من هدى القرآن - ج ٩

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٩

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٣

الإطار العام

الاسم :

العنكبوت حشرة حقيرة إلّا أنّ نسجها يرى في كلّ مكان ، وهي تعتمد عليه كأنّه فعلا بيت معمور إلّا أنّ هبّة نسيم كفيلة باقتلاعه .. هكذا يضرب ربّنا مثلا للعلاقات الشركية ، ويسمّي به سورة تحدثنا عن حقيقة الدنيا ، وعلاقات أبنائها ببعضهم ، وفتنتها للمؤمنين.

ما هي الدنيا؟ وما هي حقيقتها؟ وما هي علاقات أبنائها ببعضهم؟ وما هو مصيرها؟ وما هي مسئوليتنا فيها؟

إن عشرات من الأسئلة ترتسم يوميا في أذهاننا ونحن نصارع ظواهر الدنيا ، ونجد في الذكر الحكيم بصائر جليّة تهدينا ليس فقط الى الحقائق وانما ترفع الستائر الغليظة التي لا تدعنا نرى الدنيا على حقيقتها ، ولعلنا نجد منظومة متكاملة لهذه البصائر هنا في سورة العنكبوت.

٤٠١

ويبدو أن الهدف الأسمى من هذه البصائر التي تجلو بها الأفئدة الزّاكية بناء المؤمن الصابر الذي يتحدى كالجبل الأشم عواصف الفتن.

لقد شاهدنا عبر الطواسين التي سبقت سورة العنكبوت ، كيف جاهد رسل الله الأمم الفاسدة. وينبغي أن يسير على هداهم الصالحون الذين يجاهدون الفساد ، ويصبرون على الأذى ، وينتظرون نصر ربهم ، وهو كما يبدو موضوع هذه السورة.

من أجل تحقيق هذا الهدف التربوي المتسامي لا بد أن يعرف المجاهد حقيقة الدنيا ، وحكمة فتنها ، وضرورتها ، وأن الذين يرتكبون السيئات لا يسبقون ربهم ـ هذا ما نجده في الآيات الثلاث الأولى ـ ويعرف ان مدة الفتنة محدودة إلى أجل مسمّى ، حين يلقى المجاهد ربه ليوفيه جزاءه.

أما الضغوط فتأتي من الوالدين اللذين قد يجاهداه على الشرك ، وقد تأتي من المجتمع الفاسد الذي يريد أن يفتنه ، وقد تأتي من السلطة الفاسدة التي مهما كانت فتنتها شديدة فانها أخف من عذاب الله.

ويعود القرآن يذكرنا بقصص نوح وإبراهيم ولوط وسائر الأنبياء العظام ـ عليهم السلام ـ وكيف جاهدوا رفض الفاسدين من أممهم ، وان الله أهلك أولئك الفاسدين ، ونصر عباده المخلصين. كل ذلك يذكرنا به الرب لعلنا نتخذه قدوة ، ونعرف أن سنن الصراع كانت جارية عند المقربين الى الله سبحانه ، وهم الذين اختارهم الله على علم ، فكيف بنا ولمّا يعلم المجاهدون منا والصابرون.

وعبر قصة إبراهيم والحوار الذي جرى بينه وبين قومه المشركين يذكرنا الرب بزيف الأوثان ، وانها تعبير عن العلاقات الاجتماعية الباطلة التي يتجلى زيفها في الآخرة ، حيث أن الكفار الذين اتخذوا الأوثان محور تجمعهم يلعن بعضهم بعضا.

٤٠٢

ويبدو ان الآيات (٣٦ ـ ٤٠) التي اختصرت قصص العديد من الرسل الكرام ، وأو جزت القول في مصير المكذّبين بهم تبين السنن الإلهية التي جرت فيهم جميعا ـ سنة الإنذار ، سنة الرفض ، سنة العذاب المدمر ـ لعلنا نعرف حقائق كبري من خلال تلك القصص وبالذات فيما يتصل بالجهاد في سبيل الله.

وبعدها مباشرة نقرأ الآية التي سميت السورة بها ولعلّها تبين أهم بصائر السورة أو تختصر بصائرها جميعا وهي ان العلاقات الشركية تشبه في زيفها ، وثقة أصحابها بها ، واعتمادهم عليها العنكبوت التي اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت.

ما أكرم هذه الآية ، وما أعظم البصائر التي فيها ، وما أحوجنا إليها ونحن نصارع المستكبرين والمترفين.

انها تبين واقع هؤلاء المشركين ، وأنه أوهن البيوت ، وأن عاصفة الرفض تقتلعها بإذن الله.

لماذا هم كذلك؟ لأن بناء الخلق قائم على أساس الحق ، أما بناؤهم فهو متشبث بنسج العنكبوت الباطل ، ومن خلال هذه البصيرة يعرفنا الذكر بحقيقة الدنيا ، والتي لو عرفناها هانت علينا مصيباتها ، واحتقرنا زينتها ، واتقينا مكرها ، وانقشعت عن بصائرنا غشاوة غرورها.

ما هو البرنامج الذي يجعلنا نعرف حقيقة الدنيا ، ونتحدى الفتن التي تتوالى علينا؟ انه يتلخص في تلاوة الكتاب ، واقامة الصلاة ، وذكر الله.

ويتعرض السياق لبيان الموقف من أهل الكتاب ، ولعلّه بهدف تكميل الصورة ، حيث أن الموقف من المفسدين أضحى واضحا من خلال قصص الرسل ، وبقي الموقف من اتباع الرسل ، ولأن تكريمهم يقتضي تكريم أتباعهم ، ولأن جو

٤٠٣

السورة هو جو الجهاد ، والجهاد مع الظلم والكفر بحاجة الى وحدة الصف ، فانه كان مناسبا الحديث عن أهل الكتاب ، وأنه ينبغي جدالهم بالتي هي أحسن ، وبيان أسس الوحدة التي تجمعنا وإياهم ، وانما القسوة تكون مع الظالمين منهم (كما تكون مع الظالمين منا).

ويبين السياق مصداق الجدال بالتي هي أحسن. أي شواهد صدق الرسالة التي تقنع المنصفين من أهل الكتاب ، أما الكافرون فإنهم يجحدونها (من واقع كفرهم) فهذا النبي لم يكتب ولم يقرأ من قبل وقد جاء بآيات تتبين في صدور العلماء فيصدقونها ، بيد أن الظالمين يجحدون بها (من واقع ظلمهم) وهم يطالبون بالمزيد من الآيات ولا يعلمون أن أمر الآيات بيد الله لا الرسول ، وهذا الكتاب العظيم أليس فيه آية كافية ، والله أعظم شهيد على صدق رسالاته بما يهدي القلوب الصادقة إليها وبنصره وتأييده لها.

ويجادل الذكر الذين يستعجلون بالعذاب ، ويقول : انه سوف يؤخّر الى أجل مسمى ، ولكن يأتيهم بغتة وهم لا يشعرون ، وان جهنم لمحيطة بالكافرين ، حيث تغشاهم النار من فوقهم ومن تحت أرجلهم.

وهكذا يثبّت الله الذين آمنوا ، ويعلمهم كيف يجادلون عن الرسالة ، ولكن ماذا عن الضغوط التي يتعرضون لها؟ يقول ربنا : ان الهجرة الى أرض الله الواسعة ، ومعرفة أن الموت قدر لكل نفس ، وان العاقبة هي الأهم ، حيث يبوّء الله الصالحين جنات جزاء أعمالهم ، وان علينا الصبر على البلاء والتوكل على الله عند الشدائد حتى نستحق تلك الجنات.

وان الأرزاق بيد الله ، فلا يخشى المجاهد قطع رزقه بسبب الهجرة ، أو لأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر. ويفصل الذكر الحديث في ذلك ، ويبين (أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ

٤٠٤

الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) وانه هو الذي (يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها).

ولكي تطمئن نفوس المجاهدين يبين القرآن حقيقة الدنيا ، وانها لهو ولعب ، وانما الحياة حقا في الدار الآخرة.

وان علاقات المشركين باطلة ، والدليل انها لا تنفعهم عند الشدة ، فحين تحيط بهم أمواج البحر ، وتكاد تبتلعهم يدعون الله مخلصين له الدين ، ثم يشركون بعدئذ بالله. كفرا بنعمته ، ومزيدا من التمتع بملذات الدنيا الزائلة التي سوف يعلمون مدى خسارتهم بها.

ثمّ يبين الله انهم يؤمنون بالباطل ، ويكفرون بنعمته عليهم ـ والرسالة أعظم نعمة ـ ألا تراهم لا يعتبرون بهذا الحكم الإلهي الذي يؤمن لهم السلام في مكة ، بينما يتخطف الناس من حولهم.

وبعد أن يبيّن مدى الظلم الذي يقترفه الذين يفترون على الله كذبا بحق أنفسهم والناس ، يبشر المجاهدين بأنه سيهديهم سبله التي تقربهم إليه ، وتساعدهم للتمكن في الأرض ، وان الله لمع المحسنين.

٤٠٥
٤٠٦

سورة العنكبوت

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ

___________________

٨ [جاهداك] : اي أجهدا أنفسهما من أجل الضغط عليك.

٤٠٧

فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩)

٤٠٨

أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا؟!

هدى من الآيات :

تفتتح سورة العنكبوت ، التي تهون من شأن الحضارات الجاهلية آياتها الكريمة ببيان حقائق شتى ، تمهد بها لبيان سنن الله في المجتمعات الفاسدة.

أولا : لن يترك الناس من دون فتنة تمحصهم كما تمحص النار الذهب ، وانها سنة جارية غابرا وحاضرا ، ليعلم الله الصادقين والكاذبين في ادعائهم الايمان.

ثانيا : خطأ يزعم المسيئون انهم يتحدّون ربهم بذنوبهم كلا .. انهم لا يعجزون.

ثالثا : وهناك أجل مسمى ، لا بد أن يأتي المحسنين فينتهي بلاؤهم ، والمسيئين فتنتهي أيام مهلتهم فيخسرون.

رابعا : الذين يجاهدون أهواءهم وشياطين الإنس انما يعملون لأنفسهم (وهم

٤٠٩

بالتالي لا يربحون الله شيئا) ذلك لأن الله غني عن العالمين. ومن أعظم مكاسب هؤلاء ان الله سيكفر عنهم سيئاتهم وليجزينهم أحسن ما كانوا يعلمون.

خامسا : من العقبات التي تعترض طريق المجاهدين عادة ضغوط الاسرة ، وقد أوصانا ربنا بالإحسان الى الوالدين ، ولكن أمرنا بتحدي ضغوطهم التي تدفع باتجاه الشرك بالله ، وسيقف الجميع أمام رب العزة لينبؤهم بما كانوا يعملون ، وليوفيهم أجورهم ، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات يدخلهم في الصالحين.

هكذا تأتي فاتحة السورة أذانا بما سوف تبيّنه آياتها الكريمة.

بينات من الآيات :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تشير هذه البسملة الى ما تحمله هذه السورة من معان من تجاوز عقبة الذات ، وترك الدنيا وزينتها ، ولا يتم ذلك إلا بالتوكل على الله ، وإعمار القلب بالإيمان ، وبالتالي باسمه سبحانه.

[١ ـ ٢] (الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)

كان بعض اتباع الرسل من المؤمنين المخلصين يلقى في قدور الزيت ، وتحفر للبعض أخاديد تسعر نارا ، ويلقون فيها أحياء ، وكان البعض ينشرون بالمناشير ، أو يقتّلوا ، أو يصلبوا ، ولم يفتنوا في دينهم أو يتركوه لما يلاقونه في سبيله ، فثبت الله في اللوح ايمانهم ، وقيل لهم ادخلوا الجنة مع الداخلين ، وهذه السنة جارية في كل زمان ومكان ، مهما اختلفت الظروف وتعددت المشارب.

٤١٠

فبعض كان يستمر على الايمان رغم الفتن ، والبعض عند ما يجد ان السجن والتعذيب والتشريد والقتل ثمن إيمانه ، ينهار إلّا من رحم ربك.

جاء في الأثر المروي عن الامام أبي الحسن عليه السلام في تفسير الآية انه قال لمعمّر بن خلاد : «ما الفتنة؟» قلت : جعلت فداك الفتنة في الدين ، فقال : «يفتنون كما يفتن الذهب» ثمّ قال : «يخلصون كما يخلص الذهب» (١)

وحكمة الفتنة في الدنيا أنها تطهر القلب كما يطهّر الذهب ، وقد صنع الله الدنيا بطريقة تتناسب والفتنة ، يقول الامام أمير المؤمنين عليه السلام :

«ولكن الله ـ جل ثناؤه ـ جعل رسله أولى قوة في عزائم نياتهم ، وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم من قناعة تملأ القلوب والعيون غناؤه وخصاصة يملأ الأسماع والأبصار أداؤه ، ولو كانت الأنبياء أهل قوة لا ترام ، وعزة لا تضام ، وملك يمد نحوه أعناق الرجال ، ويشد اليه عقد الرحال لكان أهون على الخلق في الاختبار ، وأبعد لهم في الاستكبار ، ولآمنوا عن رغبة قاهرة لهم أو رهبة ماثلة بهم ، فكانت النيات مشتركة ، والحسنات مقتسمة ، ولكن الله أراد أن يكون الاتباع لرسله ، والتصديق بكتبه ، والخشوع لوجهه ، والاستكانة لأمره ، والاستسلام اليه أمورا خاصة لا يشوبها من غيرها شائبة ، وكلما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل ألّا ترون ان الله جلّ ثناؤه اختبر الأولين من لدن آدم الى آخرين من هذا العالم بأحجار ما تضر ولا تنفع ، ولا تبصر ولا تسمع ، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياما ، ثمّ جعله بأوعر بقاع الأرض حجرا ، وأقل نتائق الدنيا مدرا وأضيق بطون الأودية معاشا ، وأغلظ محال المسلمين مياها ، بين جبال خشنة ، ورمال دمثة ، وقرى منقطعة ، وأثر من مواضع قطر السماء داثر ، ليس يزكو به خف ولا ظلف ولا حافر ، ثم أمر آدم وولده أن يثنوا أعطافهم

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ج ٤ / ص ١٤٨

٤١١

نحوه»

وبعد أن بين الامام انه لو كانت مكة في مناطق ذات بهجة وثمر لسقط البلاء قال :

«ولكن الله جلّ وعز يختبر عبيده بأنواع الشدائد ، ويتعبدهم بألوان المجاهد ، ويبتليهم بضروب المكاره ، إخراجا للتكبر من قلوبهم ، وإسكانا للتذلل في أنفسهم ، وليجعل ذلك أبوابا [فتحا] إلى فضله ، وأسبابا ذللا لعفوه ، وفتنة كما قال : «الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ» (٢)

أجل يتبين الايمان المستقر من العواري حين تجرد العوائل من فلذات أكبادها ، وحين يهجرون خلال حقول الألغام ، ليكونوا طعمة يقتات عليها المتحاربون ، والتعبير القرآني «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا» استفهام استنكاري على أولئك الذين يتصورون ان طريق الإيمان مليء بالورود. إن طريق الإيمان صعب.

وقد قال الامام الصادق (ع):

«هلك العاملون إلّا العابدون ، وهلك العابدون إلّا العالمون ، وهلك العالمون إلّا الصادقون ، وهلك الصادقون إلّا المخلصون ، وهلك المخلصون إلّا المتقون ، وهلك المتقون إلّا الموقنون ، وإن الموقنين لعلى خطر عظيم» (٣)

ويشرح الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ أنواع الفتن التي سوف تبتلى الأمة بها كما جاء في نهج البلاغة : وقام إليه عليه السلام رجل فقال : أخبرنا عن الفتنة وهل سألت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ عنها؟ فقال عليه السّلام : لما أنزل الله

__________________

(٢) المصدر / ص ١٥٠ ـ ١٥٣

(٣) بحار الأنوار ج ٧٠ ص ٢٤٥

٤١٢

سبحانه قوله : «الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ» علمت أن الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ بين أظهرنا ، فقلت يا رسول الله ما هذه الفتنة التي أخبرك الله بها؟ فقال : يا علي إن أمتي سيفتنون من بعدي ، فقلت : يا رسول الله : أو ليس قد قلت لي يوم أحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين ، وأحيزت عني الشهادة فشق ذلك عليّ فقلت لي : أبشر فان الشهادة من ورائك ، فقال لي : إن ذلك لكذلك فكيف صبرك إذا؟ فقلت : يا رسول الله ليس هذا [من] مواطن الصبر ، ولكن من مواطن البشرى والشكر ، وقال : يا علي سيفتنون بعدي بأموالهم ، ويمنون بدينهم على ربهم ، ويتمنون رحمته ، ويأمنون سطوته ، ويستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة ، والأهواء الساهية ، فيستحلون الخمر بالنبيذ ، والسحت بالهدية ، والربا بالبيع ، قلت : يا رسول الله فبأي المنازل أنزلهم عند ذلك أ بمنزلة ردة أم بمنزلة فتنة ، قال : بمنزلة فتنة (٤)

[٣] ثمّ يبين الله سبحانه إن الفتن تصيب الإنسان. عمل السيئات أو الخيرات ، وان مشكلة الذين يعملون السيئات أو ينهارون أمام المشاكل أكبر لأنهم يخسرون الدنيا والآخرة.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ)

والفتن تتباين أشكالها وصورها وجوهرها واحد ، كما أن فتن السابقين كانت مختلفة ، فقد جاء في جوامع الجامع ، وفي الحديث : «قد كان من قبلكم يؤخذ فيوضع المنشار على رأسه فيفرق فرقتين ، ما يصرفه ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه» (٥)

__________________

(٤) المصدر / ص ١٤٨

(٥) المصدر / وجوامع الجامع هو مختصر تفسير مجمع البيان للعلامة الطبرسي.

٤١٣

ونحن نرى اليوم من المجاهدين الصامدين تحت تعذيب الجلادين من البطولات النادرة ما يجعلنا نزداد يقينا بصدق الأخبار هذه ، التي أنبأت عن صبر وصمود المجاهدين السابقين.

يضعونهم في توابيت مغلقة لعدة أشهر بل لعدة سنوات ، أو يسمرونهم على الحيطان خلال أعوام السجن ، لا ينظفون تحتهم ، أو يلقون بهم في أحواض الأسيد ، أو يعذبونهم بأجهزة تدار الكمبيوتر لتزرع أجسامهم بالألم الشديد ، وتمنع عنهم النوم والراحة لأسابيع ، أو يحرقون أشد أجزاء بدنهم حساسية بأعقاب السجائر ، أو يعتدون على شرفهم وشرف أخواتهم وأزواجهم أمام أعينهم.

ولكنهم لا يزالون صامدين بتوفيق الله ، لأن أرواحهم قد صفت من حب الدنيا ، وربتهم هذه الآية الكريمة ، وعرفوا حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة ، فلم يختاروا على الآخرة شيئا.

وليس المهم أن يعلم الناس إيمانك ، بل الأهم أن يعلم الله صدقك.

[٤] مسكين ابن آدم يزعم انه يهرب من حكومة الله ، أو يعجزه هربا ، ويسبق قضاءه وقدره ، وانما مثله مثل الرجل الذي جاء إلى الامام الحسن (ع) فقال له : أنا رجل عاص ، ولا أصبر عن لمعصية ، فعظني بموعظة ، فقال ـ عليه السّلام ـ : «افعل خمسة وأذنب ما شئت : فأول ذلك : لا تأكل رزق الله وأذنب ما شئت ، والثاني : اخرج من ولاية الله وأذنب ما شئت ، والثالث : اطلب موضعا لا يراك الله ، وأذنب ما شئت ، والرابع : إذا جاءك ملك المت يقبض روحك ، فادفعه عن نفسك ، وأذنب ما شئت ، والخامس : إذا أدخلك مالك في النار ، فلا تدخل في النار ، وأذنب ما شئت» (٦)

__________________

(٦) بحار الأنوار / ج ٧٨ / ص ١٢٦.

٤١٤

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا)

يفوتوننا. كلا ..

(ساءَ ما يَحْكُمُونَ)

ما من يوم يمر على الصابرين حتى يقتربوا يوما إلى رحمة ربهم ، ولا يمر يوم على الجلادين حتى يقتربوا خطوة إلى العذاب.

[٥] (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)

وتعطي هذه الآية أملا لمن يرزح تحت سياط الجلادين ، أو في دهاليز المخابرات ، أو المنبوذون بسبب إيمانهم ، فمتى ما تناهي البلاء قرب الفرج ، وان جهادك وصبرك إنما هو بعين الله.

لقد بعث الطاغية العباسي هارون الرشيد إلى الامام موسى بن جعفر (ع) الذي كان معتقلا عنده من يستميله ، فرفض الامام وقال : ما محتواه : لا يمر علي يوم إلّا وأزداد عند ربي ثوابا ، وتزداد عند ربك عقابا ، وسنلتقي عند ربنا للحساب.

[٦] (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ)

عند ما يقاوم المؤمن سلبيات نفسه ، ويتحدى ضغوط الحياة يكتب عند الله مجاهدا ، والجهاد : بذل الجهد قدر الطاقة في سبيل الله ، وجهاد الإنسان يحسب له ، ولن يضيع الله عمل عامل.

وأيام الإنسان كالأوراق النقدية التي تسقط بسقوط نظام وقيام آخر ، فهو إن لم يسارع إلى تغييرها ، أو تحويلها إلى بضاعة ، ستصبح مجرد أوراق ملونة بدون

٤١٥

رصيد ، وأيام ابن آدم إن ذهبت فلن تعود ، فقد ورد في الحديث عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام):

«ما من يوم يمر على ابن آدم إلّا قال له ذلك اليوم : يا بن آدم! أنا يوم جديد وأنا عليك شهيد ، فقل فيّ خيرا ، واعمل فيّ خيرا أشهد لك به يوم القيامة» (٧)

فلنستغل الفرصة كيلا تتحول أيامنا إلى أوراق نقدية لا رصيد لها ، جاء في الحديث : «الدنيا ساعة فاجعلوها طاعة» (٨)

ولا يزيد ربنا بأعمالنا غنى.

(إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)

[٧] (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ)

وهذه هي البشارة الكبرى ، فان ربنا ـ عز وجل ـ سيمحي السيئات عمن آمن وعمل صالحا ، ويعطيهم بدل سيئاتهم حسنات ، وهذه أسمى نعم الله على المؤمن ، فلو أن شخصا انتبه ذات صباح عند أذان الفجر فتماهل قليلا ، وأخذته الغفوة ، ثم انتبه ثانية ، وإذا بالشمس قد طلعت فان عليه أن يصمم لمحو أثر هذا الذنب من نفسه بأن يقوم بعمل عظيم لئلا يفتضح في يوم البعث على رؤوس الأشهاد بأنه لم يصلّ الصبح ذلك اليوم إلّا قضاء ، آنئذ لا ينفعه الكذب ، ولا تجديه الواسطة ، وأين هي تلك الواسطة التي تستطيع أن تغيّر ما في الكتاب؟!

بلى. في ذلك اليوم ينفع شيء واحد ألّا وهو الله الكبير المتعال ، والواسطة هي

__________________

(٧) سفينة البحار / الشيخ عباس القمي / ج ٢ / ص ٧٣٩

(٨) بحار الأنوار / ج ٧٧ / ص ١٦٤.

٤١٦

العمل الصالح ، فمن عمل صالحا فان الله يبدل سيئاته حسنات ، وتكتب له في قائمة أعماله.

اذن فلنبادر إلى استغلال الفرصة ، فكلنا مسيء ، ومن منا من لم يعمل السيئات؟! كلنا خطّاؤون ، فلا بدّ أن نغسل خطايانا بالمزيد من الأعمال الصالحة ، والعطاء في سبيل الله ـ جهادا وتضحية ـ عسى ربنا أن يغفر لنا خطايانا.

[٨] (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً)

إن أصعب الحالات التي تعترض الإنسان هي مقاومة المجتمع الذي ينشأ فيه ، وهنا يشير القرآن الحكيم إلى ان الله يطلب من الإنسان أن لا يجعل والديه مبررا لتنازله عن مسئوليته ، بالرغم من ضرورة الإحسان إليهما والاهتمام بهما ، فالوالدان ليسا بالضرورة مثالا يحتذي بهما الابن حتى لو ضغطا عليه خضع إليهما.

(وَإِنْ جاهَداكَ)

أي أكثرا عليك الضغوط.

(لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما)

أي ضغطا عليك لتشرك بالله ـ أيا كان نوع هذا الشرك ـ وإن ذكراك بالتعب الذي تعبا عليك في تربيتك ، وإن عابا عليك انتماءك إلى تجمع إسلامي.

(فَلا تُطِعْهُما)

فهذا شرك خفيّ.

٤١٧

(إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ)

فيوم القيامة لن يحاسبك أبواك ، فأنت وهما سيحاسبكم الله جميعا.

(فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

والأب الذي يجعل ابنه نصرانيا ، أو يهوديا ، أو مجوسيا ، أو طاغوتيا ، أو مشركا مسئول يوم القيامة عما فعل ، ولا تسقط من مسئولية الابن شيء.

[٩] (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ)

لا تفكر بما أصابك في جنب الله ، فان الله سوف يبدلك بما هو أحسن ، لقد كان مصعب بن عمير وحيد والديه الثريّين ، ولكنهما طرداه بعد أن لم ينصاع إليهما ، فجرداه من كل ما أسبغا عليه ، وأخرجاه من البيت ، ولكن ما ان أصبح وحيدا ، فاذا بمجموعة من المؤمنين الصادقين ممن تصافت قلوبهم ، وتلاقت أفكارهم على الإيمان يحتضنون مصعبا ، فيتحول من طريد أهله إلى أول مبعوث لرسول الله (ص) إلى أهل يثرب.

وكان بذلك أول فاتح إسلامي حقيقي للمدينة المنورة ، وأول رجل يمهّد الأرضيّة لهجرة الرائد العظيم رسول الله (ص).

فلا تتلف أعصابك ، ولا تخف ، ولا تحزن أيها المؤمن المجاهد فالمسألة هيّنة ، فاذا أخرجتك عائلتك ، فسوف تحتضنك القلوب والأفئدة ، كما قال الامام علي (ع): «من تهجره الأقران احتضنه الأبعاد»

٤١٨

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ

٤١٩

خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧)

٤٢٠