من هدى القرآن - ج ٩

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٩

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٣

(سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ)

هكذا يقاوم المؤمنون محاولات التحريف بالاستقامة أمام الضغوط ، وعدم التأثر بالمحيط الاجتماعي الفاسد ، والى هذا دعا الإسلام أبناءه.

قال الامام علي (ع):

«كن في الناس ولا تكن معهم»

[٥٦] وفي آخر آية يحدد الله مسئولية حامل الرسالة وهي التبليغ ، اما ان يجبر الناس على الهداية ، فليس ذلك من شأنه ، لان الهداية لا تتأتى لأحد الا بسعيه وتوفيق الله له.

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)

٣٤١

وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ

___________________

٥٧ [نتخطف] : التخطف أخذ الشيء على وجه الاستلاب.

[يجبى] : أي يؤتى اليه ويجلب.

٥٨ [بطرت] : هو الطغيان عند النعمة.

٥٩ [أمها] : أم القرى مكة وقيل المقصود بها المدن الكبرى.

٣٤٢

اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١)

٣٤٣

وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها

هدى من الآيات :

للإنسان موقفان متناقضان تجاه النعمة ، فإما الشكر وإما الكفر.

الشكر ان تكون النعمة سبيلا للوصول الى هدفها ، فكل شيء في الحياة هو وسيلة لهدف أسمى منه ، فالنشاط وسيلة للسعي ، والسعي وسيلة لعمارة الأرض ، وعمارة الأرض وسيلة لرخاء الإنسان وراحته ، والرخاء والراحة وسيلة للكمال الروحي ، وهكذا تستهدف من كل نعمة نعمة أخرى أعظم منها ، في سلسلة متصاعدة ويكون المنتهى فيها ما قاله عز وجل : (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى).

والشكر الحقيقي هو الذي يوصل الإنسان ، الى التفكير في عوامل النعم وأسبابها ، وبالتالي المحافظة عليها ، لتدوم له النعم ، حيث ان بقاءها مرهون ببقاء عواملها ، فظاهرة الصحة ـ هذه النعمة ـ باقية ما دامت الوقاية ، وما دامت سلامة النفس والحركة ، هذا من جهة.

٣٤٤

ومن جهة أخرى نجد موقف الكفر ، والذي يتلخص في ثلاثة أمور هي : عدم الاهتمام بعوامل النعمة أولا ، وعدم السعي لتحقيق أهدافها ثانيا ، واتخاذ الموقف الخاطئ منها ثالثا.

وفي هذا الدرس نجد معالجة عميقة لهذين الموقفين ـ الشكر والكفر ـ فمع أننا لا نجد هاتين الكلمتين الا ان الآيات ـ من هذا الدرس حتى قصة قارون ـ تحدد للإنسان الموقف السليم من النعمة.

إن أهل مكة من العرب كانوا يتصورون ان النعمة التي يتقلبون فيها ناشئة من الواقع القائم ، حيث عبادة الأصنام ، وفرض السيطرة على العرب من خلال الموقع الاقتصادي والاجتماعي ، لذلك لم يكونوا يريدون الإيمان بالرسول (ص) خوفا من تمرد العرب ضدهم ، وبالتالي خسران هذه المكتسبات ، فأجابهم الله :

أولا : انكم لم تعرفوا السبب الحقيقي للنعمة. انه ارادة الله ، وحكمه الذي قضى بحرمة البيت ، وهكذا إذا تمسّكوا بسائر أحكام الله نزلت عليهم البركات لا تلك القيم الفاسدة التي تتصورونها ، وبالتالي فان الايمان به وبرسوله سوف يزيد هذه النعمة ويحافظ عليها.

ثانيا : ان النعم قد تكون نقمة على صاحبها ، وذلك عند ما تخدعه وتدعوه للغرور ، فكم هي القرى التي تصاعدت في مدارج النعم المادية الى ان بطرت معيشتها فدمرها الله بسبب كفر أهلها ، بعد ان أقام الله عليهم الحجة ببعث رسله وأنبيائه ، وإذ يشير الله الى ما آلت اليه تلك القرى ، فان في ذلك إنذارا لأهل مكة.

ثالثا : ثم لو افترضنا جدلا أنها لم تكن من عند الله ، فان دعوة القرآن لهم ليست من أجل الرخاء المادي فحسب ، بل من أجل نعيم الآخرة الذي لا يحصى

٣٤٥

أيضا ، ولو انهم خسروا هذا النعيم المحدود بسبب إيمانهم بالرسالة ، فان الله سيعوّضهم ما هو أفضل منه في الدار الآخرة ، فكيف والحال ان الايمان بها يمنحهم مزيدا من النعيم في الدنيا ، والثواب في الآخرة؟!

والدرس بمجمله يطهرّ القلب من أدران حب الدنيا المانعة من الايمان بالرسالة ، وذلك من خلال بيان خطأ موقف أهل مكة الذين لم يبادروا الى الايمان خشية فقدان مصالحهم العاجلة.

بينات من الآيات :

[٥٧] ترى بعض النظريات ان المدنية تورث الخوف لأن أهلها يريدون الاحتفاظ بمكتسباتها ، فيقدمون التنازلات لدرء الاخطار عن أنفسهم ، ولعل أهل مكة كانوا في هذه المرحلة. إذ كانوا يخشون من الاصطدام مع قبائل العرب حتى لا يخسروا مكتسباتهم ، وكانت القضية التي يتوقع انها تثير العرب ضدهم هي ايمانهم بالرسالة الجديدة ، فكفروا بها وقالوا : نخشى ان تزول حالة الأمن التي نعيشها لو أننا آمنا ، فتطفق العرب باقتحام بلدنا ، واختطافنا من الأرض.

(وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا)

وفي هذا الحديث اعتراف منهم بان سبب كفرهم بالرسالة ليس في نقص الادلة ، بل اتباعهم الهوى المتمثل في مصالحهم الخاصة ، وقد رد الله عليهم :

١ / ان مصدر هذه النعم هو الله ، وليس الناس حتى يتصوروا ان الاختلاف معهم سوف يؤدي الى زوالها ، فالله هو الذي جعل الكعبة محلّا آمنا ، وفرض على الناس جميعا ومن فيهم العرب ـ من الناحية التشريعية الدينية ـ الالتزام بحرمتها والا لما كانت مكة بلدا آمنا في عرف قوم شعارهم الخوف ، ودثارهم السيف ،

٣٤٦

ولهجموا عليها ، وحطموا الحضارة الناشئة فيها.

ولو كان ثمة قانون يمنعهم من ذلك لمنعهم من التقاتل. ان الذي يمنعهم هو القانون الإلهي منذ أيّام إبراهيم (ع) بحيث لو التجأ الصيد الى الحرم ما كانوا يصطادونه احتراما للكعبة ، حتى قال شاعرهم :

والمؤمن العائذات الطير يمسحها

ركبان مكة بين العيل والسلم

يعني قسما بالله الذي أعطى الأمان للطيور التي تستعيذ بالحرم ، حتى ان القوافل التي تذهب الى مكة ليمس على ظهرها ، ولكن قريش لم يعقلوا هذا العامل الأساسي ، لما يتمتعون به من أمن ورفاه ، لذلك لم يشكروا الله ، ولم يؤمنوا برسالة الإسلام ، ولو أنهم فعلوا ذلك لاستزادوا من الأمن والبركة.

(أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ)

ان أهم النعم لدى أهل مكة كانت هي : الأمن الآتي من حرمة الكعبة ، والرفاه بسبب سيطرة أهلها على التجارة ، وبسبب توافد الحجاج الى البيت الحرام. كانوا يحملون معهم خيرات الأرض بالرغم من أنّ مكة كانت بين جبال وعرة ، وأراض جرداء.

(رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)

لقد ذكرنا مرة ان هناك فرقا بين الرزق والكسب ، فالرزق هو ما يعطيه الله للإنسان هبة وعطاء ، وربما بدون سعي ، بينما الكسب هو ما يعطيه الله له بعد السعي ، والآية تبيّن ان نعمتي الأمن والرخاء التي كانت ولا تزال لأهل مكة ، لم يسع أهلها من أجلها سعيا ، وانما الله هو الذي تفضّل عليهم بهما ، وعدم إدراكهم

٣٤٧

لهذا العامل ـ الذي جاءت بسببه هاتان النعمتان ـ هو الذي جعلهم يبطرون بالنعمة ، ويكفرون بالرسالة ، بدل أن يشكروا الله عبر الإيمان برسالته ، وطاعة القيادة التي فرضها.

ولعل الآية تشير إلى أهمية التشريعات الرشيدة في بناء الحضارات ، وان القيم الالهية هي السبب في بركتي الأمن والرخاء للناس.

[٥٨] ٢ / قد تضحى النعمة نقمة على أصحابها ، وذلك إذا صارت هدفا بذاتها ، بينما ينبغي للإنسان ان يشكر ربه عليها ، وانّ شكر أهل مكة لله على نعمتي الأمن والرخاء يتمثل في الايمان برسوله ، وهذا هو السبيل الأوحد للحفاظ على النعم ومنع تحويلها الى نقمة ، وهكذا يبقى الضمان الوحيد لاستمرار الحضارات اتباع رسالات الله ورسله ، ومن أبرز فوائد الرسالات كبح جماح الإنسان من الاسترسال مع النعم الى حد البطر والطغيان والغرور ، حتى ينسى الحدود ، ويتجاهل الحقوق ، ويندفع في اتباع اللذات الى أبعد مدى.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها)

والله لا يدمر القرى لمجرد أنّها مرفهة ، وكيف يكون ذلك وقد خلق البشر ليرحمهم؟ كلا .. إنه هو الذي وفر النعم للناس ، ويخطئ أولئك الذين يصوّرون الدّين بأنه يعارض النعم بذاتها ، مفسرين الآيات والروايات التي تتناول موضوع الزهد : بان الدين لا يجتمع مع الدنيا ، أو السياسة. كلا .. إنما دمّرها لأنها بطرت بالنعم ، وأصابها الغرور ، ولم تصل بالنعم الى اهدافها.

(فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ)

٣٤٨

لقد سكنت من بعدهم تلك المساكن ولكن قليلا ، لأنّها كانت لا تزال منحوسة ، مما جعل ساكنيها الجدد يرحلون عنها سريعا ، ولعل الآية تشير الى سنّة إلهية هي : ان البلاد المدمّرة بالعذاب لا تبقى فيها مقومات الحضارة ، وهكذا لا نجد الحضارة قد تجددت في ذات المواقع التي دمّرت ، مما تجعل نتائج البطر بالمعيشة تمتد الى المستقبل البعيد.

[٥٩] ثم يبين الله ـ وخلافا لنظرية الحتمية التاريخية التي تتصور الدورات الحضارية مرهونة بالزمن ذاته ـ ان العامل الاول في الدورات الحضارية بعد ارادة الله هي ارادة الإنسان ، فلو بقيت أمة تسير في الخط السليم ، فستبقى تتقدم وتتطور أكثر فأكثر ، ولن يؤثر فيها الزمن بذاته ، والله لا يسلب حضارة قوم أو يهلكهم هلاكا ماديّا ، إلا بعد تحقق أمرين :

الاول : اقامة الحجة :

(وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا)

وقال في آية أخرى : «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً» ويعلل الله عز وجل هذا الأمر في الآية (٤٧) من نفس السورة إذ يقول : «وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» وبعث الله رسولا في أم القرى يتناسب مع هدف اقامة الحجة ، وقد لا يقصد القرآن من كلمة الام المدينة الأكثر سكانا ، بل الأنسب حيث تصل أصداء الرسالة منها الى أوسع رقعة من الأرض.

٣٤٩

الثاني : الظلم :

فبالاضافة الى أن سنن الله تقتضي زواله ، ودمار أهله ، فانه يحمل عوامل انهياره فيه ، فالطاغوت الذي يظلم الآخرين ، ويسلب حقوقهم لا يسلم من ردّة الفعل ان لم ينزل عليه عذاب مباشر من الله كالمرض والغرق وما الى ذلك.

(وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ)

والظلم هو الصورة العملية لرفض رسالات الله ، بل لمحاربة الله تعالى.

وكلمة أخيرة : ان قسما من الناس يتصورون بأن الإيمان بالله ، والالتزام برسالته ، وبما يتضمنه كل ذلك من الالتزامات المالية ، أو التحديات السياسية وما شابه سوف يسلب منهم النعيم ، بينما سنة الحياة تقضي بالعكس ، حيث يهلك الله الذين يكذبون برسالاته ، والعبرة جلية في التاريخ ، وبالتالي فمن الأولى أن يخشى أهل مكة من عاقبة رفضهم للرسالة ان يفقدوا كل شيء لا من ايمانهم بها ، أو ليس الشكر هو التفكير في عوامل النعمة ، والحفاظ عليها ، وبالتالي الحفاظ على النعمة ذاتها؟!

[٦٠] ٣ / ان الهدف الأسمى الذي يجب ان يسعى الإنسان من أجله هو نعيم الآخرة لا حطام الدنيا ، والدنيا يجب ان تكون وسيلة تخدم الغاية العظمى للبشر. الا ان الكثير من الناس يتوقفون عند الوسيلة ، وتضحى عندهم هدفا ، وذلك لضآلة طموحاتهم ، وضيق افقهم :

(وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها)

المتاع هو الوسيلة لتحقيق هدف ما ، وبتعبير آخر الضروريات ، ومتاع المسافر

٣٥٠

هو ما يحتاجه لسفره ، والزينة وسيلة التجميل اي الكماليات.

(وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ)

من حيث النفع والإفادة (البعد المادي).

(وَأَبْقى)

من حيث الدوام (البعد الزمني).

(أَفَلا تَعْقِلُونَ)

ان في الإنسان جانبان ، هما العقل والشهوة ، وطبيعة النفس البشرية انها ميّالة للهوى ، والله لم يقل : تخلوا عن الدنيا بكاملها ، وانّما حمّل الإنسان مسئولية الإختيار السليم الذي تدعو له رسالات الله وعقل الإنسان ، وهل يختار عاقل المتاع والزينة الزائلين على الخير الدائم؟!

ان التعقل الذي تدعو له الآية الكريمة ، هو ان يجعل الإنسان الدنيا وسيلة للآخرة ، ولن يتضرر الإنسان لو خسر الدنيا (وتخطف من أرضه) إذا كان ذلك في سبيل الله ، ولو أنّنا وقفنا على مفترق الطريق بين زينة الدنيا ونعيم الآخرة ، فان واجبنا أن نختار الآخرة على الدنيا ، وهذا ما يحكم به العقل السليم.

[٦١] ولهذا نجد القرآن يؤكد :

(أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ)

من مشاكل النفس البشرية أنها تميل للأشياء الحسّية الآنيّة ، والإنسان ينساق

٣٥١

وراء الدنيا لأنها بين يديه ، ويرفض الآخرة لأنها مؤجلة ، ومثل الإنسان الذي يختار الدنيا على الآخرة كالذي يفضّل دينارا واحدا حاضرا ، على مليار دينار غائب ، تتأخر عنه يوما أو بعض يوم.

٣٥٢

وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠)

٣٥٣

وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ

هدى من الآيات :

لماذا يكفر المرء بكتاب ربه وبرسوله؟ وكيف ينبغي ان نتجاوز عقبات الايمان بهما؟

في درس سبق تلونا آيات تنسف عقبة عبادة الهوى ، ورعاية مصالح الدنيا ، ولكن هل كل الناس تأسرهم مصالحهم؟ فكيف بهؤلاء المحرومين الذين يكفرون بالرسالات أيضا؟

الجواب : انهم يتبعون مترفيهم ، ويتخذونهم آلهة يشركون بهم ربهم ، أو ليسوا يسمعونهم دون تفكر ، ويخضعون لهم وما أنزل الله لهم سلطانا؟!

هكذا يعالج القرآن في هذا الدرس مرض الشرك لنعرف ان توحيد الله الخالص منهج كل هدى ، وسبيل كل صلاح.

٣٥٤

والشرك في القرآن الحكيم ، هو ان يعتقد الإنسان ، بأن شيئا أو شخصا غير الله يهيمن مع الله على أحداث الكون ومتغيرات الحياة ، ويبيّن لنا القرآن عبر آياته الكريمة العوامل النفسية للشرك ، ويطهّرها من هذه العوامل.

وفي هذا الدرس يصور لنا الله مشهدا من القيامة. إذ يقف المشركون مع آلهتهم المزيفة للحساب ، فيسأل الله الشركاء المزعومين : لماذا اتخذوكم آلهة من دوني؟ ولماذا أضللتم الناس؟

فيكون جوابهم : اننا بدورنا كنّا ضالّين أيضا ، ونستفيد من هذا الحوار أمرين :

الاول : ان المشركين اتبعوا بشرا مثلهم ، فليس الشرك ـ اذن ـ محصورا في عبادة الأصنام والتماثيل الحجرية. إذ ليس معقولا ان يحمل الحجر مسئولية شرك الآخرين به ، كما لا يصح للحجر الهدى أو الضلال حتى يقول : «أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا».

الثاني : ان معنى الشرك هنا هو الشرك الثقافي ، إذ ان الناس اتبعوا مجموعة آراء وعقائد من دون ان يتبيّنوا ، أو ان يكون ثمة حجة وبرهان من عند الله عليها ، فلا هم اتبعوا عقولهم ، ولا هم اتبعوا الحجة الإلهية ، ويتضح هذا في قولهم «كما غوينا» إذن الغواية هي الضلال المتعمد وعلماء السوء ، والصحفيون المأجورون ، والمفكرون المنحرفون مثال واضح لهؤلاء ، فهم بدورهم يضلّون ويضلّون. واتباع هؤلاء الفريق يجب ان يكون مبنيّا على بيّنة وحجة واضحة والا فهو شرك.

ونستوحي من تواصل الحديث حول الشرك والقيادة الشرعية التي يختارها الرب : ان الله قد خلقنا وهو الذي يختار ولسنا نحن المخلوقين ، أقول : نستوحي من ذلك : أن اتّباع أولياء الشيطان هو الشرك بعينه ، بل اي متابعة لم يأذن بها الله

٣٥٥

شرك أيضا.

كما نستوحي من سياق الآيات التالية : ان اتباع الرسول وخلفائه تطبيق عملي لعقيدة التوحيد في الحياة ، ذلك لأن ربنا يذكرنا فيها بأنه هو الله لا اله الا هو.

ويبدو ان هذا الدرس ـ اجمالا ـ يكرس شرعية قيادة الرسل ، وزيف القيادات الجاهلية.

بينات من الآيات :

(أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) :

[٦٢] في يوم القيامة يجمع الله الآلهة المزيفة ، والذين عبدوهم من دون الله ، ثم تبدأ فصول المحاكمة التي تجري على الملأ العام ، ونستفيد ذلك من كلمة «يناديهم».

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)

والتعبير القرآني ذروة في البلاغة ان ربنا يسميهم بالشركاء ، ويتساءل أين هم الآن ليجعل وجدانهم يجيب قبل ألسنتهم ، بل ليجعلهم يبلغون الحقيقة اليوم بنقله وجدانية خاطفة قبل ان يتورطوا في العذاب في ذلك اليوم ، ولات حين مندم.

في ذلك اليوم ليس فقط يتبرأ التّابعون حين يرون العذاب من المتبوعين ، بل يبادر هؤلاء بالاعتراف الصريح بغوايتهم.

[٦٣] فيجيب الذين سبقوا الى الضلالة ، وهم طلائع أهل النار وأئمتها :

(قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ)

٣٥٦

هؤلاء قد ثبت عليهم القول في الدنيا قبل الآخرة. إذ اضلّهم الله بظلمهم ، وسلب منهم مصباح العقل ، ونور القلب ، وتركهم في ظلمات يعمهون.

ونجد هؤلاء ينطقون في الموقف. أو ليسوا في الدنيا وضعوا ناطقين باسم تابعيهم؟! دعهم اليوم يعترفون بأنفسهم على غوايتهم ، وهؤلاء يدخلون النار من دون حساب.

وتلخص الآية موقفهم في نقطتين :

الاولى : الاعتراف بالضلالة :

(رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا)

اي أضللناهم عن الطريق المستقيم.

(أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا)

فنحن بدورنا كنا ضالين ، وما فعلناه أننا عكسنا ضلالتنا عليهم ، وهكذا تنكشف الحقائق كلها يوم القيامة ، قال تعالى : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (١)

الثانية : البراءة من المشركين :

(تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ)

لعل معناه : انهم في قرارة أنفسهم كانوا يعلمون بأننا لسنا بآلهة ، وانما عبدونا

__________________

(١) ق / (٢٢).

٣٥٧

لشهواتهم وأهوائهم ، وإذ ينقل القرآن هذا المشهد من القيامة ، فلكي يستثير وجدان الإنسان نحو عدم اتباع الآلهة المزيفة من الطغاة والقوى الاجتماعية المختلفة. إذ كيف يتّبع شخصا أو جهة تتبرأ منه حين العسرة؟!

[٦٤] ثم يتوجه الخطاب الى التابعين والمشركين بالله.

(وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ)

ليخلّصوكم من العذاب.

(فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ)

وتحتمل الآية معنيين :

١ ـ ان المشركين حينما يرون العذاب يتمنّون في أنفسهم لو كانوا مهتدين من قبل في الدنيا.

٢ ـ ان المشركين كانوا يرون هذه النتيجة منذ كانوا في الدنيا لو أنهم كانوا يتبعون الهدى ، لم يقعوا فيها الآن ، لان الذي يتّبع هدى الرسالة يكتشف نتائج الشرك وهو العذاب.

[٦٥] تجري محاكمة المشركين الذين أطاعوا كبراءهم ومترفيهم من دون ان يأذن الله لهم في ذلك ، ويسألون عن موقفهم من الرسل وخلفائهم الشرعيين الذين هم القيادة الحق لهم.

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ)

فهل أطعتموهم؟

٣٥٨

ان القيادة المنتخبة من قبل الله ميزان في الدنيا بين الحق والباطل ، وميزان في الآخرة بين الجنة والنار ، ولذلك يسأل الناس عنها يوم القيامة.

نقرأ في النصوص ان أبا حنيفة ـ امام المذهب ـ يحاور الامام الصادق (ع) في الآية «ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ».

فيسأله الامام عنها :

«ما النعم عندك يا نعمان»؟ قال : القوت من الطعام والماء البارد ، فقال الامام (ع) : «لئن أوقفك الله بين يديه يوم القيامة ، حتّى يسألك عن كل أكلة أكلتها ، أو شربة شربتها ليطولن وقوفك بين يديه» قال : فما النعيم جعلت فداك؟ قال :

«نحن أهل البيت النعيم الذي أنعم الله بنا على العباد ، وبنا ائتلفوا بعد ما كانوا مختلفين ، وبنا ألف الله قلوبهم فجعلهم إخوانا بعد ان كانوا أعداء ، وبنا هداهم الله للإسلام ، وهو النعمة التي لا تنقطع ، والله سائلهم عن حق النعيم الذي أنعم به عليهم وهو النبي (ص) وعترته (ع)» (٢)

[٦٦] (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ)

فهناك خرست ألسنة الأنباء ، وعميت عيونها ، وتوقفت المصادر الخبرية فلم تحمل حقيقة ، لذلك عاشوا في منتهى الحيرة ، ولم يسأل بعضهم بعضا شيئا ، لأنهم جميعا في الجهل شرع سواء ، وذلك لبلاغة الحجة الإلهية التي لا تترك لهم مجالا للتبرير.

__________________

(٢) بح ج (٧) ص (٢٥٨).

٣٥٩

[٦٧] نعم لو ضلّ الإنسان لفترة من الزمن عن اتباع القيادة الرسالية أو الانتماء الى صفوف التجمعات الرسالية ، لكنه تاب بعد ذلك ، فان الله يقبل توبته :

(فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً)

وشرط قبول التوبة هو الرجوع عن الخطأ بمحو آثاره الباطنية من النفس عن الايمان بالرسالة ، وآثاره الظاهرية من السلوك بالعمل الصالح ، إذ لا يكفي ان تفتح مع الله صفحة جديدة ، بل لا بد ان تملأها بعمل الصالحات.

فالضباط الذين انتموا الى جيش الطاغوت يمكنهم ان يتوبوا بالتمرد على النظام الفاسد ، والانتماء والعمل في صفوف الحركة الاسلامية ، كما فعل الحر بن يزيد الرياحي (رض) حينما ترك معسكر ابن زياد ، وحارب بين يدي الامام الحسين (ع) حتى الشهادة.

(فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ)

ويستخدم القرآن كلمة «فعسى» التي يستفاد منها الإمكان ظاهرا وليس التحقيق ، حتى يتضح لنا عظم الذنب فلا نصاب بالغرور ، أو الرجاء المفرط الذي لا تقل نتيجته سوءا عن القنوط التام من رحمة الله ، كما ان بقاء عقدة الذنب في نفس الإنسان من صالحه إذا كان يدفعه للعمل والسعي الأكثر في سبيل الله. طمعا في مرضاته عز وجل.

وربك يختار :

[٦٨] (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ)

٣٦٠