من هدى القرآن - ج ٩

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٩

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٣

العادي امتلاكه ، فكيف ببثّه في جيل كامل ، وعليه أيضا ان يتحدى الثقافة الموجودة ، ومن يقف خلفها.

ويجب أن نقف إجلالا لذلك الفكر الذي يصيغ أجيالا مؤمنة. أن نقف إجلالا أمام صبر الرسل وتضحياتهم كنوح على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام.

كان يعيش مجتمع نوح الطبقية والتجبر في الأرض ، فكانوا يحتجون على نوح (ع) بقولهم : كيف نؤمن لك واتّبعك الأرذلون؟! وكانوا يهددون نوحا ـ عليه السلام ـ ومن اتبعه بالرجم تجبرّا وعلوّا في الأرض.

واتباع الأرذلين لنوح ليست مبرّرا لعدم الإيمان ، فان كانوا ارذلين ، فربهم أولى بحسابهم ، وعلى كل حال فلم تكن نهاية قوم نوح بأفضل من نهاية قوم فرعون أو قوم إبراهيم حيث دعا نوح ربه عليهم ، وسأله أن يفتح بينه وبينهم فتحا ، فأغرقهم الله ونجّى نوحا ومن معه من المؤمنين.

ومرة أخرى تجلت عزة الله بالانتقام من قوم نوح ، كما تجلت رحمته بنجاة المؤمنين ، وكان في ذلك أعظم آية ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون.

بينات من الآيات :

[١٠٥] (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ)

الأنبياء خطّ واحد ومتكامل ، أرسلوا كلهم من قبل رب واحد ، وتقف رسالاتهم جميعا ، من ناحية المبادئ العامة ، وتفترق في المحتوى الاجتماعي ، فموسى جاء لإزالة طاغوت زمانه ، وإنقاذ أمّة مستضعفة ، ونوح جاء لإزالة الطبقية والتجبر ، ومجرد التكذيب برسول واحد يقتضي التكذيب بسائر الرّسل جميعا.

٨١

وربما معنى هذه الآية أنّ الله أرسل في قوم نوح أنبياء كثيرين كان آخرهم نوح (ع).

[١٠٦] لقد أرسل الله الى قوم نوح الجبارين أخا لهم في النسب لكي لا تمنعهم عصبيتهم من اتباع رسالات الله ، وفي هذا غاية المنّة عليهم.

(إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ)

ألا تحفظون أنفسكم من غضب الرب بترك الفساد ، ويبدو أنّ قومه كانوا قد بالغوا في عمل السيئات.

[١٠٧ ـ ١٠٨] (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ)

أمرهم بطاعته باعتباره رسول الله إليهم ، وهكذا الرسل هم قادة فعليّون للمجتمع ، ويعارضون القيادات الفاسدة.

[١٠٩] وفرق كبير بين قيادة الرسول لقومه والقيادات الأخرى ، إذ أنّه ـ بخلافهم ـ لا يكتسب شيئا من قومه ولا يطلب أجرا.

(وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ)

[١١٠] (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ)

[١١١] (قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ)

هذه هي الطبقية ، أن يتحول المستضعفون إلى أراذل ، ويمتنعون عن الإيمان لمجرد أن هؤلاء قد بادروا إليه.

٨٢

وجاء في تفسير علي بن إبراهيم : إنهم عنوا بالأرذلين الفقراء ، وجاء في تفاسير أخرى معان مشابهة كأصحاب المهن الدنيئة أو المساكين.

[١١٢ ـ ١١٣] (قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ* إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ)

أي إنّي لا أعلم عنهم إلّا خيرا ، فقد دعوتهم فاستجابوا لي ، وما انا بمحاسبهم ان حسابهم الا على ربي.

[١١٤] (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ)

لست مستعدا للخضوع إليكم بطرد المؤمنين ، وإنّما أنا نذير لكل الناس.

وهنا نلاحظ أن نبي الله نوح (ع) رفض ان يكون دينه دين المستكبرين ، فالمستضعفون إن كانوا مؤمنين مخلصين فهم خير من المستكبرين ، والدين ليس ملكا لنوح (ع) انه ملك لله ، فلا يحق له طرد المؤمنين.

[١١٥] (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ)

هذه حدود مسئولياتي ، ما أنا إلّا نذير مبين ، ومن دخل في رحاب الله فالله أولى به.

[١١٦] (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ)

انتهى دور الحجة ، وجاء دور التهديد ، فهددوه (ع) بأنه ان لم يكفّ عن دعوته ليكونن من المرجومين ، لأنه يلحق الضرر بكيانهم الاقتصادي ، والاجتماعي ـ في زعمهم ـ إذ كان يحرض ـ فيما يبدو ـ صغار القوم على كبارهم ـ لأنه كان

٨٣

ينادي بإزالة الطبقية ـ ويبدو ـ انهم كانوا حسّاسين كما غيرهم من الكفار تجاه الرسالة وأفكارها ، فلذلك ناصبوها العداء.

[١١٧ ـ ١١٨] (قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ* فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)

اي اقض بيننا قضاء بالعذاب.

[١١٩] (فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ)

جاء في الحديث المأثور عن الامام الباقر (ع) ان المراد من الفلك المشحون :

«المجهز الذي قد فرغ منه ، ولم يبق الا دفعه» (١)

[١٢٠] (ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ)

بعد ان يستيئس الرسل ومتبعوهم ، أو يظنوا يقينا أنهم كذبوا آنئذ يأتيهم نصر الله ، لأن إرادة الله اقتضت أن ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ، ويعذب من كذب ، ولكن الله لا ينصر إلّا بعد جهد جهيد ، وهذه سنة الله.

[١٢١ ـ ١٢٢] (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)

إنّ الله لا تغرّه كثرة الكافرين ، وإنّ أغلب الناس لا يتعظون بالعبرة ، ولا يؤمنون بالرسل ، ولا يستفيدون من أخطاء الماضين.

__________________

(١) المصدر / ص (٦٢).

٨٤

ومرة أخرى تتجلى العزة الإلهية بإغراق الكافرين ، كما تتجلى الرحمة الالهية بنجاة المؤمنين.

٨٥

كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ

___________________

١٣٧ [خلق] : أي عادة من أخلاق.

٨٦

فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠)

٨٧

وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ

هدى من الآيات :

بعث الله لعاد من أنفسهم رسولهم هودا ، فكان يدعوهم الى رسالات الله ، ونبذ قيم الأرض ـ وثقافة الشعراء ـ وبالرغم من أن هودا كان من نفس الوسط الاجتماعي لقوم عاد إلّا أنه كان حنيفا عن ثقافة قومه ، ولم يتأثر بها لأنه اتصل مباشرة بالوحي ، فتحول من بشر عادي إلى بشر رسول.

ولقد أعطى الله لقوم عاد نعما وقوة ، فكانوا ينحتون من الجبال بيوتا ، ويتّخذون مصانع لعلهم يخلدون ، فطغوا وبغوا ، فكانوا إذا بطشوا بطشوا جبارين. وفي مقابل عاد كانت الجزيرة العربية مليئة بقبائل لا تستطيع ان تؤمن معيشتها.

وفي نهاية القصة يتعرض القرآن الى نفس العاقبة التي يختتم بها القصص في هذه السورة ، ومن ثم تستنتج نفس العبرة وهي ان الله عزيز رحيم.

٨٨

بينات من الآيات :

[١٢٣] (كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ)

كما أسلفنا أنّ التكذيب برسول يعني التكذيب بسائر الأنبياء ، فخط هود هو خط كلّ الأنبياء من قبله ، مع الاختلاف في المحتوى الاجتماعي لكل رسالة بسبب اختلاف الظروف ، وليس اختلاف رسالات الله.

[١٢٤] (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ)

كان هود من وسط قومه ، فلذلك سمّى الله هودا أخا لقومه.

[١٢٥] (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ)

أحمل رسالته إليكم بأمانة وصدق.

والأمين كلمة تتميز عن كلمة حفيظ ، فالحفيظ هو الحافظ للشيء ، بينما الأمين هو الذي يؤتمن ويحفظ ويؤدي.

[١٢٦] (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ)

أوصاهم بتقوى الله ، وتطبيق مناهجه ، والتسليم لولايته وقيادته.

[١٢٧] (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ)

أي لا أطمع في التسلّط عليكم ، ولا أريد منكم أجر تبليغ رسالة الله.

[١٢٨] (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ)

٨٩

الريع هو المرتفع من الأرض ، وجمعه رياع ، وكانوا يتخذون لهم بيوتا عالية للهوهم وعبثهم على المرتفعات من الأرض.

[١٢٩] (وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ)

كانوا يشيدون المصانع (القصور) كما في اللغة ، وبمراجعة مشتقات الكلمة (صنع ـ يصنع ـ صنعا ـ مصنوع ـ صانع) يتبين ان قوم عاد قد بلغوا نوعا من التقدم ، وقد بين الله سبحانه ذلك في سورة الأحقاف حينما قال سبحانه : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ). (١)

ويبدو ان الآلة كان لها أثر كبير على حضارة قوم عاد ، واستخدام الآلة في خدمة الإنسان أو في تسخير الطبيعة شيء حميد ، إلّا أنّ الاستخدام السيء للآلة هو استخدامها بغرض الخلود.

[١٣٠] وتمني الخلود أو مجرد تصوره يدعو الإنسان الى الطغيان ، فلذلك بنى قوم عاد مساكنهم على الأرياع ، وشيدوا لهم القصور ، فاغتروا بما صنعوا ، وعند ما اغتروا تجبّروا وتكبّروا ، فوجهوا قواهم وبطشهم لمن حولهم ، قال تعالى :

(وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ)

ان بطشكم ليس على المخطئين ، ولكن بطشكم من أجل نشر تسلّطكم ، ونشر الرعب في قلوب الآمنين.

[١٣١] (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ)

__________________

(١) الأحقاف / (٢٦).

٩٠

كرر الله عن لسان هود (ع) كلمة التقوى أربع مرات ، وهذه الآية هي المرة الثالثة ، وربما يتساءل البعض : لماذا كرر الله التقوى أربعا؟

والجواب : ان التقوى كلمة ليست ذات بعد واحد ، فأمام كل ذنب تقوى ، فالتقوى في الكذب ترك الكذب ، وفي الكفر الايمان ، وفي الاجرام الترك ، وفي الاعتداء التورع.

وعلى هذا فالتقوى في هذه الآية تتمثل في ترك العبثية ، وإبعاد فكرة الخلود ، واجتناب البطش بالناس نكاية بهم ، وهكذا قوم هود كلما ذكر انحراف عندهم أمرهم بالتقوى في الله لأن الانحراف يؤدي الى العذاب الإلهي الذي لا بد من اجتنابه ، أما التقوى في الآية التالية فلعل المراد منها الشكر ، وترك الكفر بنعم الله بعدم أداء حقوقها.

وقد أرفق هود بكلمة التقوى كلمة «وأطيعون» للدلالة على أنّ الإصلاح يمر عبره ، لأنه يمثل خلافة الله في الأرض.

[١٣٢ ـ ١٣٣] (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ* أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ)

ربما تشير هاتين الآيتين الى مرحلة البداوة التي مرّ بها قوم عاد ، ويشير الله إليها بقوله : «بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ» وهذه النعم عادة ما تكون لأهل الصحراء.

[١٣٤] أما المرحلة الثانية التي مر بها قوم عاد فهي مرحلة التحضر ، وذلك في قوله سبحانه :

(وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)

٩١

حيث ان الزراعة نوع من التقدم في مسيرة البشرية.

[١٣٥] (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)

أشفق هود على قومه أن يحلّ عليهم عذاب يوم عظيم ، ولعل الفرق بين العذاب العظيم وعذاب يوم عظيم الذي ذكره القرآن هو : ان العذاب إذا نسب الى اليوم فكأنه يستوعبه ، ويستمر بامتداده ، ولعله يكون أكثر من نوع واحد من العذاب. فحذرهم ذلك اليوم.

[١٣٦] (قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ)

كلاهما سواء ، وعظت أم لم تعظ ، لن نؤمن لك.

[١٣٧] (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ)

وسم قوم عاد نبيّهم هودا (ع) بالرجعية ، والأفكار المتخلفة عند ما قالوا : «إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ» وذلك لأن نبي الله نوح (ع) أوصى بنيه بأن سيكون بعده نبي من ذريته ، وأعلمهم صفاته ، وأوصاهم بطاعته ؛ فكانت هذه الوصية تراثا يتوارثها الأجيال ، وكان عندهم عيد يقيمونه كل عام ، يذكّرون أنفسهم بوصية جدهم نوح (ع) وعند ما جاءهم هود كفروا به ، فلعنة الله على الكافرين.

جاء في الحديث عن الامام الصادق (ع) انه قال :

«ان نوحا (ع) لما انقضت نبوّته ، واستكمل أيّامه أوحى الله اليه : يا نوح! قد قضيت نبوتك ، واستكملت أيامك ، فاجعل العلم الذي عندك ، والإيمان ، والاسم الأكبر ، وميراث العلم ، وآثار علم النبوة في العقب من ذريتك ، فاني لن أقطعها كما لم أقطعها من بيوتات الأنبياء ، الذين كانوا بينك وبين آدم (ع) ولن

٩٢

أدع الأرض إلّا وفيها عالم يعرف به ديني ، وتعرف به طاعتي ، ويكون نجاة لمن يولد فيها بين قبض النبي الى خروج النبي الآخر»

قال (ع):

«وبشر نوح ساما (ابنه) بهود عليه السلام» (٢)

[١٣٨] (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)

أي لسنا بمعذبين لكرامتنا عند الله ، وربما تصوّروا أنهم ليسوا بمعذبين لاستحالة العذاب.

[١٣٩] (فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ)

يختصر الله المسافة بين التكذيب والإهلاك بقوله : «فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ» لأن هذه الفترة ينساها من يحل عليه العذاب ، فتكون عنده الحياة يوما أو بعض يوم ، ولحقارتهم أيضا عند الله عمهم بالجملة ، مختصرا كل حياتهم وما بنوا وما بطشوا وما كفروا في هاتين الكلمتين.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ)

أي في إهلاكهم آية ، ولكن أكثر الناس عند ما تمرّ عليهم مثل هذه العبر لا يؤمنون بها ، فيجري عليهم الله سنته بأن يهلكهم بعد الإنذار.

ولكن الذي يستفيد من العبر هو من آمن ، وخاف وعيد الله ، وصدق بأن لله عقابا.

__________________

(٢) نور الثقلين / ج (٢) / ص (٦٢).

٩٣

[١٤٠] (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)

تتجلى عزّة الله بأن أخذ قوم عاد أخذ عزيز مقتدر ، وتتجلى رحمته أنه نجّى هودا ومن آمن معه.

٩٤

كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا

___________________

١٥٧ [فعقروها] : العقر هو قطع شيء من بدن الحي.

٩٥

نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩)

٩٦

وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ

هدى من الآيات :

عاش قوم ثمود ، وهم عشر قبائل في أطراف الجزيرة العربية ، في إحدى الواحات ، عند سفح جبل منيع (مدائن صالح) وصنعوا بيوتهم فيه ، وكانوا يزرعون أسفل الوادي ، فازدهرت حضارتهم ، وانحرفوا عن فطرتهم بعد ما بطرت معيشتهم ، والبطر جعل قوم ثمود طبقتين : طبقة غنية متسلطة ، وأخرى فقيرة مسحوقة ، ففسدوا وأفسدوا معهم المستضعفين.

فجاء نبيهم صالح (ع) لينهي الناس عن إطاعة أمر المسرفين ، المفسدين في الأرض ، الذين لا يصلحون ، وآنئذ اتهموه بأنه من المسحّرين ، فأت بأية إن كنت من الصادقين ، فجاءهم بالناقة لها شرب ولهم شرب يوم معلوم ، خانوا الله فيها فعقروها فأصبحوا نادمين.

وأخيرا يتعرض الله لنفس النتيجة التي يكررها في كل درس.

٩٧

بينات من الآيات :

خصائص الرسول :

[١٤١] (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ)

الذي يكذب برسول ما ، لو فكر قليلا لرأى ان سنة الله في الحياة ان يبعث رسلا ، وإرسال صالح الى قومه ثمود لم يكن خارجا عن تلك السنّة ، قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ). (١)

[١٤٢] (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ)

والتقوى هنا الحذر من العذاب الذي يتوقّع نزوله بسبب فسادهم في الأرض.

ولعل تكرار استخدام هذه الكلمة في هذه السورة يهدف زرع نبتة التقوى في القلب ، إذ أنّ السياق يربط بين هلاك القوم بذنوبهم وبين أعمالهم ، لعل التالي للذكر ـ انا وأنت ـ يزداد إيمانا بهذه الحقيقة : إن الجزاء سيتّبع العمل ، فلا يختار عملا سيئا مهما كان صغيرا ، ذلك أن سنة الله واحدة في الحقائق الكبيرة والصغيرة ، فالنار هي النار ، طبيعتها واحدة في قليلها وكثيرها.

[١٤٣] وللداعية الى الله شرطان : رسالة يعيها تماما ، وأمانة يحافظ عليها.

(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ)

[١٤٤ ـ ١٤٥] وهكذا تنتظم الحياة اليوم بفقه الدين (الرسالة) والالتزام به ، والاتسام بالعدالة الشرعية (الأمانة).

__________________

(١) فاطر / (٢٤).

٩٨

ومسئولية الناس تجاه الرسالة تقوى الله ، وتجاه حامل الرسالة طاعته.

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ)

تأكيد لله ـ سبحانه وتعالى ـ على هاتين الآيتين في هذه السورة يبيّن لنا أن من صفات الرسل أنهم يتّخذون رسالتهم وسيلة للتقرب الى الله ، بيد أنّ الشعراء يتخذون شعرهم وسيلة للاكتساب.

[١٤٦ ـ ١٤٧ ـ ١٤٨] (أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ* فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ)

أتحسبون أنكم متروكون .. تتمتعون بالنعم والأمن ، وحولكم جنات وعيون ، وزرع ونخيل طلعها جميل جذاب ومنسق.

فلا تحسبوا أنّ النعم والأمن تدوم لكم ، وأنتم مخلدون فيهما ، فقد يأخذكم عذاب بئيس ، فلا تستطيعون صرفا ولا نصرا.

[١٤٩] وكذلك لا يأخذكم الغرور بقوتكم لأنكم تبنون لكم بيوتا فارهة ، غاية في القوة والمتنانة والإبداع.

(وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ)

لقد بلغت حضارة ثمود مبلغا من التقدم ، حيث اهتموا بالزراعة ، كما اهتموا ببناء المصائف والمدن الجبلية ، وقد وصف الله بيوتهم التي ينحتونها بأنها فارهة ، وهذه ليست من عادة المناطق الجبلية ، وانما يبنون الواسع من البيوت في سفوح الجبال لأنهم استكبروا في الأرض.

٩٩

[١٥٠ ـ ١٥١] (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ* وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ)

للإسراف أبعاد : إما في المال ، أو في الظلم ، أو في المعاصي ، وهذا يؤكد انه كان في قوم ثمود كثير من الطواغيت المتكبرين.

والملاحظة الأخرى أنّ الطبقية كانت منتشرة فيهم ، إذ قال نبيهم صالح (ع) لهم : «وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ» حيث يبدو أن هذه الطبقة أضحت طائفة خطيرة تزحف نحو القيادة.

وقال لهم نبيهم صالح (ع) اطيعوني ، ولا تطيعوا أمر المسرفين ، وقد سبّق طاعته بتقوى الله وقال : «فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ» لكي يبرر طاعته للناس بأن طاعته امتداد لطاعة الله.

ويبدو أن جوهر الفساد ، أو العامل الرئيسي له هو الإسراف ، فاذا زادت النعمة على الإنسان أسرف في تلك التي أعطاها الله إيّاها ، وبالتالي جعلها مادّة لفساده ، فقد يعطي الله إنسانا نعمة الجمال فيفسد بها ، أو نعمة الجنس فيفسد بها ، أو نعمة المال والولد فيتجبر بهما ويطغى على من هو دونه ... وهكذا.

فبدل أن يصل بهذه النعم إلى رضوان الله ، وإصلاح المجتمع ، وعمارة الأرض ، إذا به يصل إلى عبادة ذاته ، وبالتالي الإفساد في الأرض.

ان الله يرزقنا النعم كي نستفيد منها في عمارة الأرض ، والبلوغ الى جنانه ومرضاته ـ سبحانه ـ فقد رزقنا الله اليد لنأخذ بها حقّنا لا ان نبطش بها ، والعين لنبصر بها لا ان ننظر الى الحرام ، واللسان كي نسمع الناس الحكمة لا ان نتطاول به بالغيبة والبهتان والسباب ... وهكذا.

١٠٠