من هدى القرآن - ج ٩

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٩

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٣

رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ

هدى من الآيات :

تحدثنا آيات هذا الدرس عن صفات القائد الرسالي الذي يصنع الثورة ، ويقاوم الجاهلية المادية بالرّسالة الإلهية ، وموسى (ع) الذي قرر ان لا يكون ظهيرا للمجرمين ، بل يكون الى جانب الحق ـ لم تكن حركته نابعة من عواطف مؤقتة ، ولا من شهوات سلبية ، أو ردود فعل مرتجلة تجاه الأحداث ، وانما كان ينطلق من مبادئ ثابتة ، ويتحرك عبر مسيرة واضحة المعالم ، فهو يريد أن يحقق العدالة في المجتمع ، بادئا بنفسه أولا.

فبعد أن قتل موسى (ع) القبطي ، صار مطلوبا عند السلطة ، فكان ينبغي أن يكون حذرا في مدينة تطالها سيطرة فرعون ، وقد أشار القرآن لهذا الأمر في حديثه عن موسى (ع) وهو يدخل المدينة تارة ويخرج منها تارة أخرى ، أو يمشي فيها فقال : «وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها» «فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ» «فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ».

٢٨١

وهكذا ينبغي للرسالي أن لا يأخذ الأمور بسذاجة عند ما يدخل بلاد الطغاة لأداء مهمة ما. ان موسى دخل المدينة ، وخرج منها ، وعاش فيها حذرا ، وبالتالي مستعدّا ومخطّطا لتصرفاته في شتى الظروف والاحتمالات.

وبينما كان موسى يمشي في المدينة ، وفي هذه الظروف الصعبة ، فإذا بالذي استغاثه بالأمس يستصرخه اليوم ، يريد منه ان يعينه على رجل قبطي آخر ، لكنه هذه المرة تفجر غضبا على الإثنين ، على الاسرائيلي باعتباره يورط الحركة الرسالية في صراعات غير مخطط لها ، قد تنعكس سلبيّا على خطط الحركة في التغيير ، ويبدو أن الرجل كان ممن تثيره عداواته الشخصية ، فتجره الى مواقف مرتجلة هذا من جهة ، ولكن ذلك لم يمنع موسى من نصرته فلقد هم بالبطش بالقبطي باعتباره ظالما من جهة أخرى.

ان خطأ الإسرائيلي الذي استحق عليه اللوم لا يكمن في استراتيجيته ، فهو مظلوم يتعرض للإهانة ، وربما للقتل ومن حقه الدفاع عن نفسه وكرامته ، انما يكمن خطأه في أسلوبه ، إذ فجر الصراع في ظرف ووقت غير مناسبين ، وهنا لا بد أن نعرف ان من أسباب فشل أيّ حركة هو اللاانضباط الذي من صوره وشواهده دخول أفراد الحركة في صراعات غير مخططة وبعيدة عن قرار القيادة.

لهذا نهر موسى (ع) الاسرائيلي وقاله له :

«قاتلت رجلا بالأمس وتقاتل هذا اليوم لأؤدبنك ، وأراد ان يبطش به ، وهو من شيعته» (١)

فزعم ان موسى (ع) يريد قتله ، فاتهم النبي (ع) بأنه لا يصلح للقيادة ، وأنّ

__________________

(١) نور الثقلين ـ ج (٤) / ص (١١٩).

٢٨٢

هدفه ليس إلا الإفساد في الأرض ، والتجبّر ، وفي البين فضح سرّا من أسرار الحركة حين أعلن أمام الناس ، ان الذي قتل القبطي بالأمس هو موسى (ع) فانتشر الخبر في المجتمع ، وقررت السلطة ان تنتقم منه (ع) وتجعله عبرة للآخرين.

ويبدو ان الحركة الرسالية كانت ناضجة ، مما جعلها تخترق خاصة فرعون ، وتتعرف على خطط السلطة ، وهذا من أسباب النجاح في العمل ، إذ يمكّن الاختراق الحركات من اتخاذ خطط وقائية ومضادة لخطط الحكومات ، وكانت الخطوة الوقائية لموسى (ع) هو قرار الهجرة في سبيل الله.

وهكذا دخلت الحركة الرّسالية مرحلة جديدة ، وأسلوبا آخر في العمل الرسالي ، والهجرة مرحلة أساسية لدى الحركات الرسالية عبر التاريخ ، وهي ذات معطيات هامة على مستوى الفرد والحركة ، فهي مثلا تزكّي الفرد من جهة وتحفظ القيادة والتحرك من جهة أخرى.

ولم تكن الهجرة بالنسبة الى موسى (ع) تعني الهروب من ساحة الصراع والعمل في سبيل الله ، بل كانت فرصة للإعداد الأفضل للصراع والعمل ، حيث كان مستضعفا ومحروما ، فكان يبحث هنا وهناك عن مستضعف ليعينه ، كما لم ينقطع عن التفكير في جماهيره المغلوب على أمرها.

لهذا نجد القرآن أول ما يحدثنا عن موسى (ع) في دار الهجرة يشير الى انه أول ما قام به هناك هو خدمة الناس ، والإحسان إليهم. انه لم يقل : يجب أولا ان انتصر على الطاغوت ، ثم أفكر بعدها في خدمة المستضعفين ، كلا .. فأنت أيّها المؤمن ، وأنت في مسيرة بناء الدولة الاسلامية عليك ان تسعى بما أتاك الله من قوة لخدمة الناس ، لأن ذلك يربي الإنسان ، وينمي فيه المواهب الخيّرة ، وبالتالي يجعله أهلا لتحمل المسؤولية الرسالية.

٢٨٣

وفي الآية الأخيرة نجد صورة نموذجية لأسلوب الفرد المؤمن في الدعاء.

بينات من الآيات :

فاذا الذي استنصره يستصرخه :

[١٨] (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ)

لقد كان موسى (ع) مطلوبا عند السلطة باعتباره معارضا لها ، فكيف وقد قتل شخصا منهم؟!

ان الخوف الذي تشير له الآية الكريمة هو الخوف الإيجابي الذي يدعو صاحبه للتفكير في العمل ضمن الظروف الصعبة ، لا الخوف السلبي الذي يدعو للتوقف عن التحرك والخنوع ، وفرق بين الأول الذي ينعكس على أسلوب العمل ، والآخر الذي ينعكس على ذات العمل.

ان موسى (ع) لم يتوقف لحظة عن الجهاد في سبيل الله ، ولكنه صار يتحرك بحذر ، والترقب : من المراقبة ، وتوقع ردّات فعل السلطة. الأمر الذي يدعو للإعداد الوقائي لأيّة ردة فعل من قبلها.

وعند ما تدخل الحركة الرسالية في ظروف العمل السري يتوجب عليها ان تحسب الف حساب لتحركاتها ، وان تختار الوقت المناسب لتوجيه أيّة ضربة للنظام ، وأن لا تفجر الصراع بشكل شامل ومعلن الا بعد نضجها ونضج الساحة الجماهيرية ، وضمن خطة مدروسة آنفا ، وإلّا فإن مصيرها سيكون الفشل.

ومجموع هذه الحسابات هي التي دعت موسى (ع) للغضب على الاسرائيلي لما تقاتل مع القبطي الآخر ، ولو لم يكن يستنجد بموسى ، وبالتالي يكشفه أمام الناس ،

٢٨٤

ربما لم يتخذ منه هذا الموقف.

(فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ)

وقد عبر القرآن عن المرة الثانية بالاستصراخ ، ولم يقل يستنصره ـ كما كان في حديثه عن الأمس ـ وربما ذلك ليبين ان موقف الإسرائيلي كان فاضحا ، ولعل هذا كان مما دعا موسى (ع) للغضب عليه.

(قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ)

انك تعرف الطريق الصحيح ، وانه من غير المناسب تفجير الصراع في مثل هذه الظروف ، ولكنك تتنكب عن الطريق بشكل بيّن وواضح ، وذلك ان موسى (ع) ـ كما يبدو ـ كان قد بين له في المرة الأولى الخطأ «قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ» (٢) لكنه خالف القيادة فاستحق العتاب بل التأديب كما في الرواية التي مر ذكرها.

ومع كل ذلك صمم موسى (ع) على البطش بالقبطي ، لأنه أخذ على نفسه عهدا بان لا يكون ظهيرا للمجرمين.

[١٩] (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما)

هو والاسرائيلي ـ بعد ان لام الذي من شيعته على خطئه ـ وحيث ان كلمات موسى كانت قد أثرّت أثرها في نفس الاسرائيلي ، فأراد الثأر لنفسه :

(قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ)

__________________

(٢) القصص / (١٥).

٢٨٥

هكذا تبيّن ان الرجل كان غويّا مبينا ، وان صراعه مع الأقباط كان مجردا عن المضمون الرسالي. إذ بمجرد خشيته من غضبة قائده ومنقذه انقلب عليه ، واتهمه بأنه يريد ان يتجبر في الأرض ـ يتسلط على الناس بغير الحق ـ وان ادعاءه بالسعي وراء الإصلاح ليس بصحيح ، ولعله كان من نمط المارقين الذين خرجوا على الامام علي ـ عليه السّلام ـ وهذا النمط من الثوريين هم المتطرّفون ، المعجبون بأنفسهم ، ضعاف الولاء لقيادتهم ، ومهما يكن نمط هذا الشخص فقد أذاع سرّا هاما من أسرار الحركة.

ويلاحظ في أحاديث أهل البيت (ع) أنهم اعتبروا إفشاء السر أو اذاعة الأمر ـ حسب التعبير الاسلامي ـ من أعظم المحرمات ، قال الامام الصادق (ع):

«يا ابن النعمان! اني لأحدّث الرجل منكم بحديث فيتحدث به عني ، فاستحل بذلك لعنته والبراءة منه ، يا ابن النعمان! إنّ المذيع ليس كقاتلنا بسيفه بل هم أعظم وزرا ، بل هو أعظم وزرا ، بل هو أعظم وزرا» (٣)

قال (ع):

«والله ما الناصب لنا حربا بأشد علينا مؤنة من الناطق علينا بما نكره» (٤)

وقال (ع):

«من أذاع علينا شيئا من أمرنا فهو كمن قتلنا عمدا ولم يقتلنا خطأ» (٥)

وعند ما نقارن بين موقف موسى (ع) من الاسرائيلي في المرتين ، نجد التالي :

__________________

(٣) بحار الأنوار ج (٧٨) / (٢٨٧).

(٤) المصدر ج (٧٥) / ص (٧٤).

(٥) المصدر / ص (٨٧).

٢٨٦

١ ـ انه في المرة الاولى قتل القبطي ، ثم بيّن له الخطأ : «فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ» أما في المرة الثانية ، فانه تكلم ضد الإسرائيلي أولا : «قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ» ثم توجه للبطش بالقبطي : «فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما ...» ولعل ذلك ل يبين لنا القرآن حقيقة طالما أكد عليها أئمة الهدى في أحاديثهم وهي : ان الاسرائيلي في المرة الثانية حيث خالف أمن الحركة كان أحق باللوم والتأديب ، فموسى بدأ بالقبطي تلك المرة لأن تأديبه هو الأهم ، بينما بدأ بالاسرائيلي هذه المرة لأن ردعه عن تصرفاته الخاطئة هذه أهم بالنسبة للحركة الرسالية من قتل القبطي. بل ان بعض الروايات قالت : ان موسى أراد ان يبطش بالإسرائيلي لا بالقبطي ، قال الامام الرضا (ع) في تفسير الآية :

«فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ» على آخر «قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ» قاتلت رجلا بالأمس وتقاتل هذا اليوم لأؤدبنك وأراد ان يبطش به «فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما» وهو من شيعته «قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي) .. الآية» (٦)

٢ ـ في المرة الاولى قال القرآن عن لسان موسى وهو يخاطب الاسرائيلي لدخوله في الصراع مع القبطي : «قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ» وقد نسب العداوة والضلال المبين للشيطان ، بينما قال في المرة الثانية : «قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ» ناسبا الغواية الواضحة والمتعمدة للإسرائيلي ، وبالمقارنة نصل الى هذه النتيجة : ان الاسرائيلي وقع في حبائل الشيطان ، وصار عدوا لموسى من حيث لا يشعر ، وهكذا كل من يخالف أوامر قيادته الرسالية ، لتصوراته ومواقفه الشخصية.

__________________

(٦) نور ج (٤) / ص (١١٩).

٢٨٧

(فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) :

[٢٠] وكما ان عدم الانضباط من أسباب فشل الحركات وضعفها ، فان اختراقها لأجهزة النظام من أسباب قوتها ونجاحها ، ولربما كانت حركة موسى تفشل لو لم تكن تملك نقطة القوة هذه ، فربما كانت تنتهي لو قبض على قائدها أو قتل.

(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى)

ورد في الروايات :

... وبلغ فرعون خبر قتل موسى الرجل ، فطلبه ليقتله ، فبعث المؤمن الى موسى : «إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ»(٧)

وهو الذي قال عنه تعالى في موضع من القرآن : «وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ» لقد كان هذا الرجل يتظاهر بالكفر ، ويخفي الايمان ، وذلك لينفع به حركته الرسالية ، وأن يعيش الرجل بشخصيتين متناقضتين أمر صعب ، ويحتاج إلى شخص بمستوى رفيع من التقوى والجهاد والارادة ، فلا يذوب أمام اغراءات الدنيا فينقلب على عقبيه ، ولا يعجز عن أداء هذا الدور ، وجاء في بعض الروايات عن أصحاب الكهف :

قال الامام الصادق (ع):

«إنّ أصحاب الكهف أسرّوا الإيمان وأظهروا الكفر ، وكانوا على إجهار الكفر أعظم أجرا منهم على إسرار الإيمان» (٨)

__________________

(٧) نور الثقلين / ج (٤) / ص (١٢٠).

(٨) وسائل الشيعة / ج (١١) / ص (٤٨٠).

٢٨٨

ومن طريف ما يحكى عن مؤمن آل فرعون وكتمان ايمانه ورساليته ، وايمانه بموسى (ع) عن الامام الصادق (ع) انه قال :

ولقد كان لخربيل المؤمن مع قوم فرعون الّذين وشوا به الى فرعون مثل هذه التورية. كان خربيل يدعوهم إلى توحيد الله ونبوّة موسى ... ومن البراءة من ربوبيّة فرعون ، فوشى به الواشون إلى فرعون ، وقالوا : إنّ خربيل يدعو إلى مخالفتك ، ويعين أعداءك على مضادتّك ، فقال لهم فرعون : ابن عميّ وخليفتي على ملكي ووليّ عهدي؟ إن فعل ما قلتم فقد استحقّ العذاب على كفره لنعمتي ، وإن كنتم عليه كاذبين قد استحققتم أشدّ العقاب لإيثاركم الدخول في مساءته ، فجاء بخربيل وجاء بهم فكاشفوه وقالوا : أنت تكفر ربوبيّة فرعون الملك وتكفر نعماءه؟ فقال خربيل : أيّها الملك هل جرّبت عليّ كذبا قطّ؟ قال : لا ، قال : فسلهم من ربّهم؟ قالوا : فرعون قال لهم : ومن خالقكم؟ قالوا : فرعون هذا ، قال : ومن رازقكم ، الكافل لمعايشكم ، والدافع عنكم مكارهكم؟ قالوا : فرعون هذا ، قال خربيل : أيّها الملك فأشهدك ومن حضرك أنّ ربّهم هو ربّي ، وخالقهم هو خالقي ، ورازقهم هو رازقي ، ومصلح معايشهم هو مصلح معايشي ، لا ربّ لي ولا خالق ولا رازق غير ربّهم وخالقهم ورازقهم ، وأشهدك ومن حضرك أنّ كلّ ربّ وخالق ورازق سوى ربّهم وخالقهم ورازقهم فأنا بريء منه ومن ربوبيّته ، وكافر بإلهيّته.

يقول خربيل هذا وهو يعني أنّ ربّهم هو الله ربّي ، ولم يقل إنّ الّذي قالوا هم أنّه ربّهم هو ربّي ، وخفي هذا المعنى على فرعون ومن حضره وتوهّموا أنّه يقول : فرعون ربّي وخالقي ورازقي ، فقال لهم : يا رجال السوء ويا طلّاب الفساد في ملكي ومريدي الفتنة بيني وبين ابن عمّي وهو عضدي أنتم المستحقّون لعذابي لإرادتكم فساد أمري ، وإهلاك ابن عمّي ، والفتّ في عضدي ثمّ أمر بالأوتاد فجعل في ساق كلّ واحد منهم وتد ، وفي صدره وتد ، وأمر أصحاب

٢٨٩

أمشاط الحديد فشقّوا بها لحمهم من أبدانهم ، فذلك ما قال الله : «فَوَقاهُ اللهُ» يعني خربيل «سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا» لما وشوا إلى فرعون ليهلكوه «وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ» وهم الّذين وشوا لخربيل إليه لمّا أوتد فيهم الأوتاد ومشط عن أبدانهم لحومهم بالأمشاط (٩)

وقد تقتضي المصلحة أحيانا ان لا يعيش الفرد الرسالي مع المحرومين في مكان واحد ، بل يبحث له عن بيت سعيد ، يميل إلى الرفاه من أجل إخفاء شخصه ، ولكن لا ينبغي ان ينعكس ذلك على إيمانه وشخصيته الحقيقية أبدا.

والرسالي الذي يمارس هذا الدور يجب ان لا يظهر ارتباطه بالحركة أو القيادة الرسالية حتى لا يفتضح أمره ، والقرآن يعبر عن مجيء الرجل من أقصى المدينة بالسعي ، وهو الإسراع ، وقد جاء مسرعا وذلك حتى يتدارك الأمر قبل ان يقع موسى في يد السلطة من جهة ، وحتى يسبق جلاوزة النظام للمكان ، وبالتالي لا يرى وهو يؤدّي واجبه الرسالي ، حيث لا يقول ربنا سبحانه : يركض أو يسرع. هذا من جهة ، ومن جهة أخرى لم تكن سرعته بالشكل الذي يلفت انتباه الآخرين ، إذ من الخطأ عند ما يكون عند الفرد الرسالي أمر هام أن يظهر في صورة غير عادّية أمام الآخرين.

وهنا لا ننسى أيضا أثر الوقت في كثير من المهامّ ، فقد يستدعي الأمر أحيانا أن يرسل الواحد للآخر إشارة فقط ، أو لا أقل يختصر الكلام ليكون الوقت في صالحه بشرط ان يكون الاختصار نافعا.

(قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ)

__________________

(٩) بحار الأنوار / ج (٧٥) / ص (٤٠٢).

٢٩٠

بهذه العبارة المختصرة التي تتضمن الخبر والتحليل اكتفى هذا الرجل.

[٢١] كما ان موسى (ع) لم يفوت على نفسه لحظة واحدة ، إذ كان يملك القرار الحازم ، بالاضافة الى البصيرة النافذة ، ويعبّر عن مجموع هاتين الصفتين بسرعة البديهة ، وكم من المجاهدين وقعوا في يد الأنظمة لأنهم لا بديهة لهم ، فتراهم عند ما يسمعون بأن شيئا غير عادي يحوط بهم. تراهم يترددون في اتخاذ القرار المناسب ربما لصعوبته عليهم ، كقرار الاختفاء ، أو الهجرة ، أو التصدي ، فيقعون في محذورات أكبر.

(فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)

وكان يحمل معه في هجرته زاد التوكل وهو أعظم زاد.

[٢٢] لقد كان موسى مهاجرا بالمعنى المعنوي ، عند ما هجر سلوكيات المجتمع المنحرفة ، أما الآن فانه بدأ الهجرة العملية بمضمونها المادي أيضا ، وللهجرة في سبيل الله فوائد عظيمة. من أهمها تزكية نفس الإنسان ، فأول ما يقوم به المهاجر في سبيل الله هو تزكية نفسه. ذلك ان وعثاء السفر ، والغربة ، والابتعاد عن المجتمع الفاسد ، ومواجهة التحديات ، والمشاكل الجديدة ، و.. و.. كل هذه الأمور بوتقة لصياغة شخصية الإنسان باتجاه التكامل ، وهكذا كانت الهجرة تعني بالنسبة لموسى (ع) فقد كان يبحث عن الهدى ، ولم تكن هجرته للهروب عن المصاعب والمشاكل. كلا .. فهو لا يزال يفكر في قومه.

ان قسما من الناس حينما يهاجرون عن شعوبهم ، ويجدون الرخاء والأمن في البلد الآخر ، ينسون بلادهم وشعبهم ، وكل الدموع والدماء والمآسي التي لا يزال شعبهم يعاني منها ، وهذا خطأ كبير ، وانحراف بالغ ، لأنك حينما تهاجر فلكي

٢٩١

تكسب المزيد من الوعي والقوة ، فتعود لبلدك لتفجر الثورة.

وهكذا نجد موسى (ع) في مسيره الى مدين يسأل الله سبحانه ان يهديه سواء السبيل :

(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ)

وقد انطلق موسى ـ عليه السّلام ـ في الصحراء وحده ، وكانت قصة هجرته أروع ما عرفه التاريخ من هجرات البشر. دعنا نقرأ جانبا منها :

[٢٣] لقد هاجر (ع) الى مدين ، وكانت مدين مدينة يكثر فيها الرعاة ، وتحوطها الآبار.

(وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ)

اي بعيدا عنهم.

(امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ)

تمنعان اغنامهما عن الورود على الحوض ، لأنهما كرهتا الاختلاط مع الرجال ، فكانتا تنتظران نهاية السقاية.

(قالَ ما خَطْبُكُما)

ما الأمر؟ لماذا لا تسقيان؟ وكان ـ عليه السّلام ـ يبحث عن مستضعف يعينه ، وهكذا تكون حياة الرساليين أينما كانوا كلها في خدمة الرسالة والناس ،

٢٩٢

وهم يبحثون عن أي فرصة للعمل الصالح دون ان ينتظروا من الناس ان يسألوهم العون. وقد قال القرآن في حق عيسى (ع) : «وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ» اي أينما حللت ، فالمؤمنون مبارك مقدمهم على مجتمع في دار الهجرة.

ولعلنا نستفيد من قيام موسى بهذا العمل ضرورة بناء علاقات اجتماعية تثبت التحرك الرسالي في مجتمع الهجرة ، كما يستفيد من خلالها في خدمة قضيته.

(قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ)

لا يستطيع ان يسقي الأغنام ، اما نحن ننتظر سائر الرعاة حتى ينتهوا فنسقي أغنامنا.

[٢٤] (فَسَقى لَهُما)

اننا نجد قسما من الثائرين يسقطون خدمة الناس من حسابهم ، بحجة ان العمل للقضية أهم من كل شيء.

أما موسى فانه يرى خدمة المستضعفين من أهم أهدافه ، لذلك سقى للامرأتين ، وكان فتى قويّا ، عركته صعوبات الحياة وتحدياتها ، وقد سقى لهما بدلو لا يطيق حمله الا عشرة رجال.

والواقع : إن من أهمّ صفات الأنبياء الإحسان الى الناس ، وبأمثال هذه الصفة اصطفاهم الله للرسالة ، فعند ما يتحدث القرآن عن اختيار الله للأنبياء كثيرا ما يقول : «وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ».

(ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)

٢٩٣

لقد كان موسى يتضور جوعا ، ويعاني من الغربة ، ولا يعرف الى اين ينتهي به الأمر ، ولكنه لم يشك الى الله ذلك ، بل ذكر نعمه السابقة ، وقال انني افتقر الى ذلك الخير. وهذا من أفضل أساليب الدعاء ، إذ يتضمن كناية أبلغ من التشبيه ، ونظرة ايجابية. فبدل ان يقول أحدنا : ان عيني تؤلمني فشافها يا رب ، ليقل ان عيني كانت سليمة سابقا ، واني اليوم لفي حاجة لان أكون مثل الماضي. إذ من آداب الدعاء أن يبدأه العبد بحمد الله ، والثناء عليه ـ كما في الأحاديث ـ.

وأهمية هذا الأدب المحافظة على الروح الايجابية عند الإنسان الذي يسعى الشيطان لإغوائه أبدا عن نعم الله ، ووضع نظارات سوداء على عينه كلما ألمت به مصيبة ، أو فقد نعمة ، حتى لا يرى سائر النعم الباقية وهي بالتأكيد أكثر مما فقدها ومن لا يرى نعم الله عليه لا يمكنه من الانتفاع بها.

وفي تفسير آخر للآية : ان أبا بصير قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ : هل للشكر حدّ إذا فعله العبد كان شاكرا؟ قال : نعم ، قلت : ما هو؟ قال :

يحمد الله على كلّ نعمة عليه في أهل ومال ، وإن كان فيما أنعم الله عليه في ماله حقّ أدّاه ، ومنه قول الله عزّ وجل : «سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ» ومنه قول الله عزّ وجل : «رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ..

وربما ربط الامام (ع) بين حدود الشكر وبين هذه الآية ليبيّن حقيقة هامة وهي : ان قول موسى هذا انما هو شكر ، لأنه بعد ما سقى الى الامرأتين ، وتولى الى الظلّ. قال : «رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» لأني ما عملته قليل ، وانا محتاج الى عمل أكثر وأكبر ، حتى يرتفع رصيدي عندك.

٢٩٤

فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨) فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ

___________________

٢٧ [أشق عليك] أي أتعبك.

٢٩٥

الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠)

___________________

٢٩ [جذوة] : القطعة الغليظة من الحطب فيها النار وجمعها حذى.

٢٩٦

آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً

هدى من الآيات :

الهجرة مرحلة ضرورية لكل الرسالات والحركات الرسالية السائرة على خطأها عبر الزمن ، فهي تنفع الإنسان تزكية لنفسه ، وبلورة لشخصيته ، واستقامة على الحق بما فيها من ساعات صعبة حبلى بالمشاكل والألم ، فالمهاجر يقتلع نفسه من مجتمعة ، ويعيش غريبا ، مجهول المصير ، ولعل تلك الساعة التي آوى فيها موسى الى ظل الشجرة كانت من تلك الساعات ، فهو الآن جائع ومتعب من وعثاء السفر ، في بلد لا يعرف فيه أحدا ، بالإضافة الى هموم شعبه المستضعف ، وربما كان خوف فرعون لا يزال يلاحقه ، ولم يتخلص منه نهائيا إلا بعد أن أخبره شعيب بأنه قد نجى ـ فعلا ـ من القوم الظالمين.

أما الوجه الآخر للهجرة ، فهي رحمة الله التي ترعى المجاهدين ، وفي هذه الآيات الكريمة نجد حديثا عن أبواب الرحمة والبركة التي فتحها الى نبيه موسى (ع) فقد

٢٩٧

جاءته احدى الامرأتين اللتين سقى لهما ، وهي تدعوه الى بيتهم حتى يجزيه أبوها أجر السقاية ، وتتابعت عليه بركات الرب ، حيث أضحى واحدا من هذا البيت بعد ان كان غريبا في مدين ، ومستقرّا بعد ان كان من دون مأوى ، ونقرأ بين السطور دروسا إلهيّة مهمّة حول أخلاقيات المهاجر الرسالي.

وتتجلى الرحمة الإلهية مرة أخرى وبصورة أعظم حينما يرجع موسى بأهله الى وطنه والمشاكل تحوطه من كل جانب ، فالليل حالك الظلمة ، والبرد قارص ، وزوجته حامل ، وهم يسيرون في مفازة شاسعة ، دون معرفة بمعالم الطريق ، وفي الأثناء تموت مواشيه ، وهو لا يعرف إذا يصنع ، وإذا بيد الغيب تمتد اليه لا لكي تستنقذ موسى فقط ، وانما لكي تستنقذ معه بني إسرائيل أيضا.

في بادئ الأمر لما رأى موسى النار لم يكن في خلده سوى الاستفادة من جذوتها للتدفئة ، وممن حولها الاهتداء الى الطريق ، ولكن ما إن بلغها حتى سمع النداء : «فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً» وحينها انسلخ من كل الانتماءات المادية ، ونسي كل الهموم والآلام ، وتوجه الى ربه بكل عقله وعواطفه ، وهنا تتجلى عظمة الأنبياء ، فاذا بموسى (ع) لا يخلع نعليه وحسب ، بل يخلع كل انتماءات الأرض والتراب عن نفسه ، ويأتيه الوحي من طور سيناء ، دون ان يلتفت الى زوجته الحامل ، ولا مواشيه التي هلكت والتي كانت حصيلة عشر سنوات من العمل.

بينات من الآيات :

اخلاقيات المهاجر :

[٢٥] المهاجر باعتباره غريبا عن بلد الهجرة ، يجب ان يكون متساميا في الأدب ، لأنه لا يعرف البلد ، ولا يعرف خصائصه الاجتماعية ، وربما يوجد فيه من

٢٩٨

يعتقد بأنه ثقيل الظل ، فيحاول الضغط عليه ، ومن هنا يجب على المهاجر تفجير طاقاته المعنوية والمادية ليستوعبه أهل المدينة ، وأول عمل قام به موسى (ع) أنه أعان العائلة الفقيرة ، وهكذا نجد حياة الأنبياء والرساليين عبر التاريخ ، فرسول الله (ص) دخل المدينة مهاجرا من مكة ، ودخلت معه البركات إليها بسبب نشاطه وقيمه الرسالية ، وأول ما وصل إليها بنى مسجدا فيها وهو مسجد (قباء) وردم الحفر والمستنقعات التي انتشرت حولها ـ حسب بعض التواريخ ـ والتي كانت باعثا على الأمراض ، ثم إنه (ص) لم يكن كلّا على أهلها ، بل كان يعمل بنفسه ، ويكد من عرق جبينه ، أو ربما دفع الامام علي للقيام بهذا الدور ، ومثل هذا السلوك يجعل المهاجر محبوبا في المجتمع ، وهذا ما حدث فعلا لموسى ـ عليه السّلام ـ إذ بعث اليه شعيب ـ عليه السّلام ـ لما أنبأته ابنتاه بأنه قويّ أمين ، وقد أحسن إليهما بالسقي لمواشيهما.

(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا)

وهنا اشارة الى ان الأديان الإلهية عموما لا تعارض دخول المرأة الى الواقع الاجتماعي ، وتعاملها مع الآخرين ، ولكن بشرط ان يكون تعاملها محاطا بالأدب والحياء ، فهذه ابنة شعيب وهو أحد الأنبياء بعثها أبوها في أمر يجده ضروريّا ، وحين لبّت كانت متسربلة بالعفة والحياء.

واستجاب موسى (ع) لهذه الدعوة لا ليأخذ أجر السقاية ، وانما ليجد له موقعا في هذا البلد الغريب. إذ ينبغي للمهاجر الرسالي ان يبني شبكة من العلاقات الاجتماعية بمختلف الأسباب المشروعة ، ولمختلف الجهات في المجتمع حتى يستفيد منها في سبيل أهدافه الحق ، وحينما مشى موسى مع امرأة غريبة مشى بأدب

٢٩٩

وحشمة ، فقد أمرها ان تسير خلفه وتدله على الطريق بحصاة ترميها يمينا أو يسارا ، لأنه ربما يرى شكلها وهي تسير أمامه.

وفي الحديث :

«فقام موسى معها ومشت أمامه ، فسفقتها الريّاح فبان عجزها ، فقال لها موسى : تأخري ودليني على الطريق بحصاة تلقينها أمامي اتبعها ، فانا من قوم لا ينظرون في ادبار النساء» (١)

(فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ)

روى له ما جرى عليه في بلاده التي يسيطر عليها فرعون وجلاوزته.

(قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)

وأول ما دخل عليه موسى أمر له بطعام ، فرفض أن يأكله وهو جائع ، فلما سأله شعيب عن السبب ، قال نحن من أهل بيت لا نأخذ أجرا على خدمتنا للآخرين لأنه لوجه الله ، وبقي مصرا على ذلك ، حتى أوضح له شعيب ان هذا ما نقدمه لكل ضيف يحل علينا.

ويبين لنا هذا الموقف احدى صفات المهاجرين الرساليين وخلقياتهم ، إذ يجب على المهاجر ان يحصّن نفسه ضد الذلة ، ويحافظ على قيمه التي جاء بها للمهاجر ، فالكثير من المهاجرين ، سواء كانوا عمّالا أو مجاهدين حينما ينتقلون الى بلاد الشرق أو الغرب تنمحي قيمهم من أذهانهم ، وتنعكس على شخصيّاتهم قيم وسلوكيات مجتمع المهجر ، لأن المجتمع قويّ ، وهم لا يجدون ما يحصنهم أمام تياراته ، فيذوبون

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٤) / ص (١٢٢).

٣٠٠