من هدى القرآن - ج ٩

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٩

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٣

يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤)

___________________

٩٠ [وأزلفت] : أي قربت.

٩١ [وبرّزت] : والتبريز الإظهار.

٩٤ [فكبكبوا] : أصله كببوا ، أي دهدهوا.

٦١

بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ

هدى من الآيات :

في سياق تبيان الصراع بين رسالات الله وثقافة الشعراء يضرب لنا الرب مثلا من قصة إبراهيم وقومه ، وكيف أوحى الله اليه بمقاومة الفساد العريض الذي تردوا فيه ، فعبدوا الأصنام ، وحين سألهم عن ذلك إبراهيم لم يملكوا حجة ، بل قالوا : انا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ، فأعلن البراءة منهم ومن آبائهم ومن أصنامهم ، وتوجه الى عبادة رب العالمين ، الذي أعطاه خلقه وهداه ، وطعامه وشرابه وشفاه ، وهو يميته ويحييه ، ويرجو مغفرته يوم يلقاه ، وتضرع اليه : ان يهب له الحكم ، ويلحقه بمن مضى من الصالحين ، ويجعله فاتحة عهد صالح ، وان يرزقه الجنة ، ويغفر لأبيه لأنه كان من الضالين ، ولا يخزيه يوم البعث بالنار. إنّه يوم لا تنفع الأصنام ، كما لا يغني اتباع الآباء شيئا ، فلا ينفع فيه مال ولا بنون الّا من أتى الله بقلب سليم. في ذلك اليوم تزلف الجنة ليدخلها المتقون ، وتبرّز النار ليدخلها الغاوون ، الذين يسألون : (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ، فأين ذهبت أصنامكم ، واين

٦٢

تولى آباؤكم. هل هم قادرون اليوم على نصركم أو نصر أنفسهم؟! فلما فلم يحيروا جوابا أقحموا في النار مع الغاوين ، وجنود إبليس أجمعين.

وهناك تبيّن مدى ضلالتهم ، حيث اختصموا في النار ، فقال الكفار لأوليائهم : انا كنا في ضلال مبين إذ نجعلكم سواء مع رب العالمين ، وأنحوا باللائمة على الذين أضلوهم ـ لعلهم عنوا بهم ادعياء الدين والعلم ـ ونعتوهم بالإجرام ، وقالوا : لا أحد يشفع لنا ولا يصدقنا ، ويهمّه أمرنا ، وتمنوا لو كانت لهم كرة حتى يكونوا مؤمنين.

ويختم القرآن هذا الدرس ، كما ختم قصة موسى (ع) بان كل ذلك آية ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ، ثم يذكرنا باسمي العزة والرحمة لربنا العظيم.

بينات من الآيات :

[٦٩ ـ ٧٠] نستوحي من قصص سيدنا إبراهيم ـ عليه السّلام ـ أن فطرته الإيمانية تجلت حتى قبل ان يوحى اليه ، فاذا به يواجه أكبر فساد استشرى في قومه وهو عبادة الأصنام ، واتباع الاباء على غير هدى.

يبدأ انحراف البشر بسبب همزات الشيطان ، ودفعات الشهوات ، ولكنه سرعان ما يلبس ثياب الشرعية ، ويضفي عليه أدعياء الدين والعلم وبأمر من المترفين القداسة الدينية ، وكذلك كانت عبادة الأصنام عند قوم إبراهيم.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ* إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ)

ان إبراهيم يتحدى أولا أباه ، الذي لم يكن والده انما كان عمه آزر الذي تبناه ، ولعل السبب يتلخص في أمرين :

٦٣

أولا : ان أباه كان هو المسؤول المباشر عنه ، والذي كان ينفذ عليه تعاليم مجتمعة ، ومن خلاله كان يتعرض إبراهيم لضغط المجتمع الفاسد ، ودفعه باتجاه عبادة الأصنام.

ثانيا : ان إبراهيم كان في مجتمع رجعي يقلّد الآباء ، ولذلك كان ينبغي أن يبدأ تحديه لهم حتى يصبح قدوة لكل من يعيش في مثل هذا المجتمع المتخلف.

[٧١] لقد اعترفوا بفسادهم ، وأنهم إنّما يعبدون أصناما لا تضر ولا تنفع.

(قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ)

نصلي لها ، ونديم عبادتها ، ولعل هذا التعبير يوحي بأنهم كانوا في شك من جدوائية عبادتهم لها ، وانما مضوا عليها اقتداء بالسابقين.

[٧٢] ان نظام الحياة قائم على النفع والضر ، وان فطرة الإنسان تهديه إلى الربّ في أوقات الشدة وعند الحاجة ، وهكذا سألهم إبراهيم : هل تستجيب هذه الأصنام عند الشدة ، حيث ينقطع رجاء الإنسان من الوسائل المتاحة له (كما يستجيب الرب سبحانه) أو هل تنفع أو تضر في الأوقات العادية؟!

(قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ)

في حال الشدة تتساقط الأوهام ، ويتعلق القلب بالخالق فلا يدعو غيره ، وهذا أكبر برهان على بطلان عبادة الأصنام.

[٧٣] (أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ)

هكذا ألقى إبراهيم حجرا كبيرا في محيط قلوبهم الراكد ، وأحدث فيها أمواجا

٦٤

متلاحقة من الشك ، والواقع : إنّ زرع الشك في القلب بالنسبة إلى الوضع الفاسد خصوصا عند أولئك الجامدين يعتبر أكبر إنجاز.

ففي حوار بين طبيب هندي ملحد ، والإمام الصادق ـ عليه السلام ـ يلقي الامام الشك في روعه فيما يتعلق بعقائد الطبيب الفاسدة ، فيقول : لا ادري لعل في بعض ما ذكرت مدبرا ، وما ادري لعله ليس في شيء من ذلك؟

فيقول له الامام :

«اما إذا خرجت من حد الإنكار الى منزلة الشك ، فاني أرجو أن تخرج الى المعرفة» (١)

[٧٤] ولم يملك القوم حجة ، فأحالوا القضية إلى التراث الذي هو آفة المتدينين ، حيث يختلط بالدين في ذهن الناس بما يصعب فكاكه عنه.

(قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ)

[٧٥] هناك تجلى تحدي إبراهيم لقومه ، فأعلنها صراحة : أنني براء منكم ومما تعبدون ، لأن تلك الأصنام عدوة لي :

(قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ)

وهذا التعبير بالغ درجة كبيرة من الاستخفاف والسخرية.

[٧٦] (أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ)

__________________

(١) بحار الأنوار / ج (٣) / ص (١٥٥).

٦٥

اي أنني لا أتحدى فقط آباءكم القريبين إليكم ، بل حتى أولئك الأكثر قداسة عندكم وهم الأقدمون. أليس المجتمع الرجعي يكتسب فيه القديم قيمة تتنامى مع مرور الزمان كأنه الخل أو الخمر؟!

[٧٧] (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي)

أنني أعاديه بصراحة ، لأنه هو الذي يعاديني.

لقد كانت تلك كلمة البراءة. أزال بها إبراهيم الحصانة التي خلعها أولئك الرجعيون على الأصنام ، ولعل إبراهيم (ع) استهدف أيضا من ذلك أمرين آخرين :

أولا : إثبات عدم قدرة الأصنام على الإضرار بأحد اثبت ذلك عمليّا ، حيث كان أولئك الجهلة يحذرون الأصنام ، ويتهيّبون ترك عبادتها ، فكان قدوة في الرفض ، وهكذا من يتبع نهج إبراهيم من المؤمنين الصادقين ، يرفضون التسليم للطغاة ، ويصبحون قدوة في ذلك ، حيث يثبتون بعملهم ان الطغاة ليسوا بمعجزين في الأرض.

ثانيا : إن الأصنام رمز النظام السياسي والاقتصادي ، وتقديسها حجر الزاوية في البناء الثقافي للمجتمع الجاهل ، وأن الاستمرار في عبادتها يعني استمرار الوضع الفاسد الذي يضر بالإنسان ، فالأصنام عدوة للإنسان فعلا ، وعلى الإنسان أن يتخذها عدوا.

ولا يكفي رفض الأصنام ، بل لا بد من التوجه الى الله ، لذلك قال إبراهيم (ع)

(إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ)

٦٦

[٧٨] (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ)

لقد خلق الله كل شيء خلقا متينا ، وأجرى فيه سننا بالغة الدّقة ، وهدى الإنسان الى تلك السنن بالغرائز ، والفطرة ، والعقل ، والوحي ، وتطابق الوحي والسنن أكبر شهادة على صدق الرسالة ، وأبلغ حجة على حكمة الرب ، وحسن تدبيره سبحانه.

[٧٩] والبشر مفطور على تقدير من يطعمه ويسقيه ، ولكن يخطأ في معرفة المصدر الحقيقي للطعام والشراب. انه ينظر إلى الوسيلة ولا ينظر الى المصدر ، يرى الرافد ويغفل عن الينبوع ، يحس بيد الخبّاز ولكنه يجهل أو يتجاهل عشرات الأيدي من قبلها ويد الغيب من ورائها جميعا.

أما صاحب الفطرة النقية التي تتحدى سلطة المجتمع ، ولا يضيّع انسانيّته بالتسليم للفساد الثقافي السائد عليهم ، فهو الذي يهتدي إلى لبّ الحقائق ، وغيب الظواهر ، كمثل إبراهيم إذ قال :

(وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ)

[٨٠] لقد جعل الله في جسم الإنسان نظام مناعة ، يقاوم الجراثيم ، ويساعد على التغلب على المرض ، ومدى قدرة هذا النظام أو ضعفه ، ومدى قدرة الجرثومة وضعفها خاضع لتقدير الله سبحانه ، وهكذا يموت أو يطيب المريض بما لا يتحكم فيه البشر مهما أوتي من علم.

ولو أفقد الله الجسم مناعته ، فلا أحد قادر على حفظه حتى ولو شرب أطنانا من الأدوية المضادة.

٦٧

هكذا عرف إبراهيم بفطرته النقية الحقيقة هذه ، فقال :

(وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)

ان الشفاء بيد الله ، والله أودع في جسم الإنسان ما يتغلب به على المرض ، وأفضل العلاج مقاومة المرض بقوة الجسم ، وقد أكدت النصوص الاسلامية على هذه الضرورة.

وجاء في الحديث :

«امش بدائك ما مشى بك»

وجاء في حديث مأثور عن الامام الصادق (ع) انه قال :

«من ظهرت صحته على مرضه فتعالج بشيء فمات فأنا إلى الله منه بريء» (٢)

وربما لكي يتحمل آلام المرض ، ولا يسرع الى مقاومته مما يفقده مناعته ، جاءت نصوص تؤكد ثواب المرض للمؤمن.

جاء في حديث مأثور عن عبد الله بن مسعود انه قال :

بينما نحن عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ تبسم فقلت له : مالك يا رسول الله؟ قال :

«عجبت من المؤمن وجزعه من السّقم ، ولو يعلم ماله في السّقم من الثواب لأحب الّا يزال سقيما حتى يلقي ربه عز وجل» (٣)

__________________

(٢) نور الثقلين / ج (٤) / ص (٥٥).

(٣) المصدر / ص (٥٦).

٦٨

وندب الشرع كتمان الألم ثلاثا ، وانبأنا أن في ذلك ثوابا عظيما ، فقد روى عن الإمام الباقر عليه السّلام قال :

«قال الله تبارك وتعالى : ما من عبد ابتليته ببلاء فلم يشك الى عواده ، إلا أبدلته لحما خيرا من لحمه ، ودما خيرا من دمه ، فإن قبضته قبضته إلى رحمتي ، وان عاش عاش وليس له ذنب» (٤)

[٨١] في خضم المشاكل اليومية التي يواجهها البشر ينسى الحقائق الكبرى ، كمن يعالج شجرة في طريقه فتحجبه عن الغابة ، وإنما المهديون من عباد الله يتذكرون أبدا تلك الحقائق الكبيرة. من أين والى أين ومن المدبر؟

والموت والحياة هما أخطر ظاهرتين يمر بهما البشر ، وإذا كشفت عن بصره غشاوة الغفلة فانه يهتدي إلى من يقهر الناس بالموت ، ثم يبعثهم للحساب ، قال إبراهيم (ع) :

(وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ)

[٨٢] علاقة البشر بأي شيء أو شخص تنتهي بالموت ، ولكنها تستمر مع الرب الى يوم الدين ، حيث لا تنفع علاقة أخرى.

(وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)

ان القلب الواعي تنكشف له الحقائق حتى يبلغ ذروتها ، المتمثلة في اليقين بالبعث والنشور ، وهكذا كان عند إبراهيم عليه السّلام.

__________________

(٤) المصدر.

٦٩

[٨٣] لقد تجلت الحقائق لقلب إبراهيم (ع) حيث سلم لرب العالمين ، ففاضت يقينا وسكينة ، ونطقت بتطلعات سامية من وحي تلك الحقائق ، فمن آمن برب العالمين ، وعرف أنه الخالق الهادي ، والمطعم الساقي ، والشافي ، والمحي المميت ، والغافر للذنوب فلا يملك نفسه أن يتضرع اليه ، ويطلب حاجاته.

وتطلعات الإنسان كبيرة ، لأن الله خلق الإنسان في أحسن تقويم ، وأكرمه ، وفضلّه ، وأودع في نفسه روح النمو والتسامي ، إلّا أن عبادة الأصنام تكبت النفس وتذلها وتميت تطلعاتها ، أما إبراهيم ـ عليه السّلام ـ الذي تحرر من هذه العبادة فقد انفتحت قريحته بالدعاء ، وأعظم به وأعظم بمن دعا وأعظم بما دعا ، إذ قال :

(رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً)

هذا طلب عظيم ان تسأل الله ان يجعلك خليفته في الأرض ، ويبدو أن الحكم هنا النبوة أو العلم ، ومما يدعو المؤمنون به قولهم :

«رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً». (٥)

(وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)

وأكرم الصالحين هم الأنبياء ، ويبدو أن إبراهيم (ع) طلب بذلك الاستقامة على الطريقة حتى النهاية ليلتحق بالصالحين ، وذلك لعلمه أن الأمور بخواتيمها ، وعلى الإنسان ان يوطّن نفسه لمقاومة الضغوط حتى يحظى بعاقبة حسنى.

[٨٤] قد ينتهي الإنسان ، ويمحى أثره ، وينسى ذكره إلّا أنّ النفس السويّة تتطلع الى بقاء ذكره الحسن من بعده ، كذلك قال إبراهيم :

__________________

(٥) الفرقان / (٧٤).

٧٠

(وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ)

وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ هو دعوة إبراهيم كما قال ، فهو ـ إذا ـ لسان صدق في الآخرين ، حيث جدد شريعته ، وأعلى ذكره.

كما فعل ذلك الإمام علي ـ عليه السّلام ـ حيث جاء في تفسير علي بن إبراهيم في تفسير هذه الآية انه أمير المؤمنين عليه السلام. (٦)

وقد حرض الإسلام على البحث عن الذكر الحسن ليس باعتباره تطلعا مشروعا فقط ، وإنما أيضا لأنه يعكس كمال النفس وتكامليتها.

جاء في نهج البلاغة أن أمير المؤمنين (ع) قال :

«الا وان اللسان الصالح يجعله الله للمرء في الناس خير له من المال ، يورثه من لا يحمده» (٧)

[٨٥] ما شر بشر بعده الجنة ، ومنتهى رغبة النفس السوية الحصول على الجنة ، التي هي دار من ارتضاه الرب وأرضاه.

(وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ)

[٨٦] أول من تحدّى إبراهيم (ع) هو أبوه آزر ، ولعله كان يحس ان له عليه حقا ، فلا بد من ان يبر اليه ، فدعا له بالهداية ثم بالمغفرة ، فقال :

(وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ)

__________________

(٦) المصدر / ص (٥٧).

(٧) المصدر.

٧١

ولعل الاستغفار للضال الذي لم يبلغ درجة الجحود حسن ، لا سيما إذا كان له حق ، ومعنى الاستغفار هنا هدايته فيما يبدو.

وكان إبراهيم قد وعد أباه بأن يستغفر له ، فقال : «سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا». (٨)

ولكن إبراهيم تبرأ منه لما تحول من الضلالة الى العناد والجحود ، فقال ربنا سبحانه

«وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ». (٩)

[٨٧] لم يكن إبراهيم مذنبا ، انه كان نبيا عليّا ، عصمه الله من الذنوب ، ولكنه حين وجد نفسه في حضرة ربه وجدها حافلة بالنقص ، فلم يملك سوى الاستغفار ، وطلب المزيد من الطهارة والكمال ، وليست هناك لغة بين القلب والرب أبلغ في الحب والهيام من لغة كلغة التذلل والاعتراف وطلب العفو. فقال إبراهيم عليه السلام :

(وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ)

ان الخزي ثمة بالنار حيث يقول المؤمنون : «رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ». (١٠)

__________________

(٨) مريم / (٤٧).

(٩) التوبة / (١١٤).

(١٠) آل عمران / (١٩٢).

٧٢

[٨٨] (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ)

وأعظم ما يستعبد البشر في الدنيا حبّ المال والبنين ، فاذا تحرّر من عبادتهما فقد فاز.

[٨٩] (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)

فاذا سلم القلب سلمت الجوارح ، وسلامة القلب بتطهيره من حب الدنيا ، لأن حب الدنيا رأس كل خطيئة ، كما أخبر الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ.

وجاء في الحديث المأثور عن الامام الصادق ـ عليه السلام ـ في تفسير الآية :

«القلب الذي سلم من حب الدنيا» (١١)

[٩٠] في ذلك اليوم تؤتى الجنة وتزف الى المتقين كما العروس تزف الى زوجها ، أما النار فتبرز للكفار ويعلمون انهم مواقعوها.

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ)

[٩١] (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ)

الذين ضلوا وأضلوا بعد علم.

[٩٢] الوحي يفك العلاقات الاجتماعية الفاسدة التي قد تتحول الى أقفال في القلب وأمراض ، وتمنعه السلامة ، ولكي ننظم علاقاتنا على أحسن وجه لا بد ان نجعل يوم القيامة المقياس ، ونتساءل : هل نستفيد من هذه العلاقة فنحافظ عليها ،

__________________

(١١) مجمع البيان / ج (٥) / ص (١٦١ ، طبعة بيروت).

٧٣

أم لا فنتحرر منها ، قال الله :

(وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ)

[٩٣] (مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ)

كلا .. فلا ينصرون أحدا ، ولا هم أنفسهم ينصرون.

[٩٤] تتلاحق أمواج الكفار وراء بعضها لتلقي في جهنم الذين ضلوا والذين أضلوهم ، لا أحد ينصر أحدا.

(فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ)

أي دهدهوا ، وطرح فيها بعضهم على بعض.

ويبدو ان هناك ثلاث فرق هما الجماهير ، والطغاة ، ومن يؤيّدهم. جاء في الحديث المأثور عن الامام الباقر ـ عليه السلام ـ قال :

«هم قوم وصفوا عدلا بألسنتهم ثم خالفوه الى غيره» (١٢)

[٩٥] (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ)

وهذا الفريق ـ كما يبدو ـ هم الذين أيّدوا الطاغوت ، فالذين يكبكبون في النار ـ بالتالي ـ ثلاث فرق : من اتّبعوا من عامة الناس ، ومن اتّبعوا من ولاتهم ، ومن ساعدوا من جنودهم.

[٩٦] وتتقطع في يوم الحسرة أسباب العلاقة بين التابعين والمتبوعين ، بل تجدهم

__________________

(١٢) نور الثقلين / ج (٤) / ص (٥٩).

٧٤

يتلاومون ويتلاعنون.

(قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ)

[٩٧] (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)

[٩٨] (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ)

لقد اعترفوا بمدى ضلالتهم عن الحق وبعدهم عن الصواب ، إذ جعلوا أندادهم سواء مع رب العالمين.

[٩٩] ولكن من المسؤول عن ضلالتهم هذه؟ انى كان فهو قد ارتكب جريمة كبري بحقهم.

(وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ)

اختلف المفسرون في المجرم فقالوا : الذين اقتدوا بهم من الطغاة ، أو الشياطين ، أو الكفار السابقين ، الذين دعوهم الى الضّلال.

والواقع : أن كلّ أولئك ينطبق عليه هذا الوصف ، ولكن أحقهم جميعا بهذه الصفة هم أدعياء الدين والعلم الذين يشتغلون بتضليل الناس.

[١٠٠] واليوم أين أولئك المجرمون؟!

(فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ)

[١٠١] (وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ)

فلا أحد من هؤلاء المجرمين يشفعون لبعضهم ، ولا حتى الصداقات الحميمة

٧٥

تنفع ذلك اليوم.

بلى .. ان المؤمنين يشفع بعضهم لبعض كما جاء في نصوص صريحة.

فالنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ يشفع لأمته ، والأئمة ـ عليهم السلام ـ يشفعون لشيعتهم ، والمؤمنون يشفعون لبعضهم.

جاء في الحديث : عن أبّان بن تغلب قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول :

«ان المؤمن ليشفع يوم القيامة لأهل بيته فيشفع فيهم حتى يبقى خادمه ، فيقول ـ ويرفع سبابتيه ـ : يا رب خويدمي كان يقيني الحر والبرد ، فيشفّع فيه» (١٣)

[١٠٢] ثم تقطع الحسرة نياط أفئدتهم ان لو كانت لديهم فرصة أخرى حتى يكونوا مؤمنين.

(فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً)

رجعة الى الدنيا.

(فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)

[١٠٣] (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ)

بالرغم من تظافر الآيات.

__________________

(١٣) بحار الأنوار / ج (٨) / ص (٦١).

٧٦

[١٠٤] (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)

هذه هي الحقيقة التي نستوحيها من كل تلك القصص التي يقصها ربنا في سورة الشعراء. هدى ونورا. ان ربك عزيز يأخذ الكافرين بقوة ، وهو رحيم ينصر المؤمنين بفضله ومنّه.

٧٧

كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ

___________________

١١١ [الأرذلون] : هم السفلة والأوضاع والرّذل الوضيع ، والرذيلة نقيض الفضيلة.

١١٨ [فافتح] : الفتح الحكم ، والفتاح الحاكم لأنه يفتح على وجه الأمر بالحكم الفصل.

٧٨

(١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢)

٧٩

وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ

هدى من الآيات :

الصراع الدائر بين رسالة الله ، وثقافة الأرض ، صراع ممتد عبر الزمن ، لأن رسالات الله تهدف تغيير كلّ القيم الجاهلية ، وإقامة كيان ثقافيّ جديد ، فحين يدعو نوح قومه الى التسليم والإيمان بالله ، فانه يدعوهم في ذات الوقت الى التّسليم لكل القيم الإلهية التي تحمل التحضر والتمدن لأولئك الناس الذين سلموا لخرافات الماضي ، وفساد الواقع ، وبالرغم من ان الرسل (ع) قد تحملوا الصعوبات في سبيل تبليغ رسالاتهم ، إلّا أنّهم استطاعوا أن يغيّروا أفكار البشر ، حتى أن الأفكار الصحيحة التي نجدها في الأقوام الجاهلية لا بد أن يكون مصدرها الرسل ، لأن الرسل كانوا بحق المحرك الأساسي للبشرية ، وإلّا فإن البشرية كانت تسير بشكل طبيعي نحو النهاية.

ومن الصعب على بشر عادّي ، أن يربّي جيلا كاملا ، ويرفعه الى سماء القيم ، لأن ذلك يستوجب ان يبث فيهم وعيا وثقافة وروحا إيمانيّا يستحيل على البشر

٨٠