن أنس وهو حديث حسن.

١٠١

في «شرح الشافية».

وقوله : (مِنْ فَوْقِهِنَ) يجوز أن يكون ضمير (فَوْقِهِنَ) عائدا على (السَّماواتُ) ، فيكون المجرور متعلقا بفعل (يَتَفَطَّرْنَ) بمعنى : أن انشقاقهن يحصل من أعلاهنّ ، وذلك أبلغ الانشقاق لأنه إذا انشقّ أعلاهن كان انشقاق ما دونه أولى ، كما قيل في قوله تعالى : (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) كما تقدم في سورة البقرة [٢٥٩] وفي سورة الحج [٤٥]. وتكون (مِنْ) ابتدائيّة.

ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى (الْأَرْضِ) من قوله تعالى : (وَما فِي الْأَرْضِ) [الشورى : ٤] على تأويل الأرض بأرضين باعتبار أجزاء الكرة الأرضية أو بتأويل الأرض بسكانها من باب (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢].

وتكون (مِنْ) زائدة زيادتها مع الظروف لتأكيد الفوقية ، فيفيد الظرف استحضار حالة التفطر وحالة موقعه ، وقد شبه انشقاق السماء بانشقاق الوردة في قوله تعالى : (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) [الرحمن : ٣٧]. والوردة تنشق من أعلاها حين ينفتح برعومها فيوشك إن هن تفطّرن أن يخررن على الأرض ، أي يكاد يقع ذلك لما فشا في الأرض من إشراك وفساد على معنى قوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) يكاد (السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) [مريم : ٨٨ ـ ٩٠] ويرجحه قوله الآتي : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) [الشورى : ٦]. وعن ابن عباس يكاد (السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ) من قول المشركين (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) [البقرة : ١١٦].

(وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

جملة عطفت على جملة يكاد (السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ) لإفادتها تقرير معنى عظمة الله تعالى وجلاله المدلول عليهما بقوله : (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [الشورى : ٤].

مرتبة واجب الوجود سبحانه وهو أهل التنزيه والحمد ومرتبة الروحانيات وهي الملائكة وهي واسطة المتصرف القدير ومفيض الخير في تنفيذ أمره من تكوين وهدى وإفاضة خير على النّاس ، فهي حين تتلقى من الله أوامره تسبّحه وتحمده ، وحين تفيض خيرات ربّها على عباده تستغفر للذين يتقبلونها تقبل العبيد المؤمنين بربّهم ، وتلك إشارة إلى حصول ثمرات إبلاغها ، وذلك بتأثيرها في نظم أحوال العالم الإنساني. ومرتبة البشرية المفضلة بالعقل إذ أكمله الإيمان وهي المراد ب (من في الأرض).

١٠٢

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦))

جملة معطوفة على جملة (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [الشورى : ٤] بعد أن أفيد ما هو كالحجة على أن لله ما في السماوات وما في الأرض من قوله (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) يكاد السماوات [الشورى : ٤ ، ٥] الآيتين. فالمعنى : قد نهضت حجة انفراده تعالى بالعزة والحكمة والعلوّ والعظمة وعلمها المؤمنون فاستغفرت لهم الملائكة. وأما الذين لم يبصروا تلك الحجة وعميت عليهم الأدلة فلا تهتمّ بشأنهم فإن الله حسبهم وما أنت عليهم بوكيل. فهذا تسكين لحزن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أجل عدم إيمانهم بوحدانية الله تعالى.

وهذه مقدّمة لما سيأمر به الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الدعوة ابتداء من قوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) [الشورى : ٧] الآية ، ثم قوله : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) [الشورى : ١٣] الآيات ، ثم قوله : (فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ) [الشورى : ١٥] ، وقوله : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) [الشورى : ٢٣] الآية.

وقوله : (الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) مبتدأ وجملة (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) خبر عن (الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ).

والحفيظ : فعيل بمعنى فاعل ، أي حافظ ، وتختلف معانيه ومرجعها إلى رعاية الشيء والعناية به : ويكثر أن يستعمل كناية عن مراقبة أحوال المرقوب وأعماله ، وباختلاف معانيه تختلف تعديته بنفسه أو بحرف جرّ يناسب المعنى ، وقد عدّي هنا بحرف (على) كما يعدّى الوكيل لأنه بمعناه.

والوكيل فعيل بمعنى مفعول وهو الموكول إليه عمل في شيء أو اقتضاء حق. يقال : وكله على كذا ، ومنه الوكالة في التصرفات المالية والمخاصمة ، ويكثر أن يستعمل كناية عن مراقبة أحوال الموكّل عليه وأعماله. وقد استعمل (حَفِيظٌ) و (وكيل) هنا في استعمالهما الكنائي عن متقارب المعنى فلذلك قد يفسر أهل اللّغة أحد هذين اللفظين بما يقرب من تفسير اللّفظ الآخر كتفسير المرادف بمرادفه ، وذلك تسامح. فعلى من يريد التفرقة بين اللّفظين أن يرجع بهما إلى أصل مادتي (حفظ) و (وكل) ، فمادة (حفظ) تقتضي قيام الحدث بفاعل وتعديته إلى مفعول ، ومادة (وكل) تقتضي قيام الحدث بفاعل وتعديته إلى مفعول وتجاوزه من ذلك المفعول إلى شيء آخر هو متعلق به ، وبذلك كان فعل (حفظ) مفيدا بمجرد ذكر فاعله ومفعوله دون احتياج إلى متعلّق آخر ، بخلاف فعل (وكل)

١٠٣

فإفادته متوقفة على ذكر أو على تقدير ما يدل على شيء آخر زائد على المفعول ومن علائقه ، فلذلك أوثر وصف (حَفِيظٌ) هنا بالإسناد إلى اسم الجلالة لأن الله جلّ عن أن يكلفه غيره حفظ شيء فهو فاعل الحفظ ، وأوثر وصف (وكيل) بالإسناد إلى ضمير النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن المقصود أن الله لم يكلفه بأكثر من التبليغ ، والمعنى : الله رقيب عليهم لا أنت وما أنت بموكل من الله على جبرهم على الإيمان. وفي معناه قوله في آخر هذه السورة (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) [الشورى : ٤٨].

وأيضا هي كالبيان لما في جملة يكاد (السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ) [الشورى : ٥] لأنّ من أسباب مقاربة تفطرهن كثرة ما فيهن من الملائكة. ولو لا أنّها أريد منها زيادة تقرير معنى جملة (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [الشورى : ٤] لكانت جديرة بأن تفصل ولكن رجح العطف لأجل الاهتمام بتقرير العلوّ والعظمة لله تعالى. وأما التبيين فيحصل بمجرد تعقيب جملة يكاد (السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ) بها كما علمته آنفا.

فقوله : (الْمَلائِكَةُ) [الشورى : ٥] مبتدأ وجملة (يُسَبِّحُونَ) [الشورى : ٥] خبر والمقصود الإعلام بجلال الله.

وتسبيح الملائكة بحمد الله : خضوع لعظمته وعلوه ، والتسبيح : التنزيه عن النقائص.

فتسبيح الملائكة قد يكون عبارة عن إدراكهم عظمة الله تعالى فهو : انفعال روحاني كقوله تعالى : (اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) [الأعراف : ٢٠٥] ، وقد يكون دلالة على التنزيه بما يناسب الملائكة من ظواهر الانفعال بالطاعة أو من كلام مناسب للحالة الملكية وكذلك حمدهم ربّهم واستغفارهم لمن في الأرض.

ومفعول (يُسَبِّحُونَ) محذوف دلّ عليه مصاحبته (بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) [الشورى : ٥] تقديره : يسبحون ربّهم ، والباء للمصاحبة ، أي يسبحون تسبيحا مصاحبا لحمدهم ربّهم ، أي الثناء عليه بصفاته الكمالية ، ومن الثناء ما هو شكر على نعمه عليهم وعلى غيرهم ، فالمعنى : يسبحون الله ويحمدونه. وهذا تعريض بالمشركين إذ أعرضوا عن تسبيح ربّهم وحمده وشغلوا بتحميد الأصنام التي لا نعمة لها عليهم ولا تنفعهم ولا تضرهم.

وتقديم التسبيح على الحمد إشارة إلى أن تنزيه الله عمّا لا يليق به أهم من إثبات صفات الكمال له لأن التنزيه تمهيد لإدراك كمالاته تعالى. ولذلك كانت الصفات المعبّر عنها بصفات السّلوب مقدمة في ترتيب علم الكلام على صفات المعاني ـ عندنا ـ

١٠٤

والصفات المعنوية.

والاستغفار لمن في الأرض : طلب المغفرة لهم بحصول أسبابها لأن الملائكة يعلمون مراتب المغفرة وأسبابها ، وهم لكونهم من عالم الخير والهدى يحرصون على حصول الخير للمخلوقات وعلى اهتدائهم إلى الإيمان بالله والطاعات ويناجون نفوس الناس بدواعي الخير ، وهي الخواطر الملكية. فالمراد ب (لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الشورى : ٥] من عليها يستحقون استغفار الملائكة كما قال تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) [غافر : ٧] ثم قال : (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) في سورة المؤمن [٩]. وقد أثبت القرآن أن الملائكة يلعنون من تحق عليه اللّعنة بقوله تعالى : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ) في سورة البقرة [١٦١]. فعموم من في الأرض هنا مخصوص بما دلّت عليه آية سورة المؤمن.

وجملة (أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الشورى : ٥] تذييل لجملة (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) [الشورى : ٥] إلى آخرها لإبطال وهم المشركين أن شركاءهم يشفعون لهم ، ولذلك جيء في هذه الجملة بصيغة القصر بضمير الفصل ، أي أن غير الله لا يغفر لأحد. وصدرت بأداة التنبيه للاهتمام بمفادها. وقد أشارت الآية إلى مراتب الموجودات ، وهي :

والمقصود رفع التبعية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عدم استجابتهم للتوحيد ، أي لا تخش أن نسألك على عدم اهتدائهم إذ ما عليك إلا البلاغ ، وتقدم في قوله : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) في سورة الأنعام [١٠٧].

وإذ قد كان الحفيظ الوكيل بمعنى كان إثبات كون الله حفيظا عليهم ونفي كون الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم وكيلا عليهم مفيدا قصر الكون حفيظا عليهم على الله تعالى دون الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق غير أحد طرق القصر المعروفة فإن هذا من صريح القصر ومنطوقه لا من مفهومه وهو الأصل في القصر وإن كان قليلا ، ومنه قول السموأل :

تسيل على حد الظبات نفوسنا

وليست على غير الظبات تسيل

وأما طرق القصر المعروفة في علم المعاني فهي من أسلوب الإيجاز ، والقصر قصر قلب كما هو صريح طرفه الثاني في قوله : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) ، نزل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم

١٠٥

منزلة من يحسب أنه وكيل على إيمانهم وحصل من هذا التنزيل تعريض بهم بأنهم لا يضرّون الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا لم يصدّقوه.

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧))

عطف على جملة (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ) [الشورى : ٣] إلخ باعتبار المغايرة بين المعطوفة والمعطوف عليها بما في المعطوفة من كون الموحى به قرآنا عربيّا ، وما في المعطوف عليها من كونه من نوع ما أوحي به إلى الذين من قبله. والقول في (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا) كالقول في (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ) [الشورى : ٣].

وإنّما أعيد (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا) ليبنى عليه (قُرْآناً عَرَبِيًّا) لما حجز بينهما من الفصل وأصل النظم : كذلك يوحي إليك الله العزيز الحكيم قرآنا عربيا مع ما حصل بتلك الإعادة من التأكيد لتقرير ذلك المعنى أفضل تقرير.

والعدول عن ضمير الغائب إلى ضمير العظمة التفات. وفي هذا إشارة إلى أنه لا فرق بين ما أوحي إليك وما أوحي إلى من قبلك ، إلا اختلاف اللّغات كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) [إبراهيم : ٤].

والقرآن مصدر : قرأ ، مثل : غفران وسبحان ، وأطلق هنا على المقروء مبالغة في الاتصاف بالمقروئية لكثرة ما يقرؤه القارءون وذلك لحسنه وفائدته ، فقد تضمن هذا الاسم معنى الكمال بين المقروءات. و (عَرَبِيًّا) نسبة إلى العربية ، أي لغة العرب لأنّ كونه قرآنا يدلّ على أنه كلام ، فوصفه بكونه (عَرَبِيًّا) يفيد أنه كلام عربي.

وقوله : (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) تعليل ل (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا) لأن كونه عربيّا يليق بحال المنذرين به وهم أهل مكّة ومن حولها ، فأولئك هم المخاطبون بالدّين ابتداء لما اقتضته الحكمة الإلهية من اختيار الأمة العربية لتكون أوّل من يتلقّى الإسلام وينشره بين الأمم ، ولو روعي فيه جميع الأمم المخاطبين بدعوة الإسلام لاقتضى أن ينزل بلغات لا تحصى ، فلا جرم اختار الله له أفضل اللّغات واختار إنزاله على أفضل البشر.

و (أُمَّ الْقُرى) مكّة ، وكنيت : أم القرى لأنها أقدم المدن العربية فدعاها العرب : أم القرى ، لأن الأم تطلق على أصل الشيء مثل : أم الرأس ، وعلى مرجعه مثل قولهم للراية :

١٠٦

أم الحرب ، وقولهم : أم الطريق ، للطريق العظيم الذي حوله طرق صغار. ثم إن إنذار أم القرى يقتضي إنذار بقية القرى بالأحرى ، قال تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً) [القصص : ٥٩] ، وتقدم في قوله تعالى : (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) في سورة الأنعام [٩٢].

والمراد : لتنذر أهل أمّ القرى ، فأطلق اسم البلد على سكانه كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢]. وأهل مكّة هم قريش ، وأما من حولها فهم النازلون حولها من القبائل مثل خزاعة وكنانة ، ومن الذين حولها قريش الظواهر وهم الساكنون خارج مكة في جبالها.

والاقتصار على إنذار أمّ القرى ومن حولها لا يقتضي تخصيص إنذار الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأهل مكة ومن حولها ، ولا تخصيص الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإنذار دون التبشير للمؤمنين لأن تعليل الفعل بعلة باعثه لا يقتضي أن الفعل المعلّل مخصص بتلك العلّة ولا بمتعلّقاتها إذ قد يكون للفعل الواحد علل باعثة فإن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث للنّاس كافة ، كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) [سبأ : ٢٨]. والاقتصار هنا على إنذار أهل مكّة ومن حولها لأنهم المقصود بالردّ عليهم لإنكارهم رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وانتصب (أُمَّ الْقُرى) على المفعول به لفعل (تُنْذِرَ) بتنزيل الفعل منزلة المعدّى إلى مفعول واحد إذ لم يذكر معه المنذر منه وهو الذي يكون مفعولا ثانيا لفعل الإنذار. لأنّ (أنذر) يتعدّى إلى مفعولين كقوله تعالى : (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً) [فصلت : ١٣] ، وفي حديث الدجال : «ما من نبيء إلّا أنذر قومه». فالمعنى : لتنذر أهل القرى ومن حولها ما ينذرونه من العذاب في الدّنيا والآخرة.

وقوله : (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) أعيد فعل (تُنْذِرَ) لزيادة تهويل أمر يوم الجمع لأن تخصيصه بالذكر بعد عموم الإنذار يقتضي تهويله ، ولأن تعدية فعل (وَتُنْذِرَ) إلى (يَوْمَ الْجَمْعِ) تعدية مخالفة لإنذار أم القرى لأن (يَوْمَ الْجَمْعِ) مفعول ثان لفعل (وَتُنْذِرَ) ، أي وتنذر الناس يوم الجمع ، فمفعول (وَتُنْذِرَ) الثاني هو المنذر به ومفعول (لِتُنْذِرَ) الأول هو المنذر.

وانتصب (يَوْمَ الْجَمْعِ) على أنّه مفعول ثان لفعل (تُنْذِرَ) وحذف مفعوله الأول لدلالة ما تقدم عليه ، أي وتنذرهم ، أي أهل أم القرى يوم الجمع بالخصوص كقوله (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ) [غافر : ١٨].

١٠٧

ويوم الجمع : يوم القيامة ، سمي (يَوْمَ الْجَمْعِ) لأن الخلائق تجمع فيه للحساب ، قال تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) [التغابن : ٩].

والجمع مصدر ، ويجوز أن يكون اسما للمجتمعين كقوله تعالى : (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) [ص : ٥٩] ، أي يوم جماعة النّاس كلهم.

وجملة (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ) مستأنفة استئنافا بيانيا ، وعطفت عليها جملة (وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) فكان الجملتان جوابا لسؤال سائل عن شأن هذا الجمع إن كان بمعنى المصدر.

فقيل : فريق في الجنّة وفريق في السعير ، أي فريق من المجموعين بهذا الجمع في الجنّة وفريق في السعير ، أو لسؤال سائل عن حال هذا الجمع إن كان الجمع بمعنى المجموعين : والتقدير : فريق منهم في الجنّة وفريق منهم في السعير. وتقدم السعير عند قوله تعالى : (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) في سورة الإسراء [٩٧]. وسوغ الابتداء ب (فَرِيقٌ) وهو نكرة لوقوعها في معرض التفصيل كقول امرئ القيس :

فأقبلت زحفا على الركبتين

فثوب لبست وثوب أجرّ

وجملة (لا رَيْبَ فِيهِ) معترضة بين البيان والمبيّن. ومعنى (لا رَيْبَ فِيهِ) أن دلائله تنفي الشك في أنه سيقع فنزّل ريب المرتابين في منزلة العدم لأن موجبات اليقين بوقوعه بينة كقوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) في سورة البقرة [٢]. وظرفية الريب المنفي في ضمير اليوم في قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) من باب إيقاع الفعل ونحوه على اسم الذات ، والمراد: إيقاعه على بعض أحوالها التي يدل عليها المقام مثل (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣] ، أي أكلها ، أي لا ريب في وقوعه. وجملة (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ) إلخ معترضة و (فَرِيقٌ) خبر مبتدأ محذوف على طريقة الحذف المتابع فيه الاستعمال كما سماه السكاكي ، أي هم فريق في الجنّة إلخ.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨))

عطف على جملة (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى : ٧]. والغرض من هذا العطف إفادة أن كونهم فريقين أمر شاء الله تقديره ، أي أوجد أسبابه بحكمته ولو شاء لقدّر أسباب اتحادهم على عقيدة واحدة من الهدى فكانوا سواء في المصير ، والمراد : لكانوا جميعا في الجنّة.

١٠٨

وهذا مسوق لتسلية الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين على تمنّيهم أن يكون النّاس كلّهم مهتدين ويكون جميعهم في الجنّة ، وبذلك تعلم أن ليس المراد : لو شاء الله لجعلهم أمّة واحدة في الأمرين الهدى والضلال ، لأن هذا الشقّ الثاني لا يتعلق الغرض ببيانه هنا وإن كان في نفس الأمر لو شاء الله لكان. فتأويل هذه الآية بما جاء في قوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة : ١٣] وقوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس : ٩٩].

وقد دلّ على ذلك الاستدراك الذي في قوله : (وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) أي ولكن شاء مشيئة أخرى جرت على وفق حكمته ، وهي أن خلقهم قابلين للهدى والضلال بتصاريف عقولهم وأميالهم ، ومكّنهم من كسب أفعالهم وأوضح لهم طريق الخير وطريق الشر بالتكليف فكان منهم المهتدون وهم الذين شاء الله إدخالهم في رحمته ، ومنهم الظالمون الذين ما لهم من ولي ولا نصير. فقوله : (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) أحد دليلين على المعنى المستدرك إذ التقدير : ولكنه جعلهم فريقين فريقا في الجنّة وفريقا في السعير ليدخل من يشاء منهم في رحمته وهي الجنة. وأفهم ذلك أنّه يدخل منهم الفريق الآخر في عقابه ، فدلّ عليه أيضا بقوله : (وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) لأن نفي النصير كناية عن كونهم في بؤس وضر ومغلوبية بحيث يحتاجون إلى نصير لو كان لهم نصير ، فيدخل في الظالمين مشركو أهل مكّة دخولا أوليّا لأنهم سبب ورود هذا العموم.

وأصل النظم : ويدخل من يشاء في غضبه ، فعدل عنه إلى ما في الآية للدلالة على أن سبب إدخالهم في غضبه هو ظلمهم ، أي شركهم (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] مع إفادة أنّهم لا يجدون وليّا يدفع عنهم غضبه ولا نصيرا يثأر لهم. وضمير (جعلهم) عائد إلى فريق الجنّة وفريق السعير باعتبار أفراد كل فريق.

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩))

(أَمِ) للإضراب الانتقالي كما يقال : دع الاهتمام بشأنهم وإنذارهم ولنعد إلى فظاعة حالهم في اتخاذهم من دون الله أولياء. وتقدّر بعد (أَمِ) همزة استفهام إنكاري. فالمعنى : بل أاتخذوا من دونه أولياء ، أي أتوا منكرا لمّا اتخذوا من دونه أولياء. فضمير (اتَّخَذُوا)

١٠٩

عائد إلى (الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) [الشورى : ٦] في الجملة السابقة.

والفاء في قوله : (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) فاء جواب لشرط مقدر دلّ عليه مقام إنكار اتخاذهم أولياء من دون الله ، لأن إنكار ذلك يقتضي أن أولياءهم ليست جديرة بالولاية ، وأنهم ضلّوا في ولايتهم إياها ، فنشأ تقدير شرط معناه : إن أرادوا وليّا بحقّ فالله هو الوليّ.

قال السكاكي في «المفتاح» : وتقدير الشرط لقرائن الأحوال غير ممتنع قال تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) [الأنفال : ١٧] على تقدير إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم ، وقال (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) على تقدير : إن أرادوا وليّا بحق فالله هو الوليّ بالحق لا وليّ سواه.

والمراد بالولاية في قوله (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) ، ولاية المعبودية ، فأفاد تعريف المسند في قوله : (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) قصر جنس الولي بهذا الوصف على الله ، وإذ قد عبدوا غير الله تعيّن أن المراد قصر الولاية الحقّ عليه تعالى.

وأفاد ضمير الفصل في قوله : (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) تأكيد القصر وتحقيقه وأنه لا مبالغة فيه تذكيرا بأن الولاية الحقّ في هذا الشأن مختصة بالله تعالى. وهذا كلّه مسوق إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين تسلية وتثبيتا وتعريضا بالمشركين فإنهم لا يخلون من أن يسمعوه.

وعطف (وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى) على جملة (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) إدماج لإعادة إثبات البعث ترسيخا لعلم المسلمين وإبلاغا لمسامع المنكرين لأنّهم أنكروا ذلك في ضمن اتخاذهم أولياء من دون الله ، فلمّا أبطل معتقدهم إلهية غير الله أردف بإبطال ما هو من علائق شركهم وهو نفي البعث ، وليس ذلك استدلالا عليهم لإبطال إلهية آلهتهم لأن وقوع البعث مجحود عندهم. فأما عطف جملة (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو لإثبات هذه الصفة لله تعالى تذكيرا بانفراده بتمام القدرة ، ويفيد الاستدلال على إمكان البعث قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] ، ويفيد الاستدلال على نفي الإلهية عن أصنامهم لأن من لا يقدر على كل شيء لا يصلح للإلهية : قال تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النحل : ١٧] وقال : (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) [النحل : ٢٠] وقال (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) [الحج : ٧٣]. والغرض من هذا تعريض بإبلاغه إلى مسامع المشركين.

١١٠

ولما كان المقصود إثبات القدرة لله تعالى عطفت الجملة على التي قبلها لأنها مثلها في إفادة الحكم ، وكانت إفادة التعليل بها حاصلة من موقعها عقبها ، ولو أريد التعليل ابتداء لفصلت الجملة ولم تعطف.

(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠))

(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ).

يجوز أن يكون هذا تكملة للاعتراض فيكون كلاما موجها من الله تعالى إلى النّاس. ويجوز أن يكون ابتداء كلام متصلا بقوله : (ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) ، (فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) تعيّن أن يكون مجموع هذا الكلام لمتكلم واحد ، لأن ضمائر (رَبِّي) ، و (تَوَكَّلْتُ) ، و (أُنِيبُ) ضمائره ، وتلك الضمائر لا تصلح أن تعود إلى الله تعالى. ولا حظّ في سياق الوحي إلى أحد سوى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتعين تقدير فعل أمر بقول يقوله النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والجملة معطوفة على الجمل التي قبلها لأن الكلام موجه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى المسلمين. والواو عاطفة فعل أمر بالقول ، وحذف القول شائع في القرآن بدلالة القرائن لأن مادة الاختلاف مشعرة بأنه بين فريقين وحالة الفريقين مشعرة بأنه اختلاف في أمور الاعتقاد التي أنكرها الكافرون من التوحيد والبعث والنفع والإضرار.

و (مِنْ شَيْءٍ) بيان لإبهام (مَا) ، أي أيّ شيء اختلفتم فيه ، والمراد : من أشياء الدّين وشئون الله تعالى.

وضمير (فَحُكْمُهُ) عائد إلى (مَا اخْتَلَفْتُمْ) على معنى : الحكم بينكم في شأنه إلى الله. والمعنى : أنه يتضح لهم يوم القيامة المحقّ من المبطل فيما اختلفوا فيه حين يرون الثواب للمؤمنين والعقاب للمشركين ، فيعلم المشركون أنهم مبطلون فيما كانوا يزعمون.

و (إِلَى اللهِ) خبر عن (حكمه). و (إِلَى) للانتهاء وهو انتهاء مجازي تمثيلي ، مثّل تأخير الحكم إلى حلول الوقت المعيّن له عند الله تعالى بسير السائر إلى أحد ينزل عنده.

ولا علاقة لهذه الآية باختلاف علماء الأمة في أصول الدّين وفروعه لأن ذلك الاختلاف حكمه منوط بالنظر في الأدلة والأقيسة صحة وفسادا فإصدار الحكم بين المصيب والمخطئ فيها يسير إن شاء النّاس التداول والإنصاف. وبذلك توصل أهل الحق

١١١

إلى التمييز بين المصيب والمخطئ ، ومراتب الخطأ في ذلك ، على أنّه لا يناسب سياق الآيات سابقها وتاليها ولا أغراض السور المكية. وقد احتج بهذه الآية نفاة القياس ، وهو احتجاج لا يرتضيه نطّاس.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).

يجوز أن تكون الجملة مقول قول محذوف يدلّ عليه قوله : (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) [الشورى : ٧] الآية ، فتكون كلاما مستأنفا لأن الإنذار يقتضي كلاما منذرا به ، ويجوز أن تكون متصلة بجملة (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ) تكملة للكلام الموجه من الله ويكون في قوله : (رَبِّي) التفاتا من الخطاب إلى التكلم ، والتقدير : ذلكم الله ربّكم ، وتكون جملتا (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) معترضتين.

والإشارة لتمييز المشار إليه وهو المفهوم من (فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ). وهذا التمييز لإبطال التباس ماهية الإلهية والربوبية على المشركين إذ سموا الأصنام آلهة وأربابا. وأوثر اسم الإشارة الذي يستعمل للبعيد لقصد التعظيم بالبعد الاعتباري اللازم للسموّ وشرف القدر ، أي ذلكم الله العظيم. ويتوصل من ذلك إلى تعظيم حكمه ، فالمعنى : الله العظيم في حكمه هو ربّي الذي توكلت عليه فهو كافيني منكم.

والتوكل : تفعل من الوكل ، وهو التفويض في العمل ، وتقدم عند قوله تعالى ، (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في سورة آل عمران [١٥٩].

والإنابة : الرجوع ، والمراد بها هنا الكناية عن ترك الاعتماد على الغير لأن الرجوع إلى الشيء يستلزم عدم وجود المطلوب عند غيره ، وتقدمت الإنابة عند قوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) في سورة هود [٧٥].

وجيء في فعل (تَوَكَّلْتُ) بصيغة الماضي وفي فعل (أُنِيبُ) بصيغة المضارع للإشارة إلى أن توكله على الله كان سابقا من قبل أن يظهر له تنكر قومه له ، فقد صادف تنكرهم منه عبدا متوكلا على ربّه ، وإذا كان توكله قد سبق تنكّر قومه فاستمراره بعد أن كشّروا له عن أنياب العدوان محقق.

وأما فعل (أُنِيبُ) فجيء فيه بصيغة المضارع للإشارة إلى تجدد الإنابة وطلب المغفرة. ويعلم تحققها في الماضي بمقارنتها لجملة (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) لأن المتوكل منيب ، ويجوز أن يكون ذلك من الاحتباك. والتقدير : عليه توكلت وأتوكل وإليه أنبت وأنيب.

١١٢

وتقديم المتعلّقين في (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) لإفادة الاختصاص ، أي لا أتوكّل إلا عليه ولا أنيب إلا إليه.

(فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١))

(فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

خبر ثان عن الضمير في قوله تعالى : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الشورى : ٩] ، وما بينهما اعتراض كما علمت آنفا أعقب به أنه على كل شيء قدير ، فإن خلق السماوات والأرض من أبرز آثار صفة القدرة المنفرد بها.

والفاطر : الخالق ، وتقدم في أوّل سورة فاطر [١].

(جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ).

جملة في موضع الحال من ضمير (فاطِرُ) لأن مضمونها حال من أحوال فطر السماوات والأرض فإن خلق الإنسان والأنعام من أعجب أحوال خلق الأرض. ويجوز كونها خبرا ثالثا عن ضمير (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الشورى : ٩].

والمعنى : قدّر في تكوين نوع الإنسان أزواجا لأفراده ، ولما كان ذلك التقدير مقارنا لأصل تكوين النوع جيء فيه بالفعل الماضي.

والخطاب في قوله : (لَكُمْ) للنّاس كلّهم. والخطاب التفات من الغيبة. واللام للتعليل. وتقديم (لَكُمْ) على غيره من معمولات (جَعَلَ) ليعرف أنه معمول لذلك الفعل فلا يتوهم أنه صفة ل (أَزْواجاً) ، وليكون التعليل به ملاحظا في المعطوف بقوله (وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً).

والأزواج : جمع زوج وهو الذي ينضمّ إلى فرد فيصير كلاهما زوجا للآخر والمراد هنا : الذكور والإناث من النّاس ، أي جعل لمجموعكم أزواجا ، فللذكور أزواج من الإناث ، وللنساء أزواج من الرّجال ، وذلك لأجل الجميع لأن بذلك الجعل حصلت لذة التأنس ونعمة النسل.

ومعنى (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) من نوعكم ، ومن بعضكم ، كقوله : (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النور : ٦١] وقوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩]. وكون الأزواج من أنفسهم كمال في

١١٣

النعمة لأنه لو جعل أحد الزوجين من نوع آخر لفات نعيم الأنس ، وأما زعم العرب في الجاهلية أن الرجل قد يتزوج جنيّة أو غولا فذلك من التكاذيب وتخيلات بعضهم ، وربّما عرض لبعض النّاس خبال في العقل خاصّ بذلك فتخيل ذلك وتحدث به فراج عن كل أبله.

وقوله : (وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) عطف على (أَزْواجاً) الأول فهو كمفعول ل (جَعَلَ) والتقدير : وجعل من الأنعام أزواجا ، أي جعل منها أزواجا بعضها لبعض. وفائدة ذكر أزواج الأنعام دون أزواج الوحش : أن في أنواع الأنعام فائدة لحياة الإنسان لأنها تعيش معه ولا تنفر منه وينتفع بألبانها وأصوافها ولحومها ونسلها وعملها من حمل وحرث ، فبجعلها أزواجا حصل معظم نفعها للإنسان.

والذرء : بث الخلق وتكثيره ، ففيه معنى توالي الطبقات على مرّ الزمان إذ لا منفعة للنّاس من أزواج الأنعام باعتبارها أزواجا سوى ما يحصل من نسلها.

وضمير الخطاب في قوله : (يَذْرَؤُكُمْ) للمخاطبين بقوله : (جَعَلَ لَكُمْ). ومراد شموله لجعل أزواج من الأنعام المتقدم ذكره لأن ذكر أزواج الأنعام لم يكن هملا بل مرادا منه زيادة المنّة فإن ذرء نسل الإنسان نعمة للنّاس وذرء نسل الأنعام نعمة أخرى للنّاس ، ولذلك اكتفى بذكر الأزواج في جانب الأنعام عن ذكر الذرء إذ لا منفعة للناس في تزاوج الأنعام سوى ما يحصل من نسلها. وإذ كان الضمير ضمير جماعة العقلاء وكان ضمير خطاب في حين أن الأنعام ليست عقلاء ولا مخاطبة ، فقد جاء في ذلك الضمير تغليب العقلاء إذ لم يذكر ضمير صالح للعقلاء وغيرهم كأن يقال : يذراك بكسر الكاف على تأويل إرادة خطاب الجماعة.

وجاء فيه تغليب الخطاب على الغيبة ، فقد جاء فيه تغليبان وهو تغليب دقيق إذ اجتمع في لفظ واحد نوعان من التغليب كما أشار إليه الكشاف والسكاكي في مبحث التغليب من «المفتاح».

وضمير (فِيهِ) عائد إلى الجعل المفهوم من قوله (جَعَلَ لَكُمْ) ، أي في الجعل المذكور على حدّ قوله : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨]. وجيء بالمضارع في (يَذْرَؤُكُمْ) لإفادة التجدد والتجدّد أنسب بالامتنان.

وحرف (في) مستعار لمعنى السببية تشبيها للسبب بالظرف في احتوائه على مسبباته

١١٤

كاحتواء المنبع على مائه والمعدن على ترابه ومثله قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩].

(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).

خبر ثالث أو رابع عن الضمير في قوله : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الشورى :٩]. وموقع هذه الجملة كالنتيجة للدليل فإنه لما قدم ما هو نعم عظيمة تبيّن أن الله لا يماثله شيء من الأشياء في تدبيره وإنعامه.

ومعنى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ليس مثله شيء ، فأقحمت كاف التشبيه على (مثل) وهي بمعناه لأن معنى المثل هو الشبيه ، فتعيّن أن الكاف مفيدة تأكيدا لمعنى المثل ، وهو من التأكيد اللّفظي باللّفظ المرادف من غير جنسه ، وحسّنه أن الموكّد اسم فأشبه مدخول كاف التشبيه المخالف لمعنى الكاف فلم يكن فيه الثقل الذي في قول خطام المجاشعي :

وصاليات ككما يؤثفين (١)

وإذ قد كان المثل واقعا في حيّز النفي فالكاف تأكيد لنفيه فكأنّه نفي المثل عنه تعالى بجملتين تعليما للمسلمين كيف يبطلون مماثلة الأصنام لله تعالى. وهذا الوجه هو رأي ثعلب وابن جنّي والزجّاج والراغب وأبي البقاء وابن عطية.

وجعله في «الكشاف» وجها ثانيا ، وقدّم قبله أن تكون الكاف غير مزيدة ، وأن التقدير : ليس شبيه مثله شيء والمراد : ليس شبه ذاته شيء ، فأثبت لذاته مثلا ثم نفى عن ذلك المثل أن يكون له مماثل كناية عن نفي المماثل لذات الله تعالى ، أي بطريق لازم اللازم لأنه إذا نفي المثل عن مثله فقد انتفى المثل عنه إذ لو كان له مثل لما استقام قولك : ليس شيء مثل مثله. وجعله من باب قول العرب : فلان قد أيفعت لداته ، أي أيفع هو فكني بإيفاع لداته عن إيفاعه. وقول رقيقة بنت صيفي (٢) في حديث سقيا عبد المطلب «ألا وفيهم الطّيّب الطاهر لداته» ا ه. أي ويكون معهم الطيّب الطاهر يعني النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وتبعه على ذلك ابن المنير في «الانتصاف» ، وبعض العلماء يقول : هو كقولك ليس

__________________

(١) رجز وقبله :

لم يبق من آي بها تحيين

غير حطام ورمادي كفتين.

(٢) هي رقيقة بقافين بصيغة التصغير بنت صيفي (والصواب أبي صيفي) بن هشام بن عبد المطلب.

١١٥

لأخي زيد أخ ، تريد نفي أن يكون لزيد أخ لأنه لو كان لزيد أخ لكان زيد أخا لأخيه فلما نفيت أن يكون لأخيه أخ فقد نفيت أن يكون لزيد أخ ، ولا ينبغي التعويل على هذا لما في ذلك من التكلّف والإبهام وكلاهما مما ينبو عنه المقام.

وقد شمل نفي المماثلة إبطال ما نسبوا لله البنات وهو مناسبة وقوعه عقب قوله : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) الآية.

وحديث سقيا عبد المطلب ، أي خبر استسقائه لقريش أن رقيقة بنت أبي صيفي قالت : تتابعت على قريش سنون أقحلت الضرع وأدقّت العظم ، فبينا أنا نائمة إذا هاتف يهتف : «يا معشر قريش إن هذا النبي المبعوث منكم قد أظلتكم أيامه ألا فانظروا رجلا منكم وسيطا عظاما جساما أبيض أوطف الأهداب سهل الخدّين أشمّ العرين فليخلص هو وولده ، ألا وفيهم الطيّب الطاهر لداته وليهبط إليه من كل بطن رجل فليشنوا من الماء وليمسوا من الطيب ثم ليرتقوا أبا قبيس فليستسق الرجل وليؤمنوا فعثتم ما شئتم» إلخ. قالوا : وكان معهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يومئذ غلام.

واعلم أن هذه الآية نفت أن يكون شيء من الموجودات مثلا لله تعالى. والمثل يحمل عند إطلاقه على أكمل أفراده ، قال فخر الدّين «المثلان : هما اللذان يقوم كل واحد منهما مقام الآخر في حقيقته وماهيته» ا ه. فلا يسمّى مثلا حقا إلا المماثل في الحقيقة والماهية وأجزائها ولوازمها دون العوارض ، فالآية نفت أن يكون شيء من الموجودات مماثلا لله تعالى في صفات ذاته لأن ذات الله تعالى لا يماثلها ذوات المخلوقات ، ويلزم من ذلك أن كل ما ثبت للمخلوقات في محسوس ذواتها فهو منتف عن ذات الله تعالى. وبذلك كانت هذه الآية أصلا في تنزيه الله تعالى عن الجوارح والحواسّ والأعضاء عند أهل التأويل والذين أثبتوا لله تعالى ما ورد في القرآن مما نسميه بالمتشابه فإنما أثبتوه مع التنزيه عن ظاهره إذ لا خلاف في إعمال قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وأنه لا شبيه له ولا نظير له.

وإذ قد اتفقنا على هذا الأصل لم يبق خلاف في تأويل النصوص الموهمة التشبيه ، إلّا أن تأويل سلفنا كان تأويلا جمليّا ، وتأويل خلفهم كان تأويلا تفصيليّا كتأويلهم اليد بالقدرة ، والعين بالعلم ، وبسط اليدين بالجود ، والوجه بالذات ، والنزول بتمثيل حال الإجابة والقبول بحال نزول المرتفع من مكانه الممتنع إلى حيث يكون سائلوه لينيلهم ما سألوه. ولهذا قالوا : طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم.

١١٦

ولما أفاد قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) صفات السلوب أعقب بإثبات صفة العلم لله تعالى وهي من الصفات المعنوية وذلك بوصفه ب (السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الدّالين على تعلّق علمه بالموجودات من المسموعات والمبصرات تنبيها على أن نفي مماثلة الأشياء لله تعالى لا يتوهّم منه أن الله منزّه عن الاتصاف بما اتصفت به المخلوقات من أوصاف الكمال المعنوية كالحياة والعلم ولكن صفات المخلوقات لا تشبه صفاته تعالى في كمالها لأنها في المخلوقات عارضة ، وهي واجبة لله تعالى في منتهى الكمال ، فكونه تعالى سميعا وبصيرا من جملة الصفات الداخلة تحت ظلال التأويل بالحمل على عموم قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فلم يقتضيا جارحتين. ولقد كان تعقيب قوله ذلك بهما شبيها بتعقيب المسألة بمثالها.

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢))

خبر رابع أو خامس عن الضمير في قوله : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الشورى : ٩] وموقع هذه الجملة كموقع التي قبلها تتنزّل منزلة النتيجة لما تقدمها ، لأنّه إذا ثبت أن الله هو الوليّ وما تضمنته الجمل بعدها إلى قوله : (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) [الشورى : ١١] من انفراده بالخلق ، ثبت أنه المنفرد بالرّزق.

والمقاليد : جمع إقليد على غير قياس ، أو جمع مقلاد ، وهو المفتاح ، وتقدم عند قوله تعالى : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في سورة الزمر [٦٣]. وتقديم المجرور لإفادة الاختصاص ، أي هي ملكه لا ملك غيره.

والمقاليد هنا استعارة بالكناية لخيرات السماوات والأرض ، شبهت الخيرات بالكنوز ، وأثبت لها ما هو من مرادفات المشبّه به وهو المفاتيح ، والمعنى : أنه وحده المتصرف بما ينفع النّاس من الخيرات. وأما ما يتراءى من تصرف بعض الناس في الخيرات الأرضية بالإعطاء والحرمان والتقتير والتبذير فلا اعتداد به لقلة جدواه بالنسبة لتصرف الله تعالى.

وجملة (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) مبينة لمضمون جملة (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). وبسط الرزق : توسعته ، وقدره : كناية عن قلّته ، وتقدم عند قوله : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) في سورة الرعد [٢٦].

١١٧

وجملة (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) استئناف بياني هو كالعلة لقوله : (لِمَنْ يَشاءُ) ، أي أنّ مشيئته جارية على حسب علمه بما يناسب أحوال المرزوقين من بسط أو قدر.

وبيان هذا في قوله الآتي : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) [الشورى: ٢٧].

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣))

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ).

انتقال من الامتنان بالنعم الجثمانية إلى الامتنان بالنعمة الروحية بطريق الإقبال على خطاب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين للتنويه بدين الإسلام وللتعريض بالكفار الذين أعرضوا عنه.

فالجملة ابتدائية.

ومعنى (شَرَعَ) أوضح وبيّن لكم مسالك ما كلفكم به. وأصل (شَرَعَ) جعل طريقا واسعة ، وكثر إطلاقه على سنّ القوانين والأديان فسمّي الدّين شريعة. فشرع هنا مستعار للتبيين كما في قوله : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) الشورى : ٢١] ، وتقدم في قوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) في سورة العقود [٤٨].

والتعريف في (الدِّينِ) تعريف الجنس ، وهو يعمّ الأديان الإلهية السابقة. و (مِنَ) للتبعيض.

والتوصية : الأمر بشيء مع تحريض على إيقاعه والعمل به. ومعنى كونه شرع للمسلمين من الدّين ما وصّى به نوحا أن الإسلام دين مثل ما أمر به نوحا وحضّه عليه. فقوله : (ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) مقدر فيه مضاف ، أي مثل ما وصّى به نوحا ، أو هو بتقدير كاف التشبيه على طريقة التشبيه البليغ مبالغة في شدة المماثلة حتى صار المثل كأنّه عين مثله. وهذا تقدير شائع كقول ورقة بن نوفل : «هذا هو الناموس الذي أنزل على عيسى».

والمراد : المماثلة في أصول الدّين مما يجب لله تعالى من الصفات ، وفي أصول الشريعة من كليات التشريع ، وأعظمها توحيد الله ، ثم ما بعده من الكليات الخمس

١١٨

الضروريات ، ثم الحاجيات التي لا يستقيم نظام البشر بدونها ، فإن كل ما اشتملت عليه الأديان المذكورة من هذا النوع قد أودع مثله في دين الإسلام. فالأديان السابقة كانت تأمر بالتوحيد ، والإيمان بالبعث والحياة الآخرة ، وتقوى الله بامتثال أمره واجتناب منهيّه على العموم ، وبمكارم الأخلاق بحسب المعروف ، قال تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) [الأعلى : ١٤ ـ ١٩]. وتختلف في تفاصيل ذلك وتفاريعه.

ودين الإسلام لم يخل عن تلك الأصول وإن خالفها في التفاريع تضييقا وتوسيعا ، وامتازت هذه الشريعة بتعليل الأحكام وسدّ الذرائع والأمر بالنظر في الأدلة وبرفع الحرج وبالسماحة وبشدة الاتصال بالفطرة ، وقد بيّنت ذلك في كتابي «مقاصد الشريعة الإسلامية». أو المراد المماثلة فيما وقع عقبه بقوله : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) إلخ بناء على أن تكون (أَنْ) تفسيرية ، أي شرع لكم وجوب إقامة الدّين الموحى به وعدم التفرّق فيه كما سيأتي. وأيّا ما كان فالمقصود أن الإسلام لا يخالف هذه الشرائع المسمّاة ، وأن اتّباعه يأتي بما أتت به من خير الدّنيا والآخرة.

والاقتصار على ذكر دين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى لأن نوحا أول رسول أرسله الله إلى النّاس ، فدينه هو أساس الدّيانات ، قال تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ) والنبيئين (مِنْ بَعْدِهِ) [النساء : ١٦٣] ولأن دين إبراهيم هو أصل الحنيفية وانتشر بين العرب بدعوة إسماعيل إليه فهو أشهر الأديان بين العرب ، وكانوا على أثارة منه في الحجّ والختان والقرى والفتوة. ودين موسى هو أوسع الأديان السابقة في تشريع الأحكام ، وأما دين عيسى فلأنه الدّين الذي سبق دين الإسلام ولم يكن بينهما دين آخر ، وليتضمن التهيئة إلى دعوة اليهود والنصارى إلى دين الإسلام. وتعقيب ذكر دين نوح بما أوحي إلى محمّد عليهما‌السلام للإشارة إلى أن دين الإسلام هو الخاتم للأديان ، فعطف ، على أول الأديان جمعا بين طرفي الأديان ، ثم ذكر بعدهما الأديان الثلاثة الأخر لأنها متوسطة بين الدينين المذكورين قبلها. وهذا نسج بديع من نظم الكلام ، ولو لا هذا الاعتبار لكان ذكر الإسلام مبتدأ به كما في قوله : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ) والنبيئين من بعده [النساء: ١٦٣] وقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ) النبيئين (مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) الآية في سورة الأحزاب [٧].

وذكر في «الكشاف» في آية الأحزاب أن تقديم ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التفصيل لبيان

١١٩

أفضليته لأن المقام هنالك لسرد من أخذ عليهم الميثاق ، وأما آية سورة الشورى فإنّما أوردت في مقام وصف دين الإسلام بالأصالة والاستقامة فكأنّ الله قال : شرع لكم الدّين الأصيل الذي بعث به نوحا في العهد القديم وبعث به محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العهد الحديث ، وبعث به من توسط بينهما.

فقوله : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) هو ما سبق نزوله قبل هذه الآية من القرآن بما فيه من أحكام ، فعطفه على ما وصّى به نوحا لما بينه وبين ما وصّى به نوحا من المغايرة بزيادة التفصيل والتفريع. وذكره عقب ما وصّى به نوحا للنكتة التي تقدمت.

وفي قوله تعالى : (ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) وقوله : (وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ) ، جيء بالموصول (ما) ، وفي قوله : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) جيء بالموصول (الَّذِي) ، وقد يظهر في بادئ الرأي أنه مجرّد تفنّن بتجنب تكرير الكلمة ثلاث مرات متواليات ، وذلك كاف في هذا التخالف. وليس يبعد عندي أن يكون هذا الاختلاف لغرض معنويّ ، وأنه فرق دقيق في استعمال الكلام البليغ وهو أن (الَّذِي) وأخواته هي الأصل في الموصولات فهي موضوعة من أصل الوضع للدلالة على من يعيّن بحالة معروفة هي مضمون الصلة ، ف (الَّذِي) يدلّ على معروف عند المخاطب بصلته.

وأمّا (ما) الموصولة فأصلها اسم عام نكرة مبهمة محتاجة إلى صفة نحو قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) [النساء : ٥٨] عند الزمخشري وجماعة إذ قدّروه : نعم شيئا يعظكم به. فما نكرة تمييز ل (نعم) وجملة (يَعِظُكُمْ بِهِ) صفة لتلك النكرة. وقال سيبويه في قوله تعالى : (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) [ق : ٢٣] المراد : هذا شيء لدي عتيد ، وأنشدوا :

لما نافع يسعى اللبيب فلا تكن

لشيء بعيد نفعه الدّهر ساعيا

أي لشيء نافع ، فقد جاءت صفتها اسما مفردا بقرينة مقابلته بقوله : لشيء بعيد نفعه ، ثم يعرض لما التعريف بكثرة استعمالها نكرة موصوفة بجملة فتعرفت بصفتها وأشبهت اسم الموصول في ملازمة الجملة بعدها ، ولذلك كثر استعمال ما موصولة في غير العقلاء ، فيكون إيثار (ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) و (ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) بحرف (ما) لمناسبة أنّها شرائع بعد العهد بها فلم تكن معهودة عند المخاطبين إلا إجمالا فكانت نكرات لا تتميز إلا بصفاتها ، وأما إيثار الموحى به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باسم (الَّذِي) فلأنه شرع متداول فيهم معروف عندهم. فالتقدير : شرع لكم شيئا وصّى به نوحا وشيئا

١٢٠